أ. د. عادل الأسطة - محمود درويش.. ملف - الجزء الرابع- (31- 40)

تابع 1

31- محمود درويش و ( بابلو نيرودا ) :


مرة كتبت عن محمود درويش و ( برتولد بريخت ) .
أمس خطر ببالي أن أكتب عن درويش و ( بابلو نيرودا ) .
توقف زكريا محمد أمام عبارة لدرويش وردت في قصيدة " أحمد الزعتر " وذهب إلى أن درويش قد يكون تأثر بقصيدة ( سيميك ) .
ما كتبه زكريا أثار جدلا شاركت فيه .
خطر ببالي أن عبارة درويش قد تكون مأخوذة من ( بابلو نيرودا ) وذلك ﻷسباب :
قرأ درويش ( نيرودا ) وتأثر به وأقر بذلك .
كتب درويش قصيدة رثى فيها ( نيرودا ) .
لو كان لدي وقت ﻷعدت قراءة ( نيرودا ) كاملا . لدي ثلاث مجموعات له قرأتها في 80 ق 20 هي :
مائة قصيدة حب .
أشعار الربان .
من شعر بابلو نيرودا .
كنت معجبا به وبأشعاره واقترحت على د . ناصر الدين اﻷسد المعجب بالشعر العربي أن يقرأه وأهديته مجموعة " أشعار الربان " التي ترجمتها هالة النابلسي ، إن لم تخني الذاكرة ، فلم ترق له الترجمة .
أنا واصلت قراءته واحتفظت بمجموعاته .
السطر الذي توقف أمامه زكريا :
" يا امرأتي .. تقطعين القلب والبصل الطري " وقد جعلني أتساءل إن كانت الصورة مأخوذة أصلا من ( نيرودا ) لا من قصيدة ( سيميك ) .
طبعا اﻷمر يتطلب المزيد من البحث ، ولكن اقرأوا المقطع التالي من " أشعار الربان " :
" أيتها الزوجة الصغيرة
اليومية
ها أنت انسانة
بشرية بتواضع
فقيرة بفخر
كما يجب أن تكوني كي لا تكوني
الزهرة الرقيقة
التي يذيبها رماد الحب
ولكن كل الحياة
كل الحياة بالصابون والإبر
بالرائحة التي أحب
لمطبخ ربما لن يكون لنا ..
فيه تقلين البطاطا بيديك
وثغرك يدندن في الشتاء
حتى يصل الشواء .... "
ولنلاحظ " تقلين البطاطا " . إنها قريبة من " تقشرين البصل " ويرد في أشعار نيرودا سطر :
" رائحة الذرة المقشرة " .
نسيت أن أشير إلى أن عنوان ديوان محمود " أحبك أو لا أحبك " ورد في ديوان نيرود " 100 قصيدة حب " .

***

32- حزيران.. واتساع رقعة المنفى محمود درويش في نزل على بحر

بدأ الفلسطينيون يكتبون عن المنفى قبل أن يتشكل، وربما كانت أشعار إبراهيم طوقان تنذر به، منذ قوله: أجلاء عن البلاد تريدون/ فنجلو أم محونا والإزالة، وربما رأى أن مستقبل الفلسطينيين يتعدّى طردهم من بلادهم، ليصل حد المحو والإزالة.
كأنه كان يتنبأ بهولوكوست فلسطيني تجسد جزئياً في صبرا وشاتيلا، ومن قبل في دير ياسين وكفر قاسم.
وكان طوقان يرى بلاده في طريقها إلى الضياع، هو الذي توفي في 1941، ولم يشهد النكبة وما نجم عنها.
صديقه عبد الكريم الكرمي عاش النكبة وكان أحد أفرادها، فقد هاجر من حيفا، حيث ما زال بيته ومكتبه، وأقام في دمشق التي درس فيها شاباً، وأمعن النظر في حياته طالباً/ شاباً وفي حياته رجلاً مكتمل الرجولة لاجئاً، وشعر بأن دمشق التي رحبت به طالباً، أنكرته لاجئاً، وعهده بها ألا تنكره. لقد قارن بين حياة الفلسطيني زائراً لبلاد، وبين حياته لاجئاً فيها، وهو ما بدا في قصيدته "سنعود".
خلع شبابه على ملاعب دمشق، وكان دائماً فرحاً مرحاً لا تتسع المدينة لنشوته وشبوبيته، فقد ذرعها وذرع أيضاً غوطتيها، وأحب فيها وانتشى، ثم وجد نفسه عام النكبة، يطوّف على طلول دمشق وفي شعابها ـ طرقها الجبلية.
ومع ذلك فلم ييأس وظل يحلم بالعودة التي سأله عنها الرفاق، فأجابهم: أجل سنعود، وافتخر بأمته العربية وبما فيها، واستمد منها بريق أمل للمستقبل. ولكنه عاش في المنفى حتى توفي العام 1980 تقريباً.
كانت سميرة عزام في قصصها أول من صوّر، بالتفصيل، حياة الفلسطيني في المنفى.
ثمة قصتان لها لا ينساهما قارئ قصصها هما "لأنه يحبهم" و"فلسطيني" من مجموعتها "الساعة والإنسان".
في الأولى يتحول اللاجئون في المنفى إلى لصوص ومخبرين وبعضهن تحول إلى بغايا، تبيع جسدها، بعد أن فقدت المعيل واستشهد زوجها، وفي الثانية يغدو الفلسطيني مجرد رقم. إنه فلسطيني لا ملامح فردية له، كأنه جزء من قطيع، وحتى حين يتجنس ويحصل على هوية مزورة، يظل ينادى بيا فلسطيني، أو قل للفلسطيني.
إنه مثل الأرمن الذين أقاموا في بيروت عقوداً، وظل أهل الحي ينظرون إليهم على أنهم أغراب، ما أثر على لغتهم/ لغة الأرمن، فظل ثمة عجمة في لسانهم، وظلوا أيضاً بلا ملامح فردية.
واصل غسان كنفاني تصوير حياة الفلسطيني في المنفى، فكتب روايته "رجال في الشمس"، وقتل أبطالها الذين غادروا إلى الكويت بحثاً عن عمل، وألقى سائق الحافلة الفلسطيني أبو الخيزران بجثثهم في المزبلة، كأن نهاية المنفى هي هذه النهاية.
بعد حزيران الأول، حزيران 1967، كتب درويش قصيدة أهداها إلى فدوى طوقان التي عبرت عن اغترابها في وطنها حين زارت حيفا ويافا ووقفت على أطلال الأخيرة، فالدار تبكي من بناها وتنعاه، والدار غدت خراباً.
ولم يكن الشاعر الذي عاد إلى وطنه، بعد أن رفض أهله المنفى مبكراً وعادوا إلى قريتهم: البروة، لم يكن عاش حتى 1970 تجربة المنفى.
حقاً إنه كان يشعر بالغربة في وطنه، لكنه لم يكن غريباً عنه، فكتب: نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا، وعلى أهدابنا عشب الجليل، لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها، لا تقولي: نحن في لحم بلادي، هي فينا.
ولم يبق الشاعر في وطنه فقد غادره وعاش، بعد العام 1970، تجربة المنفى: من موسكو إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى بيروت، ومن بيروت إلى تونس أو باريس، وهكذا اتسعت رقعة المنفى أكثر وأكثر، وفي حزيران الثاني تحديداً.
في حزيران 1982 قامت إسرائيل بحربها ضد الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية، وأسفرت تلك الحرب، على الرغم من المقاومة البطولية للمقاومة الفلسطينية واللبنانية الوطنية، أسفرت عن ترحيل الفلسطينيين المقاومين عن بيروت، ومن لم يرحل وبقي في صبرا وشاتيلا ارتكبت بحقه مجزرة، كأنما تحققت نبوءة إبراهيم طوقان: أجلاء عن البلاد تريدون/ أم محونا والإزالة.
لقد أزيل جزء من المخيمين، كما أزيل من قبل، في بيروت، مخيمات أخرى، منها تل الزعتر، ومحا الكتائبيون والإسرائيليون حيوات فلسطينيين كثر، فقتلوهم.
في آب العام 1982 سيغادر المقاومون إلى منافٍ جديدة : السودان وليبيا واليمن وتونس والجزائر و.. و.. وسيختار محمود درويش باريس ليقيم فيها، وهناك وفي تونس كتب قصيدته "نزل على بحر" التي ظهرت في مجموعته "هي أغنية.. هي أغنية" (1985).
في القصيدة يأتي الشاعر على مكان إقامة الفدائيين الذين أبعدوا عن بيروت: نزل على بحر، وعمّ سيتحدثون؟ عن الماضي المهشم قبل ساعة. أي عن معارك بيروت في حزيران وتموز وآب 1982، وسيبدؤون تكويناً جديداً، بعد أن أنشؤوا في بيروت جزيرة (جمهورية الفاكهاني) لجنوب صرختهم: فلسطين. سيكتب الشاعر مودعاً بيروت، جزيرته الصغيرة، بيروت التي قصدها الفلسطينيون في 1948، قادمين من الريف: الرمان والسرّيس، وحين قصدوها مجبرين جاؤوا إلى عالم عربي هش، عالم فقاقيع. إنه الزبد. وسيوجه الشاعر طلبه من الذين استقبلوا الفلسطينيين في بلدانهم، بعد الخروج من بيروت، ألا يسألوا الفدائيين عن المدة التي سيقيمون فيها في البلاد/ المنافي الجديدة، ألا يسألوهم عن زيارتهم، فلقد كانوا مرهقين.
أقام الفدائيون في الفنادق على أمل أن تكون إقامتهم زيارة قصيرة، وكانوا مرهقين، ورأوا الأرض، على اتساعها، أصغر من زيارتهم، ولكنهم لم يشعروا باليأس "سنرسل للحياة تفاحة أخرى"، وسيحاولون ولكنهم يتساءلون: أين نذهب حين نذهب؟ وأين نرجع حين نرجع؟ لقد اتسعت رقعة المنفى وضاقت الأرض على سكانها الفلسطينيين المطاردين الذين لم يتبق لهم جهة أو صخرة ليقدموا للإله قربان رحمته الجديد.
كأنما هم فراعنة مصر يقدمون، كل عام، للنيل عروساً حتى ترضى عنهم آلهتهم.
رحل الفلسطينيون عن ديارهم في 1948 و1967 و1970 وفي 1976 عن مخيم تل الزعتر والشياح، وها هم يرحلون عن بيروت في 1982 فـ "ماذا تبقى من بقايانا لنرحل من جديد؟".
اللازمة التي كررها محمود درويش في قصيدته الحلزونية والدائرية الشكل تقريباً هي "لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد"، وبحر درويش في القصيدة دال مدلولاته مختلفة: بحر الشعر، والثورة، والاندفاع، والبحر العادي في مده وجزره.
يا بحر الشعر لا تعطي الفدائيين أكثر مما يستحقون، وقد قاتلوا أبطالاً. وستتكرر اللازمة خمس مرات، وستنتهي القصيدة بها. النساء يغرين، والشعراء يتساقطون غماً، والشهداء يتفجرون حلماً، وأبو عمار والحكيم وغيرهما يستدرجون شعباً إلى الوهم السعيد: العودة.
بأسلوب غير مباشر يكتب درويش عن تطاول فترة الإقامة في المنفى وطولها.
زرع الفلسطينيون الأشجار هناك وطال ظلها، وطول الأشجار دليل على طول فترة الإقامة في المنفى، وطالت الزيارة القصيرة حتى تزوج الفلسطينيون من أبناء وبنات الشعوب التي أقاموا بينها، بل وتوالدوا، وظلوا ينتظرون ويأملون، وظلوا يحلمون بالعودة والخروج من المنفى، ولكنهم ماتوا في النوم وانكسروا في المنفى، والمخيمات والفنادق التي كانت مكان إقامتهم، وكانوا يعتقدون أنها مؤقتة غدت غير ذلك، غدت أماكن إقامة دائمة: "أفلا يدوم سوى المؤقت يا زمان البحر فينا؟".
ما الذي يريده الفلسطينيون؟ يريدون أن يحيوا ليرحلوا من جديد، ويريدون بلاد قهوتهم الصباحية ورائحة النباتات البدائية ومدرسة خصوصية تدرس المنهاج الفلسطيني والتاريخ الفلسطيني والنشيد الفلسطيني، ويريدون مقبرة خصوصية ويريدون حرية.
دفن ناجي العلي في لندن، واحتار الفلسطينيون أين يدفنون معين بسيسو، ودفن عشرات الآلاف منهم في مقابر لا تخصهم.
اتسعت رقعة المنفى، ورمي الفلسطينيون في هذه البلاد أو تلك، ولا يريدون سوى أن يحيوا ليعودوا لأي شيء من أرضهم، ولو بغزة أو أريحا: لبداية، لجزيرة، لسفينة، لنهاية/ لأذان أرملة، لأقبية، لخيمة. فقد طالت زيارتهم القصيرة، ومات البحر فيهم.
نحن الآن على أبواب الذكرى، على أبواب الذكرى 47 لحزيران 1967، والذكرى 32 لحزيران 1982، وما زالت رقعة المنفى تتسع: والهجرة الآن إلى الدول الاسكندنافية و.. و.. و.. .

