د. أحمد الحطاب - بين نزعة الخير ونزعة الشر، مسافةٌ قصيرةٌ

مفردة "نزعة" تعني : ميلٌ أو استعدادٌ طبيعي أو مكتسب إلى إظهار سلوك ما أو إلى القيام بعملٍ ما أو تصرُّفٍ ما. فعندما تكون النزعة طبيعيةً، فالسلوك أوالعمل يكونان فطريين. وإذا كانت النَّزعةُ مكتسبةً، فهذا معناه أن الشخصَ النازِعَ إلى شيء ما، يتصرف تحت تأثير الظروف المحيطة به. وقد تختلط النزعةُ الطبيعيةُ بالمُكتسبة، قيصبح الشخصُ متأرجِحا بين ما هو خيرٌ وبين ما هو شرٌّ. فإذا كانت كفَّة ميزانِ الشخص تميل إلى الخيرُ، فهذا هو الوضعُ المرغوب فيه إنسانيا، اجتماعيا، ثقافيا وأخلاقيا. وإذا مالت كفَّةُ الميزان إلى الشر، فهذا شيءٌ مذموم إنسانيا، اجتماعيا، ثقافيا وأخلاقيا. وهذا هو ما أشار إليه اللهُ سبحانه وتعالى في سورة البقرة، الآية 286 : "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ…"، بمعنى أن النفسَ البشريةَ، إن مالت للخير، فهو كسبٌ طيِّب لها، وإن مالت إلى الشر، فهو اكتسابٌ سيئ عليها، أي تتحمَّل مسئوليتَه.

أما المقصود هنا بالشر هو السوء والإساءة والضلال والفساد… وبصفة عامة، الشر هو سوء الأخلاق والسلوك والعمل بل الشر هو كل ما من شأنه أن يُسيءَ للفرد نفسِه وللغير من سلوك وفعل وعمل. أو كل ما ينتُج عن البشر من سلبيات على مستوى التَّفكير والسلوك. ولا داعيَ للقول أن الشرَّ قد يُولِّد عند الآخر المُعاناة والألمَ والتَّعاسة والكآبة وانعدام السعادة. و الشر، في عصرنا هذا، آفةٌ اجتماعية غالبا ما تنتصر على الخير بغزوها للبلاد ولأخلاق و ضمائر العباد. بل إن كل ما يتسبَّبُ فيه البشر، من خلال تفكيرهم، من تشويه وإخلالٍ بنظام الكون والطبيعة، هو شر. والجهل، إن أخلَّ بحياة الغير، فهو شر. وقد أقول إن "الشرَّ شَرٌّ لا بد منه"، بمعنى أن اقترافَ شرٍّ، يدفع الناسَ المُخلَّقين إلى التفكير في مختلف أنواع الخير لمواجهتِه وتجاوزه وتغليب هذا الخير عليه. وقد لا أبالغ إذا قلتُ إن تساكنَ الخير والشر في الحياة اليومية للناس أمرٌ لا مفرَّ منه ما دامت ميولاتُ هؤلاء الناس تتأرجح بين هذين الخير والشر. وهذا التَّساكنُ يمكن تبريرُه بوجود "وجهِ خيرٍ" وضده. مثلا : عدلٌ وضدُّه ظلمٌ، نورٌ أو علمٌ وضدُّه جهلٌ أو ظلام وجمالٌ وضدُّه قُبحٌ وتسامح وضدُّه تعصُّب ونفعٌ وضدُّه ضررٌ وخُبثٌ وضده طيب وبؤسٌ وضذُّه سعادةٌ… وهذا يعني أن الحياةَ صراع أو تنافسٌ أو تضَادٌّ بين الخير والشر.

عيرَ أن ما نلاحِظه، في عالمِنا اليوم، هو أن نزعة الشر، بجميع أشكاله، ظاهرة اجتماعية آخذة في الانتشار في المجتمعات البشرية. وهذا الانتشارُ أدى إلى تنوُّع الشرور شكلاً ومضمونا. فقد يتَّخذ هذا الشر شكلَ حروبٍ أو عدوان أوغزوٍ أو احتلال أو ظلمٍ أو كذبٍ أو نفاقٍ أو سلبٍ للحقوق أو معاداةٍ لفظيةٍ أو هتكٍ للأعراض والشرف أو سبٍّ أو شتمٍ أو تآمرٍ او قتلٍ… وإذا أردنا أن نكون واقعيين، الكل مشترِك في تغلغل آفة الشر وانتشارها في المجتمع. لماذا؟ لأن الخيرَ والشرَّ من أنتاج البشر. والبشرُ متساكِنون ومتعايِشزن في مجتمع واحدٍ. فما عليهم إلا أن يسعوا إلى تضافر جهودهم لتغليبِ الخير على الشر علما أنه، إذا صلُحت المجتمعات، صلح أبناءها. وصلاح المجتمعات من صلاح مؤسساتها بجميع أشكالها وعلى رأسها المؤسسات السياسية والمؤسسات التربوية.

وأهم حلقة في المؤسسات السياسية هي الأحزاب السياسية إذ من رَحِمها تخرج و تُدار المؤسسات. غيرَ أن ما تجدر الإشارةُ إليه هو أن هناك فرقا كبيرأ بين أحزاب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات وأحزاب ما بعد هذه الفترات. أتحدى أيا كان أن يذكر اسم حزب واحد له مواصفات المواطنة وحب الوطن والصالح العام وتكوين المواطن سياسيا واجتماعيا وثقافيا. أتحدى أيا كان أن يذكرَ اسم حزب واحد له من الرجالات شخصيات مثل بوعبيد، بن بركة، علال الفاسي، بوستة، علي يعتة، بن جلون، المهدي المنجرة...

