مجتمعنا يريد أن يتقدَّم، أن يتطوَّر، أن ينمو، أن يتعصرَن se moderniser، أو كما يُقال، أن يتحضَّر se civiliser. لكن، ما يجب الانتباهُ إليه، هو أنه توجد في مكان ما بداخل أفراد هذا المجتمع بُؤراتُ مقاومةٍ تُعيق أو تُعرقل هذا الطموح للتقدم والتطور والنماء والعصرنة والتَّحضُّر. بؤراتُ المقاومة هذه تنشط جيدا وتُتَرجم بانتظام إلى سلوكات تظهر من خلال الأفعال والتَّفاعلات اليومية التي تناهض ذلك السعيَ إلى التَّغيير.
لا أحدَ يكره الحضارةَ والتَّقدُّم. بل إن لهذين الأخيرين قوانين ومساطر وأعراف ومعايير تؤطِّرهما. فلماذا هذا السلوك الانفصامي schizophrénique : الطموح إلى التَّغيير عن طواعية، وفي نفس الوقت، مقاومة هذا التَّغيير؟
أولا، وهذا شيءٌ مهمٌّ جدا، تغيير مجتمع ما لا يمكن إخضاعُه فقط للتَّقنين، بمعنى أنه يكفي إصدارُ القوانين والمراسيم ليتحقٌََّقَ هذا التَّغييرُ. وإخضاعُ هذا التَّغيير فقط للتَّقنين يعني أن الطبيعةَ البشريةَ يمكن اختزالُها في مجموعة من السلوكات والأعمال الميكانيكية، أي التِّلقائمة والمعروفة مُسبقا والتي لا تتغيَّر مهما كانت ظروف الوسط الذي يعيش فيه أفرادُ المجتمع.
التَّغييرُ لا يمكن أن يخضعَ حصريا للتَّقنين. إنه يُتَعَلَّمُ ويتم بناءُه تدريجيا. والتَّعلُّم والتربية هما اللذان يساهمان في هذا البناء. وبعبارة أخرى، إنهما يضمنان أختفاءَ التَّفاوت décalage بين ما يُطمَحُ له بكيفية جادة وبين ما يدور بكيفية ملموسة في الواقع المُعاش.
بالفعل، هناك تفاوُت واضحٌ بين وضعِ المجتمع الحالي وطموحه المشروع للتَّقدُّم والتَّغيير. إن هذا التَّفاوتَ واضحٌ وضوحَ الشمس على مستوى العديد من البنيات الاجتماعية المتمثِّلة في النظام التربوي، في الإدارة، في الأحزاب السياسية، في حكامة الشأن العمومي، في النقابات، في… كل هذه البنيات تسبح في عالم حيث الطموحُ إلى التَّغيير مجرد حُلم أو شعار أو حتى خيال chimère.
ومن جهة أخرى، التَّنمية لا يجب اختزالُها في مظاهرها المادية (صناعة، التِّكنولوجيات، الفلاحة، البنيات التَّحتية…). هذا الجانب من التَّنمية أساسي، لكن ليتحوَّلَ إلى حضارة، يجب أن يكونَ، بالضرورة، مرفوقاً بأسمى القيم الإنسانية. والمؤسسات الاجتماعية (نظام تربوي، إدارة، أحزاب سياسية، أُسَر، مجتمع مدني…) هي المُطالَبة بضمان هذه المرافقة.
في هذه الحالة، عندما يتم "تقنين التَّغيير"، يجب، في نفس الوقت، النُّهوض بالقيم الإنسانية التي هي، من بين أشياء أخرى، منبع دولة الحق والقانون. هذه المهمة موكولة إلى الجميع، وبالأخص، إلى المنظومة التربوية، إلى الأسَر، إلى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
فلننظر الآن، من خلال بعض الأمثلة، ماذا يُفرز، على أرض الواقع، التَّفاوتُ القائمُ بين وَضعِ المجتمع وبين طموحه إلى التَّغيير. يتعلَّق الأمرُ بنمادج من السلوكات التي تُلاحَظ، بانتظام، في حياتنا اليومية.