عادل الأسطة
2014-06-01

***

33- قصيدة نزل على بحر محمود درويش

محمود درويش في قصيدته (نزل على بحر)من ديوانه (هي اغنية ..هي اغنية)(1986). هذا الديوان انجزه الشاعر في باريس. النيوان يدرج ضمن المرحلة الباريسية التي كتب فيها الشاعر اجمل اشعاره , فيما ارى وانضجها من ناحية فنية.اتسعت رقعة المنفى وعوصا عن الاقتراب من فلسطين والعودة اليها ابتعد اهلها عنها اكثر واكثر وسافرت الثورة الى اماكن ابعد-كم مرة ستسافر الثورة-.هل يمكن ان نفهم القصيدة فهما عميقا اذا اغفلنا زمن كتابتها والظروف التي كان عليها الفلسطينيون حين كتبها الشاعر...؟ محمود درويش شاعر لا يمكن ,فيما ارى,ان يدرس دراسة بنيوية فقط. ان نشاته الاولى ونموه في الحزب الشيوعي وكتابته انطلاقا من فهم مبكر للواقعية الاشتراكية تقول لنا ان علينا الا نغفل هذا,فالشاعر الذي طور نفسه لم يستطع ان ينسى ذات نهار انه لم يكن بريئا وهو يكتب الشعر.حين زار حيفا ليلقي فيها قصائده في العام 2007 قال وهو يرى السجن الذي سجن فيه , قال ما معناه.. (لم يكن الشعر بريئا). هل نستطيع اذن ان ندرس قصيدته (نزل على بحر) دون ان ندرس الظروف التي كان الشاعر وكان شعبه ايضا عليها؟\\\في العام 1982 خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان وكانت بيروت جزيرة فلسطينية اعتقد الفلسطينيون انها تقربهم من فلسطين , ولم يتوقعوا انها تبعدهم عنها اكثر واكثر,وكانت الصدمة.. كان ان ابتعد الفلسطينيون عن فلسطين ولم يقتربوا منها , وهكذا طالت نباتات البعيد, كما ورد في القصيدة ,وبدلا من ان يعود الفلسطينيون الى مدنهم وقراهم ظلوا في المنافي وغدت العودة حلما صعب المنال واقاموا في (نزل )على بحر جديد ينتظرون المجهول.
القصيدة من حيث الشكل... هل تعد قصيدة درويش هذه قصيدة حلزونية الشكل ام انها تعد قصيدة دائرية الشكل ام انها لا هذه ولا تلك؟ ربما تعد قصيدته (رحلة المتنبي الى مصر) (1980) قصيدة حلزونية الشكل ودائريته في الوقت نفسه. لماذا؟ لان محمود درويش بداها باللازمة التالية (للنيل عادات واني راحل) وختمها باللازمة نفسها, وظل يعود الى اللازمة نفسها كلما اراد ان يبني مقطعا جديدا تقوم عليه فكرة جديدة.وهكذا كانت القصيدة قصيدة ذات بناء. محمود شاعر يهندس قصائده وقد بدا يهندسها منذ (رحلة المتنبي الى مصر) وربما قبل ذلك بقليل. (نزل على بحر )تشبه (رحلة المتنبي..) وتختلف عنها اختلافا بسيطا, فالشاعر لم يبداها بعبارة(لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) ولو كان بداها بهذا المقطع لما اختلفت اطلاقا عن (رحلة المتنبي..) ولحققت الحالتين-اي لكانت دائرية الشكل ولولبيته في الوقت نفسه. ان اللازمة المحورية للقصيدة هي عبارة (لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) وهكذا فالقصيدة ذات بناء. انها عمارة جد متناسقة تتكون من مجموعة طابق , كل طابق يشكل فكرة تؤدي لتاليتها وتكتمل القصيدة بالعبارة (لا تعطنا با بحر.(
هل يمكن فهم اشعار محمود درويش دون الالتفات الى اللحظة التاريخية التي قال فيها قصائده والى ما كان عليه الفلسطينيون يوم كتب قصيدته؟ من المؤكد ان البنيويين يفعلون هذا ويطالبون به, ولكن النقد الاجتماعي يرفضه رفضا تاما ويرى انه لا بد من قراءة النص دون اغفال اللحظة التاريخية. الناقد الذي لا موقف له ولا يريد ان يزعج نفسه مع هذا النظام او ذاك يفعل هذا - اي لا يلتفت الى اللحظة التاريخية ولا يدرس النص مشيرا الى زمن كتابته وما كان عليه الشاعر وقضية وطنه,اما الناقد الاجتماعي الماركسي فلا يفعل هذا ولا بد من اتخاذ موقف .الشاعر نفسه , كما ذكرت بدا شاعرا ايديولوجيا وكتب اشعاره وهو يحدد موقفا من العالم . كان درويش يريد من قصائده ان تسر اصدقاءه وان تغيط اعداءه ,وكان يرى ان الشاعر ان مر فلا بد لخطاه من ان تؤثر ولا بد للحجر من ان يتطاير,وحين زار حيفا-كما ذكرت بعد32 عاما قال ..لم يكن الشعر بريئا-احد معا رفي ممن تجادلت معهم اعجب بدراساتي للشاعر , دراساتي التي عزلت فيها الشاعر عن نصه ولم ترق له دراساتي التي ربطت فيها بين الشاعر ونصه واللحظة التاريخية. صديقي هذا ليس له اي موقف ايديولوجي في حياته وهو في بلد تسبب له الدراسة الايديولوجية اشكالات عديدة. وقد لاحظت وانا اقرا دراساته انه -حين يغفل المعطيات التاريخية يقع في اخطاء .كنت انوي ان اكتب دراسة عن تناول درويش بنيويا وتناوله ماركسيا والاشكالات التي يقع فيها النقاد البنيويون حين يفسرون النصوص. للاسف لم اشارك في مؤتمر في المغرب لانجز هذه الدراسة,مؤتمر كنت ارسلت له ملخصا في الموضوع ولم اتبع الاجراءات-. حقا كيف يمكن ان نفهم مقاطع عديدة من قصيدة (نزل على بحر) اذا اغفلنا اللحظة التاريخية التي كان عليها الفلسطينيون يوم كتب الشاعر القصيدة؟ انا ارى اننا سنقع في مزالق كثيرة والمنهج الاجتماعي هو الذي ينقذنا منها-طبعا يمكن ان نستعين بمناهج اخرى.
لو اخذنا المقطع التالي من القصيدة (نزل على بحر, زيارتنا قصيرة\وحديثنا نقط من الماضي المهشم منذ ساعة\من اي ابيض يبدا التكوين؟\انشأنا جزيرة\لجنوب صرختنا.وداعا يا جزيرتنا الصغيرة) فهل يمكن ان نفهمه اذا ما قراناه معزولا عن ظروف القصيدة ولحظتها الزمنية والتاريخية كما نفهمه حين نقراه مرتبطا بهما؟ انا اشك في ذلك. الامر ربما يحتاج الى تجربة...ان نعطي هذا المقطع لقراء لا يعرفون شيئا عن قائله وعن لحظته التاريخية-الزمنية وعن القضية الفلسطينية. ربما في هذه الحالة سنقرا شيئا عجبا بل اشياء عجيبة. ماذا يقصد درويش بدال زيارة وماذا يقصد بدال جزيرة او بدال جنوب صرختنا. وليس الامر كذلك حين نقرا النص ونحن نعرف ان قائله هو الفلسطيني محمود درويش وانه قاله في العام 1984, وان العام 1984 كان عاما قاسيا على الفلسطينيين الذين كانوا في بيروت وخرجوا منها وتوزعوا ايدي عرب وايدي عالم ايضا . لم يقترب الفلسطينيون من فلسطين في ذلك العام , بل ابتعدوا عنها وظلوا يتحدثون عن بطولاتهم التي قاموا بها في حرب 1982 -حديثنا نقط من الماضي المهشم منذ ساعة-. ما الجزيرة التي انشاها الفلسطينيون لجنوب صرخنهم؟ انها دولتهم في الفاكهاني التي املوا ان تقربهم من فلسطين لا ان تبعدهم عنها. وحين يقول وداعا يا جزيرتنا الصغيرة فانه -حين نقرا النص مرتبطا بلحظته التاريخية وبقائله- فانه يقصد بيروت.هنا يتضح مدلول الدال (جزيرة) ولا اظن ان الدارس البنيوي يمكن ان يتوصل الى هذا. حقا ماذا يقول الناقد البنيوي لتلميذه ان ساله في قاعة الدرس عن مدلول جزيرة هنا؟ثم لماذا الزيارة قصيرة؟ .
هل درويش هو اول شاعر عربي يهندس قصائده؟تتطلب الاجابة عن هذا السؤال الاطلاع على الشعر العربي وقراءته وفق منهج (برونتير)-اي المنهج التاريخي في النقد,المنهج الذي يدرس الادب في ضوء جنسه ولونه.عموما يمكن الاستعانة بكتاب د.عز الدين اسماعيل (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية)فقد توقف الدارس امام المعمار الفني للفصيدة العربية المعاصرة وتحدث عن اشكالها. ولا اظن ان درويش كان كتب قصائد ذات بناء فني قبل صدور كتاب اسماعيل.فيما اطلعت عليه من اشعار الشاعر المصري (امل دنقل) فان (دنقل )كان من الشعراء الذين كتبوا القصيدة ذات البناء الدائري واللولبي.واظن ان محمود درويش قرا (دنقل )واعجب به ,بل وتاثر به.هل ننسى رثاء درويش ل(دنقل)؟.
بعد المقطع السابق هناك فراغ لافت\بياض يواصل الشاعر بعده توضيح هويته(لم نات من بلد اله هذا البلد\جئنا من الرمان,من سريس ذاكرة اتينا\من شظايا فكرة جئنا الى هذا الزبد\لا تسالونا كم سنمكث بينكم, لا تسالونا \اي شيء عن زيارتنا.دعونا \نفرغ السفن البطيئة من بقية روحنا ومن الجسد) .من المتكلم هنا وباسم من ينطق؟انه لا يتحدث باسمه الشخصي,انه يتكلم باسم جماعة هو واحد منها وهذه الجماعة تتشرد من مكان الى مكان.اللحظة التاريخية لكتابة القصيدة هي الوحيدة التي تجعل الكلام يتعلق بالفلسطينيين دون غيرهم,واذا ما اغفلناها فان الكلام قد يعنيهم ويعني غيرهم ممن مروا بتجربة مماثلة.هنا قد يقول ناقد بنيوي..وهذا ما اراده الشاعر ..ان يجعل من الماساة الفلسطينية ماساة كونية وبذلك يغدو شعره عالميا لا محليا.قد.انا شخصيا لست مع هذا التوجه ومع هذا البحث عن العالمية من خلال عدم ا لتحديد انا مع مظفر النواب الذي سمى الاشياء بمسمياتها والحكام باسمائهم.محمود درويش كان احيانا يهادن.في ديوان (اعراس ) حذف عبارة قالها لانه اراد ان يهادن..(الجماهير هي الطائر والانظمة تسمى قتلة).كان درويش -حين قال العبارة -في بيروت.كان ذلك في العام 1976 يوم كان الفلسطيني يقتل ويوم كانت الانظمة العربية تتفرج وتشاهد ذبح الفلسطيني,ولما هدات الاوضاع عاد الشاعر وحذف العبارة فلعلها تحرجه مع بعض الانظمة العربية.\\\\كيف نفسر دال (الزبد )في النص اذا لم نعد الى العام 1982 ونمعن النظر في العالم العربي وموقفه مما جرى في بيروت.ان دال الزبد يعني العالم العربي.كان العالم العربي لا يساوي شيئا.انه الزبد الذي يذهب جفاء ولا يمكث في كلمات القصيد-على حد تعبير درويش.يطلب درويش من اهل تونس ومن العرب في الجزائر واليمن وتونس والسودان الا يسالوا المقاتلين عن المدة التي سيمكثو نها بينهم.انهم -اي المقاتلين يريدون الان ان يرتاحوا من المعارك.
ما الذي تعنيه عبارة درويش زيارتنا قصيرة.ربما عاد المرء الى الواقع الفلسطيني في العام 1948.هل كان الفلسطينيون يتوقعون انهم لن يعودوا الى فلسطين الا بعد مائة وثمانين عاما-هذا اذا عدنا بعد 180عا ما- .كان الفلسطينيون بسيطين وسذجا -على حد تعبير درويش في قصيدته(على محطة قطار) وظنوا انهم سيعودون الى مدنهم وقراهم بعد ان تحررها الجيوش العربية خلال شهر شهرين لا خلال ستة وسنتين ,ولهذا ظنوا ان زيارتهم قصيرة وانهم لن يقيموا بين العرب لفترة.رحب العرب باهل فلسطين وهم يزورون العالم العربي ولم يرحبوا بهم حين طالت اقامتهم.ربما هنا نتذكر قصيدة عبد الكريم الكرمي(ابو سلمى)(سنعود)في قصيدة ابي سلمى ياتي ابو سلمى على حياته في دمشق طالبا وعلى حياته فيها لاجئا ويلحظ الفرق في المعاملة.حين كان في دمشق طالبا رحب به اهلها وحين عاد اليها لاجئا شعر بالذل فاخذ يبحث عن شفيع له يشفع له ما يشعر به الان ,شفيع كما سيكون هناك للمسلمين شفيع يوم الحساب.الم يتساءل ابو سلمى(اتنكرني دمشق) وليست دمشق وحدها هي من نظرت الى اللاجيء نظرة ازدراء.محمود درويش اتى على حياته لاجئا داخل فلسطين وقال ان اهل القرى الفلسطينية نظروا الى الفلسطينيين الذين دمرت قراهم واقاموا في قرى اخرى ,نظروا اليهم على انهم لاجئون.ربما لاحظ الذين شاهدوا مسلسل (في حضرة الغياب) التركيز على هذا الجانب.انا لا اريد ان افتح جروحا وان اتحدث عن هذا الجانب فلا ضرورة له .هل ستكون زيارة الفلسطينيين في منافيهم الجديدة بعد العام1982 قصيرة؟الان ربما نجيب عن هذا السؤال.كم عدد مقاتلي الثورة الذين عادوا بناء على اتفاقات اوسلو وكم عدد الذين لم يعودوا وما زالوا في المنافي وفي النزل على البحر وهل تعد زيارتهم زيارة قصيرة؟ربما وربما نقولها ساخرين.
في السطر الثاني عشر من المقطع الاول يكرر الشاعر السطر (نزل على بحر ) ويكرر العبارة (زيارتنا قصيرة).لماذا يكرر العبارة؟من المؤكد ان كثيرين ممن اقام الفلسطينيون بينهم لم يعودوا يرغبون في الفلسطيني زائرا مقيما , وبخاصة ان وجودهم في هذا الوطن العربي او ذاك جلب لسكانه متاعب كثيرة, في الاردن وفي لبنان و....كانما يشعر درويش بان الفلسطيني غدا عبئا على غيره ولذا يريد ان يطمئن الدول العربية التي استقبلت الفلسطينيين بعد العام1982 بانهم لن يقيموا طويلا حتى لا يستاء المضيفون الجدد من الزائر سيء الحظ (كتب درويش قصيدو عنوانها (انا العاشق السيء الحظ) وكتب قصيدة عنوانها (انا يوسف يا ابي\اخوتي لا يحبونني). الاسطر من 13-19 تعكس حالة القلق التي كان الفلسطينيون يمرون بها ومنهم الشاعر , وقد انعكس هذا على الاسلوب ومن هنا تكثر فيها الاسئلة التي تعبر عن حيرة الشاعر وحيرة المقاتلين. هكذا يشعر درويش بان الارض اصغر من زيارتهم -ضاقت عليهم الارض بما رحبت- ولكن هل سيستسلم؟ الاجابة بالنفي فهو والفلسطينيون المقاومون ايضا سيرسلون للمياه تفاحة اخرى. ماذا يعني هذا؟بالتاكيد انه يعني ان المقاومة لن تستسلم وانها ستواصل الثورة حتى العودة. اين يذهب الفلسطينيون بعد الخروج من بيروت ؟ اين يجدون ملاذا لهم؟لقد كان خروجهم منها الخروج الرابع تقريبا1-1948 2-1967 -3-1970 4-1982. فماذا تبقى من رياضة روحنا وماذا تبقى من جهات لم يذهبوا اليها وماذا تبقى لهم من حدود قريبة من الحدود الفلسطينية؟ ويتساءل الشاعر .. هل من صخرة اخرى نثبت فوقها تكون قريبة من فلسطين لمواصلة المسيرة علنا نعود. بل انه يتساءل ايضا ان كان هناك فلسطينيون يمكن ان يواصلوا الرحلة فقد استشهد كثيرون منهم (ماذا تبقى من بقايانا لنرحل من جديد؟.) قاوم الفلسطينيون في العام 1936 وفي العام 1948 وفي العام 1970 وفي العام 1976 وفي العام 1982 فماذا تبقى منهم ليواصلوا. ينهي الشاعر المقطع الاول باللازمة (لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) وهي اللازمة التي سيقفل بها القصيدة , اللازمة التي تقول ان الشاعر يرى ان شعبه شعب يستحق الاحترام في حينه -اي في العام 1982. ومن المؤكد ان كلامه هذا مرتبط ايضا باللحظة التاريخية, فهو في مرحلة لاحقة وتحديدا اثر الانقسام واحداث غزة عاد ليقول في الفلسطينيين رايا اخر (انت منذ الان غيرك). ان اغفال اللحظة التاريخية في اثناء قراءة قصائد درويش ستقول لنا انه انسان متناقض ولهذ لا بد من الالتفات الى اللحظة التاريخية في اثناء قراءته وقراءة اشعاره.
يتكون المقطع الثاني من ستة اسطر فقط. ما الذي يقوله الشاعر في هذا المقطع. يبدؤه بسطر (للبحر مهنته القديمة:) ثمة نقطتان تتلوان السطر. هذا يعني ان درويش سيفسر ما هي مهنة البحر القديمة , وهكذا يكتب (مد وجزر).هل اتى الشاعر بجديد. حتى اللحظة لا. لقد عرف المعرف , فمن هو الذي لا يعرف ان المد والجزر هما مهنة البحر القديمة؟يضع درويش بعد العبارة (مد وجزر) فاصلة منقوطة, ويتحدث عن النساء والشعراء والشهداء والحكماء. وظيفة النساء الاولى هي الاغراء وينهي الشاعر السطر بفاصلة منقوطة للشعراء ان يتساقطوا غما. كانهم لا يتقنون سوى هذا. اما الشهداء فعليهم ان ينفجروا حلما. لولا الحلم بالانتصار هل كانوا يندفعون الى المقاومة وهم على يقين من انهم قد لا يعودون او وهم غير متيقنين من ان الجنة في انتظارهم, الجنة في الاخرة او جنة الوطن لحظة الانتصار, اما الحكماء فعليهم ان يستدرجوا شعبا الى الوهم السعيد. انهم يعدون الفقراء والمقاومين بوطن مثالي وب..وب..وب... انه الوهم السعيد ليس الا.هنا استحضر ما كتبه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في كتابه (حياتي في الشعر) عن وجه الشبه بين الشاعر والفيلسوف والنبي. كل واحد من هؤلاء يريد اصلاح العالم بطريقته وبوسيلته,بالكلمات وبالوعظ وبالعمل.يغلق الشاعر هذا المقطع باللازمة (لا تعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد )ليبدا المقطع الثالث.. لكن هنا لا بد من الاشارة الى ان الشاعر يستخدم الدال الواحد بمدلولات عديدة. هنا يمكن ان نفيد من مقولات بنيوية وهي على اية حال مقولات درسناها في البلاغة العربية القديمة. الدال ثابت والمدلول متحرك او المعنى الحقيقي للمفردة والمعنى المجازي لها. دال البحر في اشعار درويش له مدلولات متعددة. تارة يستخدمه بمعناه الحقيقي وطورا بمعناه المجازي وقد توقف كل من شاكر النابلسي ود. محمد عبد المطلب امام هذا واتيت انا عليها في غير دراسة. للبحر مهنته القديمة\مد وجزر. هنا يستخدم الشاعر الدال بمعناه الحقيقي, اما حين يكتب (لا تعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد) فان دال البحر هنا مرتبط بالنشيد -اي ببحر الشعر.
المقطع الثالث (لم نات من لغة المكان الى المكان) في هذا المقطع ياتي درويش على فكرة المنفى الذي طالت الاقامة فيه. كان الفلسطينيون يظنون ا ن اقا متهم في المنفى قصيرة , وظل هذا الظن يلازمهم دائما, غير ان الاقامة في المنفى طالت وطالت كثيرا.لم يلجا الشاعر الى التعبير المباشر لتوضيح فكرته وانما المح الى ذلك من خلال الحديث عن النبات الذي زرعه الفلسطنيون في المنافي فطال وطال ظله ايضا-تعبير عن المدة التي انفقها اللاجئون كما نعرف عمر الشجرة من خلال لحائها وعدد دوائرها-وطال ايضا ظل الرمل فينا وانتشر. ما الرمل وما دلالاته؟ هل الرمل يعني الجدب\الياس؟ هل انتشر الياس بين الفلسطينيين في المنافي؟ الزيارة القصيرة طالت واخذ الفلسطينيون يتزاوجون من غيرهم(كم قمر اهدى خواتمه الى من ليس منا)-اي كم من فلسطيني او من فلسطينية تزوج\ت من غير فلسطيني \ة\ا,وكم من لاجيء خلف في المنفى وانجب ابناءه هناك ,في غير بلده. وسيظل الفلسطينيون ينتظرون العودة وسيظلون ينتظرون مغادرة المنفى املين العودة الى بلادهم, فلقد ماتوا من الانتظار (من النوم) وانكسروا. المخيم مؤقت ولكنه دام (افلا يدوم سوى المؤقت ) يا زمان البحر\الرحيل \الثورة\..الخ . هنا يقفل الشاعر المقطع الذي اتى فيه على المنفى باللازمة اياها (لاتعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد), ليبدا المقطع الرابع الذي ياتي فيه على ما يريده الفلسطينيون.. ان يحيوا قليلا ليواصلوا الرحيل من جدي, فهذا قدرهم. هل الرحيل هو ما ورثه الفلسطيني عن اسلافه الاوائل (لا شيء من اسلافنا فينا)؟ هو ينفي هذا فماذا يريد اذن؟ انه ليس وريثا لعادة الرحيل ولا يرغب فيها . انه ينشد الاستقرار حتى لو كان ثمنه وجود سجن. يريد الفلسطيني ما لدى الاخرين.. شرب القهوة في الصباح في بلاده\رائحة نباتات فلسطين\مدرسة خصوصية يتعلم فيها تاريخ بلاده\يريد مقبرة خصوصية(لقد ارقه موت معين بسيسو في لندن واحتار اين سيدفنه اهله وهو) ويريد الفلسطيني الحرية ولو في حجم جمجمة واغنية..وهنا يقفل المقطع الرابع فماذا يكتب الشاعر في المقطع الاخير.
يفتتح الشاعر هذا المقطع بالاعلان عن رغبته في الحياة-في الفترة نفسها كتب درويش قصيدته (ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا (ورد اقل)-.انه يريد ان يحيا ليعود الى اي شيء -ولو الى غزة اريحا اولا- فهو ومعه الفلسطينيون لم يذهبوا الى المكان الذي حطوا فيه بعد الخروج من بيروت-تونس واليمن والسودان والجزائر وغيرها من البلدان- لم يذهبوا لمجرد الرغبة في الذهاب(لم نات كي ناتي).لفد رماهم البحر بعد الخروج من بيروت الى قرطاج-تونس كما يرمي الاصداف. ويتامل الشاعر في هذه الدنيا فيتساءل ويسال(من يذكر الكلمات حين توهجت وطنا لمن لا باب له)-لنتذكر ان القصيدة غدت ذات نهار للشاعر وطنه الجديد(1980)-وطني قصيدتي الجديدة- وفيما بعد سيتساءل في الجدارية (من انا دون لغتي) وليبرهن على اهمية اللغة فانه يتساءل ايضا ان كان هناك من يذكر البدو القدامى الذين استولوا على الدنيا بكلمة (الاسلام\اقرا) ويواصل تساؤله (من بذكر القتلى وهم يتدافعون لفض اسرار الخرافة)-هنا يتساءل القاريء عن قصد الشاعر . من هم القتلى؟ وما هي الخرافة التي جعلت القتلى يتدافعون لفض اسرار الخرافة ؟وما هي الخرافة المقصودة هنا؟ هناك قتلى كثيرون اندفعوا يقاتلون من اجل خرافات-اتذكر كتاب (ثيودور هرتسل) (ارض قديمة جديدة) اذا اردتم فانها ليست خرافة.لقد اندفع اليهود الصهيونيون الاوائل يقاتلون من اجل اقامة دولة وكان الامر في نظر قسم منهم خرافة.(هرتسل ) قال اذا اردتم فانها ليست خرافة. ويقر الشاعر بان ثمة طرفين ينسى كل منهم الاخر فيما تحيا الحياة حياتها. يكرر الشاعر ما يريده الفلسطينيون من هذه الدنيا. انهم يريدون العودة الى وطنهم ليس الا ( ونريد ان نحيا قليلا كي نعود لاي شيء \اي شيء\ لبداية لجزيرة لسفينة لنهاية\لاذا ن ارملة لاقبية لخيمة\) لماذا؟ لان زيارتهم القصيرة طالت ولان البحر\الثورة مات\ت فيهم منذ سنتين\1982 وهو الان في 1984 ويقفل النص باللازمة المحورية(لا تعطنا با بحر ما لانستحق من النشيد).

