وحدها المصادفة من قادني لأتعرَّف على قصَّة نزلاء ذلك السجن الرهيب في "تازمامارت" في المغرب العربيّ، وأنا ابن بلاد الشام، ونادراً ما كانت تصلنا أخبار المغرب العربيّ قبل ظهور البث الفضائي. كنا نتلقَّف أخبار ذلك المغرب العربيّ البعيد عن طريق بعض الصحف والمجلات العربيّة التي كانت تصدر في بيروت العاصمة اللبنانيّة مثل مجلة "الهدف" التي أسسها غسّان كنفاني في بيروت صيف عام 1969، ومجلة "الحريّة" التي كانت تصدر شراكة بين الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين نايف حواتمة، وحزب العمل الشيوعي محسن إبراهيم.
معتقل "تازمامارت" أصبح رسماً دارساً الآن، مع ذلك خرج اسمه من السريّة إلى العلن، وانتشرت قصَّته عبر العالم وأصبح نموذج المعتقل الرهيب بظروف تنعدم فيها أبسط شروط الإنسانيّة، مع أنَّ وزارة الداخلية المغربية ظلَّتْ تنكر وجود السجن إلى حين إغلاقه في 1991ومن ثمَّ هدمه بالكامل ولكنه بقي في الذاكرة الجمعية لنزلاء زنازينه أو "قبوره" كأحد أفظع مراكز الاعتقال السرية في زمن ما يسمى بسنوات الرصاص في المغرب.
معتقل "تازمامارت" في منطقة قروية وعرة المسالك، تتبع محافظة الرشيدية في الجنوب الشرقي للمغرب، على بعد 20 كيلومتراً من مدينة الريش. أقيمت زنازين "تازمامارت" داخل ثكنة عسكرية قديمة شيدها الجيش الفرنسي عندما كان في المغرب. ضم المعتقل 58 زنزانة موزعة على مبنيين ألف وباء. وكل زنزانة عبارة عن علبة مستطيلة من الاسمنت، طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران وعلو سقفها عن أرض الزنزانة أربعة أمتار وليست كل الزنازين سواء. وهذه الزنزانات في عتمة دامسة، وهذه العتمة هي من ألهمت الروائي المغربي "الطاهر بن جلون" ليكتب روايته عن أحد نزلاء هذا السجن تحت عنوان "تلك العتمة الباهرة" ولا يشق صمت تلك العتمة الباهرة غير شعاع من الضوء باهت يتسلل مع الهواء من خلال ثقوب صغيرة في صاج باب الزنزانة المغلق دائماً.
استقبلت زنازين السجن 58 معتقلاً عسكرياً عاشوا فيما يشبه مقبرة بحسب روايات الناجين. عند اتخاذ قرار الإفراج عن السجناء كان 28 منهم فقط من صمد بإرادة الحياة 18عاماً بينما قضى الآخرون في محنة البرد القارس والجوع والمرض والعزلة.
تفيد يوميات السجن التي وثقها عدد من الناجين أن نيَّة القائمين على السجن كانت تتجه إلى جعل "تازمامارت" مكاناً للموت البطيء، حيث قُطعتْ عن المعتقلين كل أسباب الحياة، والتواصل مع الخارج، غير أنّه مع تسرب قصّة المعتقل، تنامى الضغط الإعلاميّ والحقوقيّ من خارج المغرب في اتجاه الكشف عن مصير المختطفين والمعتقلين، فجاء الإفراج عمّن تبقّى في السجن في 23 أكتوبر/تشرين الأول عام 1991.
وقد لعبت كريستين السرفاتي زوجة المناضل الماركسيّ أبراهام السرفاتي دوراً في التعريف بمأساة المعتقلين خارج الحدود وخصوصاً فرنسا، بينما ساهمت الأميركيّة نانسي، زوجة أحد المعتقلين، في تصدير صوت المأساة إلى الخارج، وكذلك ساهمت الطبيبة الصيدليّة عايدة، زوجة الطيار صالح حشَّاد، في تقوية صمود المعتقلين بعد نجاحها في تسريب كميات من الأدويّة إلى المعتقل.
ألهمتْ مرحلة السجن بعض الناجين وغيرهم من الأدباء المغاربة كتابة سير ذاتيّة وروايات مستلهمة من يوميات المعاناة داخل الزنازين. ومن أبرز الناجين الذين كتبوا سيرة راجت كثيراً أحمد المرزوقي بكتابه " الزنزانة رقم ١٠" ومحمد الرايس بكتاب "من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" وكذلك مذكرات الطيار صالح حشَّاد. وألف الكاتب المغربي الطاهر بنجلون رواية بعنوان " تلك العتمة الباهرة" مستنداً إلى كتاب مذكرات السجين عزيز بينبين "تازماموت" ولعل حكاية السجين عزيز بينبين تستحق أكثر من رواية، وهذا ما كان، فقد كتب الروائيّ والفنان التشكيليّ "ماحي بينبين" رواية بديعة عن حكاية أخيه عزيز بينبين أحد نزلاء معتقل تازمامارت وكان والدهما محمّد بينبين جليساً للملك الحسن الثاني "مؤنس الملك" لا يُفارقه ليل نهار وابنه عزيز مُغيب في ذلك السجن الرهيب مدة 18 عاماً، مفارقة "شكسبيريّة" مذهلة في واقعيتها ودلالتها، ومن هنا استحقت أن تُروى.
