(17)
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عبّر الأسير كميل أبو حنيش عن هذه المبادرة في رسالة بعثها للروائي مصطفى عبد الفتاح ونشرها بدورِه على صفحات "الاتحاد" الحيفاويّة، وممّا جاء في هذه الرسالة قوله: "يفتح ثغرة ولو صغيرة في جدار الأسر السميك ويسمح بتسرّب القليل من نور الحريّة ليضيء عتمة الزنازين الثقيلة".
أمّا الكاتبة الفلسطينيّة حنان بكير المهجّرة في الشتات فعقّبت من صقيع النرويج: "ما أجمل إصرار شعبنا على الحياة.. وما أعظم ما تقوم به من عمل.. وأخمّن أنك صرت شريان الحياة لأسرانا خلف القضبان والجدران والأبواب الموصدة.. صباحك وطن معافى".
"الزمّار بموت وإيدو بتزمّر"
التقيت صباح الأربعاء 25 تشرين الثاني 2020 بصديقي الأسير كميل أبو حنيش [1] في سجن ريمون الصحراوي للمرّة الخامسة؛ أطلّ عليّ بكمّامة كورونيّة طلبت منه نزعها لأمتلئ بابتسامته؛ تعانقنا مطوّلًا عبر عدوّي اللدود، ذاك الحاجز الزجاجيّ الفاصل، سألني بدايةً عن حفيدي ماهر وعيد ميلاده السابع ووقع القصيدة التي أهداها له والعائلة فردًا فردًا، لا يترك شاردة أو واردة.
حدّثني عن فورة الصباح برفقة أبي غسّان وكتابي "أمميّة لم تغادر التلّ" الذي ناقشاه معًا وقصيدة "غزالة في بلاد الشمال" من وحي الكتاب، قرأها على مسامعي وهي في طريقها لتصلني وإيفا.
تحدّثنا عن ملوخيّة صندلة، تعهُّد رشاد عمري وصحيفة "المدينة" الحيفاويّة بكلّ كميّة بإمكانها اختراق السجون، و"مصيَدة" الملوخيّة في الليلة المصيريّة بين 30/11 و01/12 فترة الانتفاضة والمطاردة والزمن الجميل.
تناولنا مشروعه حول الكتابة والسجن وأهميّته؛ فكرة كتابة رسائل البحر وطقوس الكتابة وإدمانها، "الزمّار بموت وإيدو بتزمّر"، شوبنهاور، نيتشه وفرناندو بيسوا (شاعر، كاتب وناقد أدبي، مترجم وفيلسوف برتغالي) وما بينهم، قصّة قصيدته "عنات"، وأمور أخرى تشابك ببعضها البعض.
لحسن حظّي جاءت ساعة العدَد (صارت هذه الكلمة أمقَت كلمة عليّ في معجم اللغة العربيّة ولن أتصالح معها إلّا مع تحرير كافّة أسرانا!) ممّا مكّننا من تمديد فترة اللقاء المُتاحة بساعة أخرى حتى أتمكن من لقاء الشيبون. كانت فرصة للتعرّف على الكلبشات المدمجة (كلبشات بالأيدي وأخرى في الأرجل وجنزير يربطهما!).
حمّلني سلامات لأصدقائنا المشتركين: سعيد، أمير وباسل.
حقًا، كان لقاء تثاقفيّ مثير أنسانا السجن والسجّانة التي رافقتنا!
لك عزيزي الكميل أحلى التحيّات، لقاؤنا قريبًا في حيفا، شئت أم شئت!
نجمة البحر... والمربّع الأزرق
بعد لقائي حال وصولي بالأسير المعتقل محمد الحلبي وبعدها بالأسير كميل أبو حنيش، أطلّ الأسير منذر خلف أحمد مفلح [2] بابتسامة تلازمه كعلامة فارقة؛ كان عناقًا ثلاثيًّا برفقة كميل، حيث تبيّن لي أنّ كميل يُعتبر (س.غ.ب) وهي مصطلح عبري يعني أنّه يشكّل احتمالا كبيرًا للهروب، لذلك يتوجّب مرافقته بضابط كبير حين تنقّله، ولحسن حظّنا كان الضابط مشغولًا بوجبة الغذاء ممّا أتاح العناق واللقاء الثلاثيّ، للمرّة الأولى منذ بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون.