***

33- قصيدة نزل على بحر محمود درويش

محمود درويش في قصيدته (نزل على بحر)من ديوانه (هي اغنية ..هي اغنية)(1986). هذا الديوان انجزه الشاعر في باريس. النيوان يدرج ضمن المرحلة الباريسية التي كتب فيها الشاعر اجمل اشعاره , فيما ارى وانضجها من ناحية فنية.اتسعت رقعة المنفى وعوصا عن الاقتراب من فلسطين والعودة اليها ابتعد اهلها عنها اكثر واكثر وسافرت الثورة الى اماكن ابعد-كم مرة ستسافر الثورة-.هل يمكن ان نفهم القصيدة فهما عميقا اذا اغفلنا زمن كتابتها والظروف التي كان عليها الفلسطينيون حين كتبها الشاعر...؟ محمود درويش شاعر لا يمكن ,فيما ارى,ان يدرس دراسة بنيوية فقط. ان نشاته الاولى ونموه في الحزب الشيوعي وكتابته انطلاقا من فهم مبكر للواقعية الاشتراكية تقول لنا ان علينا الا نغفل هذا,فالشاعر الذي طور نفسه لم يستطع ان ينسى ذات نهار انه لم يكن بريئا وهو يكتب الشعر.حين زار حيفا ليلقي فيها قصائده في العام 2007 قال وهو يرى السجن الذي سجن فيه , قال ما معناه.. (لم يكن الشعر بريئا). هل نستطيع اذن ان ندرس قصيدته (نزل على بحر) دون ان ندرس الظروف التي كان الشاعر وكان شعبه ايضا عليها؟\\\في العام 1982 خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان وكانت بيروت جزيرة فلسطينية اعتقد الفلسطينيون انها تقربهم من فلسطين , ولم يتوقعوا انها تبعدهم عنها اكثر واكثر,وكانت الصدمة.. كان ان ابتعد الفلسطينيون عن فلسطين ولم يقتربوا منها , وهكذا طالت نباتات البعيد, كما ورد في القصيدة ,وبدلا من ان يعود الفلسطينيون الى مدنهم وقراهم ظلوا في المنافي وغدت العودة حلما صعب المنال واقاموا في (نزل )على بحر جديد ينتظرون المجهول.
القصيدة من حيث الشكل... هل تعد قصيدة درويش هذه قصيدة حلزونية الشكل ام انها تعد قصيدة دائرية الشكل ام انها لا هذه ولا تلك؟ ربما تعد قصيدته (رحلة المتنبي الى مصر) (1980) قصيدة حلزونية الشكل ودائريته في الوقت نفسه. لماذا؟ لان محمود درويش بداها باللازمة التالية (للنيل عادات واني راحل) وختمها باللازمة نفسها, وظل يعود الى اللازمة نفسها كلما اراد ان يبني مقطعا جديدا تقوم عليه فكرة جديدة.وهكذا كانت القصيدة قصيدة ذات بناء. محمود شاعر يهندس قصائده وقد بدا يهندسها منذ (رحلة المتنبي الى مصر) وربما قبل ذلك بقليل. (نزل على بحر )تشبه (رحلة المتنبي..) وتختلف عنها اختلافا بسيطا, فالشاعر لم يبداها بعبارة(لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) ولو كان بداها بهذا المقطع لما اختلفت اطلاقا عن (رحلة المتنبي..) ولحققت الحالتين-اي لكانت دائرية الشكل ولولبيته في الوقت نفسه. ان اللازمة المحورية للقصيدة هي عبارة (لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) وهكذا فالقصيدة ذات بناء. انها عمارة جد متناسقة تتكون من مجموعة طابق , كل طابق يشكل فكرة تؤدي لتاليتها وتكتمل القصيدة بالعبارة (لا تعطنا با بحر.(
هل يمكن فهم اشعار محمود درويش دون الالتفات الى اللحظة التاريخية التي قال فيها قصائده والى ما كان عليه الفلسطينيون يوم كتب قصيدته؟ من المؤكد ان البنيويين يفعلون هذا ويطالبون به, ولكن النقد الاجتماعي يرفضه رفضا تاما ويرى انه لا بد من قراءة النص دون اغفال اللحظة التاريخية. الناقد الذي لا موقف له ولا يريد ان يزعج نفسه مع هذا النظام او ذاك يفعل هذا - اي لا يلتفت الى اللحظة التاريخية ولا يدرس النص مشيرا الى زمن كتابته وما كان عليه الشاعر وقضية وطنه,اما الناقد الاجتماعي الماركسي فلا يفعل هذا ولا بد من اتخاذ موقف .الشاعر نفسه , كما ذكرت بدا شاعرا ايديولوجيا وكتب اشعاره وهو يحدد موقفا من العالم . كان درويش يريد من قصائده ان تسر اصدقاءه وان تغيط اعداءه ,وكان يرى ان الشاعر ان مر فلا بد لخطاه من ان تؤثر ولا بد للحجر من ان يتطاير,وحين زار حيفا-كما ذكرت بعد32 عاما قال ..لم يكن الشعر بريئا-احد معا رفي ممن تجادلت معهم اعجب بدراساتي للشاعر , دراساتي التي عزلت فيها الشاعر عن نصه ولم ترق له دراساتي التي ربطت فيها بين الشاعر ونصه واللحظة التاريخية. صديقي هذا ليس له اي موقف ايديولوجي في حياته وهو في بلد تسبب له الدراسة الايديولوجية اشكالات عديدة. وقد لاحظت وانا اقرا دراساته انه -حين يغفل المعطيات التاريخية يقع في اخطاء .كنت انوي ان اكتب دراسة عن تناول درويش بنيويا وتناوله ماركسيا والاشكالات التي يقع فيها النقاد البنيويون حين يفسرون النصوص. للاسف لم اشارك في مؤتمر في المغرب لانجز هذه الدراسة,مؤتمر كنت ارسلت له ملخصا في الموضوع ولم اتبع الاجراءات-. حقا كيف يمكن ان نفهم مقاطع عديدة من قصيدة (نزل على بحر) اذا اغفلنا اللحظة التاريخية التي كان عليها الفلسطينيون يوم كتب الشاعر القصيدة؟ انا ارى اننا سنقع في مزالق كثيرة والمنهج الاجتماعي هو الذي ينقذنا منها-طبعا يمكن ان نستعين بمناهج اخرى.
لو اخذنا المقطع التالي من القصيدة (نزل على بحر, زيارتنا قصيرة\وحديثنا نقط من الماضي المهشم منذ ساعة\من اي ابيض يبدا التكوين؟\انشأنا جزيرة\لجنوب صرختنا.وداعا يا جزيرتنا الصغيرة) فهل يمكن ان نفهمه اذا ما قراناه معزولا عن ظروف القصيدة ولحظتها الزمنية والتاريخية كما نفهمه حين نقراه مرتبطا بهما؟ انا اشك في ذلك. الامر ربما يحتاج الى تجربة...ان نعطي هذا المقطع لقراء لا يعرفون شيئا عن قائله وعن لحظته التاريخية-الزمنية وعن القضية الفلسطينية. ربما في هذه الحالة سنقرا شيئا عجبا بل اشياء عجيبة. ماذا يقصد درويش بدال زيارة وماذا يقصد بدال جزيرة او بدال جنوب صرختنا. وليس الامر كذلك حين نقرا النص ونحن نعرف ان قائله هو الفلسطيني محمود درويش وانه قاله في العام 1984, وان العام 1984 كان عاما قاسيا على الفلسطينيين الذين كانوا في بيروت وخرجوا منها وتوزعوا ايدي عرب وايدي عالم ايضا . لم يقترب الفلسطينيون من فلسطين في ذلك العام , بل ابتعدوا عنها وظلوا يتحدثون عن بطولاتهم التي قاموا بها في حرب 1982 -حديثنا نقط من الماضي المهشم منذ ساعة-. ما الجزيرة التي انشاها الفلسطينيون لجنوب صرخنهم؟ انها دولتهم في الفاكهاني التي املوا ان تقربهم من فلسطين لا ان تبعدهم عنها. وحين يقول وداعا يا جزيرتنا الصغيرة فانه -حين نقرا النص مرتبطا بلحظته التاريخية وبقائله- فانه يقصد بيروت.هنا يتضح مدلول الدال (جزيرة) ولا اظن ان الدارس البنيوي يمكن ان يتوصل الى هذا. حقا ماذا يقول الناقد البنيوي لتلميذه ان ساله في قاعة الدرس عن مدلول جزيرة هنا؟ثم لماذا الزيارة قصيرة؟ .
هل درويش هو اول شاعر عربي يهندس قصائده؟تتطلب الاجابة عن هذا السؤال الاطلاع على الشعر العربي وقراءته وفق منهج (برونتير)-اي المنهج التاريخي في النقد,المنهج الذي يدرس الادب في ضوء جنسه ولونه.عموما يمكن الاستعانة بكتاب د.عز الدين اسماعيل (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية)فقد توقف الدارس امام المعمار الفني للفصيدة العربية المعاصرة وتحدث عن اشكالها. ولا اظن ان درويش كان كتب قصائد ذات بناء فني قبل صدور كتاب اسماعيل.فيما اطلعت عليه من اشعار الشاعر المصري (امل دنقل) فان (دنقل )كان من الشعراء الذين كتبوا القصيدة ذات البناء الدائري واللولبي.واظن ان محمود درويش قرا (دنقل )واعجب به ,بل وتاثر به.هل ننسى رثاء درويش ل(دنقل)؟.
بعد المقطع السابق هناك فراغ لافت\بياض يواصل الشاعر بعده توضيح هويته(لم نات من بلد اله هذا البلد\جئنا من الرمان,من سريس ذاكرة اتينا\من شظايا فكرة جئنا الى هذا الزبد\لا تسالونا كم سنمكث بينكم, لا تسالونا \اي شيء عن زيارتنا.دعونا \نفرغ السفن البطيئة من بقية روحنا ومن الجسد) .من المتكلم هنا وباسم من ينطق؟انه لا يتحدث باسمه الشخصي,انه يتكلم باسم جماعة هو واحد منها وهذه الجماعة تتشرد من مكان الى مكان.اللحظة التاريخية لكتابة القصيدة هي الوحيدة التي تجعل الكلام يتعلق بالفلسطينيين دون غيرهم,واذا ما اغفلناها فان الكلام قد يعنيهم ويعني غيرهم ممن مروا بتجربة مماثلة.هنا قد يقول ناقد بنيوي..وهذا ما اراده الشاعر ..ان يجعل من الماساة الفلسطينية ماساة كونية وبذلك يغدو شعره عالميا لا محليا.قد.انا شخصيا لست مع هذا التوجه ومع هذا البحث عن العالمية من خلال عدم ا لتحديد انا مع مظفر النواب الذي سمى الاشياء بمسمياتها والحكام باسمائهم.محمود درويش كان احيانا يهادن.في ديوان (اعراس ) حذف عبارة قالها لانه اراد ان يهادن..(الجماهير هي الطائر والانظمة تسمى قتلة).كان درويش -حين قال العبارة -في بيروت.كان ذلك في العام 1976 يوم كان الفلسطيني يقتل ويوم كانت الانظمة العربية تتفرج وتشاهد ذبح الفلسطيني,ولما هدات الاوضاع عاد الشاعر وحذف العبارة فلعلها تحرجه مع بعض الانظمة العربية.\\\\كيف نفسر دال (الزبد )في النص اذا لم نعد الى العام 1982 ونمعن النظر في العالم العربي وموقفه مما جرى في بيروت.ان دال الزبد يعني العالم العربي.كان العالم العربي لا يساوي شيئا.انه الزبد الذي يذهب جفاء ولا يمكث في كلمات القصيد-على حد تعبير درويش.يطلب درويش من اهل تونس ومن العرب في الجزائر واليمن وتونس والسودان الا يسالوا المقاتلين عن المدة التي سيمكثو نها بينهم.انهم -اي المقاتلين يريدون الان ان يرتاحوا من المعارك.
ما الذي تعنيه عبارة درويش زيارتنا قصيرة.ربما عاد المرء الى الواقع الفلسطيني في العام 1948.هل كان الفلسطينيون يتوقعون انهم لن يعودوا الى فلسطين الا بعد مائة وثمانين عاما-هذا اذا عدنا بعد 180عا ما- .كان الفلسطينيون بسيطين وسذجا -على حد تعبير درويش في قصيدته(على محطة قطار) وظنوا انهم سيعودون الى مدنهم وقراهم بعد ان تحررها الجيوش العربية خلال شهر شهرين لا خلال ستة وسنتين ,ولهذا ظنوا ان زيارتهم قصيرة وانهم لن يقيموا بين العرب لفترة.رحب العرب باهل فلسطين وهم يزورون العالم العربي ولم يرحبوا بهم حين طالت اقامتهم.ربما هنا نتذكر قصيدة عبد الكريم الكرمي(ابو سلمى)(سنعود)في قصيدة ابي سلمى ياتي ابو سلمى على حياته في دمشق طالبا وعلى حياته فيها لاجئا ويلحظ الفرق في المعاملة.حين كان في دمشق طالبا رحب به اهلها وحين عاد اليها لاجئا شعر بالذل فاخذ يبحث عن شفيع له يشفع له ما يشعر به الان ,شفيع كما سيكون هناك للمسلمين شفيع يوم الحساب.الم يتساءل ابو سلمى(اتنكرني دمشق) وليست دمشق وحدها هي من نظرت الى اللاجيء نظرة ازدراء.محمود درويش اتى على حياته لاجئا داخل فلسطين وقال ان اهل القرى الفلسطينية نظروا الى الفلسطينيين الذين دمرت قراهم واقاموا في قرى اخرى ,نظروا اليهم على انهم لاجئون.ربما لاحظ الذين شاهدوا مسلسل (في حضرة الغياب) التركيز على هذا الجانب.انا لا اريد ان افتح جروحا وان اتحدث عن هذا الجانب فلا ضرورة له .هل ستكون زيارة الفلسطينيين في منافيهم الجديدة بعد العام1982 قصيرة؟الان ربما نجيب عن هذا السؤال.كم عدد مقاتلي الثورة الذين عادوا بناء على اتفاقات اوسلو وكم عدد الذين لم يعودوا وما زالوا في المنافي وفي النزل على البحر وهل تعد زيارتهم زيارة قصيرة؟ربما وربما نقولها ساخرين.
في السطر الثاني عشر من المقطع الاول يكرر الشاعر السطر (نزل على بحر ) ويكرر العبارة (زيارتنا قصيرة).لماذا يكرر العبارة؟من المؤكد ان كثيرين ممن اقام الفلسطينيون بينهم لم يعودوا يرغبون في الفلسطيني زائرا مقيما , وبخاصة ان وجودهم في هذا الوطن العربي او ذاك جلب لسكانه متاعب كثيرة, في الاردن وفي لبنان و....كانما يشعر درويش بان الفلسطيني غدا عبئا على غيره ولذا يريد ان يطمئن الدول العربية التي استقبلت الفلسطينيين بعد العام1982 بانهم لن يقيموا طويلا حتى لا يستاء المضيفون الجدد من الزائر سيء الحظ (كتب درويش قصيدو عنوانها (انا العاشق السيء الحظ) وكتب قصيدة عنوانها (انا يوسف يا ابي\اخوتي لا يحبونني). الاسطر من 13-19 تعكس حالة القلق التي كان الفلسطينيون يمرون بها ومنهم الشاعر , وقد انعكس هذا على الاسلوب ومن هنا تكثر فيها الاسئلة التي تعبر عن حيرة الشاعر وحيرة المقاتلين. هكذا يشعر درويش بان الارض اصغر من زيارتهم -ضاقت عليهم الارض بما رحبت- ولكن هل سيستسلم؟ الاجابة بالنفي فهو والفلسطينيون المقاومون ايضا سيرسلون للمياه تفاحة اخرى. ماذا يعني هذا؟بالتاكيد انه يعني ان المقاومة لن تستسلم وانها ستواصل الثورة حتى العودة. اين يذهب الفلسطينيون بعد الخروج من بيروت ؟ اين يجدون ملاذا لهم؟لقد كان خروجهم منها الخروج الرابع تقريبا1-1948 2-1967 -3-1970 4-1982. فماذا تبقى من رياضة روحنا وماذا تبقى من جهات لم يذهبوا اليها وماذا تبقى لهم من حدود قريبة من الحدود الفلسطينية؟ ويتساءل الشاعر .. هل من صخرة اخرى نثبت فوقها تكون قريبة من فلسطين لمواصلة المسيرة علنا نعود. بل انه يتساءل ايضا ان كان هناك فلسطينيون يمكن ان يواصلوا الرحلة فقد استشهد كثيرون منهم (ماذا تبقى من بقايانا لنرحل من جديد؟.) قاوم الفلسطينيون في العام 1936 وفي العام 1948 وفي العام 1970 وفي العام 1976 وفي العام 1982 فماذا تبقى منهم ليواصلوا. ينهي الشاعر المقطع الاول باللازمة (لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد) وهي اللازمة التي سيقفل بها القصيدة , اللازمة التي تقول ان الشاعر يرى ان شعبه شعب يستحق الاحترام في حينه -اي في العام 1982. ومن المؤكد ان كلامه هذا مرتبط ايضا باللحظة التاريخية, فهو في مرحلة لاحقة وتحديدا اثر الانقسام واحداث غزة عاد ليقول في الفلسطينيين رايا اخر (انت منذ الان غيرك). ان اغفال اللحظة التاريخية في اثناء قراءة قصائد درويش ستقول لنا انه انسان متناقض ولهذ لا بد من الالتفات الى اللحظة التاريخية في اثناء قراءته وقراءة اشعاره.
يتكون المقطع الثاني من ستة اسطر فقط. ما الذي يقوله الشاعر في هذا المقطع. يبدؤه بسطر (للبحر مهنته القديمة:) ثمة نقطتان تتلوان السطر. هذا يعني ان درويش سيفسر ما هي مهنة البحر القديمة , وهكذا يكتب (مد وجزر).هل اتى الشاعر بجديد. حتى اللحظة لا. لقد عرف المعرف , فمن هو الذي لا يعرف ان المد والجزر هما مهنة البحر القديمة؟يضع درويش بعد العبارة (مد وجزر) فاصلة منقوطة, ويتحدث عن النساء والشعراء والشهداء والحكماء. وظيفة النساء الاولى هي الاغراء وينهي الشاعر السطر بفاصلة منقوطة للشعراء ان يتساقطوا غما. كانهم لا يتقنون سوى هذا. اما الشهداء فعليهم ان ينفجروا حلما. لولا الحلم بالانتصار هل كانوا يندفعون الى المقاومة وهم على يقين من انهم قد لا يعودون او وهم غير متيقنين من ان الجنة في انتظارهم, الجنة في الاخرة او جنة الوطن لحظة الانتصار, اما الحكماء فعليهم ان يستدرجوا شعبا الى الوهم السعيد. انهم يعدون الفقراء والمقاومين بوطن مثالي وب..وب..وب... انه الوهم السعيد ليس الا.هنا استحضر ما كتبه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في كتابه (حياتي في الشعر) عن وجه الشبه بين الشاعر والفيلسوف والنبي. كل واحد من هؤلاء يريد اصلاح العالم بطريقته وبوسيلته,بالكلمات وبالوعظ وبالعمل.يغلق الشاعر هذا المقطع باللازمة (لا تعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد )ليبدا المقطع الثالث.. لكن هنا لا بد من الاشارة الى ان الشاعر يستخدم الدال الواحد بمدلولات عديدة. هنا يمكن ان نفيد من مقولات بنيوية وهي على اية حال مقولات درسناها في البلاغة العربية القديمة. الدال ثابت والمدلول متحرك او المعنى الحقيقي للمفردة والمعنى المجازي لها. دال البحر في اشعار درويش له مدلولات متعددة. تارة يستخدمه بمعناه الحقيقي وطورا بمعناه المجازي وقد توقف كل من شاكر النابلسي ود. محمد عبد المطلب امام هذا واتيت انا عليها في غير دراسة. للبحر مهنته القديمة\مد وجزر. هنا يستخدم الشاعر الدال بمعناه الحقيقي, اما حين يكتب (لا تعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد) فان دال البحر هنا مرتبط بالنشيد -اي ببحر الشعر.
المقطع الثالث (لم نات من لغة المكان الى المكان) في هذا المقطع ياتي درويش على فكرة المنفى الذي طالت الاقامة فيه. كان الفلسطينيون يظنون ا ن اقا متهم في المنفى قصيرة , وظل هذا الظن يلازمهم دائما, غير ان الاقامة في المنفى طالت وطالت كثيرا.لم يلجا الشاعر الى التعبير المباشر لتوضيح فكرته وانما المح الى ذلك من خلال الحديث عن النبات الذي زرعه الفلسطنيون في المنافي فطال وطال ظله ايضا-تعبير عن المدة التي انفقها اللاجئون كما نعرف عمر الشجرة من خلال لحائها وعدد دوائرها-وطال ايضا ظل الرمل فينا وانتشر. ما الرمل وما دلالاته؟ هل الرمل يعني الجدب\الياس؟ هل انتشر الياس بين الفلسطينيين في المنافي؟ الزيارة القصيرة طالت واخذ الفلسطينيون يتزاوجون من غيرهم(كم قمر اهدى خواتمه الى من ليس منا)-اي كم من فلسطيني او من فلسطينية تزوج\ت من غير فلسطيني \ة\ا,وكم من لاجيء خلف في المنفى وانجب ابناءه هناك ,في غير بلده. وسيظل الفلسطينيون ينتظرون العودة وسيظلون ينتظرون مغادرة المنفى املين العودة الى بلادهم, فلقد ماتوا من الانتظار (من النوم) وانكسروا. المخيم مؤقت ولكنه دام (افلا يدوم سوى المؤقت ) يا زمان البحر\الرحيل \الثورة\..الخ . هنا يقفل الشاعر المقطع الذي اتى فيه على المنفى باللازمة اياها (لاتعطنا يا بحر ما لانستحق من النشيد), ليبدا المقطع الرابع الذي ياتي فيه على ما يريده الفلسطينيون.. ان يحيوا قليلا ليواصلوا الرحيل من جدي, فهذا قدرهم. هل الرحيل هو ما ورثه الفلسطيني عن اسلافه الاوائل (لا شيء من اسلافنا فينا)؟ هو ينفي هذا فماذا يريد اذن؟ انه ليس وريثا لعادة الرحيل ولا يرغب فيها . انه ينشد الاستقرار حتى لو كان ثمنه وجود سجن. يريد الفلسطيني ما لدى الاخرين.. شرب القهوة في الصباح في بلاده\رائحة نباتات فلسطين\مدرسة خصوصية يتعلم فيها تاريخ بلاده\يريد مقبرة خصوصية(لقد ارقه موت معين بسيسو في لندن واحتار اين سيدفنه اهله وهو) ويريد الفلسطيني الحرية ولو في حجم جمجمة واغنية..وهنا يقفل المقطع الرابع فماذا يكتب الشاعر في المقطع الاخير.
يفتتح الشاعر هذا المقطع بالاعلان عن رغبته في الحياة-في الفترة نفسها كتب درويش قصيدته (ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا (ورد اقل)-.انه يريد ان يحيا ليعود الى اي شيء -ولو الى غزة اريحا اولا- فهو ومعه الفلسطينيون لم يذهبوا الى المكان الذي حطوا فيه بعد الخروج من بيروت-تونس واليمن والسودان والجزائر وغيرها من البلدان- لم يذهبوا لمجرد الرغبة في الذهاب(لم نات كي ناتي).لفد رماهم البحر بعد الخروج من بيروت الى قرطاج-تونس كما يرمي الاصداف. ويتامل الشاعر في هذه الدنيا فيتساءل ويسال(من يذكر الكلمات حين توهجت وطنا لمن لا باب له)-لنتذكر ان القصيدة غدت ذات نهار للشاعر وطنه الجديد(1980)-وطني قصيدتي الجديدة- وفيما بعد سيتساءل في الجدارية (من انا دون لغتي) وليبرهن على اهمية اللغة فانه يتساءل ايضا ان كان هناك من يذكر البدو القدامى الذين استولوا على الدنيا بكلمة (الاسلام\اقرا) ويواصل تساؤله (من بذكر القتلى وهم يتدافعون لفض اسرار الخرافة)-هنا يتساءل القاريء عن قصد الشاعر . من هم القتلى؟ وما هي الخرافة التي جعلت القتلى يتدافعون لفض اسرار الخرافة ؟وما هي الخرافة المقصودة هنا؟ هناك قتلى كثيرون اندفعوا يقاتلون من اجل خرافات-اتذكر كتاب (ثيودور هرتسل) (ارض قديمة جديدة) اذا اردتم فانها ليست خرافة.لقد اندفع اليهود الصهيونيون الاوائل يقاتلون من اجل اقامة دولة وكان الامر في نظر قسم منهم خرافة.(هرتسل ) قال اذا اردتم فانها ليست خرافة. ويقر الشاعر بان ثمة طرفين ينسى كل منهم الاخر فيما تحيا الحياة حياتها. يكرر الشاعر ما يريده الفلسطينيون من هذه الدنيا. انهم يريدون العودة الى وطنهم ليس الا ( ونريد ان نحيا قليلا كي نعود لاي شيء \اي شيء\ لبداية لجزيرة لسفينة لنهاية\لاذا ن ارملة لاقبية لخيمة\) لماذا؟ لان زيارتهم القصيرة طالت ولان البحر\الثورة مات\ت فيهم منذ سنتين\1982 وهو الان في 1984 ويقفل النص باللازمة المحورية(لا تعطنا با بحر ما لانستحق من النشيد).