عند مغادرة منزلك صباحا من أجل الذهاب إلى العمل، لقضاء غرضٍ أو للتَّنزُّه أو لمرافقة الأطفال إلى المدرسة…، ما عليكم إلا أن تتسلَّحوا بالصبر لأنكم ستُصادفون أموراً تكون سبباً في حِرمانكم من بعض حقوقِكم ولو لفترة محدودة. من بين هذه الحقوق، سأركِّزُ على مثالين، الأول يتعلَّق بسيارة الأجرة petit taxi والثاني بالمقهى.
1.بينما أنتَ متواجدٌ في الشارع، توقِف طاكسي صغير وتصعد له للجلوس بجانب السائق. بعد أن تُحيِّيه وتُخبره بمكان اتِّجاهك وبعد قَطعِ مسافة قصيرة، يُشعِل السائقُ سيجارةً ويزيد في حجم صوت الرَّاديو. هذا الموقف عِشتُه أنا شخصيا وعانيتُ منه بصمتٍ. فكيف يمكن تفسيرُ هذا السلوك؟ بكل بساطةٍ، بالنسبة لسائق هذا الطاكسي:
-إنه سيدٌ داخلَ عالمه أو فضائه الصغير ناسيا أنه يبيع خدمةً وأن عليه أن يقومَ بها في احترامٍ للزَّبون. الجمعُ، في آنٍ واحدٍ، بين جودة الخدمة وثمنها rapport qualité/prix لاوجودَ له في قاموسه المهني.
-عليك أن تُدركَ أنه يقدِّم لك معروفا faveur عوض بيعِه لك خدمةً.
-ما هو مهمٌّ بالنسبة لهذا السائق، ليس شخصُك كزبون، لكن مالُك أو ما ستِؤديه له مقابلَ ما قدَّمَه لك من معروف. والدليلُ على ذلك أن سائقَ الطاكسي، عندما تكون عربتُه فارغة، أي بدون زبون، تراه ينسى الرؤيةَ المركزية vision centrale وينشغل بالرؤية الجانبية vision périphérique بحثاً عن الزبائن.
-إنه يُعطي لنفسِه كل الحقوق وحتى ذلك الذي يسمح له بتسميمك بدخان سيجارته وازعاجك بضجيج راديوه.
-إذا كانت لك حقوقٌ، من بينها الراحة confort واللُّطف bienveillance والاحترام، فإنها تُعدُّ ملغاةً داخل عالمه الصغير. وفي نهاية المطاف، لماذا سيُشغِل بالَه بما يجب أن يتحلَّى به من صفاتٍ أدبية وهو متيقِّنٌ بأن زبائنَه، كمواطنين مهدبين، سيدفعون له ما عليهم من واجبات، وأحيانا، بزيادة.
2.بعد الضغط الذي يتسبَّبُ فيه العملُ طيلةَ الأسبوع، قرَّرتَ أن تنالَ جرعةً من الراحة والاسترخاء، وحيدا أو رُفقةَ بعض أصدقائك، في أحد المقاهي. بينما أنتَ منهمكٌ في احتساءِ قهوتِك، فجأةً، تشمُّ رائحةً تزعجك. تلتفتُ لتكتشفَ مصدرَ هذه الرائحة. فإذا بها آتيةٌ من مدخِّنٍ جالسٍ غير بعيدٍ عنك، وناشِراً دخَّانه في جميع الاتجاهات. تنظر إليه مباشرةً في عينيه لعلَّه يُدرِك أنه يُسمِّمُك. لا، إنه بستمرُّ في التَّدخين.
