ليس اسمي ولا لقبي ولا انتمائي الى بلد أو ثقافة أو دين هي من تعرفني، لأنها سابقة لوجودي ولأنني أفنيت أعواما وسنين لمعرفة تاريخها وما أخفت.من الذي يعرفني إذا ؟
وجه أمي في حدود الممكن، ما تعبر عنه ابتسامتها وحضورها وما تبذله من جهد من أجلي .
لا أدري إن كان الله هو من يعرفني من خلال ثنائية الخالق والمخلوق وما تفترضه من حلول روح الأول في الثاني،أم لا بد لي من السعي لمعرفته كي أعرف نفسي ،فلم ترشدني الكتب التي قرأتها إلى السبيل الأمثل لتلك المعرفة ،إن كان الإتباع أم البحث .
من الذي يعرفني إذا ؟
حبيبي، لكن علاقتي به كانت عابرة وغامضة، لم تكشف لي عن أسرار النفس، أمّا أسباب ذلك فهي معلومة لاقتصارها على الإعجاب والمتعة والتواصل والمودة دون التوغل في ما يتجاوزها .
فمن الذي يعرفني هذا ؟
قطعا ليست نظريات عالم النفس سيغموند فرويد ولا خريطته التي تقسم النفس البشرية إلى ثلاث أجزاء : الأنا والأنا الأعلى والهو الذي يمثل الجزء الأكبر من ذلك الفضاء، تحركه الأهواء والنزوات ،إلا أن وعينا بأنفسنا يتجسد أيضا في وعينا بالزمان دون أن نلمس له المكانة التي يستحقها في تلك النظرية .
من الذي يعرفني ؟
اللغة التي استعملها، ماذا لو كنت أتقنت عدة لغات، فهل هي أيضا من ستعرفني، أليست اللغة أداة للتواصل مع الغير تقوم على قواعد، فكيف يمكن لها أن تعرفني ؟
يجيب بعض المختصين عن هذا السؤال: بفضل ما تحمله من قيم ومعان، أي من ثقافة فهي من تعرفني لأنها من شكلت وعيي بالعالم وبالآخر.
لكنني غالبا ما أفكر في أسسها وفي مدى قدرتها على أن تمنحني السعادة والرضا عن النفس، أي أنني غالبا ما كنت أعيد النظر فيها فأنتقدها.
من الذي يعرفني ؟
وعيي بذاتي ، اقتداء بقولة الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت، حين كتب أنا أفكر فأنا موجود ،لكن أفكاري متحولة ليست مستقرة متصلة بما يدور حولي من أحداث ، فكيف يمكن لقدرتي على التفكير أن تعرفني؟
من الذي يعرفني ؟
إنجازاتي، ما فعلت وما كتبت، ولو أنها استمرارية لما أنجز قبلي وما تعلمته ممن سبقوني.
من الذي يعرفني ؟
ما نقل عن سقراط وما كتبه أفلاطون حول ثنائية الروح والجسد منذ آلاف السنين وظهور الثقافة اليونانية؟
من سيعرفني ؟
ما جاءت به الأديان السماوية ؟
ذلك العهد الذي أبرم بين الله والإنسان بتكليفه بمهمة الاستخلاف التي وضعت على كاهله المسؤولية ما يأتيه من أفعال وأقوال .
من الذي سيعرفني ؟
التجربة الشخصية كما عبر عنها كبار الشعراء والأدباء،ما تحكيه الذاكرة ، ما بقي عالقا بها من ذكريات مرحة أو حزينة ما عشته وخبرته وما كان مني .
من الذي سيعرفني ؟
علاقتي بغيري من الناس، أحكامهم، ما عرفوه عني وما لم يعرفوه، لكنهم سيرونني من منظورهم ، حسب تجربتهم ومنطقهم وحاجياتهم أي سيرون ما يعنيهم ، أي لن يرونني أبدا ، مع ذلك جلنا مرايا لبعضنا البعض .
من الذي سيعرفني ؟
خصالي أم عيوبي أم ما يجمعهما معا، من حالات وانفعالات وأحاسيس شائعة ومشتركة لدى جل الناس مثل الشك والحيرة والغضب والاستياء والسخاء والتريث والصبر والاكتفاء، قطعا، لا.
من الذي سيعرفني ؟
أحلامي المستحيلة، مخاوفي، هواجسي، ما عشت من أزمنة وزرت من أمكنة.
لم تكن لقديس الهند رامانا ماهاريشي تعاليم يدرسها لأتباعه، فقد كان حضوره الصامت كفيلا بأن يجعلهم يدركون أسرار النفس، إذ يمكن اختزال حكمته في أننا لسنا الجسد بمكوناته ولا العقل ولا القلب ولا النفس ، بل ما يتجاوزها ، ذلك الوعي المدرك للحظة الحاضرة ولكل شيء من حوله .
فهل أكون وعيا متصلا بجوهر الحياة وبالزمن ؟
لا أدري .فأنا أجهل أسرار هذا الجسد المادي الذي ما انفك يقص على نفسه حكايات وأقاصيص حول ما يدور حوله ،لكي يفنى و يختفى /فلا تبقى منه سوى حكاية وجوده ، سيحكيها الناس من بعده لأجل معين، إلى أن تغيب في النهاية بين طيات النسيان .
كاهنة عباس