***

34- محمود درويش و ( نيتشة ) وتمجيد الحياة فوق الأرض :

أعتقد أن الضجة المثارة حول سطر محمود درويش الشعري " على هذه الارض ما يستحق الحياة " ضجة مفتعلة ، وأعتقد أن رأي نصري حجاج في الأمر هو الرأي الصائب والصحيح - ينظر رأيه على هذه الصفحة في التعليقات .
إن محمود درويش ، منذ فترة مبكرة ، ومنذ قصيدته " بيروت " 1980 يمجد الحياة فوق الأرض ، لا تحت الطغاة ، وهو هنا يلتقي في جانب مع ( نيتشة ) ، وتحديدا في فلسفة تمجيد الحياة على الأرض ، وكان ( نيتشة ) دعا في كتابه " هكذا تكلم زرادشت " عن تمجيد الحياة فوق الأرض ، لا في العالم الثاني - أي في البحث عن الحياة في السماء ، هربا من الحياة على الأرض ، وهو ما بدا في الجزء الاول من كتابه تحت عنوان " المأخوذون بالعالم الثاني " وتحت هذا العنوان كتب عن أولئك اليائسين الهاربين من الحياة ، ورأى ( نيتشة ) أن هؤلاء اخترعوا العالم الثاني واخترعوا أوهامهم وكؤوسهم الصغيرة المترعة بالدماء ، ظانين أنهم بذلك فازوا بالحياة بعيدا عن جسدهم ، وعن الأرض " وتناسوا إن تنعمهم ورعشة ملذاتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه الأرض " ( ص53 من ترجمة فيلكس فارس).
أما محمود درويش الذي كان شابا في الأربعين من عمره يوم كتب قصيدة " بيروت " ، فقد هاله ما شاهد في بيروت ، وفي العالم العربي ، من بؤس الحياة ، تحت الدكتاتور العربي ، ولذلك كتب " بوركت الحياة فوق الأرض ، لا تحت الطغاة ، تحيا الحياة ، تحيا الحياة "، وهكذا فإن سطره " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " له حضور في شعر الشاعر منذ 1980، وهو يتكيء على فلسفة تمجيد الحياة ، بحرية وكرامة ، وهو تعبير عن فلسفة في الحياة ، وهناك كثيرون منا يتفقون مع الشاعر في لحظات تجل يعيشونها ، فكيف إذا كان المرء في باريس ، هو الخارج من العالم العربي البائس.
لي صديق يمجد الحياة في ألمانيا ، ويتمنى لو أنه أنفق حياته فيها ، وقد درس فيها الدكتوراه وكانت أسعد سنوات حياته ، فهل نستغرب أن يكتب الشاعر وهو في باريس سطره الشعري .
في ألمانيا كنت أسافر في القطار من ( بامبرغ ) إلى ( ميونيخ ) إلى ( شتوتجارت ) وفي فصل الربيع تلحظ الأشجار وقد اينعت أوراقها ، وكنت حقا أسحر بالطبيعة ، وكنت أكرر " على هذه الأرض ما يستحق الحياة "، خلافا لما كتبته ، مرة ، في انتفاضة الأقصى ، حيث جاكيت سطر درويش ساخرا ، والأمر منوط بالحالة التي يمر بها المرء ، وبالمكان الذي يقيم فيه ، وما يكون المرء عليه .
أعتقد أن الكثيرين حملوا سطر درويش اكثر " من اللازم " في الحديث عن سرقة ، وبهذا المعنى فكلنا سراقون ، علما بأن الشاعر كتب في قصيدته " تنسى كأنك لم تكن " أن شعره هوامش على شعر الآخرين - أي إنه ليس خاليا من التأثر بأشعار الآخرين ، أو من الكتابة في موضوعات كتب فيها الآخرون من قبل .

***

35- محمود درويش و نيتشة:


" أغنية الشرب " وردت تحت عنوان " اغنية الثمل " ، وقد قارنت بين ترجمتين فهالني الفارق ، وقد اعود إلى الترجمتين ، بخصوص الفقرة .
مثلا ما ورد في ترجمة فليكس فارس تحت عنوان " المأخوذون بالعالم الثاني " ورد في ترجمة دار الجمل للمترجم علي مصباح تحت عنوان " دعاة الماوراء " ، وأما ما ورد تحت عنوان " نشيد الثمل " فقد ترجمه علي صالح ب "ن شيد التهويم الليلي " .
في نشيد الثمل ترد الفقرة على النحو التالي "
قال : ..أيها الأصحاب ،هذه أول مرة احيا فيها الحياة كلها بيوم واحد ، فقد كفاني هذا العيد بصحبة زارا لاتعلم محبة الأرض ، فيمكنني الآن أن أقول للموت ، اهذه هي الحياة ؟ إذن اعدني إليها مرة أخرى .
أفلا تريدون أيها الأصحاب أن تقولوا للموت ما أقوله له : أهذه هي الحياة ؟ إذن أعدنا إليها من أجل محبة زارا مرة أخرى ."
وأظن أن المقارنة بين درويش و ( نيتشة )ممكنة ، لا من باب السرقة ، بل من باب التأثر والإضافة . وإذا كان ( نيتشة ) أحب الحياة لأجل زارا ، فإن درويش كتب " على هذه الارض ما يستحق الحياة " ليس من أجل زارا ، وإنما من أجل أشياء كثيرة عددها في القصيدة .
الموضوع يستحق مناقشة هادئة .

***

36- محمود درويش و زرادشت و نيتشة :

أعتقد أنه يجب أن يقرأ سطر محمود درويش " على هذه الارض ما يستحق الحياة " في ضوء الفقرة التي وردت في الجزء الأول من كتاب ( نيتشة ) " هكذا تكلم زارا " ، وعنوانها " المأخوذون بالعالم الثاني " ، وفي ترجمة عربية ثانية غير ترجمة فليكس فارس " دعاة الماوراء ".
20/6/2016 ، وربما لي عودة إلى الموضوع .
وقد نظرت في ج4 من الكتاب ، باحثا عن العنوان " أغنية للشرب " فما وجدت .
الترجمة العربية التي لدي هي ترجمة ( فليكس فارس )

***

[HEADING=2]37- في ذكرى محمود درويش: تناسل ريتا في رواية "على شواطئ الترحال"[/HEADING]

في حزيران من هذا العام (٢٠٢٢) نشرت هنا ثلاث مقالات تحت عنوان «المرأة اليهودية عاشقة للفلسطيني» ولما أعدت نشرها على صفحتي الشخصية في الفيس عقب عليها بعض من أتيت على رواياتهم، مبدين رأيهم في واقعية شخصياتها، فقد كان عنوان إحدى المقالات الفرعي «الشخصية اليهودية بين المتخيل الأدبي والواقع» (١٩/ ٦/ ٢٠٢٢).
لم ينفِ الكتاب صلة شخصياتهم بالواقع، على الرغم من أن قسماً منهم كان يصدر روايته بعبارة تلفت انتباهنا إلى أن أي تشابه بين أسماء الشخصيات وشخصيات في الواقع هو محض صدفة.
ممن عقب على المقالة أحمد حرب وراوية بربارة. ولأحمد روايتا «الجانب الآخر لأرض المعاد» و»بقايا» (١٩٩٠ و ١٩٩٦) ولراوية رواية «على شواطئ الترحال» (٢٠١٥).
كتب أحمد:
«المرأة اليهودية عاشقة للفلسطيني في رواياتي (الجانب الآخر.. و بقايا) ليست متخيلة. التفاصيل الواقعية لتجربة الحب والزواج بين إيمان (المرأة اليهودية) وهادي (الفلسطيني) وقعت بالفعل حتى موضوع عودتها إلى يهوديتها».
وكتبت راوية:
«نعم روايتي «على شواطئ الترحال» فيها من الواقع ما يقارب ٩٩% لأنني جمعتها من أفواه نساء يهوديات متزوجات من عرب، وقد طالبني أحد النقاد بإزالتها من المكتبات لأنني تضامنت برأيه مع المرأة اليهودية على حساب الرجل العربي، ولأن ما كتبته لا يمكن أن يحدث في الواقع. أحيانا الواقع يتجاوز المخيلة».
في روايتها تكتب راوية عن سارة اليهودية اليسارية الطالبة في جامعة تل أبيب، المولودة لأم يهودية عراقية تتبرأ من عراقيتها وتنتمي لدولة إسرائيل ولأب يهودي مغربي يساري أممي، وعن إبراهيم الفلسطيني ابن قرية «الفسيفساء» المولود لأم من الضفة الغربية المحتلة، وحين تأتي سارة إلى حيفا للمشاركة في مظاهرة يسارية في حيفا تلتقي إبراهيم وتنشأ بينهما علاقة حب تسفر عن زواج ينجب طفلين هما «لنا» و «فؤاد».
تنقطع علاقة الزوجين بالأهل لمعارضتهم هذه العلاقة وحين تشدد السلطة الإسرائيلية على إبراهيم في عمله يضطر إلى أن يعود إلى القرية ومعه سارة ولنا، وتفرض ظروف حرب الخليج في ١٩٩٠ والخوف من الصواريخ والأسلحة الكيماوية نوعا من التصالح بين والدة إبراهيم وسارة. عندما يطلب إبراهيم من سارة أن يتزوجا زواجا شرعيا وأن ترتدي الجلباب، خاضعا بذلك لشروط مجتمعه، تبدأ العلاقة بالتفسخ وتنتهي على الرغم من حبهما الشديد لبعضهما.
حب سارة لإبراهيم يذكرنا بحب ريتا لمحمود درويش، ومن شاهد مسلسل محمود درويش عرف منه أن لريتا قريبا كان يريدها لنفسه، وفي رواية راوية يكون لسارة ابن خالة (آفنر) يخدم في الجيش الإسرائيلي ويقف ضد العلاقة ويرغب في الارتباط بسارة، وهي تفضل إبراهيم عليه، ما يؤلبه ضدهما. تعقيب راوية على المقالة يقول إنها لم تكتب عن عالم متخيل، بل عن عالم حقيقي تعرف شخوصه، وهي بذلك تدحض أي اتهام لها بأنها تستنسخ غيرها، وهنا أعني محمود درويش وتجربته.
ولكن السؤال هو:
هل يستطيع قارئ الرواية ألا يستحضر درويش وظلاله ولغته؟
وأنا أقرأ الرواية وجدتني في صفحات عديدة منها أحيل إلى الشاعر، وكان محمد صفوري في كتابه «شرفات سردية» (٢٠٢١) قد لاحظ تأثرها بدرويش وبنزار:
«مما لا شك فيه أن الكاتبة شديدة الشغف بالشعر العربي؛ قديمه وحديثه، وخاصة شعر محمود درويش ونزار قباني... «(صفحة ٥٣). وحين تعبر سارة عن حبها لإبراهيم في الصفحات ٤١ إلى ٤٤ وفي الصفحتين ٤٧ و ٤٨ يتذكر قارئ درويش سطره:
«إني ولدت لكي أحبك».
وحين يقرأ رفض أمها لهذه العلاقة لحرصها على يهوديتها يتذكر ما ورد على لسان ريتا: «وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك».
بل ويتذكر المرء أيضا قصائد أخرى للشاعر وردت في «أوراق الزيتون» (١٩٦٤) و «عاشق من فلسطين» (١٩٦٦). تقول سارة:
«ألم تحمل حمامة غصن زيتون» و «هذا الزيتون يعرف زارعه، لو كان يعرف الكلام، لروى قصتنا، قصة أبي وعائلته، قصة شعبي» (٨٩)، وهنا يتذكر المرء قول الشاعر: «يا نوح هبني غصن زيتون ووالدتي حمامة» و»لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا».
وبما أنه لا كتابة تبدأ من بياض وأن بعض النصوص تتناسل من أخرى، وأن تشابه الواقع يمكن أن ينتج نصوصا موضوعاتها متشابهة فإن قارئ الأدب الفلسطيني يتذكر وهو يقرأ الرواية قصة عبد الله عيشان «الغلطة» (١٩٧٩) التي تصور علاقة حب تسفر عن زواج ينتهي بالانفصال بين فلسطيني قروي ويهودية ويكون سبب الانفصال الخلاف الحضاري بين المجتمعين العربي والإسرائيلي فالمجتمع الفلسطيني محافظ والإسرائيلي منفتح، ويتذكر أيضا رواية سلمان ناطور «أنت القاتل يا شيخ» (١٩٧٥)، فكلتا الروايتين تأتي على التجنيد والخدمة في الجيش الإسرائيلي وآثارها، والعربي الدرزي والعربي ابن اليهودية سيلتحق بالجيش وقد يقتل أقاربه على الطرف الآخر.
تناسلت ريتا درويش في نصوص أدبية فلسطينية وعربية كثيرة، وهنا أذكر برواية إلياس خوري «أولاد الغيتو»، وكما تناسلت في النصوص تناسلت الدراسات والمقالات التي كتبت عنه.

