أندريه بلاتونوف - السعادة قرب الإنسان.. ت: يوسف حلاق

دخل فناء معهد التقنية شاب هو "فاسيلي تشاغايف"، تلفت حوله بدهشة وكأنه يرى للمرة الأولى ما ألف رؤيته منذ زمن طويل.هنا، في هذا الفناء سعى عدة سنوات، وهنا انصرمت فترة شبابه، لكنه لا يأسف عليه، فلقد أنفقه يعمل على تحصيل المعرفة. كان طوال هذه السنوات كلها كمن يصعد جبلا بات يرى الآن من قمته بشكل أوضح كل هذا العالم الصيفي الذي أشاعت فيه الدفء شمس المساء المشعة بهدوء.في الفناء كانت أعشاب قليلة تنبت بين الحجارة، وكان الناس لا يدوسونها إشفاقا. وفي الركن كانت تنتصب حاوية مهملات يليها عنبر قديم من الخشب، قرب هذا العنبر كانت تعيش شجرة تفاح قديمة لا يرعاها أحد، ووراءها مباشرة يرقد حجر من فلز طبيعي يزن حوالي مائة بودة لا يدري أحد من أين جاء، وعلى بعد قليل منه انغرزت في الأرض عجلة حديدية هي من بقايا عربة من القرن التاسع عشر.

كان الفناء خاليا، جلس الشاب عند عتبة العنبر وراح يفكر، لقد تسلم من إدارة المعهد وثيقة تشعر بدفاعه عن رسالة تخرجه، أما الشهادة ذاتها فسترسل إليه بالبريد فيما بعد.

إنه لن يعود إلى هنا أبدا، فليس هنا ما يدعوه للعودة، كان في سره يودع كل الأشياء الموجودة هنا والتي حكم عليها أن تعيش بدونه، كان يعرف من دفتر ذكريات طفولته أن رؤية مكان أليف بعد طول فراق شيء غريب ومحزن، فأنت ما زلت مرتبطا به عاطفيا، أما الأشياء الجامدة فتكون قد نسيتك ولا تعود تتعرف عليك، كأنها عاشت بدونك حياة نشطة متعددة الجوانب بينما كنت أنت وحيدا في شعورك والآن تقف أمامها كائنا غريبا.

خلف العنبر كانت تنمو حديقة قديمة، في هذه الحديقة كانوا يصفون الطاولات ويمدون الأنوار المؤقتة ويجرون التزيينات اللازمة، كان مدير المعهد قد حدد مساء اليوم موعد إحياء حفلة تخرج دفعة جديدة من الاقتصاديين والتكنولوجيين، مضى فاسيلي تشاغايف من فناء معهده إلى بيت الطلبة ليرتاح ويغير ملابسه استعدادا للأمسية. استلقى على سريره وغفا رغما عنه مغمورا بإحساس من السعادة الجسدية المفاجئة التي لا تحدث إلا في عهد الشباب.

عاد تشاغايف إلى حديقة المعهد بعد أن ارتدى طقمه الرمادي الجيد وحلق ذقنه أمام مرآة نسائية يدوية. ألقى تشاغايف وهو يتأهب للخروج، نظرة أسف على العتمة الداخلية لخزانته: قريبا ستنساه كل الأشياء في غرفته، وستنساه هذه الخزانة، ورائحة ملابس تشاغايف وأنفاسه ستختفي من هنا إلى الأبد.

كانت الأوركسترا التي دعيت من إحدى دور السينما والمسرح تعزف في الحديقة، والطاولات مدت صفا واحدا طويلا، وفوقها مصابيح كهربائية كاشفة علقها عمال الكهرباء بين الأشجار. كان ليل الصيف كأنما الفارغ من الهواء يمتد فوق رءوس المجتمعين للاحتفال، وكانت كل روعة تلك الليلة كامنة في ذلك المدى المفتوح والدافئ وفي سكون السماء والنباتات. كانت الموسيقى تعزف، وكان الشبان يجلسون إلى طاولاتهم على أهبة الانطلاق من هنا إلى مختلف أرجاء وطنهم ليبنوا السعادة لهم وللآخرين.

كان كمان الموسيقي يخفت صوته أحيانا مثل صوت بعيد دب فيه الوهن، إذ ذاك كان يبدو لتشاغايف أن شخصا ما يبكي وراء الأفق ويستنجد به، وحين كان يعلو من جديد، لا يعود الصوت يشكو وحسب بل يدعو إلى الرحيل دون عودة.

وما لبث الرقص واللعب والاحتفال المألوف لدى الشباب أن بدأ، كان تشاغايف يتطلع إلى الناس وإلى الطبيعة في سكون الليل، كان أمامه وقت طويل يعيشه على هذه الأرض، ويعمل فيه ويسعد، يسعد بمقدار ما في وسعه أن يسعد الآخرين.

