في كتابه الصادر عام 2005 "كزهر اللوز أو أبعد" يفاجئ الشاعر محمود درويش القارئ في قصيدته "منفى (3) كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهليّ" التي جاء إيقاعها الأساسي على تفعيلة "فعولن" من بحر المتقارب (ص. 153) بانتقال الإيقاع في مقطعين من بحر المتقارب إلى بحر البسيط (المقطع الأول ص. 160/161 والمقطع الثاني ص. 168/169). ينتقل الإيقاع من فعولن (المتقارب) إلى مستفعلن فعلن (البسيط).
وهنا المقطع الأول (ص. 160/161) المذكور للشاعر محمود درويش:
أَمشي الهوينى على نفسي ويتبعُني
ظلِّي وأَتبعه، لا شيء يرجعُني
لا شيء يرجعُهُ
كأنني واحدٌ مني يودِّعني
مستعجلاً غَدَهُ: لا تنتظرْ أحداً
لا تنتظرني، ولكنْ لا أُودِّعُهُ
كأنّه الشعرُ: فوق التلّ تخدعني
سحابةٌ غزلتْ حولي هويتها
وأوْرثتني مدارًا لا أضيّعُهُ
ثم يعود بعدها إيقاع "فعولن" لبحر المتقارب ليضبط وزن القصيدة مجددًا حتى ص. 168 من الديوان المذكور ثم يعود محمود درويش ثانية لبحر البسيط (مستفعلن فعلن) في المقطع التالي (ص. 168/169):
الشيء معنىً هنا، والشيء يصنعني
ذاتاً تعيد إلى المعنى ملامحه
فكيف أُولد من شيء... وأصنعُهُ
أَمتدُّ في الشجر العالي فيرفعني
إلى السماء، وأَعلو طائراً حَذِراً
لا شيء يخدعه، لا شيء يصرعُهُ
في كُلّ شيء أرى روحي ويوجعني
ما لا أُحس به، أو لا يحسّ
بروحي حين توجعُهُ
يلاحظ القارئ أن كل بيت يتكون من 10 تفعيلات أو 12 تفعيلة بدلا من 8 تفعيلات وفق بحر البسيط "الخليلي". ما يحسب لمحمود درويش هنا المحافظة على القافية سواء في صدر البيت (ويتبعُني/ يودِّعني/ تخدعني/ يصنعني/ فيرفعني/ ويوجعني) أو في عجز البيت (يرجعُه/ أُودِّعُهُ/ أضيّعُهُ/ وأصنعُهُ/ يصرعُهُ/ توجعُهُ) مما أضاف رنة موسيقية جميلة جدا تبقى عالقة في أذن القارئ. وكأنها أغنية يرددها القارئ قبل الشاعر.
أما في كتاب "أول الجسد آخر البحر ـ الصادر عام 2003" للشاعر أدونيس فإن إيقاع المقطع الشعري في ص. 173 هو (مستفعلن فعلن) وأصله كما قلنا هو بحر البسيط.
لم يبق للشعر من أنقاض قافلتي
إلى المجاهيل غير اللهو واللّعبِ
واليومَ أكْملُ ما أبْدأتُ: بيتُ هوًى
هوَى ـ تمدّدَ في أرجائهِ حلمٌ
ميْتٌ، أشاهدُ في الكرسيّ صورتَهُ
في البابِ، في قفْلهِ، في مقعدي وعلى
سريرِ حبّي، وفي الجدران والكتُبِ،
وقلتُ هذا لحبّي في توحّدهِ
لمْ يُصْغِ. ألْقى على جِسمي عباءتَهُ
وراحَ يفتحُ أيّامي على زمنٍ
طِفْلٍ، وَيَضحكُ مِنْ يأسي وَمِنْ تَعَبي.
هنا نلاحظ أن القافية لم ترد إلا ثلاث مرات (واللّعبِ/والكتُبِ/تَعَبي) كما نلاحظ أن الأسطر لا تكتمل في معناها إلا بقراءة ما يليها من أسطر ( بيْتُ هوًى هوى/حلمٌ ميْتٌ/ وعلى سريرِ حبّي/زمنٍ طفلٍ) وكأنّ سردية ما تقود القصيدة. ما يؤكد هذا هي الفواصل والنقاط التي وضعها الشاعر (مثلا وضع فاصلة حتى بعد القافية: والكتُبِ، ...). يمكن القول أن الإيقاع في قصيدة محمود درويش كان أكثر بروزا وكأنّ الإيقاع في قصيدة درويش هو الذي يقود قصيدته في حين أن السردية هي المهيمنة في قصيدة أدونيس.
