عقيل فاخر الواجدي - سخرية ..

لَيسَ تمَّةَ ما يُفصِحُ عن اَثَرِ مرورِها سوى رائحةِ العطرِ التي تتشظّى عند نافذتهِ ، نافذتهُ التي اَدْمَنَتْ الترقُّبَ بعينينِ وَجِلَتينِ لِمرورها ، تماماً كما اَفصحَ هذا الماءُ الذي تَسللَ الى رُكْبتيهِ عن نَهْرٍ حينما اَجْثَوْهُ عنده ، قطرةُ الماءِ التي كانت حُلُماً يَفتكُ بها سرابُ اللهاثِ هاهيَ نَهْرٌ يَجلدُ الضفافَ بامواجهِ المتعاقبة ، صوتُ ارتطامِ الاجسادِ بالماءِ يُبَدّدُ سكونَ هذا الليل ، مُتَعَجِّلة ٌ كانت الشمسُ نحو مَغيبها وَهْيَ تُبعثرُ السُّبُلَ من بين يديه ، الرصاصُ الساعي نحوهُ بِكُلِّ هَوَسِهِ هو مَنْ يُحَدّدُ مساراتِ قدميه ، لا ارادة الّا النأي ما وَسِعَتهُ المسافات ، الانفجارُ الذي دَوّى فَجْأةً وَحْدَهُ الذي َشكَّلَ الاجسادَ بتفاصيلٍ جديدة .. لَمْ تَكْفِ كلمة ُ تَراجَع ْ التي صَرَخَ بها آمرُ الفصيلِ في تَسْويةِ الامرِ فقد كان للرصاصةِ التي اَسْرَعَتْ نحوهُ – الآمِر - رَأيٌ آخر حين اِختصرتْ الكلماتِ على شفتيهِ وَهُوَ يَقيئُها دَماً ، لاسبيلَ الاّ هذا الغبار اَنْ يتخذهُ باباً لينطلقَ في فضاءاتٍ من اليأس ، ما اعجلَ هذا الليل! يُفردُ عباءته على كل شيء ، الليلُ هو المجهولُ الذي تُقيَّدُ ضدهُ كل ما لايمكنللنهاراتِ ان تبوحَ به .. ليلٌ كأنما عَبَّأ كل ظلامهِ في هذه المساحة من الارض ، صمتٌ تجفلُ منه القلوب ، لااتجاهات لهذا الظلام فحيثما تُوَلّي فَفَمُ الليلِ يَبْتَلِعُك .
مفارقةٌ محزنة ٌ اَنْ يَخذلكَ حتى الموت في اَنْ تَعْبُرَ حدودَ الحياة دونما اَلَمْ ، لَكَاِنَّما هذه الطلقة التي اِدَّخَرها بِحُرْصٍ خذلتهُ في اَنْ يُنهي فَصْلاً من الالمِ واهدارِ الكرامةِ حينما اَحاطوا به ، لَكأنما تواطَأتْ عن قَصْدٍ في تَخاذلها لتمنحهُ مساحاتٍ من الوجعِ حين تَخَلَّتْ عن دَوْرِها في ان تَنفَلِتَ من فوهة بندقيتهِ الى رأسه – شتانٌ مابين فوهة تختارها واخرى تُبَدّدُ كلّ وجودك - لاخذلانَ اكبرَ من اَنْ لاتجدَ حتى في الموتِ اَنْ يُخففَ من وَطأة الألمِ عنك.. فالارضُ المكشوفة ُ تَبَرْعَمَتْ اَجساداً بِلِحىً كَثّةٍ يُوَزّعونَ الموتَ بِحرصٍ فكأنما غايتهم اَنْ يصطادوهُ حَيّاً ،هي لَذَّتُهُمْ الكبرى وَهُمْ يَنْشِرونَ الرقابَ بِمِدىً صَدِئة ،اِصبعهُ الذي لم يُحْسِنْ عَدَّ الطلقاتِ حين افرغها من سلاحهِ دُفْعَةً واحدةً اَضاعَ عليه الفرصة الاخيرة في الخلاصِ من بين ايديهم .