كانت تجلس مقابل تشاغايف امرأة غريبة في مطلع شبابها، ذات عينين تبرقان بنور أسود، ترتدي فستانا أزرق مبكل الأزرار حتى الذقن كما عند العجائز، مما أضفى عليها مظهرا عاجزا ولطيفا. لم تكن المرأة الشابة تشارك في الرقص خجلا أو جهلا، بل كانت تنظر إلى تشاغايف بشغف. كان يعجبها فيه وجهه الأسمر ذو العينين الواسعتين الصامتتين المصوبتين إليها بطيبة وتجهم، وصدره العريض الذي ينطوي على قلب له عواطفه الخفية، وفمه الرخو العاجز، القادر على البكاء والضحك، لم تكن المرأة تخفي ميلها إلى تشاغايف وابتسمت له، ارتبك تشاغايف ولم يبد أي استجابة.

كان اللهو والمرح يتعاظمان وكان الطلاب الخريجون من اقتصاديين ومهندسين ومخططين يتناولون الزهور من على الطاولات أو يقطعون النباتات من الحديقة ويصنعون منها هدايا لصديقاتهم أو ينثرونها على شعورهن الكثيفة، ثم ظهرت القصاصات الورقية الملونة واستخدمت هي أيضا في عملية اللهو والمرح. اختفت المرأة التي كانت تجلس قبالة تشاغايف، ثم ما لبث أن رآها ترقص في ممشى الحديقة مغمورة بقصاصات ورقية متعددة الألوان وكانت راضية.

كانت النساء الأخريات اللواتي لم يفارقن طاولاتهن سعيدات أيضا باهتمام أصدقائهن وبالطبيعة المحيطة بهن وبإحساسهن الداخلي بمستقبلهن الذي يساوي الخلود في طوله وآماله. واحدة بينهن فقط كانت بدون زهور وبدون قصاصات ورقية على رأسها. لم يكن أحد ينحني فوق رأسها بكلمة مداعبة أو تحية، لكنها كانت تبتسم مع هذا لتظهر أنها تشارك في هذا العيد الشامل وأنها تشعر بالسرور والفرح. لم يكن وجهها الذي فارقته نضارة الشباب يلفت الانتباه للوهلة الأولى. إلا أن عينيها الصغيرتين كانتا رائعتين فيما لو تأملهما الإنسان مليا. لم تكونا، على الأرجح بلون واحد لأنهما كانتا تلمعان لمعانا مختلفا حين يقع النور عليهما، وكانتا ساذجتين ومتنبهتين كما عينا طفل ترعرع وحيدا.

كانت تنظر إلى ما حولها برهافة إحساس وتبتسم. وذات مرة تناولت من طاولة مجاورة وردة منسية، وبيد لا مبالية لا مكترثة شبكت هذه الوردة في رأسها المكشوف وكأنها لا تأخذ إلا ما كان يخصها منذ زمن بعيد لكنهم نسوا أن يهدوها إياها. وكانت خلال ذلك تنظر أمامها بزهو نفسي راضية، وتبتسم ابتسامة فرح وجل، لاحظ تشاغايف تصرفها لكنه لم يستطع أن يفهمه على الفور. كان قد أصيب بالملل من طول الاحتفال، وكان يتأهب للانصراف من هذا المكان. وكذلك انصرفت المرأة التي شبكت الوردة في شعرها إلى مكان ما. كان وقت الحفلة قد انتهى، والنجوم صارت كبيرة، والليل دخل في هزيعه المتأخر.

مضى تشاغايف بمحاذاة الأشجار، فرأى المرأة ذات الوجه الذي فارقته نضارة الشباب والعينين الصغيرتين، كانت تقف في ظل شجرة تراقب الراقصين.

دنا تشاغايف منها وانحنى لها، فردت عليه بمد يدها، وتعارفا، عرف منها أنها طالبة في السنة الأخيرة، من معهد الكيمياء، دعاها إلى الرقص مع أنه لم يكن يتقنه، لكن المرأة كانت بارعة في الرقص فقادته على وقع الموسيقى كما يجب، أشرقت عيناها بنور داخلي يشي بالطيبة واكتسى وجهها نضارة ولامسه جسمها باطمئنان وثقة، نسي تشاغايف نفسه وهو إلى جانبها. الطمأنينة والسعادة كانتا تنبعثان، كما ذكرى طفولية غامضة من هذه المرأة الغريبة المجهولة التي لن يلتقي بها ثانية على الأرجح: هكذا كثيرا ما تعيش إلى جانبنا سعادة خفية، لكننا نفوتها علينا إلى الأبد.