أما الشاعر أحمد دحبور فيحتوي كتابه "هنا هناك ـ الصادر عام 1997" على قصيدة على بحر البسيط بعنوان (من يوصل البحر) ص. 102/106. وهي قصيدة مهداة للشاعر الفلسطيني توفيق زياد. هنا نقتبس بعض أبياتها.
يكون عدلُكَ ظلّامًا لأشعاري
لو قلتَ: غَنِّ، وقدْ قطّعْتَ أوْتاري
آتي وتذهبُ، ما هذا بموعدِنا
وليسَ يرضاهُ عهدٌ بيننا جارِ
مهْلًا، حنانيْكَ، هذا قاعُ غربتِنا
يجْفو، فيطفو سماءً دونَ أقْمارِ
طننتُ أني وصلتُ الماءَ في بلدي
ولمْ تكنْ، فاستَرَدَّ الغيمُ أمْطاري
.....
حتى آخر القصيدة.
نلاحظ أن قصيدة الشاعر أحمد دحبور تلتزم تماما بشروط القصيدة العمودية سواء بالإيقاع الموحد أو بعدد التفعيلات الثابت في البيت الواحد أو باكتمال المعنى في كل بيت.
ويمكن القول أن كل هذه الأشكال المتباينة للإيقاع في القصيدة هي أنواع مختلفة للإبداع، وقد ينال شكل ما إعجاب قارئ ما في حين يُعجب قارئ آخر بشكل ثان. ما يجمع النماذج الثلاثة هو إتقانها الواضح لتفعيلات بحر البسيط ومن هنا يمكن القول أنه قبل انطلاقهم إلى مجالات وتجارب جديدة (مثل شعر التفعيلة وقصيدة النثر) حرص الشعراء الكبار ( محمود درويش/أدونيس/أحمد دحبور) أولا على إتقان ما هو معروف ومألوف. فالتفنّن والتشكيل في الموسيقى الداخلية للقصيدة يسبقه تملّك وإتقان الموسيقى الخارجية (بحور الشعر).
29.03.2021
خالد شوملي
وهنا المقطع الأول (ص. 160/161) المذكور للشاعر محمود درويش:
أَمشي الهوينى على نفسي ويتبعُني
ظلِّي وأَتبعه، لا شيء يرجعُني
لا شيء يرجعُهُ
كأنني واحدٌ مني يودِّعني
مستعجلاً غَدَهُ: لا تنتظرْ أحداً
لا تنتظرني، ولكنْ لا أُودِّعُهُ
كأنّه الشعرُ: فوق التلّ تخدعني
سحابةٌ غزلتْ حولي هويتها
وأوْرثتني مدارًا لا أضيّعُهُ
ثم يعود بعدها إيقاع "فعولن" لبحر المتقارب ليضبط وزن القصيدة مجددًا حتى ص. 168 من الديوان المذكور ثم يعود محمود درويش ثانية لبحر البسيط (مستفعلن فعلن) في المقطع التالي (ص. 168/169):
الشيء معنىً هنا، والشيء يصنعني
ذاتاً تعيد إلى المعنى ملامحه
فكيف أُولد من شيء... وأصنعُهُ
أَمتدُّ في الشجر العالي فيرفعني
إلى السماء، وأَعلو طائراً حَذِراً
لا شيء يخدعه، لا شيء يصرعُهُ
في كُلّ شيء أرى روحي ويوجعني
ما لا أُحس به، أو لا يحسّ
بروحي حين توجعُهُ
يلاحظ القارئ أن كل بيت يتكون من 10 تفعيلات أو 12 تفعيلة بدلا من 8 تفعيلات وفق بحر البسيط "الخليلي". ما يحسب لمحمود درويش هنا المحافظة على القافية سواء في صدر البيت (ويتبعُني/ يودِّعني/ تخدعني/ يصنعني/ فيرفعني/ ويوجعني) أو في عجز البيت (يرجعُه/ أُودِّعُهُ/ أضيّعُهُ/ وأصنعُهُ/ يصرعُهُ/ توجعُهُ) مما أضاف رنة موسيقية جميلة جدا تبقى عالقة في أذن القارئ. وكأنها أغنية يرددها القارئ قبل الشاعر.