اَنْ يَصِلَ موقفَ الباصاتِ كان كل ما يَشغلُ تفكيره وهو يَحُثُّ الخُطى مُبتعداً عن الاشجار التي تَقْطُرُ ماءً ، الظهيرة الماطرة رئةٌ تَعِبُّ الهواءَ في كل الزوايا ، الباصُ الذي اعتاد َ حضورهُ كأنما تَفَقَّدَ غيابه ، والعينانِ اللتانِ تَطُلّانِ من النافذة تارةً ومن الباب تارةً اخرى تكادُ اَنْ تخطو بهما قدمانِ للخروج للبحثِ عنه .. ما اعتادتْ منه ان يَخلفَ وعده ، موعدهُ المنتظم وهذا الكرسيُّ الفارغُ الى جوارها شاهدانِ لايكتنفهما زَيف ، سنواتٌ دَرَجَتْ خطواتُه باعتيادهما الحضور عندها قبل ان يغادر الباصُ محطته ، الكلّ هنا معتادٌ حضوره ، الراكبون والسائق ، لااحدٌ يستشعرُ الضجرَ حين انتظاره ، كأنما جميعهم على موعدٍ معه ، تحاشتها العيونُ حتى لاتزيدَ من ارتباكها وهي تمسحُ الافقَ بعينيها القلقتين ، العيونُ التي استدارتْ نحوها ببشارة ِ وصولهِ اِحْمَرَّتْ لها خداها وتهللتْ دمعة ٌ حَرِصَتْ ان تبقيها تترقرق في عينيها .
عيناها اللتان اَلْزَمَتاهُ الحُجَّة حين اَبْصَرَهُما اولَّ مرة ، لاتبريرَ يُسْعِفُهُ امامهما ، هما دالّتهُ اللتان استشرفَ منهما كل هذا الوهجِ الذي اَنارَ دياجيرَ عتمتة.. هما عيناها اللذان اَدارا وِجْهَةَ ايامهِ نحو الضوءِ متقصيتانِ اَبْعَدَ ماناءَتْ به روحهُ التي تَلبَّدَ غيمُ بَلادَتِها بسكونٍ باهت ، هما – عيناها - من ايقظاه وَرَنَّما في روحه الحانَ السعيِّ لِغَدٍ تتمايلُ لحظاته شَغَفاً لِلِقاء .
كلّ ما اَتقنتهُ مهاراتهُ في تطويعِ المفرداتِ وَ ( مَنْطَقَةِ ) الاشياءِ تَحطَّمتْ عند عينيها اللتين اِتَّسَعَتا مستنكرتين ، اِسْتفزّها الحديثُ الذي اِنْسَلَّ الى روحِها فاحْتَكَمَ على قلبها يَعْصُرُه . حشرجة ُ صدرها التي لم تُفلح كل كلماتِ الملاطفة ان تخبو بناره ، البدلة ( الخاكي ) والحديثُ عن اَناقتها وهي ترتسمُ على جسده ، عن الاجازات التي سيمضيانها معا .
- عليكِ ان تعتادي غيابي ولاتدعي الترقبَ يفتكُ بعينيكِ الجميلتين ، ليس طويلا وسيؤولُ كلَّ شيء الى مانريد .
كلمة (( الوطنِ )) التي رَدَّدها بِتَفَنّنٍ اكثرَ من مرةٍ جعلها تَمُطُّ شفتيها مفصحةً عن سخريةٍ ادركَ منها سَذاجته ، الحديثُ معها عن الوطنِ تماماً كما تُحَدِّثُ جائعاً عن موائدٍ مُتخمةٍ فلاتزيده ُ الاّ تَضَوُّراً وَاَلَماً ، لاتشفعُ النوايا الحسنةُ في تغيير حقيقةٍ جُبِلَتْ عليها الانفسُ فهذا الوطنُ مُذْ اَوّلِّ صباحٍ اَشرقَ عليه كَشَفَ عن تَحَيّزهُ لِمَنْ يَجْحَدُ بهِ وينحني لِمنْ يَغدرُ به ولايمنحُ محبيهِ الاّ الجحودَ .

اِغْضاءَتُها المنكسرةُ كفيلةٌ اَنْ تَرُدَّ على كلِّ ماتحدَّث به ، الصمتُ الذي خَيَّمَ على الارواحِ اَشعرهما اِنَّ المسافاتِ تتطاولُ والازمنةَ كَفَّتْ عن اَنْ تُديرَ عقاربَها ، والباصُ لن يصل ..
لااجملَ من ان تخونكَ ذاكرتُك ، تتصحَّرُ مساحات ُ المخيلةِ ، تُوصِدُ دونكَ الايامُ كلَّ ملامِحِها ، يُؤرشِفُ النسيانُ كل الوجوهِ التي تعرفُها لكن ما بالِ هذا الليلُ اِنبلجَ عن عينيها ، عينانِ سعة هذا النهرِ الذي اَجْثَوْهُ عنده ، تَمْطُرُهُ عيناها دَماً فكأنما تفيضُ بأمواجهِ التي بَدَتْ تتعدى ركبتيه اللتين غاصتا في الطين ، الموتُ الذي مَرَّ على رَقَبَتِهِ اَفصحَ عنه بَريقُ السكِّينة التي لم تُفلحْ كلُّ اَدْعيتهِ التي تَمْتَمَ بها في اَنْ تَدْرَأها عنه . فالموتُ الذي ينتقي مَنْ هُمْ اَحْوَجَ للحياة لا تدفعهُ الامنياتُ ولا حتى عيونُ الحبيبة .
التفاعلات: حسونة فتحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...