ماذا ستفعلُ ليكونَ لك الحقُّ في الحِفاظ على صحة جسمِك الذي هو، على كل حالٍ، مِلكٌ لك؟ تتَّجه لصاحب المقهى أو مَن يُديره، فإذا به يُخرجُ لك أعذارا غير معقولة وغير مقبولة ولا أساسَ لها، وبالأخصِّ، فإنه ينقل الكرةَ من ميدانه إلى ميدان الزبناء علما أن جدرانَ المقهى تحمل علامات تبيِّن بوضوح أن التَّدخينَ ممنوعٌ. تتَّجه إلى المُدخِّنِ الذي، في أحسن الأحوال، يُغيٍّر مكانَ جلوسه. وإن لم يفعل، فإنه يستمر في التَّدخين مُسمِّماً الجوَّ بدخانه ومحاولاً، بطريقة واضحة أو ضِمنية، إفهامَك أن التَّدخينَ حقٌّ من حقوقه.
أمامك اختياران : إما مغادرة المكان وإما البقاء فيه، لكن شريطةَ أن تقبلَ أنك ضيًَّعتَ، غصبا عنك، حقًَّك في الحِفاظ على سلامة جسمِك، وبالأخصِّ، أن تتحوَّلَ إلى مدخِّنٍ ضد أرادتك fumeur passif.
ما هو خطيرٌ في هذا الوضع، هو أن حقَّك في صحة وسلامة المقهى، سُرِقَ منك، في آنٍ واحد، من طرف صاحب المقهى ومن طرف الزبون. صاحب المقهى، المهووس بالربح، ضرب، أولاً، عرضَ الحائط حقَّك الذي أدَّيتَ ثمناً من أجل الاستمتاع به، وضرب كذلك عرضَ الحائط القانونَ والأخلاقَ والأدبيات والمواطنة… أما الزبونُ، فإنه يعرف عن درايةٍ أنه يسيء لصحَّتِه بالـَّعاطي للتَّدخين، وفي نفس الوقت، فإنه يُعطي لنفسِه الحقَّ لإلحاق الضرر بصحة الآخرين.
إنها فقط أمثلةٌ من ضِمن العشرات. لكن، فلنتذكَّر ما قلتُه في بداية هذه المقالة : "توجد في مكان ما بداخل أفراد هذا المجتمع بُؤراتُ مقاومةٍ تُعيق أو تُعرقل هذا الطموح للتقدم والتطور والنماء والعصرنة والتَّحضُّر". بؤراتُ المقاومة هذه ليست، في الحقيقة، إلا تعبيرٌعن عقليات التي هي صلبةٌ كالصَّخر. بالإمكان إصدارُ القوانين والمراسيم كيفما شئنا، لن تتغيَّرَ هذه العقليات أو تكاد. إنها تعيش في الشخص ومعه ويُعزِّزها المجتمع ويُحافظ عليها. وهذا هو ما يدفع بعضَ المواطنين إلى اللجوء إلى إرشاء بعض الموظفين للحصول على ما لهم فيه الحقُّ. من الصَّعب القضاءُ على هذه العقليات لأنها مُرسَّخة في أدهان العديد من الناس.
الحلُّ البديل هوالتَّصدِّي لهذه الآفة قبل نشأتها عند بعض الناس، أي أن تُواجهَ باللحوءِ إلى الوقاية منها قبل ترسُّخها في العقول. وهذه الوقاية هي، في الحقيقة وفي الدرجة الاولى، من واجب المدرسة والأُسَر في جوٍّ من التَّضامن والتَّكامل مثاليين. وهذا هو ما كان معمولاً به في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. وفي درجة ثانية، يأتي دورُ الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. فعندما يترعرع الطِّفلُ مشبعا بالقيم الإنسانية النبيلة، فإنه يُشكِّل عاملاً وثيقا للنهوض بها وتطبيقها على أرض الواقع في الحياة اليومية. في هذه الحالة، تقنين التَّغيير تصبح له أهمية ويمكن أن يكونَ مكمِّلاً لهذا التَّغيير.