كان اللقاء حميميًّا، برقت عيناه حين تحدّثنا عن مولوده المُنتظر "الخرزة"، عن حفل الإشهار المُرتقب وردود الفعل على صفحات التواصل الاجتماعي التي تترقّبه بفارغ الصبر لاحتضانه؛ وقرأ على مسامعي رسالة في طريقها إليّ، موجّهة لكاتيا، أسماء وزوجتي سميرة، تحمل عنوان "الطريق إلى حريّةٍ مشتهاة" ويتذكر كلماتها غيبًا، جاء فيها "فلم يعد السجن يتّسع لي، ولم يعد بمقدوره احتجازي.. مُقسِماً لكل مشكّك بكل المعتقدات بأني الآن حُرُ".
تحدّث بلهفةٍ عن حفيدتي ليم وشهد وأيّام الزمن الجميل حين زار حيفا وترك نصف قلبه في ستيلا ماريس، أعالي الكرمل، عام 1999، وما زال المشهد حاضرًا وحكاه لي بأدقّ التفاصيل، فالتفاصيل الصغيرة في السجن مهمّة جدًّا وتلك الذكريات الجميلة ترافقه ليل نهار.
حدّثني عن حياته داخل جدران السجن، بين رياضة وقراءة وكتابة، الأدب العالمي وعمليّة التثاقف وأهميّة الترجمة ودورها وفكرة مشروع ترجمة بالتعاون مع الدكتورة لينا أبو بكر من ضباب لندن وصقيعها.
تناولنا "المربّع الأزرق"؛ شباك الزنزانة واللون الأزرق الذي يطغى على شبابيك الزنازين وأبوابه، وكأنّه لون موحّد يلاحق الأسير أينما تحرك خلف تلك الأسلاك الشائكة والجدران العازلة، ورغم ذلك يسرح معه وكأنّه بحر حيفا وذكرى لقاء نجمة البحر الحيفاويّة عالقة في مخيّلته.
ناقشنا مخطوطة عمله الأدبيّ الجديد وأسلوبه الحداثيّ الذي يشكّل قفزة نوعيّة لأدب السجون الفلسطيني، وداهمنا الوقت الذي يقف بالمرصاد.
لك عزيزي منذر أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، سنلتقي حتمًا في حفل إشهار "الخرزة" قريبًا.
حسن عبادي
تشرين الثاني 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير كميل أبو حنيش من قرية بيت دجن، اعتقل يوم 15 آذار 2004، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن تسعة مؤبدات.
[2] الأسير منذر مفلح من قرية بيت دجن، اعتقل يوم 04 أيلول 2003، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن 30 سنة.
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عبّر الأسير كميل أبو حنيش عن هذه المبادرة في رسالة بعثها للروائي مصطفى عبد الفتاح ونشرها بدورِه على صفحات "الاتحاد" الحيفاويّة، وممّا جاء في هذه الرسالة قوله: "يفتح ثغرة ولو صغيرة في جدار الأسر السميك ويسمح بتسرّب القليل من نور الحريّة ليضيء عتمة الزنازين الثقيلة".
أمّا الكاتبة الفلسطينيّة حنان بكير المهجّرة في الشتات فعقّبت من صقيع النرويج: "ما أجمل إصرار شعبنا على الحياة.. وما أعظم ما تقوم به من عمل.. وأخمّن أنك صرت شريان الحياة لأسرانا خلف القضبان والجدران والأبواب الموصدة.. صباحك وطن معافى".
"الزمّار بموت وإيدو بتزمّر"
التقيت صباح الأربعاء 25 تشرين الثاني 2020 بصديقي الأسير كميل أبو حنيش [1] في سجن ريمون الصحراوي للمرّة الخامسة؛ أطلّ عليّ بكمّامة كورونيّة طلبت منه نزعها لأمتلئ بابتسامته؛ تعانقنا مطوّلًا عبر عدوّي اللدود، ذاك الحاجز الزجاجيّ الفاصل، سألني بدايةً عن حفيدي ماهر وعيد ميلاده السابع ووقع القصيدة التي أهداها له والعائلة فردًا فردًا، لا يترك شاردة أو واردة.
حدّثني عن فورة الصباح برفقة أبي غسّان وكتابي "أمميّة لم تغادر التلّ" الذي ناقشاه معًا وقصيدة "غزالة في بلاد الشمال" من وحي الكتاب، قرأها على مسامعي وهي في طريقها لتصلني وإيفا.
تحدّثنا عن ملوخيّة صندلة، تعهُّد رشاد عمري وصحيفة "المدينة" الحيفاويّة بكلّ كميّة بإمكانها اختراق السجون، و"مصيَدة" الملوخيّة في الليلة المصيريّة بين 30/11 و01/12 فترة الانتفاضة والمطاردة والزمن الجميل.