إن الأحزاب لها دور كبير في تفشي نزعة الشر بتسابقها إلى الكراسي والمناصب وضرب عرض الحائط كل القيم التي هي فعلا مناهضة لنزعة الشر. فعوضَ أن تنشرَ الخير، فإن هذه الأحزاب أصبحت أهمَّ ناشرٍ للشر باختلاف أنواعه. فعوضَ أن تكونَ قياداتُها نزيهة، مستقيمة وناكِرة للذات، فهي منافقة، كاذبة وكذَّابة، متملِّقة، جَشِعَةٌ، أنانية، مفترسة، خادعة وخدَّاعة… أهناك شرورٌ أكثر من هذه الشرورِ ضرراً وأذىً للمواطنين؟ فكيف لا تحدو فئة من الناس حدوَ هذه الأحزاب للوصول إلى مآربهم ولو كانت غير مشروعة، بحكم أن الأحزاب نفسَها، لا تحترم المشروعية. فكيف للناس أن يحترموها؟ بل إن هؤلاء الناس تصبح عندهم نزعةُ الشر مطيةً لبلوغ أهداف دنيئة.

وهنا، أتذكر، وبكل فخر، أنني عندما كنتُ طالبا بكلية العلوم بالرباط في أواسط الستينيات، استفدتُ وتعلمتُ كثيرا من انخراطي في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب UNEM المنتمي آنذاك للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إذ كان حقا وحقيقةً مدرسةً في المواطنة والسياسة الهادفة والنبيلة وفي تكوين المواطن فيما يخص حقوقه و واجباته.

أما اليوم، إن الأحزاب السياسيةَ أصبحتْ مدارسَ للنفاق والتملق والتحريف والطغيان والدسائس… أحزابُنا السياسية، اليوم، تجسيدٌ أمينٌ للشر بجميع تجلِّياتِه. فبسلوكها هذا تسيء للوطن والمواطنين. وهذا، في حدِّ ذاتِه ضررٌ متناقضٌ مع المهمة الني أُنشئت من أجلها الأحزابُ السياسيةُ ألا وهي نفعُ البلاد والعباد.

أما المؤسسة التربوية، فإنها أصبحتْ تضاهي الأحزاب السياسية في الفشل في أداء مهامها. إذا لم تكن الأحزاب السياسية هي السباقة في الغيرة على منظومتها التربوية، بحكم أنها أهم ركيزة لتكوين المواطن الصالح في مجتمع صالح، فلا يُرجى منها أي خير! والمؤسسةُ التَّربوية، إذا لم تنتفع منها البلاد والعباد، فهي شرٌّ عليهما معا. والمتعلِّم، إذا لم يحترم مؤسَّستَه والقائمين عليها تربويا وإداريا، فهو شرٌّ على هذه المؤسسة وعلى المجتمع. وهذا وضعٌ أصبح شائعا في الوسط المدرسي إذ لم تعد مقولة أحمد شوقي : "قف للمعلِّمِ وفِّه التَّتجيلا، كاد العلِّمُ أن يكونَ رسولا"، أيةَ قيمة لا معنوية ولا أخلاقية. والمدرِّسُ الذي لم يُخلِص في أذاء مهمَّتِه التعليمية والتَّربوية، فهو كذلك شرٌّ على مؤسستِه ومجتمعه. والسياسيون (برلمانيون و وزراء) إذا لم يُساهموا في تطوير وتجويدِ أداء المنظومة التَّربوية، فهم شَرٌّ على البلاد والعباد.

والأسرة هي الأخرى، إذا لم تُعزٍّز دورَها التَّربوي بتكامُلٍ مع المدرسة، فهي شرٌّ على فلدات أكبادٍها وعلى مستقبل البلاد.

وباختصارٍ شديد، ما أودُّ ان أُثيرَ انتباهَ القارئ له هو أن أكبرَ واقبح شرٍّ اقترفته البشريةُ في حقِّ نفسِها هو تغيُّرُ المناخ الذي هو أخطر من جميغ الشرور التي، إن عَظُمت، تكون تداعياتُها محدودةً في الزمان والمكان. بينما شَرُّ تغيُّر المناخ يهدِّد الحياة وقد يقضي عليها إن عاجلا أو آجلا.

وأختم وأقول : الفرد ابن بيئته. إذا فسدت المؤسسات، فسد الفرد. وإذا فسد السواد الأعظم من الأفراد، فسد المجتمع. وهو الوضع الذي نعيشه حاليا. أن تنتشر نزعة الشر، فلا غرابة. لا أريد أن أغوصَ في التربية الدينية إذ لم يعد لها مكان لا في الأسر ولا في المدرسة إلا من رحم ربِّي. والفسادُ مرادفٌ للشرٍّ، بل إنه شرٌّ في حدِّ ذاتِه نخرَ البلادَ والعبادَ وأفرزَ أجيالاً لم يعد في مخزونها الثقافي والقِيمي إلا مفاهيم من قِيَل : المحسوبية والزبونية و"باك صاحبي"و"دْهْنْ السّيرْ إسِيرْ" و"لِما عندو سيدو، عندو للاه" و"أعلى ما فْخَيلْكْ ركبو" و"واش عرفتِ شكون أنا" و"إيوَا عْرَفْ راسْكْ مع من"...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...