مُنذُ أن بدأتْ تلكَ الحربُ ونحنُ متلازمان لا يفارقُ أحدُنا الآخر، أذهب معه حيث ذهب ، لقد أنقذتُ حياتَه مرتين ، مرةً من رصاصةِ قناصٍ لايزالُ أثرُها في جسدي إلى الآن وأخرى من شظيةِ صاروخٍ فنحن رفيقا حرب .
وفي ليلةِ هادئة نسبيا خلاف العادة ، وقد وقف الجنودُ ينتظرون دورَهم في استلام وجبة العشاء وهم يكسرون ضجرَ الانتظارِ بأحاديثهم التي أعادوها أكثر من مرةٍ، فقد أجهزت الحربُ حتى على لحظاتِهم الجميلةِ فأصبحوا بجترون الذكريات ، صاحبي لا يتكلمُ كثيراً لكني كنتُ الأقرب إلى رأسه فقد رأيت ذات ليلة صورةَ حبيبِته تخرجُ منه وهويحدثها عن حفلِ زواجِهما بعد أن تنتهي الحرب .
وصورةَ أمِه التي كان يَعِدُها أن يُعَوِضَها كلَ سنينِ الحزنِ والحرمانِ بأيامٍ سعيدةٍ إن هو نجى من محرقةِ البشرِ هذه .
دوّت صافرةُ الإنذارِ معلنةً مزيداً من الموتِ ،فانفرطَ طابورُ الجنودِ كانفراطِ عقدٍ انقطع خيطُه ، تعالتْ صيحاتُ الجنودِ ،خذوا مواضعَكم ، إنها طائرات العدو . ركض صاحبي سريعاً وأنا أرتفع وأنخفض مع خطواتِه السريعة ،حاولتُ التشبثَ بذقنِه، بحزامي الجلدي المتدلي لكنه نسي أنْ يربطَه جيداً، كان لا يريد أن يموتَ فلا ناقةَ له ولا جملَ في هذا الصراع ، تطايرت الصورُ من رأسِه ،فكانت تمر عليّ فأقرأُها، فستان أبيض ثم شال أسود ثم صورة لرجل موشحةٌ بشريطٍ أسود ، لم أصمدْ طويلاً فوقَ هامتِه فسقطتُ متحرجةً بين الأشلاء على أرضٍ قد صُبِغَتْ بلونِ الموتِ فأنتهى بيّ المطافُ قربَ قطعةٍ من الطينِ حولتْها نارُ الحربِ إلى حجرٍ أحمرٍ بلونِ الدم .
فقلتُ لها :
متى سينتهي هؤلاء البشر من قتلِ بعضِهم البعض؟
فقال بصوتٍ تملأه الحسرة
أيتها الخوذةُ المسكينةُ، إنك حديثةُ العهدِ بالبشر، أما أنا فأصلُهم الذي خُلِقوا منه، وشهدتُ أول حروبِهم حيثُ قتل أحدُهم أخاه حسداً وعصى آخرُ أباه تكبراً ورمى بعضُهم أخاهم في بئرٍ مظلمةٍ بُغضاً وغِيرة واتهموا رجلاً صادقاً أميناً فيهم بالكذبٍ والجنونِ لأنه كان يريد أن يسودَ العدلُ بين العبدِ والحرِ ويستنقذَ البناتِ من الدفنِ وهنّ أحياء، وبعده قتلوا رجلاً عادلاً كان عوناً للفقراء ثم منعوا الماء عن رجلٍ قال لا للطغاةِ وذبحوا حتى رضيعَه وسبوا نسائه ، وإلى الآن هم يقتلون أنفسهم .
وقبل أن يكملَ الحجرُ حديثَه حتى حملني أحدُ الناجين من حزامي الملطخ بالدمِ والترابِ ووضعني على جثةٍ مقطعةٍ عرفتُ صاحبَها من رسالةِ حُبٍ لن تصلَ إلى صاحبتِها .
العراق / ذي قار
* من المجموعة القصصية (أغصان تصارع الخريف)
وفي ليلةِ هادئة نسبيا خلاف العادة ، وقد وقف الجنودُ ينتظرون دورَهم في استلام وجبة العشاء وهم يكسرون ضجرَ الانتظارِ بأحاديثهم التي أعادوها أكثر من مرةٍ، فقد أجهزت الحربُ حتى على لحظاتِهم الجميلةِ فأصبحوا بجترون الذكريات ، صاحبي لا يتكلمُ كثيراً لكني كنتُ الأقرب إلى رأسه فقد رأيت ذات ليلة صورةَ حبيبِته تخرجُ منه وهويحدثها عن حفلِ زواجِهما بعد أن تنتهي الحرب .
وصورةَ أمِه التي كان يَعِدُها أن يُعَوِضَها كلَ سنينِ الحزنِ والحرمانِ بأيامٍ سعيدةٍ إن هو نجى من محرقةِ البشرِ هذه .
دوّت صافرةُ الإنذارِ معلنةً مزيداً من الموتِ ،فانفرطَ طابورُ الجنودِ كانفراطِ عقدٍ انقطع خيطُه ، تعالتْ صيحاتُ الجنودِ ،خذوا مواضعَكم ، إنها طائرات العدو . ركض صاحبي سريعاً وأنا أرتفع وأنخفض مع خطواتِه السريعة ،حاولتُ التشبثَ بذقنِه، بحزامي الجلدي المتدلي لكنه نسي أنْ يربطَه جيداً، كان لا يريد أن يموتَ فلا ناقةَ له ولا جملَ في هذا الصراع ، تطايرت الصورُ من رأسِه ،فكانت تمر عليّ فأقرأُها، فستان أبيض ثم شال أسود ثم صورة لرجل موشحةٌ بشريطٍ أسود ، لم أصمدْ طويلاً فوقَ هامتِه فسقطتُ متحرجةً بين الأشلاء على أرضٍ قد صُبِغَتْ بلونِ الموتِ فأنتهى بيّ المطافُ قربَ قطعةٍ من الطينِ حولتْها نارُ الحربِ إلى حجرٍ أحمرٍ بلونِ الدم .
فقلتُ لها :
متى سينتهي هؤلاء البشر من قتلِ بعضِهم البعض؟
فقال بصوتٍ تملأه الحسرة
أيتها الخوذةُ المسكينةُ، إنك حديثةُ العهدِ بالبشر، أما أنا فأصلُهم الذي خُلِقوا منه، وشهدتُ أول حروبِهم حيثُ قتل أحدُهم أخاه حسداً وعصى آخرُ أباه تكبراً ورمى بعضُهم أخاهم في بئرٍ مظلمةٍ بُغضاً وغِيرة واتهموا رجلاً صادقاً أميناً فيهم بالكذبٍ والجنونِ لأنه كان يريد أن يسودَ العدلُ بين العبدِ والحرِ ويستنقذَ البناتِ من الدفنِ وهنّ أحياء، وبعده قتلوا رجلاً عادلاً كان عوناً للفقراء ثم منعوا الماء عن رجلٍ قال لا للطغاةِ وذبحوا حتى رضيعَه وسبوا نسائه ، وإلى الآن هم يقتلون أنفسهم .
وقبل أن يكملَ الحجرُ حديثَه حتى حملني أحدُ الناجين من حزامي الملطخ بالدمِ والترابِ ووضعني على جثةٍ مقطعةٍ عرفتُ صاحبَها من رسالةِ حُبٍ لن تصلَ إلى صاحبتِها .
العراق / ذي قار
* من المجموعة القصصية (أغصان تصارع الخريف)