أما في كتاب "أول الجسد آخر البحر ـ الصادر عام 2003" للشاعر أدونيس فإن إيقاع المقطع الشعري في ص. 173 هو (مستفعلن فعلن) وأصله كما قلنا هو بحر البسيط.
لم يبق للشعر من أنقاض قافلتي
إلى المجاهيل غير اللهو واللّعبِ
واليومَ أكْملُ ما أبْدأتُ: بيتُ هوًى
هوَى ـ تمدّدَ في أرجائهِ حلمٌ
ميْتٌ، أشاهدُ في الكرسيّ صورتَهُ
في البابِ، في قفْلهِ، في مقعدي وعلى
سريرِ حبّي، وفي الجدران والكتُبِ،
وقلتُ هذا لحبّي في توحّدهِ
لمْ يُصْغِ. ألْقى على جِسمي عباءتَهُ
وراحَ يفتحُ أيّامي على زمنٍ
طِفْلٍ، وَيَضحكُ مِنْ يأسي وَمِنْ تَعَبي.
هنا نلاحظ أن القافية لم ترد إلا ثلاث مرات (واللّعبِ/والكتُبِ/تَعَبي) كما نلاحظ أن الأسطر لا تكتمل في معناها إلا بقراءة ما يليها من أسطر ( بيْتُ هوًى هوى/حلمٌ ميْتٌ/ وعلى سريرِ حبّي/زمنٍ طفلٍ) وكأنّ سردية ما تقود القصيدة. ما يؤكد هذا هي الفواصل والنقاط التي وضعها الشاعر (مثلا وضع فاصلة حتى بعد القافية: والكتُبِ، ...). يمكن القول أن الإيقاع في قصيدة محمود درويش كان أكثر بروزا وكأنّ الإيقاع في قصيدة درويش هو الذي يقود قصيدته في حين أن السردية هي المهيمنة في قصيدة أدونيس.
أما الشاعر أحمد دحبور فيحتوي كتابه "هنا هناك ـ الصادر عام 1997" على قصيدة على بحر البسيط بعنوان (من يوصل البحر) ص. 102/106. وهي قصيدة مهداة للشاعر الفلسطيني توفيق زياد. هنا نقتبس بعض أبياتها.
يكون عدلُكَ ظلّامًا لأشعاري
لو قلتَ: غَنِّ، وقدْ قطّعْتَ أوْتاري
آتي وتذهبُ، ما هذا بموعدِنا
وليسَ يرضاهُ عهدٌ بيننا جارِ
مهْلًا، حنانيْكَ، هذا قاعُ غربتِنا
يجْفو، فيطفو سماءً دونَ أقْمارِ
طننتُ أني وصلتُ الماءَ في بلدي
ولمْ تكنْ، فاستَرَدَّ الغيمُ أمْطاري
.....
حتى آخر القصيدة.
نلاحظ أن قصيدة الشاعر أحمد دحبور تلتزم تماما بشروط القصيدة العمودية سواء بالإيقاع الموحد أو بعدد التفعيلات الثابت في البيت الواحد أو باكتمال المعنى في كل بيت.
ويمكن القول أن كل هذه الأشكال المتباينة للإيقاع في القصيدة هي أنواع مختلفة للإبداع، وقد ينال شكل ما إعجاب قارئ ما في حين يُعجب قارئ آخر بشكل ثان. ما يجمع النماذج الثلاثة هو إتقانها الواضح لتفعيلات بحر البسيط ومن هنا يمكن القول أنه قبل انطلاقهم إلى مجالات وتجارب جديدة (مثل شعر التفعيلة وقصيدة النثر) حرص الشعراء الكبار ( محمود درويش/أدونيس/أحمد دحبور) أولا على إتقان ما هو معروف ومألوف. فالتفنّن والتشكيل في الموسيقى الداخلية للقصيدة يسبقه تملّك وإتقان الموسيقى الخارجية (بحور الشعر).
29.03.2021
خالد شوملي