ملحوظة:
شاعتْ قصة معتقل "تازمامارت" في مشرق الوطن العربيّ حين استضاف أحمد منصور في برنامجه المشهور "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة في ربيع عام 2009 المعتقلين السابقين في "تازمامارت" الضابط في سلاح المشاة "أحمد المرزوقي" والضابط في سلاح الطيران "صالح حشَّاد" في عشر حلقات لكلٍّ منهما.
أحمد مرزوقي في شاهد على العصر مع أحمد منصور:
وأنا إذا أقف هذه الوقفة المستفيضة مع أسرة "محمّد بينبين" الفقيه الذي كان مُؤنساً للملك الحسن الثاني لعقود من الزمان من خلال محنة ابنه "عزيز بينبين" في معتقل تازمامارت، فأنا هنا أستشعر هول المُصاب الذي يُصيب أهل السجين السياسيّ، وهو أعظم هولاً مما أصاب السجين نفسه. نحن نعلم جيداً من خلال الدراسات البحثية عن الحالة النفسيّة والجسدية-ففي حالات كثيرة يخرج السجين مشوهاً نفسياً وجسدياً- التي تنتاب السجين من خلال فترة الاعتقال الطويلة. وقد شاهدتُ فعلاً نماذج مروعة في سجون العراق "سجن نقرة السمان" وفي سورية "سجن تدمر" وفي مصر "السجن الحربي في الواحات الغربية" وفي المغرب العربي "سجن تامامارت". هذه السجون روّعت آلاف العائلات التي سُجن فيها أحبتهم سنين طويلة، خرج بعضم إلى الحريّة، ومات الآلاف منهم داخل هذه السجون. ومن خرج منها سليماً كتب أدباً مؤثراً سليماً عن تلك الأيام في سجنه. وعند قراءة "أدب السجون" هذا يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أغلى سمة من سمات هذا الأدب، التي ينبغي علينا أن نتعلمها إذا كان من الممكن تعلم ذلك. فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي.
مأساة شكسبيريّة:
على الغلاف الأخير لرواية "مؤنس الملك" يكتب المؤلف ماحي بينبين كلمة مؤلمة تختصر مضمون روايته. يقول: "ولدتُ في عائلة شكسبيرية بين والدٍ عاش طوال أربعين عامًا في خدمة الملك، وشقيقٍ أُبعد إلى سجنٍ من سجونه. للحكايات أبوابٌ يعرف الحكّاؤون جيّدًا إنّها تفضي إلى السلطة من جهة، وإلى الحريّة من الجهة المقابلة. عند ذلك الباب، وقف والدي وكان عليه أن يختار. وقد اختار سموَّه. تخلّى عن زوجته وأولاده، وترك شقيقي لمصيره، لتعيش عائلتنا طوال 18 عامًا مسكونة بألم الغياب. ما حجّة مؤنس الملك؟ وما حجّة الوالد الذي فيه؟ لمَ قد يزجُّ إنسانٌ بنفسه في العزلة ويرمي نفسه في أحضان العبودية؟ غريبةٌ هذه الدنيا، وغريبةٌ كانت الحياة التي اختارها أبي. منذ سنوات وأنا أحاول أن أروي قصته. اليوم أضعها بين أيديكم: حكايةٌ تفيض بسحر الحكايات الغابرة، وتغرق في كابوس مأساة إنسانية".