2022-08-07

***

38- "صورة الفنان في شبابه :
محمود درويش كما صوره معين بسيسو"

على الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت إظهار صور قديمة لمحمود درويش ، بخاصة صوره مع ريتا حين كثر الحديث عنهما بعد وفاته ، إلا أن الصورة الراسخة له هي تلك الصورة التي ظهر فيها في ال 15 سنة الأخيرة من حياته ( منتصف العقد السادس والعقد السابع ) - تحديدا منذ عودته إلى رام الله وبث فضائية فلسطين وغيرها أمسياته ولقاءاته يقرأ الشعر أو يتحاور فيه وحوله ، ويبدو فيها رجلا مكتملا جادا ذا هيبة ووقار يرتدي الملابس الرسمية الأنيقة الفاخرة ، وفي هذه السنوات صارت له طقوسه وعاداته وتقاليده وأخذ يفضل الابتعاد والعزلة والحركة في أماكن محددة وأوقات مضبوطة . تعززت هذه الصورة وترسخت أكثر من خلال مقاطع الفيديوهات المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي .
ومع أن رنا قباني زوجته الأولى أخذت تكتب عنه سلسلة مقالات في جريدة " القدس العربي " أبرزت لمحبيه صورة شبه صادمة عنه ، إلا أن عدم اقتران كتابتها بصور لهما ، ووقف نشر المقالات ، لم يرسخ في الأذهان أي صورة له في فترة السبعينيات - أي في عقده الرابع ، تطغى على صورته في العقد الثالث .
في 60 القرن 20 بدا محمود درويش شابا طويلا نحيفا يرتدي البنطال والقميص ذا وجه حاد القسمات غير ممتليء الوجنات وذا ساعدين ضعيفين لا يقويان على إنجاز عمل شاق ولا يقدران على الذود عن صاحبهما إذا ما تعارك مع شخص آخر ، وهو ما نلحظه في صورته مع ريتا وصوره في كتاب سيد محمود " المتن المجهول ، صفحات مجهولة من حياة محمود درويش في القاهرة " . وهذه الصورة لم تترسخ إلا في أذهان متابعيه من قرائه لا من المصغين إليه في الفيديوهات أو مشاهدي الفضائيات . ويدعم ما سبق ما روي عنه من دعابة كان يكثر من تردادها تقول إنه إذا ما اختلف مع شخص واغتاظ منه أخذ يردد :
- آخ .. آخ .. لو كان لي ساعدان قويان ... .
الصورة الغالبة للشاعر هي إذن صورته في ال 15 سنة الأخيرة من حياته ، فماذا عن صورته في بيروت في 70 القرن 20 ؟
كيف بدا ؟ وكيف عاش ؟ وما شكل ملابسه وقصة شعره ؟ وماذا فضل؟ وماذا رفض ؟
لعل قصيدة معين بسيسو " الخروج " تعطينا تصورا معقولا ، فقد كان الشاعران صديقين ودودين ربطت بينهما علاقة صار أحدهما فيها يدافع عن الآخر ، وهو ما لاحظته شخصيا في الرسائل التي كتبها معين يدافع فيها عن محمود في خصومته مع سميح القاسم بعد خروج الأول من فلسطين في العام ١٩٧١ ، وهو ما تقوله لنا قصيدة " الخروج " التي كتبها معين في محمود يوم التقاه في بيروت في بداية 70 القرن 20 ، وفي تلك الفترة لم نكن نرى للشاعر سوى بعض صور في الجرائد أو المجلات أو الصورة التي يختارها ناشر ما للشاعر ليضعها على غلاف كتاب ، فلم تكن يومها ثمة فضائيات أو تلفازات تنقل أمسياته الشعرية وتعممها بشكل لافت كما صار يحدث في القرن 21 .
قصيدة " الخروج " التي تأتي على خروجهما من غزة وحيفا ، وأيضا على خروج المتنبي من حلب ، ولا أعرف إن كان محمود درويش استلهم منها الإشارة للتعبير عن تجربته وربطها بتجربة المتنبي في قصيدته الشهيرة " رحلة المتنبي إلى مصر " (1980) ، وفي قصيدة " الخروج " يكتب معين عن الثورة وتحول الثائر إلى موظف والوطن إلى جرح ويكتب عما طلب منهما أن يكتبا : عن القدس ويافا وغزة و ... و ... وما يهمنا فيها هو كتابته عن حياتهما في بيروت وهذا ما يعطينا صورة عن حياة درويش في شبابه . يقول معين :
" أنا أعرف أنك ترفض يا " محمود " / ربطة العنق / لكنك تقبل يا محمود الحبل على عنقك / كنا ندخل ، نقتحم جميع الحانات / بلا ربطة عنق / كنا نفتحها بقميص مفتوح / كنا نطرد ونحب الطرد / كنا طول العمر نحب سقوط المطر / ونشرب نخب الرعد .. / ونحب الأرصفة المهجورة ومصابيح الشارع / لم نكتب يوما عن ليلى أو هند .. / كان " الوطن " جميلا / والوطن يكون جميلا / حين يكون الوطن بعيدا / لكن حين الوطن يصير قريبا / ويصير نشيدا / ويصير الوطن مكاتب / ويصير الوطن ثعالب .../ كان علينا أن نرفض تلك اللعبة / ونجر الغربة ... " .
هذا النمط المعيشي الذي يعبر عن عشق الحياة وشهوة اللذة ، حيث ينفق الشاعران وقتا كثيرا في الشارع والمقاهي والبارات ، يعززه ما كتبه درويش في وداع معين في قصيدته " خرج الطريق " :
" كنا نفتش ، يا صديقي يا صديقي ، في الشوارع عن وطن " .
وفي مقطوعته النثرية " معين بسيسو لا يجلس على مقاعد الغياب " :
" فهل كان معين بسيسو وهو يلتهم الحياة كما يلتهم طفل جائع إجاصة يدرك أيضا أنه لا يمتلك مقعدا للغياب " و " وكنت أراقب فيه شهية حياة مجنونة " و " ويعب الحياة والسخرية " و " كنت أفسر شبق الحياة فيه بخوف خفي من موت لم يعد له إطاره " و " كان يعالج نفسه وأوجاعه بالتهام الحياة " ، بل ولقد عبر عنه في قصيدته الشهيرة " ونحن نحب الحياة " .
والصورة التي أظهرها درويش لمعين تتطابق والصورة التي ظهرت له ، عن حياته في بيروت ، في رواية ياسين رفاعية " من يتذكر تاي " .
بقي أن أشير إلى أن من يقارن إلقاء الشاعر لقصائده في 60 ق 20 بإلقائه لها في السنوات الأخيرة من حياته يلحظ أيضا اختلافا واضحا ، وطريقة إلقائه الأخيرة هي التي ترسخت في الأذهان .
غالبا ما أنفق أيامي بعد التقاعد في الشوارع والمقاهي وباب الساحة في البلدة القديمة في نابلس ، وليس ما هو أجمل من ذلك .
الكتابة تطول والمساحة محدودة
٢٥ كانون الثاني ٢٠٢٢


***

39- محمود درويش ومراحله الشعرية : ( المقالة كاملة )