قوموا بجولةٍ في اتِّجاه اليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وسنغفورة والدول الإسكندينافية… وسترون، بكيفية ملموسة، أن التَّنميةَ لم تكن وليست مُختزلةً في التَّقدُّم العلمي والتِّكنولوجي. إنها كذلك، وبالأخص، موضِعَ ثقافة مُأَنْسِنَة humanisante متجدِّرة بإحكام في الحياة الاجتماعية.
لا أحدَ يكره الحضارةَ والتَّقدُّم. بل إن لهذين الأخيرين قوانين ومساطر وأعراف ومعايير تؤطِّرهما. فلماذا هذا السلوك الانفصامي schizophrénique : الطموح إلى التَّغيير عن طواعية، وفي نفس الوقت، مقاومة هذا التَّغيير؟
أولا، وهذا شيءٌ مهمٌّ جدا، تغيير مجتمع ما لا يمكن إخضاعُه فقط للتَّقنين، بمعنى أنه يكفي إصدارُ القوانين والمراسيم ليتحقٌََّقَ هذا التَّغييرُ. وإخضاعُ هذا التَّغيير فقط للتَّقنين يعني أن الطبيعةَ البشريةَ يمكن اختزالُها في مجموعة من السلوكات والأعمال الميكانيكية، أي التِّلقائمة والمعروفة مُسبقا والتي لا تتغيَّر مهما كانت ظروف الوسط الذي يعيش فيه أفرادُ المجتمع.
التَّغييرُ لا يمكن أن يخضعَ حصريا للتَّقنين. إنه يُتَعَلَّمُ ويتم بناءُه تدريجيا. والتَّعلُّم والتربية هما اللذان يساهمان في هذا البناء. وبعبارة أخرى، إنهما يضمنان أختفاءَ التَّفاوت décalage بين ما يُطمَحُ له بكيفية جادة وبين ما يدور بكيفية ملموسة في الواقع المُعاش.
بالفعل، هناك تفاوُت واضحٌ بين وضعِ المجتمع الحالي وطموحه المشروع للتَّقدُّم والتَّغيير. إن هذا التَّفاوتَ واضحٌ وضوحَ الشمس على مستوى العديد من البنيات الاجتماعية المتمثِّلة في النظام التربوي، في الإدارة، في الأحزاب السياسية، في حكامة الشأن العمومي، في النقابات، في… كل هذه البنيات تسبح في عالم حيث الطموحُ إلى التَّغيير مجرد حُلم أو شعار أو حتى خيال chimère.
ومن جهة أخرى، التَّنمية لا يجب اختزالُها في مظاهرها المادية (صناعة، التِّكنولوجيات، الفلاحة، البنيات التَّحتية…). هذا الجانب من التَّنمية أساسي، لكن ليتحوَّلَ إلى حضارة، يجب أن يكونَ، بالضرورة، مرفوقاً بأسمى القيم الإنسانية. والمؤسسات الاجتماعية (نظام تربوي، إدارة، أحزاب سياسية، أُسَر، مجتمع مدني…) هي المُطالَبة بضمان هذه المرافقة.
في هذه الحالة، عندما يتم "تقنين التَّغيير"، يجب، في نفس الوقت، النُّهوض بالقيم الإنسانية التي هي، من بين أشياء أخرى، منبع دولة الحق والقانون. هذه المهمة موكولة إلى الجميع، وبالأخص، إلى المنظومة التربوية، إلى الأسَر، إلى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
فلننظر الآن، من خلال بعض الأمثلة، ماذا يُفرز، على أرض الواقع، التَّفاوتُ القائمُ بين وَضعِ المجتمع وبين طموحه إلى التَّغيير. يتعلَّق الأمرُ بنمادج من السلوكات التي تُلاحَظ، بانتظام، في حياتنا اليومية.