الروائي والتشكيلي ماحي بينبين في لقاء على فرانس24:
للوهلة الأولى، يبدو المشهد غاية في الغرابة، وكأنه أحد المشاهد الخارجة من حكايات ألف ليلة وليلة، إذ كيف نُصدّق بأن أباً يعمل نديماً ومُؤنساً للملك المغربي الحسن الثاني يترك فلذة كبده في واحد من أفظع سجون المملكة طوال 18 عاماً؛ خصوصاً إذا علمنا أن الأب كان يتمتّع بحظوة استثنائية لدى الملك، من المُفترض أن تُمكّنه من إخراج ابنه من غياهب المعتقل الرهيب؟
يقول ماحي بنبين: "في كلّ كتاباتي، وقفت إلى جانب أخي، الذي أمضى 18 سنة في معتقل الموت "تازمامارت" بعد مشاركته في انقلاب عسكري ضد الملك في يوليو 1971. خلال هذا اليوم، كان والدي مختبئاً في قبو إلى جانب ملك البلاد، في الوقت الذي كان ابنه؛ مُدجّجاً بسلاحه، يقوم بمذبحة في القصر. قصة كهذه مُثيرة بكلّ المقاييس بالنسبة لأيّ كاتب، وفي هذه الرواية، قرّرت أن أمنح الكلمة لوالدي. أفسحت له المجال كي يدافع عن نفسه؛ ويتحدّث عن جراحه ومأساته"
وقال ماحي بينبين بأنه اعتمد خلال كتابة روايته على تسجيلات لوالده، كان قد سجلها أخوه غير الشقيق على مدار 25 سنة، كان يروي خلالها تفاصيل قصته مع الملك. يقول: "كانت تلك التسجيلات مليئة بالحكايات والطرائف، سواء الحقيقية أو تلك التي ابتكرها والدي، فأخذتُ منها الأكثر إثارة. ثُمّ إنني لم أُهاجم الحسن الثاني لأن الراوي -والدي- كان مجنوناً بملكه، وكأن الأخير نصف إله بالمعنى الميثولوجي للعبارة".
وعن رأيه في العلاقة بين والده الفقيه محمّد بينبين والملك الحسن الثاني، يقول ماحي بينبين: "هناك مثل جميل ورد في الرواية من يمدح جمال مؤخّرته، لا يمكنه الجلوس عليها أبداً. وهكذا رجال الحاشية، جسداً وروحاً، هم ملك لسيّدهم. لقد كان والدي يعيش من دون شك في سجن مُذهّب؛ لكنه رغم ذلك يبقى سجناً أما الحسن الثاني فقد كان ديكتاتوراً يُمارس سلطة الحياة والموت على رعاياه".
يكتب ماحي بينبين على لسان والده: "نعم، أدين بكلّ شيء إلى ذاكرتي، التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظافري. دراسة القرآن والحديث كانت بالنسبة إليّ أمراً في غاية السهولة، كما أن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكّن من قواعد اللغة كان بالنسبة لي بسهولة شرب ماء. أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملاً. هذه حقيقة الأمر، ولا طاقة لي به. عبثاً حاولتُ إفراغ فكري من الأمور التافهة التي تزدحم فيه".
بالنسبة لمؤنس الحسن الثاني، فإن دخول القصر الملكي كدخول طائفة جديدة: الانتساب إليها يكون كاملاً ومطلقاً. يقول: "حين يُصبح المرء تابعاً للقصر، يُصبح الرجوع إلى الوراء مستحيلاً. وإلا الجزاء هو الركوع أو الموت. إنه ميثاق يُوقّعه المرء مع الشيطان".
بين سطور الرواية، يكتشف القارئ أن محمّد بينبين كان مزهواً إلى درجة الجنون بقربه من سيده، فهو كان يملك سلطة أكبر من كل الوزراء ورجالات الدولة؛ بل إنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بذلك: "كان قُربي من صاحب الجلالة يمنحني غروراً لا يُمكنني إخفاؤه، ونوعاً من السلطة كنت أرى قوتها في نظرة خصومي. الواقع أنني كنت أملك السلاح الأكثر إثارة للخوف في نظام الملكيّة المُطلقة: أُذُن الملك. من يملك أُذن الملك يساوي الملك قوّة. الله يعلم أيّ جهد بذلته لئلا أُسيء استعمال هذه الحظوة".
في أحد الأيام، كان مزاج الملك الحسن الثاني متقلباً، لكنه قرّر الذهاب إلى ملعب الغولف وطلب حضور الفقيه محمّد بينبين لمرافقته. في المقابل، كان عدد من الوزراء ينتظرون قدوم الملك لأنهم في حاجة للتوقيع الملكي على عدد كبير من الملفات المستعجلة. يستذكر الفقيه محمّد بينبين تلك اللحظة: "كان التأخير الذي سبّبه تدهور صحة الملك قد شلّ أعمال المملكة. شعرتُ بذلك الاهتمام المفاجئ الذي أبدوه حيالي. أخذوا يمتدحونني وكأنّ المديح ليس مهنتي، ويعدونني بمعسول الكلام وكأنني لست ضليعاً في فن الكلام".
عندما تحوّل قصر الصخيرات إلى مجزرة، يوم العاشر من يوليو 1971، كان محمّد بينبين مختبئاً برفقة الملك وبعض رجال الحاشية تحت الأرض. إنه انقلاب عسكري، ومستقبل الملكيّة أصبح على كفّ عفريت، ولم يبدُ أن الفقيه محمّد بينبين كان قد فقد شيئاً من حسّه الفكاهي حين توجّه إلى الملك بطلب جعل هذا الأخير ينخرط في ضحك هستيري: "سيّدي، قبل أن يطلقوا عليّ النار، قل لهم ألا يصوّبوا إلى رأسي المسكين، فلا ذنب له. ليفرغوا رصاصهم في بطني الضخم، فهو وحده المسؤول عمّا يجري لي! هذه المعدة التي لا تشبع أبداً تستحقّ أن تُمزّق إرباً. وهي التي قادتني إلى هذا القبو حيث أختبئ كجرذ".