استمر اللهو الصاخب حتى انبلاج الضوء في السماء، خلت الحديقة وتفرق الشمل ولم يبق سوى الأدوات الميتة، مضى تشاغايف وصديقته الجديدة فيرا يتمشيان في المدينة التي أنارها الفجر، كان تشاغايف الذي ولد في مكان بعيد عن هذا المكان يحب هذه المدينة حبه لمسقط رأسه، وكان شاكرا لأنه عاش طويلا هنا، ودرس طويلا وعرف قلبه فيها الكثير من الفرح من أناس كانوا غرباء عنه في أول الأمر. ألقى تشاغايف نظرة إلى صديقته، كان وجهها قد صار جميلا وكأنه أليف بفعل الشمس الناهضة هناك في البعيد.

مر بعض الوقت، صارت السماء عالية وصافية، وكانت الشمس تسكب من جسدها دون انقطاع أعظم خير على الأرض وهو الضوء، كانت فيرا تسير صامتة وكان تشاغايف يلقي عليها بين الفينة والفينة نظرة متفحصة ويستغرب لماذا لم تعجبه أول ما رآها.

والآن حين رأى تشاغايف عن قرب غضون الإرهاق على خديها، ورأى تعابير وجهها وعينيها المختلفتي اللون عينا عسلية وعينا زرقاء وشفتيها المنتفختين وكل ما في هذه المرأة من سحر خفي غشيه إحساس بالوجل من الرقة والحنان نحوها، بل أحس بالخجل من أنه فكر فيما إذا كانت جميلة أم غير جميلة، لأنها كانت رائعة.

- تعبت فنحن لم ننم، قالت فيرا، هيا نفترق

X حسن، أجابها تشاغايف، قريبا جدا سأرحل، تعالي نمكث معا بعض الوقت أيضا.

واستمرا يسيران بعض الوقت، تحاشيا الشوارع الطويلة وتوقفا في مكان ما.

- هنا أعيش، وأشارت فيرا إلى بناية جديدة كبيرة.

X هيا أوصلك إلى عند بابك.. ممكن أم لا؟ إذا لم يكن ممكنا فعذرا وإلى اللقاء وطابت ليلتك، أنا أيضا تعب وأتفوه بكلام غير مناسب.

- حسن، قالت المرأة واقتادت الضيف.

كان عندها غرفة واسعة ذات أثاث عادي لكن هذه الغرفة كانت حزينة مسدلة الستائر، تكاد تكون خالية كأنما كان ينقصها شخص ما، كأنما شخص ما غادرها، ولم يعد يسأل عنها.

خلعت فيرا ممطرها الصيفي فلاحظ تشاغايف أنها ممتلئة الجسم أكثر مما بدت له في الطريق ثم راحت فيرا تنبش زوايا غرفتها كي تعد شايا لضيفها، لكن تشاغايف طلب إليها ألا تشغل نفسها به، إلا أن ربة البيت أصرت واستمرت تسعى في الزوايا المظلمة دون أن تزيح من الستار إلا نصفه، ودون أن تلتفت إلى جهة ضيفها مرة واحدة، لكن تشاغايف لاحظ أن فيرا تقف جامدة مديرة إليه ظهرها ولا تفعل شيئا.

X ما دهاك؟ سألها تشاغايف، لا بد أنك تعبة فاسمحي لي بالانصراف.

كانت فيرا تلزم الصمت، وأدرك تشاغايف من حركة مكبوتة من كتفيها أنها تبكي بكاء صامتا كأنما تبكي بدموعها المنهمرة من عينيها فقط، محاولة عدم تغيير تعابير وجهها كي لا تنشج.

أحس تشاغايف بالخجل والخوف من دموعها وكأنه مجرم لم يلاحظ أنه اقترف جريمة.

استدارت فيرا إليه.

- تعرف.. اعذرني، أنا لست في تمام عافيتي، سأكون أما بعد فترة قريبة، ليست قريبة جدا لكني سأصبح أما، قالت وقد تمالكت نفسها ثم وضعت منديلا على وجهها كي تجفف دموعها.منذ مدة قصيرة مات زوجي، والطفل الذي سألده لن يعرف أباه وأم وحدها لا تكفي. أليس كذلك، لا تكفي؟

X لا تكفي، قال تشاغايف موافقا.

نهض، فقد آن له أن ينصرف، اقتربت منه فيرا فسألها:

X ما سبب موت زوجك، مم كان يعاني؟

- مات من جراحه، إنه مقدم، قاتل طوال الحرب، أتوا به إلى هنا إلى مستشفى الجامعة، شعر ببعض التحسن في أول الأمر، حتى أنه أتى إلى هنا، إلى بيته مرة واحدة بل مرتين. بعد ذلك بدأت مضاعفات في الكليتين، تعذب كثيرا ثم مات، وبقيت.. بقيت وحيدة كما ترى.

