منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي توقّف بعض الأنثروبولوجيين الغربيّين عند نقطة هامّة حين لا حظوا ملامح ما يسود الغرب من سيطرة روح التكنلوجيا، ومنطق السوق الذي لا يهمّه غير الرّبح، وتفتّت العائلة، وما يرافق ذلك من آثار على المدى الطويل، ومن اغتراب انساني في تلك المجتمعات، وتوقّفوا عند هذه الظواهر، وكيفيّة الخروج من هذا المأزق، فوجدوا أنّ الحلّ يكمن في استلهام ما كان سائداً بين القبائل في إفريقيا وآسيا، والذي يقوم على التآزر العائلي، بما في تلك الروح من إيثار، واقتسام حتى للقمة الخبز، وإشاعة التلاحم، والألفة بما ينتج عنها، من دفء إنساني، واقترحوا لذلك زُمرا تتراوح بين خمسين شخصا وخمسمائة، يضعون خططهم الخاصة بالتواصل، والتآلف،
هذه الدعوة ذكّرتني بما كان عليه مجتمعنا السوري، حتى ستينات القرن الماضي، حيث كانت الروح الجماعية، والنّخوة، والتعاطف، وروح العائلة الواحدة هي السّائدة،
وسأضرب أمثلة على ذلك، ففي أيام الحصاد، وكان الحصاد بالمنجل، وكان مَن لديه أيدٍ عاملة أوفر يُنجز عمله بوقت أقصر، ولكنّه ما كان يذهب ليرتاح ومَن حوله يعملون، بل يذهب إلى جاره ويبدأ بمساعدته، وهكذا كلّ مَن ينتهي من عمله في أرضه، حتى يجعلوا القرية تنتهي في يوم واحد من الحصاد، وكانوا يسمّونه يوم " الخَلاص"،
بعض الذين يُسمّون " بَواطْليّة"، - مأخوذة من البطالة- وهم الذين لا قدرة على امتلاك ما تحتاجه الفلاحة من دواب وأدوات، حتى وليس لديهم أغنام أو أبقار،.. هؤلاء ما كانوا محرومين من منتوجات الحليب واللّبِن، فقد كان الآخرون من أصحاب الغنم والبقر يقولون لأهل بيتهم " بيت فلان محرومون، فاحسبوا حسابهم" فيصل إليهم ما ينقصهم، وفي أيام الجبَس والبطيخ الأصفر، والعجّور تُرسل إلى بيوتهم، فلا يشعرون بمزيد من الحرمان والانكسار، ومَن يريد بناء دار له يُبادر مَن حوله بمساعدته دون أجر، نخوةً منه، ومَن يزوّج ولده، أو تصيبه مصيبة الموت يجد الآتين وهم يحملون ما يساعده ماديّا، ولن أطيل أكثر، فهذه الروح بعد الستّينات بدأت بالاختفاء حتى كأنّها لم تكن، وحلّ محلّها روح " الآغا" المالك، فصار يتعامل الجار مع جاره تعامل " الأغا" مع الفلاّح، هذه المواصفات، بروحيّتها، لم تكن خاصة بالريف بل كانت ظاهرة في المدن بأشكال أخرى، ك"سكْبة" الطعام التي كانت متداولة بين الجيران، وحتى في السوق التجاريّة إذا لاحظ التّاجر أنّ أحد جيرانه لم يبع شيئا كان يوجّه الشاري إليه مشيرا إلى أنّه لم يستفْتح اليوم،
هذه الروح التي طالب بها الأنثروبولوجيون الغربيّون لإنقاذ التّدهور الإنساني في مجتمعاتهم الغربيّة، اختفت بالتدريج في بلادنا، حتى انقرضت، ولم يبق منها إلاّ ما كان ذا صفة انتباجيّة، استعراضيّة، كتلك الهدايا الغالية جدا التي تُقدَّم بمناسبات الأفراح، بين الأغنياء،
إنّ استلهام ما اقترحه الأنثربولوجيون الغربيّون لبلدانهم قد يكون نافعا جداً في مجتمعنا السوري، فيتكاتف البعض بخطّة مدروسة لإيجاد ما يسند اللقمة والروح، لا سيّما وأنّ بعض ما كان، ما زال في ذاكرة الكثيرين ممّن عايش تلك الفترة الايجابيّة في العلاقات الإنسانية الني كانت، كشراء بقرة أو أكثر بالمشاركة والاستفادة من منتوجاتها، أو كإقامة مشاريع صغيرة تساعد على مواجهة الفقر الذي تجاوز التسعين بالمائة من أفراد الشعب السوري، ريفاً ومدينة،
إنّ الاعتماد على النفس، وابتكار الحلول، عبر تلك الروح التعاونيّة يُعدّ حلاً أوليّا، فاعلا، وعسى أن نجد في ذلك بعض ما يرفع غائلة المزيد من الجوع والتّفتّت الأعمى...
