دخلت فضاء النص ، أقرأ ما كتب ، أسافر إلى أفق المعاني ، إلى امتدادها في المكان والزمان ، إلى أوجهها ، الظاهرة منها والخفية، وكنت في كل مرة أتساءل إن كانت للنص روح تجعل منه كيانا نابضا حاملا لما اختلجت به نفس مؤلفه ؟
وتتالت الأفعال والمسميات وصفات في جمل مركبة تفصلها محطات من الصمت،كنت في كل مرة أبحث عما يجمعها وعما تصبو إليه وكانت تنثر حولي صورها الصور تلو الصور لعالم مغاير للذي أعرفه .
كذلك، علمت أن المعنى لا يستقر على حال وأنه متحول يلوح ليختفي وأنه أحد أعمدة الكلام المؤسسة للممكن.
وعلمت أن ما هو مكتوب يحيل إلى العالم المحسوس، وأن المحسوس معلوم الصفات والمميزات، أما المكتوب فهو السر الحافظ لذاكرته.
فالأشجار المتحدث عنها في نص ما ،ليست تلك التي نراها ونلمحها يوميا ، المنتصبة على حافة الطرقات أو المتفرقة بين الحقول والجبال ، والأزهار التي وصفتها القصائد لم تنبت إلا في خيال الشعراء التي ألفوها ، والسماوات التي وردت بكتب المقدسة أو الأساطير القديمة والقصص والروايات، ليست تلك التي عهدناها لونا وزرقة وامتدادا .
للنص عالمه، وهو عالم له القدرة على أن يجتاح كياننا ويسكنه فيغير من الملامح العالم المحسوس بأن يضفي عليه معاني جديدة نابعة من ذاتيتنا.
فنحن من يخلق أجواء العالم المحسوس بروائحه وأشيائه، أما الغاية من ذلك ،فهي انبعاث المعنى ذلك المخلوق العجيب الغريب، الذي ما انفك يخترق الأشياء والكائنات محملا بما يسمى بالمجد والسلطة والتاريخ .
إنه يولد منذ أول تسمية نطلقها على شيء ما ،ثم يتواتر ويتكاثر وقد يختفي ليعود ويتعدد حتى يفيض على كل ما هب ودب فيضانا تاما، ليشكل كل تلك الشبكة من المعارف والمعلومات التي نتبادلها ، حتى إذا ما قرأنا النص بانت لنا وعلقت بذاكرتنا كي تغير نظرتنا للحياة .
والسفر في عوالم القراءة ، هو سفر في تباين النفس الإنسانية وفي ما تخيلته واستنبطته وعاشته وتمنته وعشقته ، إنه سفر إلى عالمها الباطني ، إلى ما لا نراه ولا ما ندركه .
وهو سفر في خريطة الزمان بكل مواقعه الماضية، إذ تمنحنا القراءة القدرة على اتخاذ المسافة الكافية، فنتقبل المكتوب كأنه شيئ خارج عنا، نقلب معناه بحثا عما يسعى إلى نقله إلينا .
فكل ما رحل وانمحى وغاب وأتلف وألغي تستعيده القراءة نقلا بواسطة اللغة، فتعيد رسومه وهياكله وملامحه وآثاره وتقص رحلته من النشأة حتى الفناء عن طريق الحكي والوصف والإيحاء وتبعثه من جديد باعتباره حادثا وتاريخا وذكرى .
من لم يقرأ ، لم ينظر إلا إلى حاجياته الأساسية من أكل وشرب ونوم ولباس وجنس ، لم يفقه سوى ما يضمن له الاستمرار في الحياة .
من لم يقرأ، يكون جاهلا بعدة جوانب من إنسانيته تتعلق بما قيل لوصفها ومعرفتها والبحث في أغوارها والبحث في ما يحيط بها من أسرار.
يرى العالم فاقدا لنور العلماء وأقوال الحكماء والفلاسفة وأوصاف الشعراء وبيان الأنبياء ،يراه أشياء فاقدة لما يميزها ،ألا وهي كينونتها .
فما نحمله من معارف واستعارات ورموز ومراجع وأقوال هي بمثابة المكاسب الثمينة التي تؤثث العالم المحسوس بجمال منقطع النظير وبتعددية المعنى والمغزى وبمسحة من الخلود،بمرايا تعكس ذواتنا الفانية والناقصة، بكل ما يسكنها سواء من محبة أو من أحاسيس مدمرة.
ولتفكيك فعل القراءة، يمكن القول أن المكتوب يخضع لأحداث ثلاث وهي : الإبداع والتراكم والمحو ،الأول يولد إما من الإلهام والوحي أو من التفسير والتأويل والثاني بتراكم الإبداع وروافده والثالث ينتجه الزمن وآثاره ، بصمود الكتابة صمودا تاما أو اندثارها بين طيات النسيان.
أما الإلهام فيكون عند تداخل الخيال والذاكرة، أي عندما يعيد المبدع ترتيب ذكرياته البعيدة أو القريبة وفق ما يمليه عليه خياله ، كأن يؤلف قصة عاش بعض أحداثها دون أخرى ، أو عندما تأخذ الأحلام حيزا كبيرا فيصبح التعبير عنها أمرا ملحا فتنساب في شكل الإلهام والوحي .
والحقيقة، أن لا أحد مدرك للمصدر الحقيقي للإلهام إن كان إنسانيا أم إلهيا ،إن كان وليد تراكم لمعرفة ما أو كان نابعا من صفاء النفس وباتصالها بعوالم الخيال والحلم أي بكل ما لا يرى ،خاصة لبعض النصوص التي لم يكتب مثيلها والتي استطاعت أن تكون مرجعا على مر العصور ؟
أما تأويل وتفسير ما كتب وما قيل، فغالبا ما يخضع لحاجة يفرضها عصر ما، للرد على أسئلة معينة أو الاستفادة من معلومات أو من فكر أو إبداع، إنه ينبع من قراءة خصبة تنطلق من النص الأصلي لتكشف عن إمكانياته أي عن كل ما قال ولم يقل ، عن معانيه الظاهرة و الخفية وفي الحقيقة فبعض التفاسير التي أحاطت النصوص المقدسة أعادت صياغتها من منظور معين، لا يخلو من تأثير السلطة في جميع تجلياتها المعنوية والرمزية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والجندرية .
أما تراكم الإبداع و روافده ،وما ينجر عنه من قراءات وتفاسير فهو الذي يؤسس ثقافة ما أي ما يميزها وما تختص به من جوهر وروح.
ويأتي الزمان على فرسه الجامحة ليركض ويزيح عن طريقه كل الكتب التي جفت زهور معانيها وبقيت عالقة بلحظة تاريخية ما دون تجاوزها ، فيقتلعها ويمر ، ففرس الزمان لا تداري ولا تحابي ولا تجامل و لا تعترف إلا بما بقي صامدا كالصخر لا تزحزحه الرياح ولا تدمره الشموس .
ما الذي يصمد في وجه الزمن في كل ما نكتب ونقول ؟
سر الحياة بهشاشتها وتناقضاتها كما نحمله ونسعى لمعرفته .
تلك هي الأفكار التي راودتني أثناء سفري من كتاب إلى كتاب، متطلعة إلى معرفة حقيقة وجودي ومغزاه وحقيقة العالم من حولي.
كاهنة عباس