غداة فشل المحاولة الانقلابية، ستكون صدمة الفقيه محمّد بينبين كبيرة: ابنه البكر، الضابط عزيز، كان ضمن فصيل المُهاجمين الذين حاولوا قتل الملك. ابتداءً من هذه اللحظة، سيحدثُ الشرخ في حياة آل بينبين. لم يتردّد الأب في التبرّؤ من ابنه، وهو ما كشفت عنه رواية "تلك العتمة الباهرة" -في الصفحة 35 من الطبعة العربية- التي كتبها الروائي المغربي الطاهر بن جلون على لسان الضابط عزيز بينبين الذي روى التفاصيل: "ما أن بلغ أبي أني كُنت في عداد المُهاجمين، خدش خدّيه إشهاراً لعاره، وارتمى عند قدمي الملك وقبّلهما باكياً، وعندما أنهضته يد الملك، أنكرني بالعبارات التالية: لقد رزقني الله ولداً منذ سبعة وعشرين عاماً. وإنّي أدعو الله أن يأخذه، أن يُميته ويصليه بنار جهنم إنني من صميم روحي ووعيي، وبكل إدراكي، أتبرّأ من هذا الابن العاق".
لكن ماحي بينبين في روايته "مؤنس الملك" منح لوالده الفرصة لكي يُعبّر، ولو بشكل متأخر-بعد رحيله عن الدنيا وأهلها- عن الألم الذي كان يشعر به طوال فترة اعتقال ابنه البكر. لقد كان مُؤنس الملك أكثر من تألّم في صمت. "جعلتني هذه المأساة أبدو في نظر الجميع حفّاراً لقبر ولدي، وأصبحتُ وحشاً، نذلاً وخائناً. وحوكمت وأُدنتُ مُسبقاً".
يقول محمّد بينبين الأب في رواية ابنه ماحي بينبين: "كيف أصف عودتي كلّ يوم إلى المنزل حيث تنتظرني امرأة في حالة حداد دائم، وأم حُرمت حُبّها الأول، أي بكر أبنائها؟ ذات مساء، كنّا راقدين على سريرنا، فمالت نحوي وقالت في أُذني: متى تنوي أن تُعيد إليَّ ابني؟، بقيتُ عاجزاً عن الكلام. نهَضَت وغادَرَت الغرفة، وكان ذلك آخر يوم تُشاطرني فيه سريري".
خاتمة:
يُنهي الكاتب المغربي الطاهر بن جلون روايته "تلك العتمة الباهرة" بهذا المشهد المؤثر الحزين. يقول على لسان عزيز بينبين: مضت خمسة أشهر على الحريّة ولا أزال أجد مشقة في التعوّد على الرفاهيّة والأمور يسيرة المنال. عندما أدخل الحمّام أقف لوقت طويل مستغرقاً في تأمل الصنابير بإعجاب. أنظرُ إليها ولا أجرؤ على فتحها. كُنت أتحسسها مثل أشياء مباركة، وأدير مفاتيحها ببطء وطول أناة. وعندما يجري الماء كنتُ أقتصد فيه، وأدّخر كلّ شيء. عانيتُ الأمرّين في اعتياد الخفّين. أسير على رؤوس أصابع قدمي الحافيتين كأني خائف من الانزلاق أو من توسيخ البلاط. أطباء كثر انكبوا على حالتي؛ لا يفهمون كيف تمكنت من البقاء حيّاً. كنتُ أحتاج إلى الصمت والغزلة وهما أمران يصعب توافرهما في عائلة يغلبُ على أوقاتها الاحتفال بالأشياء. كنتُ أفضل الذهاب للجلوس جنب أمي. كان السرطان يُبرّح أيامها، لكنها لا تشكو. كانت تقول لي: لن أجرؤ أبداً على الشكوى أمامك. يا بُني إني أُدرك ما قاسيته. لا داعي لأن تحكي لي. إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشراً آخرين. سروري كبير لأني رأيتك. كنتُ أخاف أن أموت وفي قلبي تلك الغصَّة.
مراجع المقال:
-ماحي بينبين- مؤنس الملك - مؤسسة نوفل 2019
-الطاهر بن جلون - تلك العتمة الباهرة - ترجمة بسّام حجّار دار الساقي - الطبعة الأولى 2002
-عزيز بينبين - تازماموت - ترجمة عبد الرحيم حزل - منشورات دار الأمان - الرباط - الطبعة الأولى 2011
-أحمد المرزوقي - الزنزانة رقم عشرة - المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - المغرب - الطبعة الأولى 2012
-محمّد الرايس - من الصخيرات إلى تازمامارت، تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم - ترجمة عبد الحميد جماهيري - منشورات الاتحاد الاشتراكي.