1 - المرحلة الأولى " عصافير بلا اجنحة " ( 1960 ) :
هل يشكل هذا الديوان المرحلة الشعرية الأولى للشاعر ؟
يعد " عصافير بلا أجنحة " ديوان البدايات ، الديوان الأول الذي يكون الشاعر فرحا به ، ولكنه يغدو ، لاحقا ، عبئا عليه ، وهذا ما حدث مع درويش نفسه ، ففي مراحله اللاحقة تخلى عنه ولم يعد يدرجه في أعماله الشعرية . إنه يعكس طفولته الشعرية ، الطفولة التي كان درويش فيها شابا مراهقا بلا وعي سياسي ، أو إنه كان يخشى الحكم العسكري ، لأن لا جهة تدعمه أو تقف إلى جانبه ، أو لأنه كان يخشى على أبيه وجده من مضايقات الحكم العسكري .
كان درويش في هذا الديوان صدى لنزار قباني ، وقد اعترف هو لاحقا بهذا ، وربما كان هذا أحد أسباب حذفه للديوان من أعماله الكاملة . إنه أراد أن يكون صوتا لا صدى .
نحن - أعني الدارسين - سنتذكر هذا الديوان حين نتحدث عن بدايات الشاعر الشعرية وحين نأتي على ديوانه " سرير الغريبة " ( 1999 ) وموضوع الأخير ، ف " سرير الغريبة " كان خروجا لافتا عن الموضوع الوطني الذي طغى على أشعار الشاعر .
2 . المرحلة الثانية :
وهي مرحلة الشعر الوطني والانتساب إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي " أوراق الزيتو ن " ، ( 1964 ) " عاشق من فلسطين " ( 1966 ) ، " آخر الليل " ( 1967 ) و " يوميات جرح فلسطيني " .
اختلف درويش في هذه المجموعات اختلافا كليا عن ديوانه الأول ، فلم يعد يكتب قصائد غزل خالية من التسييس ، وبدأ يكتب أشعارا يعبر فيها عن آلام الفلسطيني وآماله ومعاناته وهمومه وشعوره بالغربة في دياره .
عبر الشاعر عن ارتباطه بالأرض وعن انتمائه العربي وتحدى سلطات الاحتلال التي تشيع سياسة العدم القومي . وربما تعد قصيدة " سجل أنا عربي " عنوان هذه المرحلة ، مثلها مثل عنوان ديوان " عاشق من فلسطين " .
يعبر الشاعر عن هويته العربيه ويعبر أيضا عن ارتباطه بالأرض الفلسطينية التي غدت محبوبته أيضا . وإذا كانت المحبوبة في " عصافير بلا اجنحة " هي المرأة ، فإنها هنا هي هذه وتلك وقد توحدتا معا " أنت عندي
أم الأرض
أم أنتما توأمان " و
" وأبي قال مرة
الذي ماله وطن
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر " و
" وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق
والأرض حبيبة " .
سيكتب درويش في هذه الفترة شعرا واضحا مفهوما ، فأغلب جمهوره الشعري كان من فقراء الريف وعمال المدن في وطنه . ولما كان انتمى إلى الحزب الشيوعي فإنه تأثر بطروحات الحزب الأدبية ، وهكذا سخر شعره للتعبير عن أفكار الحزب وقضاياه ومواقفه السياسية بالدرجة الأولى . وقد عبر درويش عن هذا في مقاطع عديدة أبرزها المقطع الآتي :
" قصائدنا بلا لون
بلا طعم
إذا لم يفهم البسطا معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت "
الوضوح والبساطة في التعبير والتوجه للجمهور والتفاؤل ، هذه كلها كانت أبرز سمات درويش الشعرية في هذه المرحلة . ففي قمة هزيمة حزيران نجد الشاعر يعبر عن تفاؤله ، وهذا ما يبدو في قوله
" خسرت حلما جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا
على سياج الحدائق وما خسرت السبيلا ".
في هذه المرحلة بدأ هاجس درويش الشعري الذي ظل ملازما له طيلة حياته الشعرية ، وهوالاختلاف ، اختلاف جديده الشعري عن قديمه الشعري . من هنا بدأ في نهاية هذه المرحلة يميل إلى البعد الرمزي ، وهذا ما لم يرق لرفاقه في الحزب ، رفاقه الذين طالبوه بالعودة إلى ما كان عليه في " أوراق الزيتون " و " عاشق من فلسطين " .
وفي المرحلة الشعرية الثانية أكثر محمود درويش من توظيف الرموز التراثية التوراتية في أشعاره ، وقلما وظف رموزا تراثية شعرية عربية قديمة ، كما سيغدو الحال عليه بعد خروجه من الأرض المحتلة ، والرمز الشعري العربي الوحيد تقريبا الذي وظفه في 60 ق 20 هو رمز الشاعر امريء القيس ، وربما يعود السبب في ذلك إلى قراءته المكثفة للعهدين القديم والجديد .
في هذه ال6مرحلة كتب الشاعر قصائده التي سيكون لها حضور لافت في أشعاره وأعني بذلك قصائده في ريتا وفي الجندي الذي يحلم بالزنابق البيضاء ، وهي قصائد حققت شهرة واسعة . وقد كتب الشاعر عن الآخر من منطلق ماركسي لا من منطلق قومي ، ما ألب عليه بعض الشعراء القوميين مثل الشاعر يوسف الخطيب .
الكتابة عن اليهود من منطلق ماركسي وقصيدة سجل أنا عربي وقصيدته عن الأكراد جلبت له قدرا لا بأس به من الخصومات ، ما يعني أن الموضوع والتركيز عليه كان سببا من أسباب انتشار شعر الشاعر ، عدا شاعريته وموهبته المبشرة .
3 .
المرحلة الثالثة
:
" أحبك أو لا أحبك " (1971 ) ، و " محاولة رقم 7 " ( 1974 )، و " أعراس " ( 1977 )، وأكثر قصائد ديوان " حصار لمدائح البحر " ( 1983 ) .
متى تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل درويش ومتى تنتهي ؟ هل نعد هذه المرحلة ابتداء من خروجه حتى العام 1982 أم نقسمها إلى قسمين ؛ فترة أقامته في القاهرة وفترة إقامته في بيروت حتى خروجه منها ؟
في أثناء إقامته في القاهرة أصدر درويش ديوانه " أحبك أو لا أحبك " ولعل أبرز قصيدة فيه هي " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " ويلاحظ أن التطور الذي بدأ يطرأ على أشعاره في نهاية 60 ق 20 ظل يتواصل ، وإن رافقه تطور آخر في بناء القصيدة .
سيبدأ درويش نفسه يشعر بهذا التغير وبتغير موقف بعض النقاد من أشعاره الجديدة ، وإلا فلماذا كتب المزامير التي أتى في بعضها على هذا الجانب - أي موقف الشعراء من التغيرات التي ألمت بتطور الكتابة لديه ؟
" حين صارت كلماتي عسلا
غطى الذباب غلى شفتي " .
في هذا الديوان سيغدو درويش قريبا من الثورة ، وإذا كان في الأرض المحتلة يكتب عن كفر قاسم ودير ياسين وهزيمة حزيران ، فإنه الآن يرثي أبا علي إياد ، وسيبدأ منذ إقامته في بيروت كتابة قصائد الرثاء ، لا رثاء الأقارب وإنما رثاء رموز الثورة الفلسطينية مثل عز الدين القلق وماجد أبو شرار وكمال ناصر وكمال عدوان وغسان كنفاني ويوسف النجار .. الخ ، حتى إنه ليضيق ذرعا بالرثاء ، وسيكتب قصيدة " سنة أخرى فقط " طالبا من أصدقائه ألا يموتوا .
في أثناء إقامته في العالم العربي سيثار السؤال الآتي حول شاعرية الشاعر :
- هل كانت شاعرية درويش تنبع من موهبته الشعرية أم من إقامته في الأرض المحتلة ؟
وسيحاول أن يثبت للجميع أنها تعود لموهبته لا إلى موقعه . وسيصدر درويش في هذه المرحلة الدواوين الآتية:
" محاولة رقم 7 " ( 1974 ) و " أعراس ( 1977) ومطولته " تلك صورتها وهذا انتحار العاشق " ( 1975 ) وسيكتب قصائد كثيرة سيصدرها بعد العام 1982 في ديوان " حصار لمدائح البحر " ( 1983 ) . ان هذا الديوان وإن صدر بعد خروج الشاعر من بيروت إلا أنه ينتمي إلى المرحلة الثالثة - أي مرحلة القاهرة وبيروت معا . هل نسي الشاعر ، شاعر الأرض ، في أثناء إقامته في المنفى ، الأرض وغدا يعبر عن المنفى فقط ؟
في الثلاثين من آذار العام 1976 سيتظاهر الفلسطينيون في فلسطين وسيحتفلون بيوم الأرض .
الشاعر الذي تغنى بالأرض ومزج في شعره بينها وبين الحبيبة " إنني العاشق
والأرض حبيبة "
كتب في الحبيبة قصيدة الأرض ، وعدت من عيون ما كتب في الأرض .
لقد ظل المغني يغني على الرغم من أنهم حاصروه وسجنوه وعذبوه ، وهكذا لم تنسه هموم العالم العربي ومشاكله فيه وملاحقة النظام العربي للثورة للنخلص منها ، لم تنس الشاعر الارض محبوبته .
في مرحلة بيروت نجد الشاعر يتخفف من توظيف الرموز التوراتية ، ويستعيض عنها بكتابة القصيدة المعبرة عن الواقع بأسلوب مباشر غالبا ، وبأسلوب يتكيء على التراث قليلا .
في إحدى قصائد " أعراس " يكتب :
" فلتذهب أصول الشعر ، الجماهير هي الطائر ، والأنظمة الآن تسمى قتلة " ( مع بعض تغيير ) .
وإذا كان درويش استحضر بعض عبارات الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل " ليت الفتى حجر " فإن الشاعر العربي القديم الذي استحضره في هذه الفترة هو أبو الطيب المتنبي .
كان درويش معجبا بالمتنبي وحدث أن مر بتجربة مشابهة لتجربة المتنبي مع سيف الدولة .
أعجب درويش بياسر عرفات وحدث أن اختلف معه . وكما غادر المتنبي بلاط سيف الدولة واتجه إلى مصر ، فقد غادر درويش بيروت إلى باريس ، وهنا استعار المتنبي قناعا ليعبر ، من خلاله ، عن خلافه مع ياسر عرفات ، كانت القصيدة قاسية ، فقد أغضبت الرئيس الفلسطيني وجعلته يحنق على الشاعر ، ولم يعد المياه إلى مجاريها بين الاثنين إلا أصدقاء الشاعر وأصدقاء أبي عمار وحب أبي عمار لدرويش .
" للنيل عادات
وإني راحل
قد عدت من حلب وإني لا أعود إلى العراق سقط الشمال
فلا ألاقي غير الدرب تسحبني إلى نفسي ومصر
كم ارتحلت إلى ...... الخ "
هل نختلف هذه المرحلة عن مرحلة " سجل أنا عربي " ؟
درويش الذي ضاق ذرعا بالاحتلال الاسرائيلي وشعر بالاختناق لإقامته تحت الحكم العسكري ، هاجر إلى العالم العربي لعله يتنفس الحرية ويعود إلى فلسطين مع اللاجئين ، ليعود عودة جماعية إلى وطنه وقد تحرر ، وبدلا من أن يرى هذا ويعيشه وبدلا من أن يحمل أمتعة أهله اللاجئين فيساعدهم في نقلها ، ازداد اختناقا ، وأخذ يتمنى لو ظل تحت الاحتلال ، فالعالم العربي سجن واسع . عبر الشاعر في هذه المرحلة عن ندمه للخروج وعن حنينه إلى حيفا والكرمل وأشجار السرو والصنوبر فيها ، ورأى أن كل عواصم الدنيا وكل خصور النساء لا تساوي شجرة من أشجار الكرمل ، وحين التقى في القاهرة بالشاعر راشد حسين سأله إن كان نادما لخروجه، فأجابه راشد
" واقف كلي مذلة
في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقا في سجون الناصرة " .
العالم العربي لكلا الشاعرين أضيق من حذاء طفل . إنه الزبد ، كما ورد في قصيدة " أحمد الزعتر "
" وتطردني ضفاف النيل مبتعدا
فأرى العواصم كلها زبدا " .
فيما أرى تحول الشاعر من شاعر مقاومة إلى شاعر ثورة ، وتعد قصيدته " أحمد الزعتر " أفضل مثال على هذا . إنها قصيدة في الفدائي الذي كتب له ، من قبل ، طوقان وعبد الرحيم محمود ، وهي قصيدة ذات بناء هندسي محكم .
في هذه المرحلة سيتواصل شعور الشاعر بالغربة في الوطن العربي وسيصل ، باختلافه مع ياسر عرفات وهجرته إلى باريس ، ذروته . وسيصبح وطن الشاعر قصيدته الجديدة ، فقد جاء من حلب ولا يعود إلى العراق ، وسقط الشمال ، وحين ذهب إلى مصر - مصر السادات - لم يجد فرسا وفرسانا وأسلمه الرحيل إلى الرحيل .
4 .
محمود درويش " المرحلة الرابعة" ( تونس وباريس ) .
أقام الشاعر في باريس وتونس ما بين 1982 و 1995، وأصدر خلال هذه الفترة المجموعات الآتية :
" ورد أقل " ( 1985 ) ، و " هي أغنية .. هي أغنية " ( 1986 ) و " أرى ما أريد " ( 1990 ) و " أحد عشر كوكبا " ( 1992 ) و " لماذا تركت الحصان وحيدا " ( 1995 ) .
والطريف أن أكثر قصائده في هذه المجموعات تكاد تخلو من الكتابة عن باريس وتونس ، فديواناه الأولان يستحضران ما تبع الخروج من بيروت في العام 1982 ، بل إنهما أحيانا يستحضران مشاهد من بيروت وما حدث للفلسطينيين في لبنان بعد خروج المقاومة منها مثل الحرب الأهلية الفلسطينية - الفلسطينية .
في هذه المرحلة اتسعت رقعة المنفى الفلسطيني وبدلا من أن يقترب الفلسطينيون من فلسطين ابتعدوا عنها ، وهكذا أخذت الكتابة عن المنفى تواصل حضورها في شعر الشاعر وبقوة ، وهذا يتضح في قصيدة " نزل على بحر " .
في ديوان " ورد أقل " يواصل الشاعر اهتمامه ببناء القصيدة ، فيكتب الديوان كله على غرار ال " سونيتة " . القصائد تسير على بحر واحد إلا واحدة ، وتتكون كل قصيدة من أسطر عشر ، ويختار الشاعر لكل قصيدة العبارة الأولى من السطر الأول عنوانا ، ويواصل درويش استحضار رموز دينية وثقافية انسانية ، ليعبر من خلالها عن مأساة الفلسطيني .
في " هي أغنية .. هي أغنية " يواصل أيضا هندسة قضائده وإثراءها بالرموز العالمية مثل ( اوديب ) و ( عوليس ) ومن شابههما ، ويكتب ايضا عن منفاه / منفى الفلسطيني الذي غدت عناوين أمكنته هي غرفة في حجرة العناية الفائقة ومتر مربع في السجن ومقعد في قطار . إنه المنفى الذي يتسع ، المنفى الذي طالت فيه نباتات البعيد ، وتزوج الفلسطيني فيه من غير أهل فلسطين .
في هذه الفترة كتب الشاعر قصيدة " عابرون في كلام عابر " وهي قصيدة تتخذ من انتفاضة 1987 محورا لها ، وقد أثارت ضجة كبيرة دفعت بيهود باريس إلى الاحتجاج على الشاعر ومطالبتهم بطرده من باريس .
