مَن يكتب عن الشعراء والأدباء بعد رحيلهم إلى دار البقاء إن لم يكتب عنهم الأدباء؟!
من يبرز مكانتهم في المجتمع ودورهم في التثقيف إن لم يسطرها الأدباء أنفسهم؟!
أسئلة موجعة ما كنت لأكتبها وأحملها في قلبي في ألم جارح دائم لو لم أشعر بهذا الألم المتكرر في النفوس.
لعل من أبرز الصداقات العميقة عند أدباء القرن الماضي تلك الصداقة الحميمة التي جمعت بين الأستاذين نقولا يوسف و #محمد_رجب_البيومي رغم اختلاف مشربيهما في التلقي والفكر، فهي صداقة قائمة على كلّ معاني الصدق والوفاء، والكلام عنها يسري في السمع.
كان مؤلماً لي ومثيراً لدهشتي حين قرأت ما كتبه أستاذنا البيومي عن صديق عمره نقولا يوسف بعد وفاته في عدة مقالات.
نقولا يوسف نيوفتوس: شاعر وأديب ومؤرخ ومترجم وقصاص وكاتب اجتماعي، مارس الكتابة بأنواعها منذ شبابه، ولد في مارس سنة 1904م في دمياط لأب مصري (أصله شاميّ) وأم يونانية، واستقر بالإسكندرية ناشراً أكثر كتاباته، وتوفي بالقاهرة سنة 1976م إثر وعكة صحية، عمل في التدريس فترة طويلة وتدرج في السلك التعليمي إلى أن وصل إلى درجة "ناظر مدرسة"، وبالرغم من صعوبة مهنة التعليم إلّا أنه قد استطاع بكل عناية فائقة أن يواصل كتاباته الإبداعية، ثم استقال من وظيفته وتفرغ للتأليف والبحث، فأخرج الكثير من الأعمال الأدبية والمترجمة والتاريخية، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية واليونانية، أضف إلى ذلك أنّه رحالة، فقد زار فرنسا وإنجلترا وسويسرا واليونان وتركيا للسياحة والتعلم.
لم يقتصر نقولا يوسف على فرع أو فرعين من فروع الأدب، ولكنّه صال وجال في شتى أنواع المعرفة، وطار وحلق في أفانين الثقافة والتاريخ، فترك آثاراً مختلفة ذات قيمة للباحثين.
من يطالع سيرة الرجل يعرف أن أقرب لقب يستحقه هو "خادم الأدباء" وليس هذا تقليلًا من شأنه، بل أرى أن هذا اللقب يزيده رفعة ومكانة، فقد ساد بأخلاقه وأعماله على جميع الأدباء، بيد أن هذا التفاني في خدمة أصدقائه قد قوبل بعد وفاته بنكران الجميل.
وبحكم إقامة الفقيد الطويلة في الإسكندرية ذكر الأستاذ وديع فلسطين أنّه كان "مسخَّر القدمين في خدمة الأدباء المقيمين والوافدين"، وكان في ثغره يقوم على إرشادهم والتخفيف عنهم مدة إقامتهم في أعمال حياتهم، ووصفه صديقه الوفيّ #محمد_رجب_البيومي بالإنساني المثالي سخيّ اليد والروح، وأن إنسانيته عمت واتسعت حتى شملت جميع عارفيه وغيرهم من العامة، ولذا يمثل أدبه المتنوع تلك الإنسانية النبيلة الصادقة التي تحلى بها، وكان له فضيلة كبرى وهي الحديث في مقالاته عن المغمورين من الأدباء.