عند مغادرة منزلك صباحا من أجل الذهاب إلى العمل، لقضاء غرضٍ أو للتَّنزُّه أو لمرافقة الأطفال إلى المدرسة…، ما عليكم إلا أن تتسلَّحوا بالصبر لأنكم ستُصادفون أموراً تكون سبباً في حِرمانكم من بعض حقوقِكم ولو لفترة محدودة. من بين هذه الحقوق، سأركِّزُ على مثالين، الأول يتعلَّق بسيارة الأجرة petit taxi والثاني بالمقهى.
1.بينما أنتَ متواجدٌ في الشارع، توقِف طاكسي صغير وتصعد له للجلوس بجانب السائق. بعد أن تُحيِّيه وتُخبره بمكان اتِّجاهك وبعد قَطعِ مسافة قصيرة، يُشعِل السائقُ سيجارةً ويزيد في حجم صوت الرَّاديو. هذا الموقف عِشتُه أنا شخصيا وعانيتُ منه بصمتٍ. فكيف يمكن تفسيرُ هذا السلوك؟ بكل بساطةٍ، بالنسبة لسائق هذا الطاكسي:
-إنه سيدٌ داخلَ عالمه أو فضائه الصغير ناسيا أنه يبيع خدمةً وأن عليه أن يقومَ بها في احترامٍ للزَّبون. الجمعُ، في آنٍ واحدٍ، بين جودة الخدمة وثمنها rapport qualité/prix لاوجودَ له في قاموسه المهني.
-عليك أن تُدركَ أنه يقدِّم لك معروفا faveur عوض بيعِه لك خدمةً.
-ما هو مهمٌّ بالنسبة لهذا السائق، ليس شخصُك كزبون، لكن مالُك أو ما ستِؤديه له مقابلَ ما قدَّمَه لك من معروف. والدليلُ على ذلك أن سائقَ الطاكسي، عندما تكون عربتُه فارغة، أي بدون زبون، تراه ينسى الرؤيةَ المركزية vision centrale وينشغل بالرؤية الجانبية vision périphérique بحثاً عن الزبائن.
-إنه يُعطي لنفسِه كل الحقوق وحتى ذلك الذي يسمح له بتسميمك بدخان سيجارته وازعاجك بضجيج راديوه.
-إذا كانت لك حقوقٌ، من بينها الراحة confort واللُّطف bienveillance والاحترام، فإنها تُعدُّ ملغاةً داخل عالمه الصغير. وفي نهاية المطاف، لماذا سيُشغِل بالَه بما يجب أن يتحلَّى به من صفاتٍ أدبية وهو متيقِّنٌ بأن زبائنَه، كمواطنين مهدبين، سيدفعون له ما عليهم من واجبات، وأحيانا، بزيادة.
2.بعد الضغط الذي يتسبَّبُ فيه العملُ طيلةَ الأسبوع، قرَّرتَ أن تنالَ جرعةً من الراحة والاسترخاء، وحيدا أو رُفقةَ بعض أصدقائك، في أحد المقاهي. بينما أنتَ منهمكٌ في احتساءِ قهوتِك، فجأةً، تشمُّ رائحةً تزعجك. تلتفتُ لتكتشفَ مصدرَ هذه الرائحة. فإذا بها آتيةٌ من مدخِّنٍ جالسٍ غير بعيدٍ عنك، وناشِراً دخَّانه في جميع الاتجاهات. تنظر إليه مباشرةً في عينيه لعلَّه يُدرِك أنه يُسمِّمُك. لا، إنه بستمرُّ في التَّدخين.
ماذا ستفعلُ ليكونَ لك الحقُّ في الحِفاظ على صحة جسمِك الذي هو، على كل حالٍ، مِلكٌ لك؟ تتَّجه لصاحب المقهى أو مَن يُديره، فإذا به يُخرجُ لك أعذارا غير معقولة وغير مقبولة ولا أساسَ لها، وبالأخصِّ، فإنه ينقل الكرةَ من ميدانه إلى ميدان الزبناء علما أن جدرانَ المقهى تحمل علامات تبيِّن بوضوح أن التَّدخينَ ممنوعٌ. تتَّجه إلى المُدخِّنِ الذي، في أحسن الأحوال، يُغيٍّر مكانَ جلوسه. وإن لم يفعل، فإنه يستمر في التَّدخين مُسمِّماً الجوَّ بدخانه ومحاولاً، بطريقة واضحة أو ضِمنية، إفهامَك أن التَّدخينَ حقٌّ من حقوقه.