تناولنا مشروعه حول الكتابة والسجن وأهميّته؛ فكرة كتابة رسائل البحر وطقوس الكتابة وإدمانها، "الزمّار بموت وإيدو بتزمّر"، شوبنهاور، نيتشه وفرناندو بيسوا (شاعر، كاتب وناقد أدبي، مترجم وفيلسوف برتغالي) وما بينهم، قصّة قصيدته "عنات"، وأمور أخرى تشابك ببعضها البعض.
لحسن حظّي جاءت ساعة العدَد (صارت هذه الكلمة أمقَت كلمة عليّ في معجم اللغة العربيّة ولن أتصالح معها إلّا مع تحرير كافّة أسرانا!) ممّا مكّننا من تمديد فترة اللقاء المُتاحة بساعة أخرى حتى أتمكن من لقاء الشيبون. كانت فرصة للتعرّف على الكلبشات المدمجة (كلبشات بالأيدي وأخرى في الأرجل وجنزير يربطهما!).
حمّلني سلامات لأصدقائنا المشتركين: سعيد، أمير وباسل.
حقًا، كان لقاء تثاقفيّ مثير أنسانا السجن والسجّانة التي رافقتنا!
لك عزيزي الكميل أحلى التحيّات، لقاؤنا قريبًا في حيفا، شئت أم شئت!
نجمة البحر... والمربّع الأزرق
بعد لقائي حال وصولي بالأسير المعتقل محمد الحلبي وبعدها بالأسير كميل أبو حنيش، أطلّ الأسير منذر خلف أحمد مفلح [2] بابتسامة تلازمه كعلامة فارقة؛ كان عناقًا ثلاثيًّا برفقة كميل، حيث تبيّن لي أنّ كميل يُعتبر (س.غ.ب) وهي مصطلح عبري يعني أنّه يشكّل احتمالا كبيرًا للهروب، لذلك يتوجّب مرافقته بضابط كبير حين تنقّله، ولحسن حظّنا كان الضابط مشغولًا بوجبة الغذاء ممّا أتاح العناق واللقاء الثلاثيّ، للمرّة الأولى منذ بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون.
كان اللقاء حميميًّا، برقت عيناه حين تحدّثنا عن مولوده المُنتظر "الخرزة"، عن حفل الإشهار المُرتقب وردود الفعل على صفحات التواصل الاجتماعي التي تترقّبه بفارغ الصبر لاحتضانه؛ وقرأ على مسامعي رسالة في طريقها إليّ، موجّهة لكاتيا، أسماء وزوجتي سميرة، تحمل عنوان "الطريق إلى حريّةٍ مشتهاة" ويتذكر كلماتها غيبًا، جاء فيها "فلم يعد السجن يتّسع لي، ولم يعد بمقدوره احتجازي.. مُقسِماً لكل مشكّك بكل المعتقدات بأني الآن حُرُ".
تحدّث بلهفةٍ عن حفيدتي ليم وشهد وأيّام الزمن الجميل حين زار حيفا وترك نصف قلبه في ستيلا ماريس، أعالي الكرمل، عام 1999، وما زال المشهد حاضرًا وحكاه لي بأدقّ التفاصيل، فالتفاصيل الصغيرة في السجن مهمّة جدًّا وتلك الذكريات الجميلة ترافقه ليل نهار.
حدّثني عن حياته داخل جدران السجن، بين رياضة وقراءة وكتابة، الأدب العالمي وعمليّة التثاقف وأهميّة الترجمة ودورها وفكرة مشروع ترجمة بالتعاون مع الدكتورة لينا أبو بكر من ضباب لندن وصقيعها.
تناولنا "المربّع الأزرق"؛ شباك الزنزانة واللون الأزرق الذي يطغى على شبابيك الزنازين وأبوابه، وكأنّه لون موحّد يلاحق الأسير أينما تحرك خلف تلك الأسلاك الشائكة والجدران العازلة، ورغم ذلك يسرح معه وكأنّه بحر حيفا وذكرى لقاء نجمة البحر الحيفاويّة عالقة في مخيّلته.
ناقشنا مخطوطة عمله الأدبيّ الجديد وأسلوبه الحداثيّ الذي يشكّل قفزة نوعيّة لأدب السجون الفلسطيني، وداهمنا الوقت الذي يقف بالمرصاد.
لك عزيزي منذر أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، سنلتقي حتمًا في حفل إشهار "الخرزة" قريبًا.
حسن عبادي
تشرين الثاني 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير كميل أبو حنيش من قرية بيت دجن، اعتقل يوم 15 آذار 2004، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن تسعة مؤبدات.
[2] الأسير منذر مفلح من قرية بيت دجن، اعتقل يوم 04 أيلول 2003، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن 30 سنة.