ولا تختلف عن هذه القصيدة قصيدته في ماساة الهنود الحمر " خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الابيض " ، فالقصيدتان تقومان على ثنائية متشابهة هي شعب يبيد شعبا ويقيم على أنقاضه دولة له .
وسيستحضر الشاعر في هذه المرحلة الأندلس من جديد .
كانت مرحلة السلام قد بدأت ملامحها تبرز في الأفق ، فكتب الشاعر قصيدة " أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي " ولم يكن متفائلا من محادثات السلام التي بدأت .
وأشير هنا إلى أن الشاعر بدأ في هذه المرحلة يعيد كتابة قصائد قديمة كتابة جديدة . أبرز مثال على هذا قصيدته " شتاء ريتا الطويل " . إنها قصيدة تذكر قاريء أشعار الشاعر بقصيدة " ريتا والبندقية " .
ويبقى ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " .
كان درويش بدأ في هذه المرحلة يكتب قصائد يستحضر فيها مراحل زمنية عابرة " الأندلس ، زمن إبادة الهنود الحمر ، زمن المغول وتدمير بغداد " ، وهو استحضار كان له ما يبرره ، فما مر به الفلسطينيون وما مر به العراقيون في 1991 استدعى مثل هذا الاستحضار .
كانت القصيدة تعبر عما مضى وعما يجري الآن . إنها قناع . وتجربة درويش مع القناع بدت واضحة في قصيدته " رحلة المتنبي الى مصر " ( 1980 ) .
في هذا الديوان لا يكتب درويش عن اللحظة المعيشة فقط ، إنه يستحضر مراحل ولت ، مراحل عاشها هو ، ويستحضر أيضا شخصيات تراثية تشابهت تجربته فيها ، في مرحلة من مراحل حياته ، معها ( أبو فراس الحمداني ) ، كما إنه يكتب قصائد يتطابق فيها الزمنان الكتابي والمعيشي ، وتحديدا قصائد القسم الأخير من الديوان .
يستحضر الشاعر طفولته وهجرته مع أهله إلى لبنان في العام 1948 ، ويكتب عن حياته في حيفا ما بين 1960 و 1970 - هنا يستحضر أبا فراس الحمداني لتشابه التجربة ( راجع دراستي المطولة ) - ويستحضر شخصيات يهودية عرفها في 60 ق 20 ، ويسترجع من جديد شخصية امريء القيس التي كان من قبل قد استحضرها ليختلف معها . هنا أيضا يواصل درويش اختلافه مع امريء القيس ، لكن اختلافه معه هذه المرة ليس شعريا وإنما هو خلاف ، غير لغوي \ شعري . إنه خلاف سياسي . هذا الخلاف هو خلاف الشاعر - رمزيا - مع القيادة السياسية الفلسطينية - أي مع ياسر عرفات - ( راجع دراستي إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني .. محمود درويش نموذجا )
لعل اللافت في هذا الديوان هو أن الشاعر يصدر للمرة الأولى ديوانا شعريا مرة واحدة . إنه غدا يركز على وحدة الديوان ، وهي فكرة لاحظناها تبرز في ديوان " ورد أقل " مع اختلاف ، فالشاعر كان نشر قصائد " ورد أقل " قبل نشرها معا في كتاب .
5 -
المرحلة الخامسة ، وهي مرحلة أوسلو ( 1995 - 2000 ) .
أصدر الشاعر في هذه المرحلة ديوانه " سرير الغريبة " ( 1999 )، ومطولته " جدارية " ( 2000 )، وفيهما كتب الشاعر في موضوعات جديدة . كتب عن الحب ، وكتب عن الموت .
اختلفت هذه المرحلة عن بقيت المراحل ، ذلك أن الشاعر عاد إلى رام الله وزار حيفا والجليل ، واتخذ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي شكلا آخر هو شكل الصراع السلمي ، إن جاز هذا التعبير ، وقد أتيحت الفرصة للشاعر أن يجرب الخوض في موضوعات أخرى غير الموضوع الوطني ، وحين أصدر ديوانه " سرير الغريبة " تناولته بعض الأقلام بالنقد ، لأن الشاعر الذي غلب على شعره شعر القضية كتب في الحب ، وهذا ما لم يألفه هؤلاء ، إذ كانت قصائد الشاعر فيه قليلة وارتبطت بالسياسة والصراع غالبا .
وحتى موضوع الموت فقد اختلف ، ذلك أن الشاعر مر بهذه التجربة وظلم يكتب عن فقدان أصدقائه ورموز الثورة الفلسطينية من المناضلين .
وأشير هنا إلى مقالة ظبي خميس حول ديوان " سرير الغريبة " ، وذهابها فيه إلى أن درويش عاد شاعرا عاديا ، فلم تعد أشعار القضية التي اختلف عن غيره من خلالها ، تميزه ، وهذا مجرد اجتهاد منهاو.
ولكن درويش عد جدارية اختصارا لتجربته الشعرية كلها ، وحين سئل ماذا يقترح للقراء ليقرؤوا من أشعاره اقترح الجدارية .
6 -
المرحلة السادسة ، وهي المرحلة التي بدأت مع الانتفاضة ، وفيها أصدر الشاعر المجموعات الآتية:
" حالة حصار " ( 2002 ) و " لا تعتذر عما فعلت " ( 2003 ) و " كزهر اللوز أو..أبعد " ( 2005 ) و " أثر الفراشة " . ( 2006 ) .
عاد الشاعر في هذه المرحلة ليكتب في الموضوع الوطني ، وذلك لأن المناطق المحتلة شهدت الانتفاضة الثانية - انتفاضة الأقصى . وقد عبر عن سبب العودة إلى الكتابة في الموضوع الوطني وعدم مواصلة الكتابة في موضوع الحب بالأسطر الآتية من ديوان " حالة حصار " :
" كتبت عن الحب عشرين سطرا
فخيل لي
أن هذا الحصار
تراجع عشرين مترا " .
والعشرون سطرا عن الحب هي مجموعة " سرير الغريبة " ، وأما تراجع الحصار عشرين مترا فتعني الفترة ما بين 1994و 2000 - أي فترة السلام بعد اوسلو .
في هذه المجموعة ، مجموعة " حالة حصار " سيعيد الشاعر النظر في إشكالية الموضوع والشكل :
أيهما أهم الشكل الشعري أم الموضوع ؟وهي إشكالية ستظل تؤرق الشاعر ولن يفهمها أقرب المقربين إليه . ولن يفهمها جيدا إلا من عايش أشعار الشاعر لفترة طويلة وظل يتتبعها فيما يكتبه درويش .
في " حالة حصار " يكتب على لسان الشهيد بخصوص إشكالية الشكل / الموضوع .
" الشهيد يعلمني .. لا جمالي خارج حريتي "
وليت الذين منحوا جائزة الشاعر لزهير أبو شايب قرأوا درويش جيدا . حتى غسان زقطان المقرب من درويش لا يعرفه جيدا ( حول ديوان " حالة حصار " انظر دراستي محمود درويش في " حالة حصار ..العودة إلى الكتابة في الموضوع الفلسطيني " .
كانت سلمى الخضراء الجيوسي في مقدمة " موسوعة الادب الفلسطيني المعاصر " قد أتت على فكرة رآها بعض دارسي الأدب الفلسطيني ، وهي أن أكثر أدباء فلسطين ركزوا على الجانب الوطني في أشعارهم وأهملوا الموضوعات الأخرى ، ما جعل من الشعر الفلسطيني يسير في اتجاه واحد . ويبدو أن درويش أدرك هذا أو سمعه فحاول أن يخوض في موضوعات جديدة .
الديوان الذي كان الشاعر كتبه في الحب هو " عصافير بلا أجنحة " ( 1960) وهو ديوان ضعيف لم يعد يروق للشاعر ، وقصائده في الغزل ، وهي القصائد التي كتبها في المرأة اليهودية ، كانت قصائد حب سياسية ، ولأن الشاعر طاف في الدنيا وفي كتب الحب والغزل ، فقد آثر أن يكتب في هذا الموضوع الذي شغل الشعراء منذ الأزل ، وهكذا كتب " سرير الغريبة " (1999).
في " سرير الغريبة " ستختلف رموز الشاعر المستحضرة كليا . هنا سيستحضر " طوق الحمامة " و " جميل بثينة " و " قيس ليلى " وسيستحضر كتب الحب العالمية ( كومي سطرة ) ، وسيكتب شعرا يتخلى فيه عن الغنائية الحادة التي بدت في فصائده الوطنية .
هل هو مرض القلب أم هي التجربة ؟
أسئلة يثيرها الدارس وربما احتاج وقتا ليجيب عنها إجابة يطمئن لها .
وفي هذه الفترة سيجري درويش عملية القلب وسيتعرض لخطر الموت الذي سينجو منه ، وحين ينجو منه يكتب قصيدة عن الموت ، وهذا اختلاف آخر عن أشعاره الأولى .
كان الشاعر ، وهو في القاهرة وبيروت ، يكتب قصائد رثاء في أبطال المقاومة ، قياديين وفدائيين ، ومر بتجربة الموت مرورا عابرا فكتب قصيدة " حجرة العناية الفائقة " وأتى فيها على مرضه العابر ، لكنه في 1998 سيتعرض لمرض قد يودي به .
في " جدارية" يكتب درويش عن موته ونجاته هو ، وفي " جدارية " يلخص أشعاره كلها تقريبا . على الرغم من وجع القلب إلا أنه لم يتخل عما يوجع القلب . كتابة الشعر الغنائي ، هو آخر الشعراء الغنائيين .
في " حالة حصار " مقطوعات قصيرة تتناسب والحالة التي كان عليها إبان الحصار ، حالة القلق وعدم التركيز لكتابة قصيدة طويلة ذات بناء . إنه الآن في رام الله لا في باريس ، والأوضاع جد متازم ، وبالكاد يستطيع المرء فيها أن يلتقط أنفاسه ، ومن هنا غلبت المقطوعات القصيرة على القصائد التي كتبها في أثناء الحصار ونشره في الفترة نفسها بخلاف مطولته " مديح الظل العالي " التي لم شتات أجزائها ، لأنه أقام في باريس أو في تونس بعد الخروج من بيروت ، ولم ينشرها في اللحظة ذاتها .
في " حالة حصار " يكتب الشاعر عن اللحظة المعيشة . إنه لا يسترجع زمنا آخر أو أزمنة أخرى كما كان حاله في باريس حين كتب " أحد عشر كوكبا وخطبة الهندي الأحمر الأخيرة " .
ماذا سيكتب في فترة الحصار غير ما كتبه في " حالة حصار " ؟
ربما في عمان كتب الشاعر " لا تعتذر عما فعلت " سيستحضر في هذا الديوان فترة زيارته للمناطق المحتلة في العام 1948، حيث زارها بعد ربع قرن من الغياب عنها ، سيستحضر زيارته تلك ويكتب ديوانا شعريا في الوقوف على الأطلال . قصائد قصيرة إلى حد ما ، ولكنها مهمة في تجربته .
الشاعر الذي سخر في بداية حياته الشعرية من الشاعر امريء القيس لأن الأخير شغل نفسه بالمرأة والوقوف على الأطلال ، يقف في أشعاره على الاطلال . يا لمكر التاريخ وسخريته ! ها هو يسخر من الشاعر لا بلسانه هو ، بل من خلال جعل الشاعر يتناقض في آخر مراحله يتناقض مع نفسه .
وستغدو ظاهرة الوقوف على الأطلال في أشعار درويش لافتة . سيكتب " طللية البروة " و " على محطة قطار " . وستعدان من أجمل ما كتب ( حول القصيدتين راجع مقالتي في الأيام عن " طللية البروة " وعن ديوان " لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي " ) .
في هذه المرحلة ستختلف رموز درويش الشعرية إلى حد ما . حقا إنه يستحضر ( لوركا ) الذي كان تأثر بأشعاره في فترة مبكرة جدا ، إلا أنه يستحضر هنا أبا تمام ، وهكذا يصدر ديوانه
" لا تعتذر عما فعلت " بسطرين للوركا ولأبي تمام ، سطرين يتعلقان بالمكان والارتباط به .
"كم منزل في الارض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل " .
سيظل انحياز درويش الأزلي إلى مكانه الأول / الجليل وحيفا ، وحين يكتب بعد ثلاث سنوات كتابه النثري " في حضرة الغياب " سيتساءل غير مرة :
" لماذا نزلت عن الكرمل ؟ "
السؤال الذي لازمه طيلة حياته ، وبدا أوضح ما يكون في " محاولة رقم 7 " ( 1974 ) :
" أحب البلاد التي أحب
أحب النساء اللواتي أحب
ولكن غصنا واحدا من الكرمل الملتهب
يعادل كل خصور النساء
وكل العواصم " .
لمن سيعتذر الشاعر عما فعل ، عن الهجرة التي ارتكبها ؟
وفي هذه الفترة سيترك المكان تأثيره على صور الشاعر وتشابيهه . حين كان في الجليل كتب عن الزيتون " أوراق الزيتون " وحين أقام في رام الله كتب " كزهر اللوز أو .. أبعد " . الجليل يشتهر بزيتونه ومع أن الزيتون موجود أيضا في رام الله إلا أن شجر اللوز موجود بكثرة . لعل أشجار اللوز هي التي لفتت نظر درويش وسحرته في رام الله .
اللافت أن الشاعر الذي أقام في رام الله وعمان لم يكتب الكثير عنهما ، تماما كما في باريس ، فلم يخصص لهذه المدن مساحة كبيرة ، كما خصص لحيفا وعكا وبيروت .
لماذا ؟ ( حول هذا الديوان والمكان فيه انظر دراستي المنشورة في مجلة الأسوار / عكا ) .
ان راMessenger الله مدينة تبنى على عجل وان لا ماضي له فيها ، واما عمان ! فلعلها لم تكن أكثر من محطة طريق إلى العالم . ممر مجرد ممر لا أكثر ، ولم تعن له ما عنت له حيفا وبيروت ومدن تاريخية .
هل كتب الشاعر في عمان قصائد لافتة ؟ربما، ولكني لم أطلع عليها ، وحين أعثر عليها سأعود إليها وإلى هذه الكتابة ، لأعدل فيها .
أشار درويش إلى عمان في بعض المقابلات التي أجريت معه ، أشار إليها . كأنها لا تختلف عن رام الله " مدن تبنى على عجل
ولا ماضي لي فيها سواك "
والكلام موجه لسليمان النجاب .
حقا إنه نعت أهل عمان بالطييبين ، إلا أنه لم يؤسر بالمدينة .
في " أثر الفراشة " يكتب درويش قصائد موزونة وأخرى غير موزونة .
هل خفت قلب الشاعر / الشاعر الذي قال عن نفسه إنه آخر الشعراء الغنائيين ؟
ولانه لا يلتفت كثيرا إلى قصيدة النثر ، فقد كتب على غلاف " أثر الفراشة " دال يوميات . إنها يوميات ، لا قصائد ، علما بأن الكتاب يضم قصائد موزونة ظلت هي خياره الشعري .
في هذا الديوان يلتفت درويش من جديد إلى النقاد الذين أساء فهمهم من قبل . الأمر ليس كما كنت أعتقد ، فليست هناك مؤامرة ضدي من الجميع . هناك أحيانا سوء فهم ، وليس كل من كتب عني يغتالني . هم يسيئون تفسيري وأنا أشكرهم على سوء التفاهم وامضي إلى قصيدتي الجديدة .
( حول هذا انظر دراستي محمود درويش في جديده " أثر الفراشة " مواقع عديدة)ة)