- عمر الطالب- رصيف 22- "خدش خدّيه إشهاراً لعاره" عودةٌ إلى قصة "مُؤنس الملك" الذي ترك ابنه في أفظع سجون المملكة.
استمع إلى رواية "تلك العتمة الباهرة" الروائي المغربي الطاهر بن جلون:
معتقل "تازمامارت" أصبح رسماً دارساً الآن، مع ذلك خرج اسمه من السريّة إلى العلن، وانتشرت قصَّته عبر العالم وأصبح نموذج المعتقل الرهيب بظروف تنعدم فيها أبسط شروط الإنسانيّة، مع أنَّ وزارة الداخلية المغربية ظلَّتْ تنكر وجود السجن إلى حين إغلاقه في 1991ومن ثمَّ هدمه بالكامل ولكنه بقي في الذاكرة الجمعية لنزلاء زنازينه أو "قبوره" كأحد أفظع مراكز الاعتقال السرية في زمن ما يسمى بسنوات الرصاص في المغرب.
معتقل "تازمامارت" في منطقة قروية وعرة المسالك، تتبع محافظة الرشيدية في الجنوب الشرقي للمغرب، على بعد 20 كيلومتراً من مدينة الريش. أقيمت زنازين "تازمامارت" داخل ثكنة عسكرية قديمة شيدها الجيش الفرنسي عندما كان في المغرب. ضم المعتقل 58 زنزانة موزعة على مبنيين ألف وباء. وكل زنزانة عبارة عن علبة مستطيلة من الاسمنت، طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران وعلو سقفها عن أرض الزنزانة أربعة أمتار وليست كل الزنازين سواء. وهذه الزنزانات في عتمة دامسة، وهذه العتمة هي من ألهمت الروائي المغربي "الطاهر بن جلون" ليكتب روايته عن أحد نزلاء هذا السجن تحت عنوان "تلك العتمة الباهرة" ولا يشق صمت تلك العتمة الباهرة غير شعاع من الضوء باهت يتسلل مع الهواء من خلال ثقوب صغيرة في صاج باب الزنزانة المغلق دائماً.
استقبلت زنازين السجن 58 معتقلاً عسكرياً عاشوا فيما يشبه مقبرة بحسب روايات الناجين. عند اتخاذ قرار الإفراج عن السجناء كان 28 منهم فقط من صمد بإرادة الحياة 18عاماً بينما قضى الآخرون في محنة البرد القارس والجوع والمرض والعزلة.
تفيد يوميات السجن التي وثقها عدد من الناجين أن نيَّة القائمين على السجن كانت تتجه إلى جعل "تازمامارت" مكاناً للموت البطيء، حيث قُطعتْ عن المعتقلين كل أسباب الحياة، والتواصل مع الخارج، غير أنّه مع تسرب قصّة المعتقل، تنامى الضغط الإعلاميّ والحقوقيّ من خارج المغرب في اتجاه الكشف عن مصير المختطفين والمعتقلين، فجاء الإفراج عمّن تبقّى في السجن في 23 أكتوبر/تشرين الأول عام 1991.
وقد لعبت كريستين السرفاتي زوجة المناضل الماركسيّ أبراهام السرفاتي دوراً في التعريف بمأساة المعتقلين خارج الحدود وخصوصاً فرنسا، بينما ساهمت الأميركيّة نانسي، زوجة أحد المعتقلين، في تصدير صوت المأساة إلى الخارج، وكذلك ساهمت الطبيبة الصيدليّة عايدة، زوجة الطيار صالح حشَّاد، في تقوية صمود المعتقلين بعد نجاحها في تسريب كميات من الأدويّة إلى المعتقل.
ألهمتْ مرحلة السجن بعض الناجين وغيرهم من الأدباء المغاربة كتابة سير ذاتيّة وروايات مستلهمة من يوميات المعاناة داخل الزنازين. ومن أبرز الناجين الذين كتبوا سيرة راجت كثيراً أحمد المرزوقي بكتابه " الزنزانة رقم ١٠" ومحمد الرايس بكتاب "من الصخيرات إلى تازمامارت: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" وكذلك مذكرات الطيار صالح حشَّاد. وألف الكاتب المغربي الطاهر بنجلون رواية بعنوان " تلك العتمة الباهرة" مستنداً إلى كتاب مذكرات السجين عزيز بينبين "تازماموت" ولعل حكاية السجين عزيز بينبين تستحق أكثر من رواية، وهذا ما كان، فقد كتب الروائيّ والفنان التشكيليّ "ماحي بينبين" رواية بديعة عن حكاية أخيه عزيز بينبين أحد نزلاء معتقل تازمامارت وكان والدهما محمّد بينبين جليساً للملك الحسن الثاني "مؤنس الملك" لا يُفارقه ليل نهار وابنه عزيز مُغيب في ذلك السجن الرهيب مدة 18 عاماً، مفارقة "شكسبيريّة" مذهلة في واقعيتها ودلالتها، ومن هنا استحقت أن تُروى.