أمامك اختياران : إما مغادرة المكان وإما البقاء فيه، لكن شريطةَ أن تقبلَ أنك ضيًَّعتَ، غصبا عنك، حقًَّك في الحِفاظ على سلامة جسمِك، وبالأخصِّ، أن تتحوَّلَ إلى مدخِّنٍ ضد أرادتك fumeur passif.
ما هو خطيرٌ في هذا الوضع، هو أن حقَّك في صحة وسلامة المقهى، سُرِقَ منك، في آنٍ واحد، من طرف صاحب المقهى ومن طرف الزبون. صاحب المقهى، المهووس بالربح، ضرب، أولاً، عرضَ الحائط حقَّك الذي أدَّيتَ ثمناً من أجل الاستمتاع به، وضرب كذلك عرضَ الحائط القانونَ والأخلاقَ والأدبيات والمواطنة… أما الزبونُ، فإنه يعرف عن درايةٍ أنه يسيء لصحَّتِه بالـَّعاطي للتَّدخين، وفي نفس الوقت، فإنه يُعطي لنفسِه الحقَّ لإلحاق الضرر بصحة الآخرين.
إنها فقط أمثلةٌ من ضِمن العشرات. لكن، فلنتذكَّر ما قلتُه في بداية هذه المقالة : "توجد في مكان ما بداخل أفراد هذا المجتمع بُؤراتُ مقاومةٍ تُعيق أو تُعرقل هذا الطموح للتقدم والتطور والنماء والعصرنة والتَّحضُّر". بؤراتُ المقاومة هذه ليست، في الحقيقة، إلا تعبيرٌعن عقليات التي هي صلبةٌ كالصَّخر. بالإمكان إصدارُ القوانين والمراسيم كيفما شئنا، لن تتغيَّرَ هذه العقليات أو تكاد. إنها تعيش في الشخص ومعه ويُعزِّزها المجتمع ويُحافظ عليها. وهذا هو ما يدفع بعضَ المواطنين إلى اللجوء إلى إرشاء بعض الموظفين للحصول على ما لهم فيه الحقُّ. من الصَّعب القضاءُ على هذه العقليات لأنها مُرسَّخة في أدهان العديد من الناس.
الحلُّ البديل هوالتَّصدِّي لهذه الآفة قبل نشأتها عند بعض الناس، أي أن تُواجهَ باللحوءِ إلى الوقاية منها قبل ترسُّخها في العقول. وهذه الوقاية هي، في الحقيقة وفي الدرجة الاولى، من واجب المدرسة والأُسَر في جوٍّ من التَّضامن والتَّكامل مثاليين. وهذا هو ما كان معمولاً به في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. وفي درجة ثانية، يأتي دورُ الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. فعندما يترعرع الطِّفلُ مشبعا بالقيم الإنسانية النبيلة، فإنه يُشكِّل عاملاً وثيقا للنهوض بها وتطبيقها على أرض الواقع في الحياة اليومية. في هذه الحالة، تقنين التَّغيير تصبح له أهمية ويمكن أن يكونَ مكمِّلاً لهذا التَّغيير.
قوموا بجولةٍ في اتِّجاه اليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وسنغفورة والدول الإسكندينافية… وسترون، بكيفية ملموسة، أن التَّنميةَ لم تكن وليست مُختزلةً في التَّقدُّم العلمي والتِّكنولوجي. إنها كذلك، وبالأخص، موضِعَ ثقافة مُأَنْسِنَة humanisante متجدِّرة بإحكام في الحياة الاجتماعية.