***

40- محمود درويش و(يفتشنكو)

في قصيدته " الكلمة الأخيرة في الحوار " التي ظهرت في ديوان " يوميات جرح فلسطيني " الذي لم يشرف الشاعر على إصداره كتب محمود درويش التقديم الآتي :
" في أيلول الماضي ، التقيت لأول مرة بكاتب صحفي من ليبيا في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا في طشقند . كان ذلك الكاتب مركبا من الرجعية والكذب وعبادة الملك ، وعندما فوجئنا بالثورة الليبية في أيلول الجاري تذكرت ذلك الصحفي الذي شكل لقائي به مدخلا إلى ليبيا في هذه القصيدة .
وألفت نظر القاريء إلى أن إطلاق تعبير " نعم " و " لا " على الأشخاص في هذه القصيدة مستعار من تجارب شعراء آخرين أطلقوا هذا التعبير على أسماء أماكن " .
يخيل إلي أن الشاعر الذي استعار درويش التعبير منه هو ( يفجيني يفتوشنكو ) المولود في العام ١٩٣٣ ، وإن لم تخني الذاكرة فقد قرأت له قصيدة عن مدينة " نعم " ومدينة " لا " . عبثا نجحت جهودي أمس في العثور على ديوانه الذي كان في مكتبتي .
من من قراء الشعر السوفيتي يتذكر قصيدته ؟
وبخصوص " المرأة العجوز التي تنتظر ابنها الشهيد " لنقرأ الأسطر الآتية للشاعرة السوفيتية ( سيلفا كابو تكيان ) المولودة في العام ١٩١٩ :
" في أول الطريق امرأة عجوز تنتظر ،
وحيدة على الباب تنتظر ،
محنية القامة في صبر تنتظر ،
ويرحل الأبناء ... يرحلون " .

( المرجع ٥٠ قصيدة سوفياتية ، دار الآداب ١٩٧٣ ، ترجمة ماهر عسل وأبو بكر يوسف ) .
هل أقول الحق على كارول سماحة أم على فتحي البس أم على الفيس بوك ؟
شو رأي محمد مو حجيري المهتم بالموضوع ؟
صباح الخير
خربشات
١٠ / ٣ / ٢٠٢٣ .





==============================

1- أتذكر السياب
2- ظلال الشاعر: محمود درويش وإلياس خوري
3- شتـاء ريتـا الطـويـل...
4- عكا ودرويش وأنا!..
5- يا شاعري محمود.. وداعاً
6- امتياز دياب ومحمود درويش: "ميلاد الكلمات" ٢٠١٩
7- أدب العائدين: حيرة العائد/ محمود درويش ثانية..
8- أحلام مستغانمي ومحمود درويش
9- محمود درويش والسجن
10- صورة الفنان في شبابه: محمود درويش كما صوره معين بسيسو

***

11- محمود درويش .. امرؤ القيس والمتنبي وأبو فراس "في ذكرى ميلاده"
12- شتـات: كل ما كان منفى
13- محمود درويش: مفهوم جديد للبطولة
14- سقط الحصان عن القصيدة سقط القطار عن الخريطة
15- سقط الحصان عن القصيدة (2) صهيل الخيول على السفح
16- طللية البروة... طللية الوطن
17- "لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد"
18- هل قرأ الشاعر محمود درويش القاصة سميرة عزام؟
19- محمود درويش والقدس وسؤال المجندة
20- القدس ثانية… وماذا بعد؟… ماذا بعد؟

***

21 - صدق فراشاتنا… لا تصدق فراشاتنا..
22- إشكالية القراءة ... إشكالية النص قراءة في سطر شعري لمحمود درويش
23- حسن خضر ومقالات درويش في "اليوم السابع"
24- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الأول
25- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الثاني
26- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الثالث
27- رنا قباني ومحمود درويش.. القسم الرابع
28- زياد عبد الفتاح: "محمود درويش... صاقل الماس"
29- هوامش لنهاية العام
30- العودة إلى قراءات محمود درويش

=================

31- محمود درويش و ( بابلو نيرودا ) :
32- حزيران.. واتساع رقعة المنفى محمود درويش في نزل على بحر
33- قصيدة نزل على بحر محمود درويش
34- محمود درويش و( نيتشة) وتمجيد الحياة فوق الأرض
35- محمود درويش ونيتشة:
36- محمود درويش و زرادشت ونيتشة
37- في ذكرى محمود درويش: تناسل ريتا في رواية "على شواطئ الترحال"
38- "صورة الفنان في شبابه: محمود درويش كما صوره معين بسيسو"
39- محمود درويش ومراحله الشعرية : ( المقالة كاملة )
40- محمود درويش و(يفتشنكو)

***

41- كارول سماحة ومحمود درويش و " ستنتهي الحرب"
42- العـرس الفلسطيـنـي: والدة الشهيد التي تنتظر ابنها
43- ستنتهي الحرب وقد ينتهي النقاش: برتولد بريخت أم محمود درويش؟
44- ستنتهي الحرب: "والله يا أمي إني أكره الحرب"
45- الحرب والانتظار في الأدب السوفيتي: وحدة الأدب العالمي.
46- إشكالية الشاعر والسياسي في الأدب الفلسطيني: محمود درويش نموذجاً (ملف/6)
47- تخليص الشعر مما ليس شعراً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...