.............................................................................
نشر في صحيفة البعث الالكترونيّة" حديث الصباح" في 7/3/2023
هذه الدعوة ذكّرتني بما كان عليه مجتمعنا السوري، حتى ستينات القرن الماضي، حيث كانت الروح الجماعية، والنّخوة، والتعاطف، وروح العائلة الواحدة هي السّائدة،
وسأضرب أمثلة على ذلك، ففي أيام الحصاد، وكان الحصاد بالمنجل، وكان مَن لديه أيدٍ عاملة أوفر يُنجز عمله بوقت أقصر، ولكنّه ما كان يذهب ليرتاح ومَن حوله يعملون، بل يذهب إلى جاره ويبدأ بمساعدته، وهكذا كلّ مَن ينتهي من عمله في أرضه، حتى يجعلوا القرية تنتهي في يوم واحد من الحصاد، وكانوا يسمّونه يوم " الخَلاص"،
بعض الذين يُسمّون " بَواطْليّة"، - مأخوذة من البطالة- وهم الذين لا قدرة على امتلاك ما تحتاجه الفلاحة من دواب وأدوات، حتى وليس لديهم أغنام أو أبقار،.. هؤلاء ما كانوا محرومين من منتوجات الحليب واللّبِن، فقد كان الآخرون من أصحاب الغنم والبقر يقولون لأهل بيتهم " بيت فلان محرومون، فاحسبوا حسابهم" فيصل إليهم ما ينقصهم، وفي أيام الجبَس والبطيخ الأصفر، والعجّور تُرسل إلى بيوتهم، فلا يشعرون بمزيد من الحرمان والانكسار، ومَن يريد بناء دار له يُبادر مَن حوله بمساعدته دون أجر، نخوةً منه، ومَن يزوّج ولده، أو تصيبه مصيبة الموت يجد الآتين وهم يحملون ما يساعده ماديّا، ولن أطيل أكثر، فهذه الروح بعد الستّينات بدأت بالاختفاء حتى كأنّها لم تكن، وحلّ محلّها روح " الآغا" المالك، فصار يتعامل الجار مع جاره تعامل " الأغا" مع الفلاّح، هذه المواصفات، بروحيّتها، لم تكن خاصة بالريف بل كانت ظاهرة في المدن بأشكال أخرى، ك"سكْبة" الطعام التي كانت متداولة بين الجيران، وحتى في السوق التجاريّة إذا لاحظ التّاجر أنّ أحد جيرانه لم يبع شيئا كان يوجّه الشاري إليه مشيرا إلى أنّه لم يستفْتح اليوم،
هذه الروح التي طالب بها الأنثروبولوجيون الغربيّون لإنقاذ التّدهور الإنساني في مجتمعاتهم الغربيّة، اختفت بالتدريج في بلادنا، حتى انقرضت، ولم يبق منها إلاّ ما كان ذا صفة انتباجيّة، استعراضيّة، كتلك الهدايا الغالية جدا التي تُقدَّم بمناسبات الأفراح، بين الأغنياء،
إنّ استلهام ما اقترحه الأنثربولوجيون الغربيّون لبلدانهم قد يكون نافعا جداً في مجتمعنا السوري، فيتكاتف البعض بخطّة مدروسة لإيجاد ما يسند اللقمة والروح، لا سيّما وأنّ بعض ما كان، ما زال في ذاكرة الكثيرين ممّن عايش تلك الفترة الايجابيّة في العلاقات الإنسانية الني كانت، كشراء بقرة أو أكثر بالمشاركة والاستفادة من منتوجاتها، أو كإقامة مشاريع صغيرة تساعد على مواجهة الفقر الذي تجاوز التسعين بالمائة من أفراد الشعب السوري، ريفاً ومدينة،
إنّ الاعتماد على النفس، وابتكار الحلول، عبر تلك الروح التعاونيّة يُعدّ حلاً أوليّا، فاعلا، وعسى أن نجد في ذلك بعض ما يرفع غائلة المزيد من الجوع والتّفتّت الأعمى...
.............................................................................
نشر في صحيفة البعث الالكترونيّة" حديث الصباح" في 7/3/2023