ملحوظة:
شاعتْ قصة معتقل "تازمامارت" في مشرق الوطن العربيّ حين استضاف أحمد منصور في برنامجه المشهور "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة في ربيع عام 2009 المعتقلين السابقين في "تازمامارت" الضابط في سلاح المشاة "أحمد المرزوقي" والضابط في سلاح الطيران "صالح حشَّاد" في عشر حلقات لكلٍّ منهما.
أحمد مرزوقي في شاهد على العصر مع أحمد منصور:
وأنا إذا أقف هذه الوقفة المستفيضة مع أسرة "محمّد بينبين" الفقيه الذي كان مُؤنساً للملك الحسن الثاني لعقود من الزمان من خلال محنة ابنه "عزيز بينبين" في معتقل تازمامارت، فأنا هنا أستشعر هول المُصاب الذي يُصيب أهل السجين السياسيّ، وهو أعظم هولاً مما أصاب السجين نفسه. نحن نعلم جيداً من خلال الدراسات البحثية عن الحالة النفسيّة والجسدية-ففي حالات كثيرة يخرج السجين مشوهاً نفسياً وجسدياً- التي تنتاب السجين من خلال فترة الاعتقال الطويلة. وقد شاهدتُ فعلاً نماذج مروعة في سجون العراق "سجن نقرة السمان" وفي سورية "سجن تدمر" وفي مصر "السجن الحربي في الواحات الغربية" وفي المغرب العربي "سجن تامامارت". هذه السجون روّعت آلاف العائلات التي سُجن فيها أحبتهم سنين طويلة، خرج بعضم إلى الحريّة، ومات الآلاف منهم داخل هذه السجون. ومن خرج منها سليماً كتب أدباً مؤثراً سليماً عن تلك الأيام في سجنه. وعند قراءة "أدب السجون" هذا يعترينا الخجل من أنفسنا، وهذه أغلى سمة من سمات هذا الأدب، التي ينبغي علينا أن نتعلمها إذا كان من الممكن تعلم ذلك. فهو يجبرنا على أن نستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي.
مأساة شكسبيريّة:
على الغلاف الأخير لرواية "مؤنس الملك" يكتب المؤلف ماحي بينبين كلمة مؤلمة تختصر مضمون روايته. يقول: "ولدتُ في عائلة شكسبيرية بين والدٍ عاش طوال أربعين عامًا في خدمة الملك، وشقيقٍ أُبعد إلى سجنٍ من سجونه. للحكايات أبوابٌ يعرف الحكّاؤون جيّدًا إنّها تفضي إلى السلطة من جهة، وإلى الحريّة من الجهة المقابلة. عند ذلك الباب، وقف والدي وكان عليه أن يختار. وقد اختار سموَّه. تخلّى عن زوجته وأولاده، وترك شقيقي لمصيره، لتعيش عائلتنا طوال 18 عامًا مسكونة بألم الغياب. ما حجّة مؤنس الملك؟ وما حجّة الوالد الذي فيه؟ لمَ قد يزجُّ إنسانٌ بنفسه في العزلة ويرمي نفسه في أحضان العبودية؟ غريبةٌ هذه الدنيا، وغريبةٌ كانت الحياة التي اختارها أبي. منذ سنوات وأنا أحاول أن أروي قصته. اليوم أضعها بين أيديكم: حكايةٌ تفيض بسحر الحكايات الغابرة، وتغرق في كابوس مأساة إنسانية".
الروائي والتشكيلي ماحي بينبين في لقاء على فرانس24:
للوهلة الأولى، يبدو المشهد غاية في الغرابة، وكأنه أحد المشاهد الخارجة من حكايات ألف ليلة وليلة، إذ كيف نُصدّق بأن أباً يعمل نديماً ومُؤنساً للملك المغربي الحسن الثاني يترك فلذة كبده في واحد من أفظع سجون المملكة طوال 18 عاماً؛ خصوصاً إذا علمنا أن الأب كان يتمتّع بحظوة استثنائية لدى الملك، من المُفترض أن تُمكّنه من إخراج ابنه من غياهب المعتقل الرهيب؟
يقول ماحي بنبين: "في كلّ كتاباتي، وقفت إلى جانب أخي، الذي أمضى 18 سنة في معتقل الموت "تازمامارت" بعد مشاركته في انقلاب عسكري ضد الملك في يوليو 1971. خلال هذا اليوم، كان والدي مختبئاً في قبو إلى جانب ملك البلاد، في الوقت الذي كان ابنه؛ مُدجّجاً بسلاحه، يقوم بمذبحة في القصر. قصة كهذه مُثيرة بكلّ المقاييس بالنسبة لأيّ كاتب، وفي هذه الرواية، قرّرت أن أمنح الكلمة لوالدي. أفسحت له المجال كي يدافع عن نفسه؛ ويتحدّث عن جراحه ومأساته"
وقال ماحي بينبين بأنه اعتمد خلال كتابة روايته على تسجيلات لوالده، كان قد سجلها أخوه غير الشقيق على مدار 25 سنة، كان يروي خلالها تفاصيل قصته مع الملك. يقول: "كانت تلك التسجيلات مليئة بالحكايات والطرائف، سواء الحقيقية أو تلك التي ابتكرها والدي، فأخذتُ منها الأكثر إثارة. ثُمّ إنني لم أُهاجم الحسن الثاني لأن الراوي -والدي- كان مجنوناً بملكه، وكأن الأخير نصف إله بالمعنى الميثولوجي للعبارة".