وخلق الوفاء عند نقولا يوسف طبيعة وسجية، وسمة بارزة لا نستطيع أن نتجاوزها، والأمثلة على ذلك عزيزة، يكفي أن أخبرك أنه ظلّ وفياً لأستاذه الشاعر المعروف الأستاذ عبد الرحمن شكري منذ عرفه معلماً له بمدرسة "رأس التين الثانوية" بالإسكندرية، واستمرت تلك العلاقة حتى يوم وفاة شكري، وكان آلة التواصل بينه وبين محبيه من جيل الشباب، وعن طريقه زار الأستاذ البيومي شكري ببيته في الإسكندرية، واستمرّ بعد وفاة شكري وفاء نقولا له، فساهم في إخراج ديوانه الكبير، أضف إلى ذلك الكثير من المقالات التي كتبها عن حياته وشعره ونثره.
هذا الوفاء العزيز لم يقتصر على أصدقائه من مصر، بل جاوز الحدود المصرية، فللفقيد كثيرٌ من الصداقات المتعددة مع أدباء ومفكري الوطن العربي، فكانت رسائله وكتبه ومعايداته تتوالى على مدى السنين مع الأعلام، وتتميز صور معايداته التي كان يرسلها إلى الأستاذ رياض نصور بأنها: "صور تجمع باقة من قادة الفكر والفكر، وتمثل الفقيد في جلسات مع طه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وصديق شيبوب، وهلال ناجي، وغيرهم".
وللأستاذ المؤرخ أحمد حسين الطماوي مقال نافع بعنوان: "نقولا يوسف: ذكريات ورسائل" نشر بــــ "مجلة الأديب" في العدد الخامس، سنة 1978م، نقل فيه الكثير من رسائله الخاصة معه، وقد استوقفتني عبارته: "عندما علمتُ بنبأ موته انتابتني كآبة نفسية شملتني لأيام طويلة، وأدركت أنني فقدت أستاذاً وصديقاً نادراً في علمه وأخلاقه".
ومن صور وفائه النادرة التي حدثت بعد موت صديقه "صديق شيبوب" -كما أخبرنا الأستاذ رجب البيومي- أنّه رأى نفسه مكلفاً من تلقاء الصداقة بجمع مقالات صاحبه التي كتبها بـــــ"مجلة البصير"، فذهب إلى أخته الكبيرة في بيتها ليجمع ما عندها من آثاره حتى ينسقها، ويخرجها في كتاب حافل يليق به، ثم تأتيه الأخبار بعد ذلك أن "خليل شيبوب" قد ترك ديواناً كبيراً تقدم به أخوه "صديق" إلى مجلس الفنون لطبعه ونشره، فيجد نقولا نفسه مكلفاً بمتابعة نشره والتواصل مع ناشره من أجل ذلك، ثم تأتي ذكراه فيقيم له ندوة يتكلم فيها عارفوه عن حياته وأدبه، وهكذا الأمر مع كثير من الأدباء والشعراء والمثقفين، والقائمة تطول.
وأشير هنا إلى أن الرجل كان يقطع كثيراً من أوقاته النفيسة رغم تقدم سنه في مراسلة الأدباء والمثقفين، ففي رسالة خاصة للأستاذ نقولا إلى الكاتب العراقي وحيد الدين بهاء الدين كتب: "وها أنذا أكتب إليكَ من ركني البعيد بكازينو "لاكويرتا" على شاطئ البحر، حيث أمضي وحدي بضع ساعات كلّ صباح، ويزورني بها بعض أدباء الإسكندرية الأصدقاء للتحدث عن الأدب والأدباء والكتب والمؤلفين ترويحاً عن النفس. لقد كنت خلال الأسابيع الأخيرة متقوقعاً أصارع وعكات الشيخوخة وموجات الزمهرير وتقلبات الطقس وفوات أمشير ".