تناول تشاغايف يديها بين يديه فصمت كل شيء في آذانهما، لم يعودا يسمعان ضوضاء المدينة خلف النوافذ بل كان يمسك أحدهما بيد الآخر ويستمع إلى نفسه البعيد الوثوق.

- لا.. لا داعي لأن تشفق علي وتعزيني، أرجوك، لا داعي لهذا! قالت فيرا وسحبت يديها، أنا بنفسي سأتدبر أمري.

X أنا لا أعزيك، قال تشاغايف، بل أنا نفسي أتعزى بقربك.

ودعها وخرج، إلا أنه زار فيرا بعد يومين، كان شيء ما يشده إليها، وكأن الدنيا كلها كانت خالية من الناس، وكأن هذه المرأة ذات العينين المختلفتي اللون كانت وحدها تعيش في هذا العالم.

قال تشاغايف لفيرا إنه ينبغي عليه أن يغادر عما قريب في بعثة تتعلق بأبحاث حول جيولوجيا المياه الأرضية، وأنه لن يعود إلا بعد نصف عام.

- وماذا تريدني أن أقول؟ كانت فيرا تقف في ركن مظلم من الغرفة دون أن تنظر مباشرة إلى تشاغايف كي لا يرى وجهها كله.

كان تشاغايف قد فهم طريقتها تلك في إخفاء وجهها وقد أثر فيه وجلها هذا وزاده حنانا نحوها.

وتابعت تقول:

- هذا مؤسف، لكن حين تعود قد نلتقي ثانية، أليس كذلك؟

X بالتأكيد، أجابها تشاغايف وأردف على الفور من نفاد صبر قلبه: فيرا، لن تكفي ابنك أمه وحدها، أنت نفسك قلت هذا.. فلأكن أنا أباه!

صمتت فيرا مفكرة ثم استدارت إلى تشاغايف دون أن تخفي وجهها هذه المرة ودنت منه:

- تعرف يا فاسيلي، في القديم كان هناك ما يسمى العراب.

X لا أعرف... لكني سمعت بشيء من هذا القبيل.. ماذا تقصدين؟

- عندما يولد الطفل أرجوك أن تكون عرابه، فإذا ما اعتدت عليه، إذا ما أحببته فقد تصبح عندئذ أباه الحقيقي، إني لا أستطيع المجازفة بالطفل، فأنت قد لا تحبه وأنا لا أستطيع الإساءة إلى ذكرى زوجي.. إنه ميت وأعزل، وقد ترك طفله لي وليس لك، إني أفكر الآن فيكم جميعا!

نظر تشاغايف إليها مليا في دهشة كان يعتقد أنه يعرفها قليلا، لكن تبين له أنه لا يعرفها إطلاقا.

X هكذا إذن! قال تشاغايف.

- نعم، هكذا، ردت فيرا

X أنت لا تثقين بي، هذا ما تعنينه؟

- بل أثق بك، إني أراك وأعرفك، لكن الاثنين الآخرين لا يعرفانك، الأول مات والثاني لم يولد بعد، وأنا لا أدافع عن نفسي فقط بل عنهما أيضا، إني أحميهما!

X الآن بدأت أفهم، قال تشاغايف، أنت إنسانة غريبة، رائعة!

- لا، لا داعي لهذا، لا تتكلم هكذا، لا تتملقني، أنا أيضا ضعيفة وأستطيع أن أفعل شيئا ما سيئا منحطا أو خاطئا.

X لن أقول شيئا، حين أعود سأراك وعندئذ سأصبح عرابا لطفلك، أنت على حق، سنرى فيما بعد!

ابتسم تشاغايف.

X ما أغرب هذا، قال تشاغايف، هأنذا أغادرك، وقد لا أراك أبدا ومن يدري لعلي أعود إليك، وعندئذ سنعيش الحياة كلها معا، نعيش طويلا طويلا كأنما إلى الأبد.

لم تجبه فيرا بشيء، أراد تشاغايفا أن يقبلها في جبينها مودعا، لكنه عزف عن رغبته حين نظر إليها للمرة الأخيرة قبل خروجه، كانت تقف أمامه ضعيفة في مظهرها، إنما باسمة ومنيعة لا تقهر، لم تكن تقف أمامه كامرأة وحسب، بل كإنسانة وأم شجاعة، كمحارب.

غادر تشاغايف غرفة فيرا سعيدا مع أنه لم يوعد بشيء سوى الأمل.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...