وعن رأيه في العلاقة بين والده الفقيه محمّد بينبين والملك الحسن الثاني، يقول ماحي بينبين: "هناك مثل جميل ورد في الرواية من يمدح جمال مؤخّرته، لا يمكنه الجلوس عليها أبداً. وهكذا رجال الحاشية، جسداً وروحاً، هم ملك لسيّدهم. لقد كان والدي يعيش من دون شك في سجن مُذهّب؛ لكنه رغم ذلك يبقى سجناً أما الحسن الثاني فقد كان ديكتاتوراً يُمارس سلطة الحياة والموت على رعاياه".
يكتب ماحي بينبين على لسان والده: "نعم، أدين بكلّ شيء إلى ذاكرتي، التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظافري. دراسة القرآن والحديث كانت بالنسبة إليّ أمراً في غاية السهولة، كما أن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكّن من قواعد اللغة كان بالنسبة لي بسهولة شرب ماء. أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملاً. هذه حقيقة الأمر، ولا طاقة لي به. عبثاً حاولتُ إفراغ فكري من الأمور التافهة التي تزدحم فيه".
بالنسبة لمؤنس الحسن الثاني، فإن دخول القصر الملكي كدخول طائفة جديدة: الانتساب إليها يكون كاملاً ومطلقاً. يقول: "حين يُصبح المرء تابعاً للقصر، يُصبح الرجوع إلى الوراء مستحيلاً. وإلا الجزاء هو الركوع أو الموت. إنه ميثاق يُوقّعه المرء مع الشيطان".
بين سطور الرواية، يكتشف القارئ أن محمّد بينبين كان مزهواً إلى درجة الجنون بقربه من سيده، فهو كان يملك سلطة أكبر من كل الوزراء ورجالات الدولة؛ بل إنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بذلك: "كان قُربي من صاحب الجلالة يمنحني غروراً لا يُمكنني إخفاؤه، ونوعاً من السلطة كنت أرى قوتها في نظرة خصومي. الواقع أنني كنت أملك السلاح الأكثر إثارة للخوف في نظام الملكيّة المُطلقة: أُذُن الملك. من يملك أُذن الملك يساوي الملك قوّة. الله يعلم أيّ جهد بذلته لئلا أُسيء استعمال هذه الحظوة".
في أحد الأيام، كان مزاج الملك الحسن الثاني متقلباً، لكنه قرّر الذهاب إلى ملعب الغولف وطلب حضور الفقيه محمّد بينبين لمرافقته. في المقابل، كان عدد من الوزراء ينتظرون قدوم الملك لأنهم في حاجة للتوقيع الملكي على عدد كبير من الملفات المستعجلة. يستذكر الفقيه محمّد بينبين تلك اللحظة: "كان التأخير الذي سبّبه تدهور صحة الملك قد شلّ أعمال المملكة. شعرتُ بذلك الاهتمام المفاجئ الذي أبدوه حيالي. أخذوا يمتدحونني وكأنّ المديح ليس مهنتي، ويعدونني بمعسول الكلام وكأنني لست ضليعاً في فن الكلام".
عندما تحوّل قصر الصخيرات إلى مجزرة، يوم العاشر من يوليو 1971، كان محمّد بينبين مختبئاً برفقة الملك وبعض رجال الحاشية تحت الأرض. إنه انقلاب عسكري، ومستقبل الملكيّة أصبح على كفّ عفريت، ولم يبدُ أن الفقيه محمّد بينبين كان قد فقد شيئاً من حسّه الفكاهي حين توجّه إلى الملك بطلب جعل هذا الأخير ينخرط في ضحك هستيري: "سيّدي، قبل أن يطلقوا عليّ النار، قل لهم ألا يصوّبوا إلى رأسي المسكين، فلا ذنب له. ليفرغوا رصاصهم في بطني الضخم، فهو وحده المسؤول عمّا يجري لي! هذه المعدة التي لا تشبع أبداً تستحقّ أن تُمزّق إرباً. وهي التي قادتني إلى هذا القبو حيث أختبئ كجرذ".