سكت بعد وفاة الأستاذ نقولا يوسف أحباؤه وعارفوه عن نعيه والاحتفاء به وتكريمه تكريماً يليق به، ولم يتحرك أحدٌ من عارفي فضله للإشادة بجهوده الكثيرة وأعماله الضخمة ومؤلفاته الغزيرة، وقد تأسف على هذا كثيراً الأستاذ وديع فلسطين، حيث كتب: "ولا أدري لم سكت الشعراء عن رثائه، مع أنّه كان كبير الاهتمام بالشعر والشعراء"، وكتب الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين في جريدة "الأديب"، العدد السادس عن الأستاذ نقولا: "نعاه إلي صديقي القدير وديع فلسطين يأسى: نيقولا يوسف مات ولم يذكره ذاكر! وتلك هي مصيبة الأدب والفكر".
وقد كان خبر وفاته صدمة عند بعض محبيه، فكتب الأستاذ رياض نصور في "مجلة الأديب" في العدد الأول أن الدهشة عقدت لسانه والحزن ملأ قلبه حين علم عن طريق الصدقة في مكتب "مجلة الأديب" مضي أكثر من عام على وفاة صديقه نقولا يوسف، وتأسف كثيراً على موت الأعلام والأدباء الكبار في صمت، ثم عقد مقارنة بين وفاته وبين وفاة المطرب الكبير عبد الحليم حافظ التي كانت وفاته في مارس سنة 1977، لافتاً أن الأجهزة الإعلامية ما زالت منشغلة بخبر وفاته، وهو قد كتب مقاله في يناير سنة 1978، وأما خبر وفاة الأستاذ نقولا فلم ينتشر بل لم يعرف عنه شيء رغم أنه قضى عمراً مديداً في التأليف والكتابة والإبداع.
وأما أستاذنا الأكبر #محمد_رجب_البيومي فقد رجع إلى مصر بعد غيبة قصيرة في العمل الأكاديمي، فسأل عن صديقه الأستاذ نقولا يوسف، وعلم أنه قد غادر الدنيا منذ فترة دون انتشار واسع لخبر وفاته، فتعجب أشد العجب من صمت أصدقائه وإخوانه الأدباء عن نعيه، وكتب: "عجبت كلّ العجب أن يصمت إخوانه الأدباء وأصدقاؤه الكتاب عن نعيه، وفيهم من يملك القلم المسهب والصحيفة الذائعة، وما كان الفقيد النبيل لهم إلا أخاً أصيل الود، عريق الوفاء، ينزلون عليه في الإسكندرية صيفاً فيجدون الأنيس الملاطف، والصديق الباذل، والجليس المهذب، يتحسس مطالبهم ليقضيها على عجل ويتلمس رغباتهم تلمساً حتى لتقع في اليد قبل أن ينطق بها اللسان!
أهكذا يسكت عن نقولا أحباؤه وكانوا يراسلونه بالشوق ويقابلونه بالعناق ويودعونه بالدمع!".
وقد ذكر وديع فلسطين أن أستاذنا #البيوميّ -لوفائه وحبه الجم لصديق عمره- قد طلب من أحد طلابه بكلية اللغة العربية بالمنصورة أن يعد أطروحته الجامعية عن شخصية الأستاذ نقولا يوسف وأدبه؛ حتى لا تضيع ذكراه بين الناس، ويبقى أدبه حياً في النفوس، وهكذا يكون وفاء الصديق لصديقه.
"نقولا يوسف" ذلك الأديب الوفي الصادق الصدوق، علم من أدباء القرن الماضي، وممن يقال فيه لقد رزق الحظوة في حياته ولم يرزقها بعد مماته؛ لأن كثيراً من أصحابه امتنعوا عن الإشادة به بعد موته مع قدرتهم على ذلك، فقابلوا وفاءه بالجحود، ولعلّ في تجديد الذكرى به إحياءً لتراثه من جهة، ومن جهة أخرى فقد توقظ الهمة في النفوس وتبعث الجد والاجتهاد على تدوين سير العظماء في شتى التخصصات، فليس من دليلٍ على تحقيق الوفاء لكبرائنا بعد وفاتهم أكثر وقعاً في النفوس من تجديد ذكراهم والحديث عن حيواتهم وآثارهم وجهودهم!
[HEADING=2]د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري[/HEADING]
www.facebook.com
من يبرز مكانتهم في المجتمع ودورهم في التثقيف إن لم يسطرها الأدباء أنفسهم؟!
أسئلة موجعة ما كنت لأكتبها وأحملها في قلبي في ألم جارح دائم لو لم أشعر بهذا الألم المتكرر في النفوس.
لعل من أبرز الصداقات العميقة عند أدباء القرن الماضي تلك الصداقة الحميمة التي جمعت بين الأستاذين نقولا يوسف و #محمد_رجب_البيومي رغم اختلاف مشربيهما في التلقي والفكر، فهي صداقة قائمة على كلّ معاني الصدق والوفاء، والكلام عنها يسري في السمع.
كان مؤلماً لي ومثيراً لدهشتي حين قرأت ما كتبه أستاذنا البيومي عن صديق عمره نقولا يوسف بعد وفاته في عدة مقالات.
نقولا يوسف نيوفتوس: شاعر وأديب ومؤرخ ومترجم وقصاص وكاتب اجتماعي، مارس الكتابة بأنواعها منذ شبابه، ولد في مارس سنة 1904م في دمياط لأب مصري (أصله شاميّ) وأم يونانية، واستقر بالإسكندرية ناشراً أكثر كتاباته، وتوفي بالقاهرة سنة 1976م إثر وعكة صحية، عمل في التدريس فترة طويلة وتدرج في السلك التعليمي إلى أن وصل إلى درجة "ناظر مدرسة"، وبالرغم من صعوبة مهنة التعليم إلّا أنه قد استطاع بكل عناية فائقة أن يواصل كتاباته الإبداعية، ثم استقال من وظيفته وتفرغ للتأليف والبحث، فأخرج الكثير من الأعمال الأدبية والمترجمة والتاريخية، وكان يجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية واليونانية، أضف إلى ذلك أنّه رحالة، فقد زار فرنسا وإنجلترا وسويسرا واليونان وتركيا للسياحة والتعلم.
لم يقتصر نقولا يوسف على فرع أو فرعين من فروع الأدب، ولكنّه صال وجال في شتى أنواع المعرفة، وطار وحلق في أفانين الثقافة والتاريخ، فترك آثاراً مختلفة ذات قيمة للباحثين.
من يطالع سيرة الرجل يعرف أن أقرب لقب يستحقه هو "خادم الأدباء" وليس هذا تقليلًا من شأنه، بل أرى أن هذا اللقب يزيده رفعة ومكانة، فقد ساد بأخلاقه وأعماله على جميع الأدباء، بيد أن هذا التفاني في خدمة أصدقائه قد قوبل بعد وفاته بنكران الجميل.
وبحكم إقامة الفقيد الطويلة في الإسكندرية ذكر الأستاذ وديع فلسطين أنّه كان "مسخَّر القدمين في خدمة الأدباء المقيمين والوافدين"، وكان في ثغره يقوم على إرشادهم والتخفيف عنهم مدة إقامتهم في أعمال حياتهم، ووصفه صديقه الوفيّ #محمد_رجب_البيومي بالإنساني المثالي سخيّ اليد والروح، وأن إنسانيته عمت واتسعت حتى شملت جميع عارفيه وغيرهم من العامة، ولذا يمثل أدبه المتنوع تلك الإنسانية النبيلة الصادقة التي تحلى بها، وكان له فضيلة كبرى وهي الحديث في مقالاته عن المغمورين من الأدباء.
وخلق الوفاء عند نقولا يوسف طبيعة وسجية، وسمة بارزة لا نستطيع أن نتجاوزها، والأمثلة على ذلك عزيزة، يكفي أن أخبرك أنه ظلّ وفياً لأستاذه الشاعر المعروف الأستاذ عبد الرحمن شكري منذ عرفه معلماً له بمدرسة "رأس التين الثانوية" بالإسكندرية، واستمرت تلك العلاقة حتى يوم وفاة شكري، وكان آلة التواصل بينه وبين محبيه من جيل الشباب، وعن طريقه زار الأستاذ البيومي شكري ببيته في الإسكندرية، واستمرّ بعد وفاة شكري وفاء نقولا له، فساهم في إخراج ديوانه الكبير، أضف إلى ذلك الكثير من المقالات التي كتبها عن حياته وشعره ونثره.
هذا الوفاء العزيز لم يقتصر على أصدقائه من مصر، بل جاوز الحدود المصرية، فللفقيد كثيرٌ من الصداقات المتعددة مع أدباء ومفكري الوطن العربي، فكانت رسائله وكتبه ومعايداته تتوالى على مدى السنين مع الأعلام، وتتميز صور معايداته التي كان يرسلها إلى الأستاذ رياض نصور بأنها: "صور تجمع باقة من قادة الفكر والفكر، وتمثل الفقيد في جلسات مع طه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وصديق شيبوب، وهلال ناجي، وغيرهم".
وللأستاذ المؤرخ أحمد حسين الطماوي مقال نافع بعنوان: "نقولا يوسف: ذكريات ورسائل" نشر بــــ "مجلة الأديب" في العدد الخامس، سنة 1978م، نقل فيه الكثير من رسائله الخاصة معه، وقد استوقفتني عبارته: "عندما علمتُ بنبأ موته انتابتني كآبة نفسية شملتني لأيام طويلة، وأدركت أنني فقدت أستاذاً وصديقاً نادراً في علمه وأخلاقه".
ومن صور وفائه النادرة التي حدثت بعد موت صديقه "صديق شيبوب" -كما أخبرنا الأستاذ رجب البيومي- أنّه رأى نفسه مكلفاً من تلقاء الصداقة بجمع مقالات صاحبه التي كتبها بـــــ"مجلة البصير"، فذهب إلى أخته الكبيرة في بيتها ليجمع ما عندها من آثاره حتى ينسقها، ويخرجها في كتاب حافل يليق به، ثم تأتيه الأخبار بعد ذلك أن "خليل شيبوب" قد ترك ديواناً كبيراً تقدم به أخوه "صديق" إلى مجلس الفنون لطبعه ونشره، فيجد نقولا نفسه مكلفاً بمتابعة نشره والتواصل مع ناشره من أجل ذلك، ثم تأتي ذكراه فيقيم له ندوة يتكلم فيها عارفوه عن حياته وأدبه، وهكذا الأمر مع كثير من الأدباء والشعراء والمثقفين، والقائمة تطول.
وأشير هنا إلى أن الرجل كان يقطع كثيراً من أوقاته النفيسة رغم تقدم سنه في مراسلة الأدباء والمثقفين، ففي رسالة خاصة للأستاذ نقولا إلى الكاتب العراقي وحيد الدين بهاء الدين كتب: "وها أنذا أكتب إليكَ من ركني البعيد بكازينو "لاكويرتا" على شاطئ البحر، حيث أمضي وحدي بضع ساعات كلّ صباح، ويزورني بها بعض أدباء الإسكندرية الأصدقاء للتحدث عن الأدب والأدباء والكتب والمؤلفين ترويحاً عن النفس. لقد كنت خلال الأسابيع الأخيرة متقوقعاً أصارع وعكات الشيخوخة وموجات الزمهرير وتقلبات الطقس وفوات أمشير ".
سكت بعد وفاة الأستاذ نقولا يوسف أحباؤه وعارفوه عن نعيه والاحتفاء به وتكريمه تكريماً يليق به، ولم يتحرك أحدٌ من عارفي فضله للإشادة بجهوده الكثيرة وأعماله الضخمة ومؤلفاته الغزيرة، وقد تأسف على هذا كثيراً الأستاذ وديع فلسطين، حيث كتب: "ولا أدري لم سكت الشعراء عن رثائه، مع أنّه كان كبير الاهتمام بالشعر والشعراء"، وكتب الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين في جريدة "الأديب"، العدد السادس عن الأستاذ نقولا: "نعاه إلي صديقي القدير وديع فلسطين يأسى: نيقولا يوسف مات ولم يذكره ذاكر! وتلك هي مصيبة الأدب والفكر".
وقد كان خبر وفاته صدمة عند بعض محبيه، فكتب الأستاذ رياض نصور في "مجلة الأديب" في العدد الأول أن الدهشة عقدت لسانه والحزن ملأ قلبه حين علم عن طريق الصدقة في مكتب "مجلة الأديب" مضي أكثر من عام على وفاة صديقه نقولا يوسف، وتأسف كثيراً على موت الأعلام والأدباء الكبار في صمت، ثم عقد مقارنة بين وفاته وبين وفاة المطرب الكبير عبد الحليم حافظ التي كانت وفاته في مارس سنة 1977، لافتاً أن الأجهزة الإعلامية ما زالت منشغلة بخبر وفاته، وهو قد كتب مقاله في يناير سنة 1978، وأما خبر وفاة الأستاذ نقولا فلم ينتشر بل لم يعرف عنه شيء رغم أنه قضى عمراً مديداً في التأليف والكتابة والإبداع.
وأما أستاذنا الأكبر #محمد_رجب_البيومي فقد رجع إلى مصر بعد غيبة قصيرة في العمل الأكاديمي، فسأل عن صديقه الأستاذ نقولا يوسف، وعلم أنه قد غادر الدنيا منذ فترة دون انتشار واسع لخبر وفاته، فتعجب أشد العجب من صمت أصدقائه وإخوانه الأدباء عن نعيه، وكتب: "عجبت كلّ العجب أن يصمت إخوانه الأدباء وأصدقاؤه الكتاب عن نعيه، وفيهم من يملك القلم المسهب والصحيفة الذائعة، وما كان الفقيد النبيل لهم إلا أخاً أصيل الود، عريق الوفاء، ينزلون عليه في الإسكندرية صيفاً فيجدون الأنيس الملاطف، والصديق الباذل، والجليس المهذب، يتحسس مطالبهم ليقضيها على عجل ويتلمس رغباتهم تلمساً حتى لتقع في اليد قبل أن ينطق بها اللسان!
أهكذا يسكت عن نقولا أحباؤه وكانوا يراسلونه بالشوق ويقابلونه بالعناق ويودعونه بالدمع!".
وقد ذكر وديع فلسطين أن أستاذنا #البيوميّ -لوفائه وحبه الجم لصديق عمره- قد طلب من أحد طلابه بكلية اللغة العربية بالمنصورة أن يعد أطروحته الجامعية عن شخصية الأستاذ نقولا يوسف وأدبه؛ حتى لا تضيع ذكراه بين الناس، ويبقى أدبه حياً في النفوس، وهكذا يكون وفاء الصديق لصديقه.
"نقولا يوسف" ذلك الأديب الوفي الصادق الصدوق، علم من أدباء القرن الماضي، وممن يقال فيه لقد رزق الحظوة في حياته ولم يرزقها بعد مماته؛ لأن كثيراً من أصحابه امتنعوا عن الإشادة به بعد موته مع قدرتهم على ذلك، فقابلوا وفاءه بالجحود، ولعلّ في تجديد الذكرى به إحياءً لتراثه من جهة، ومن جهة أخرى فقد توقظ الهمة في النفوس وتبعث الجد والاجتهاد على تدوين سير العظماء في شتى التخصصات، فليس من دليلٍ على تحقيق الوفاء لكبرائنا بعد وفاتهم أكثر وقعاً في النفوس من تجديد ذكراهم والحديث عن حيواتهم وآثارهم وجهودهم!
[HEADING=2]د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري[/HEADING]
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.