غداة فشل المحاولة الانقلابية، ستكون صدمة الفقيه محمّد بينبين كبيرة: ابنه البكر، الضابط عزيز، كان ضمن فصيل المُهاجمين الذين حاولوا قتل الملك. ابتداءً من هذه اللحظة، سيحدثُ الشرخ في حياة آل بينبين. لم يتردّد الأب في التبرّؤ من ابنه، وهو ما كشفت عنه رواية "تلك العتمة الباهرة" -في الصفحة 35 من الطبعة العربية- التي كتبها الروائي المغربي الطاهر بن جلون على لسان الضابط عزيز بينبين الذي روى التفاصيل: "ما أن بلغ أبي أني كُنت في عداد المُهاجمين، خدش خدّيه إشهاراً لعاره، وارتمى عند قدمي الملك وقبّلهما باكياً، وعندما أنهضته يد الملك، أنكرني بالعبارات التالية: لقد رزقني الله ولداً منذ سبعة وعشرين عاماً. وإنّي أدعو الله أن يأخذه، أن يُميته ويصليه بنار جهنم إنني من صميم روحي ووعيي، وبكل إدراكي، أتبرّأ من هذا الابن العاق".
لكن ماحي بينبين في روايته "مؤنس الملك" منح لوالده الفرصة لكي يُعبّر، ولو بشكل متأخر-بعد رحيله عن الدنيا وأهلها- عن الألم الذي كان يشعر به طوال فترة اعتقال ابنه البكر. لقد كان مُؤنس الملك أكثر من تألّم في صمت. "جعلتني هذه المأساة أبدو في نظر الجميع حفّاراً لقبر ولدي، وأصبحتُ وحشاً، نذلاً وخائناً. وحوكمت وأُدنتُ مُسبقاً".
يقول محمّد بينبين الأب في رواية ابنه ماحي بينبين: "كيف أصف عودتي كلّ يوم إلى المنزل حيث تنتظرني امرأة في حالة حداد دائم، وأم حُرمت حُبّها الأول، أي بكر أبنائها؟ ذات مساء، كنّا راقدين على سريرنا، فمالت نحوي وقالت في أُذني: متى تنوي أن تُعيد إليَّ ابني؟، بقيتُ عاجزاً عن الكلام. نهَضَت وغادَرَت الغرفة، وكان ذلك آخر يوم تُشاطرني فيه سريري".
خاتمة:
يُنهي الكاتب المغربي الطاهر بن جلون روايته "تلك العتمة الباهرة" بهذا المشهد المؤثر الحزين. يقول على لسان عزيز بينبين: مضت خمسة أشهر على الحريّة ولا أزال أجد مشقة في التعوّد على الرفاهيّة والأمور يسيرة المنال. عندما أدخل الحمّام أقف لوقت طويل مستغرقاً في تأمل الصنابير بإعجاب. أنظرُ إليها ولا أجرؤ على فتحها. كُنت أتحسسها مثل أشياء مباركة، وأدير مفاتيحها ببطء وطول أناة. وعندما يجري الماء كنتُ أقتصد فيه، وأدّخر كلّ شيء. عانيتُ الأمرّين في اعتياد الخفّين. أسير على رؤوس أصابع قدمي الحافيتين كأني خائف من الانزلاق أو من توسيخ البلاط. أطباء كثر انكبوا على حالتي؛ لا يفهمون كيف تمكنت من البقاء حيّاً. كنتُ أحتاج إلى الصمت والغزلة وهما أمران يصعب توافرهما في عائلة يغلبُ على أوقاتها الاحتفال بالأشياء. كنتُ أفضل الذهاب للجلوس جنب أمي. كان السرطان يُبرّح أيامها، لكنها لا تشكو. كانت تقول لي: لن أجرؤ أبداً على الشكوى أمامك. يا بُني إني أُدرك ما قاسيته. لا داعي لأن تحكي لي. إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشراً آخرين. سروري كبير لأني رأيتك. كنتُ أخاف أن أموت وفي قلبي تلك الغصَّة.
مراجع المقال:
-ماحي بينبين- مؤنس الملك - مؤسسة نوفل 2019
-الطاهر بن جلون - تلك العتمة الباهرة - ترجمة بسّام حجّار دار الساقي - الطبعة الأولى 2002
-عزيز بينبين - تازماموت - ترجمة عبد الرحيم حزل - منشورات دار الأمان - الرباط - الطبعة الأولى 2011
-أحمد المرزوقي - الزنزانة رقم عشرة - المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - المغرب - الطبعة الأولى 2012
-محمّد الرايس - من الصخيرات إلى تازمامارت، تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم - ترجمة عبد الحميد جماهيري - منشورات الاتحاد الاشتراكي.
- عمر الطالب- رصيف 22- "خدش خدّيه إشهاراً لعاره" عودةٌ إلى قصة "مُؤنس الملك" الذي ترك ابنه في أفظع سجون المملكة.
استمع إلى رواية "تلك العتمة الباهرة" الروائي المغربي الطاهر بن جلون: