مقدمة
هذه رحلة تأمل عبر عالم نجيب محفوظ. ليست رحلة متصلة مكتملة، ولكنها - بالضرورة - رحلة متقطعة، تتطلع دائمًا إلى الكمال.
ذلك أنها تواكب عالم نجيب محفوظ، في مراحله المتعددة المتطورة، تقف مع كل مرحلة، تتأمل وتتوقع ثم تنتظر. وتبدأ مرحلة جديدة، فتتحرك معها، تتأمل وتتوقع ثم تنتظر. وتبدأ مرحلة ثالثة، وهكذا .. حتى تنتهي رحلة الكتاب وما انتهت بعد الرحلة في عالم نجيب محفوظ. لأنه عالم ما اكتملت بعد معالمه الأخيرة، وإن تكاملت قدراته الفنية رؤيته الاجتماعية والفلسفية .. ولكنه - برغم هذا وبفضل هذا - مازال نهرًا يتدفق دائمًا بالجديد مع تجدد الحياة من حوله .. من حولنا.
والكتاب فصول سبق نشر أغلبها خلال السنوات الخمس الماضية، وإن كان واحد منها يرجع إلى أبعد من عشر سنوات. ولهذا تكاد أغلب الفصول أن تكون وقفات متتالية عند آخر كل مرحلة من مراحل عالم نجيب محفوظ الذي لا يتوقف أبدًا.
ولقد كدت أن أغير هذا. فاجعل من الفصول وحدة متصلة. فلا أذكر مثلاً في بعض الفصول أن هذه دراسة لآخر رواياته أو قصصه، أو أضيف تمهيدًا بين فصل وآخر. ولكني آثرت أن أستبقيها - كما هي - تأريخًا لهذه المتابعة النقدية لعالم نجيب محفوظ في حركته المتصلة.
والكتاب يبدأ برأي في المعمار الفني عامة، كان في الحقيقة مدخلاً لدراسة شاملة للرواية العربية، بدأتها - بعد هذا المدخل المنهجي - بروايات نجيب محفوظ. ولكني للأسف لم أتمكن حتى الآن، من مواصلتها في الرواية العربية عامة.
ولقد رأيت أن احتفظ بهذا المدخل المنهجي في هذا الكتاب تمهيدًا ضروريًا لدراستي للمعمار الفني في روايات نجيب محفوظ.
ولقد كدت أن أجعل لهذا الكتاب عنوانًا رئيسيًّا هو "المعمار الفني للرواية العربية" ثم أجعل له عنوانًا فرعيًا هو "المعمار الفني للرواية عند نجيب محفوظ" ولكني تبينت أنني بهذا ألتزم بوعد قد لا أتمكن من الوفاء به. فضلاً عن أن هذا الكتاب لا يقف عند حدود روايات نجيب محفوظ، بل يمتد كذلك إلى قصصه ومسرحياته. بل قد يخرج في بعض فصوله عن حدود المعمار الفني، ليقف في المحل الأول عند الأعماق الاجتماعية والفلسفية.
إنه في الحقيقة معايشة فنية وفكرية لأدب نجيب محفوظ في أشكاله وأعماقه المختلفة.
وهو - كما ذكرت في البداية - رحلة تأمل، ما تزال تتطلع إلى الكمال. ما يزال تنتظر فصولاً جديدة تضاف إلى فصوله الأخيرة مع كل عمل جديد يبدعه نجيب محفوظ.
على أني أكاد أحس بعد هذه المعايشة الطويلة، أن الملامح الأساسية لعالم نجيب محفوظ قد اكتملت.
ليس هذا حكمًا عليه بالجمود. لا .. فما أشد تنوع هذا العالم، وما أشد خصوبته، وما أعمق تجدده المتصل.
ولكنه في الحقيقة عالم متجانس، منذ أول نبضة في أول عمل، حتى آخر أعماله التي لم تنشر بعد، بل - في تقديري - لم تكتب بعد.
هناك محاور وثوابت وهياكل أساسية، يتحرك بها هذا العالم، مهما تجددت، ونمت، وتطورت، وتعمقت، فكرًا أو منهجًا أو أسلوبًا، فهي تحتضن رؤيا إنسانية وفنية واحدة، متكاملة، رغم تطورها المتصل منذ البداية حتى تلك النهاية التي ما تزال تنتظرها سنوات عديدة مديدة من الإبداع العميق الممتع.
إن دقات القدر التي سمعناها في أول رواياته "عبث الأقدار" التي صدرت عام 1938، نعود فنسمعها في قصة "كلمة غير مفهومة" في مجموعته القصصية قبل الأخيرة "خمارة القط الأسود" التي صدرت عام 1968. نبوءة هناك، وحلم هنا، لكن النتيجة واحدة هي انتصار القدر الغريب مهما صارعناه وتحديناه.
والمصادفات في عالم نجيب محفوظ نجدها منذ أولى رواياته حتى آخر قصصه ورواياته ومسرحياته. مهما تنوعت دلالتها. لا نجدها خللاً أو ضعفًا أو ركاكة في البناء الفني، بل نجدها تعبيرًا محكمًا عن نظام شامل محكم، عن حتمية تمسك بالتفاصيل الجزئية وتحركها في إطار من الضرورة الكلية.
والإحساس بالزمن، يتنفس في أعماله جميعًا من أولها حتى آخرها ... قد يكون أحيانًا إحساسًا بتاريخ محدد، وقد يكون أحيانًا أخرى إحساسًا بزمن اجتماعي متحرك، وقد يكون أحيانًا ثالثة إحساسًا بزمن إنساني عام. ومن هذا الإحساس بالزمن ينبع الإحساس بالتطور المتصل في أعماله جميعًا. وقد يكون التطور مجرد تعبير عن الاتجاه التاريخي الزمني، وقد يكون تعبيرًا عن عمق اجتماعي، وقد يكون تعبيرًا عن فعل تاريخي. وقد يقف به عند حدود الوصف التاريخي، وقد يتحرك به إلى التحليل التاريخي والتفسير التاريخي، وقد ينطلق به إلى التغيير التاريخي، إلى المشاركة التاريخية.
وخلال هذا كله، لا يكون أبدًا تاريخًا معلقًا في فراغ. بل هو تاريخ متداخل مع الجغرافيا الأرضية والكونية. بين الطبيعة والنفس، بين الطبيعة والنفس والمجتمع الطبيعة والنفس والمجتمع والعصر. بين الخاص والعام، بين الجزئي والكلي، يقوم رباط دائم، وصدام دائم في عالم نجيب محفوظ.
تبرز أعماق النفس الفردية بكل متناقضاتها، وتصطدم هذه النفس الفردية بالمجتمع بكل متناقضاته، وتصطدم النفس والمجتمع مع العصر بكل متناقضاته. ويصطدم هذا كله بمصائر وأقدار أكبر.
ولذا فنحن في هذا العالم نتحرك بين نفوس، وطبقات ومقتضيات عامة لعصر كامل، نتحرك بفعل النزوة أو بفعل التأمل، أو بفعل التمرد، أو الفعل الوطني، أو الفعل الاجتماعي، أو الفعل التاريخي، دون أن نترك الأرض والطبيعة والكون والأقدار الغامضة.
وتتفجر القيم والمواقف والأحداث المختلفة.
قد يتوازى بعضها وقد يتوازن، فتسود الثنائية، ثنائية القدر والقانون العلمي، ثنائية الإيمان والعلم المادي، ثنائية القلب والعقل، ثنائية النظام والتمرد، الشر والخير ... ويدور صراع بينهما ثم يسود التوازن أو يرف قلق غامض يبحث عن تركيب يجمع بين النقيضين. وقد يدور الصراع ثم لا يبلغ توازنًا بل ينفجر في تمرد حاد أعمى، أو ثورة واعية مستنيرة.
وتتعدد لهذا وسائل التعبير عن ذلك كله. فهي الوصف والتحليل والتعليل الذي يقف بنا أحيانًا عند حدود التسجيل، وقد يغوض بنا أحيانًا أخرى داخل النفس، داخل المجتمع، أو يرف بنا في سماوات الشعر والحكمة، وقد يصبح شكل التعبير تنمية ذات اتجاه واحد لحركة الأحداث، أو توازيًا أو توازنًا وثنائية بين اتجاهين، وقد يصبح تشابكًا بين اتجاهات مختلفة، في رواياته وقصصه القصيرة، في مراحلها المتعددة، التاريخية والاجتماعية والفلسفة والاجتماعية الجديدة، وقد يتفجر أخيرًا في حوار مسرحي.
قد يتسلح بالمونولوج الداخلي، أو الوصف الخارجي، أو بازدواجية التعبير عن الداخل والخارج في آن واحد، بين الأنا والآخر في آن واحد، بين أنا الأعماق، وأنا الوجه في آن واحد، وقد تتعدد الأنحاء والزوايا في الرؤيا الواحدة.
ولهذا يتجسد التعبير في لغة متنوعة. وهي تارة مثقلة بالرصانة والوقار، وهي تارة أخرى ترتدي الأقنعة الرمزية الشفافة، وهي تارة ثالثة تنبض بحرارة الشعر، وهي تارة رابعة تحتضن الرصانة والحرارة معًا، وتتدفق في رحلة ملحمية، أو حوار مسرحي.
ويتجسد هذا كله كذلك في شخصيات ونماذج تتنوع وتختلف أحوالها النفسية، وأوضاعها الاجتماعية، ومواقفها الوطنية، وأبعادها الفكرية. قد تؤلف في مجموعها وتفاصيلها، في حركاتها ووقفاتها، تاريخ مصر الوطني والاجتماعي، تاريخها الوجداني والفكري على السوء، وقد تؤلف في مجموعها وتفاصيلها تأريخًا لعصر، ملامح للإنسان في عصر عالم واحد، يخطط له مبدعه، تخطيطًا ذكيًّا واعيًا مقتدرًا، وإن لم يفتقر إلى عفوية الخلق الفني، وحلاوة الإبداع الرفيع.
عالم واحد، ولكنه ليس عالمًا جامدًا. لأنه عالم الإنسان، عالم يزخر بالصدق والتناقض والاحتدام والحركة.
عالم واحد، لا يتوقف أبدًا، بحثًا عن الحقيقة، حقيقة الإنسان، بحثًا عن الحرية والكرامة والعدالة والمحبة والتقدم والسلام، ونضالاً شريفًا من أجل انتصارها. لست أغالي إن قلت، أن أدب نجيب محفوظ هو أرفع صورة متكاملة ديناميكية نابضة لأديب عربي معاصر، يمتزج فيها المفكر بالعالم بالشاعر بالمناضل امتزاجًا خلاقًا.
وهذه الصفحات، ليست إلا بعض تأملات العالم الخصب الرحب، قد يخطئ بعضها، وقد يصيب. ولهذا فهي ليست إلا مجرد تأملات.
كل قيمتها أنها تأملات في عالم القيم الإنسانية التي يعبر عنها أدب نجيب محفوظ بصدق وأمانة وجدية. ولا أضيف بها شيئًا جديدًا، أكثر مما أضافه ويضيفه هذا الأدب إلى وجداننا أنها بعض ما يلهمه وما أكثر ما يلهم.
لعلي اجترأت بهذه التأملات، فحاولت أن أكشف بعض أسرار الجمال، بعض أسرار الحكمة، بعض أسرار الهموم الإنسانية في عالم نجيب محفوظ. وحاولت أن أوضح منهجًا علميًّا في النقد الأدبي ما أكثر ما حاولت الإساءة إليه أقلام غير منصفة.
وإذا استطاعت هذه التأملات أن تحقق بعضًا من هذا تكون قد بلغت غايتها، ولكنها ستظل مجرد تأملات متواضعة على هامش هذا العالم الفني الإنساني المتجدد أبدًا، عالم نجيب محفوظ.
مجمود امين العالم
يناير 1970
هذه رحلة تأمل عبر عالم نجيب محفوظ. ليست رحلة متصلة مكتملة، ولكنها - بالضرورة - رحلة متقطعة، تتطلع دائمًا إلى الكمال.
ذلك أنها تواكب عالم نجيب محفوظ، في مراحله المتعددة المتطورة، تقف مع كل مرحلة، تتأمل وتتوقع ثم تنتظر. وتبدأ مرحلة جديدة، فتتحرك معها، تتأمل وتتوقع ثم تنتظر. وتبدأ مرحلة ثالثة، وهكذا .. حتى تنتهي رحلة الكتاب وما انتهت بعد الرحلة في عالم نجيب محفوظ. لأنه عالم ما اكتملت بعد معالمه الأخيرة، وإن تكاملت قدراته الفنية رؤيته الاجتماعية والفلسفية .. ولكنه - برغم هذا وبفضل هذا - مازال نهرًا يتدفق دائمًا بالجديد مع تجدد الحياة من حوله .. من حولنا.
والكتاب فصول سبق نشر أغلبها خلال السنوات الخمس الماضية، وإن كان واحد منها يرجع إلى أبعد من عشر سنوات. ولهذا تكاد أغلب الفصول أن تكون وقفات متتالية عند آخر كل مرحلة من مراحل عالم نجيب محفوظ الذي لا يتوقف أبدًا.
ولقد كدت أن أغير هذا. فاجعل من الفصول وحدة متصلة. فلا أذكر مثلاً في بعض الفصول أن هذه دراسة لآخر رواياته أو قصصه، أو أضيف تمهيدًا بين فصل وآخر. ولكني آثرت أن أستبقيها - كما هي - تأريخًا لهذه المتابعة النقدية لعالم نجيب محفوظ في حركته المتصلة.
والكتاب يبدأ برأي في المعمار الفني عامة، كان في الحقيقة مدخلاً لدراسة شاملة للرواية العربية، بدأتها - بعد هذا المدخل المنهجي - بروايات نجيب محفوظ. ولكني للأسف لم أتمكن حتى الآن، من مواصلتها في الرواية العربية عامة.
ولقد رأيت أن احتفظ بهذا المدخل المنهجي في هذا الكتاب تمهيدًا ضروريًا لدراستي للمعمار الفني في روايات نجيب محفوظ.
ولقد كدت أن أجعل لهذا الكتاب عنوانًا رئيسيًّا هو "المعمار الفني للرواية العربية" ثم أجعل له عنوانًا فرعيًا هو "المعمار الفني للرواية عند نجيب محفوظ" ولكني تبينت أنني بهذا ألتزم بوعد قد لا أتمكن من الوفاء به. فضلاً عن أن هذا الكتاب لا يقف عند حدود روايات نجيب محفوظ، بل يمتد كذلك إلى قصصه ومسرحياته. بل قد يخرج في بعض فصوله عن حدود المعمار الفني، ليقف في المحل الأول عند الأعماق الاجتماعية والفلسفية.
إنه في الحقيقة معايشة فنية وفكرية لأدب نجيب محفوظ في أشكاله وأعماقه المختلفة.
وهو - كما ذكرت في البداية - رحلة تأمل، ما تزال تتطلع إلى الكمال. ما يزال تنتظر فصولاً جديدة تضاف إلى فصوله الأخيرة مع كل عمل جديد يبدعه نجيب محفوظ.
على أني أكاد أحس بعد هذه المعايشة الطويلة، أن الملامح الأساسية لعالم نجيب محفوظ قد اكتملت.
ليس هذا حكمًا عليه بالجمود. لا .. فما أشد تنوع هذا العالم، وما أشد خصوبته، وما أعمق تجدده المتصل.
ولكنه في الحقيقة عالم متجانس، منذ أول نبضة في أول عمل، حتى آخر أعماله التي لم تنشر بعد، بل - في تقديري - لم تكتب بعد.
هناك محاور وثوابت وهياكل أساسية، يتحرك بها هذا العالم، مهما تجددت، ونمت، وتطورت، وتعمقت، فكرًا أو منهجًا أو أسلوبًا، فهي تحتضن رؤيا إنسانية وفنية واحدة، متكاملة، رغم تطورها المتصل منذ البداية حتى تلك النهاية التي ما تزال تنتظرها سنوات عديدة مديدة من الإبداع العميق الممتع.
إن دقات القدر التي سمعناها في أول رواياته "عبث الأقدار" التي صدرت عام 1938، نعود فنسمعها في قصة "كلمة غير مفهومة" في مجموعته القصصية قبل الأخيرة "خمارة القط الأسود" التي صدرت عام 1968. نبوءة هناك، وحلم هنا، لكن النتيجة واحدة هي انتصار القدر الغريب مهما صارعناه وتحديناه.
والمصادفات في عالم نجيب محفوظ نجدها منذ أولى رواياته حتى آخر قصصه ورواياته ومسرحياته. مهما تنوعت دلالتها. لا نجدها خللاً أو ضعفًا أو ركاكة في البناء الفني، بل نجدها تعبيرًا محكمًا عن نظام شامل محكم، عن حتمية تمسك بالتفاصيل الجزئية وتحركها في إطار من الضرورة الكلية.
والإحساس بالزمن، يتنفس في أعماله جميعًا من أولها حتى آخرها ... قد يكون أحيانًا إحساسًا بتاريخ محدد، وقد يكون أحيانًا أخرى إحساسًا بزمن اجتماعي متحرك، وقد يكون أحيانًا ثالثة إحساسًا بزمن إنساني عام. ومن هذا الإحساس بالزمن ينبع الإحساس بالتطور المتصل في أعماله جميعًا. وقد يكون التطور مجرد تعبير عن الاتجاه التاريخي الزمني، وقد يكون تعبيرًا عن عمق اجتماعي، وقد يكون تعبيرًا عن فعل تاريخي. وقد يقف به عند حدود الوصف التاريخي، وقد يتحرك به إلى التحليل التاريخي والتفسير التاريخي، وقد ينطلق به إلى التغيير التاريخي، إلى المشاركة التاريخية.
وخلال هذا كله، لا يكون أبدًا تاريخًا معلقًا في فراغ. بل هو تاريخ متداخل مع الجغرافيا الأرضية والكونية. بين الطبيعة والنفس، بين الطبيعة والنفس والمجتمع الطبيعة والنفس والمجتمع والعصر. بين الخاص والعام، بين الجزئي والكلي، يقوم رباط دائم، وصدام دائم في عالم نجيب محفوظ.
تبرز أعماق النفس الفردية بكل متناقضاتها، وتصطدم هذه النفس الفردية بالمجتمع بكل متناقضاته، وتصطدم النفس والمجتمع مع العصر بكل متناقضاته. ويصطدم هذا كله بمصائر وأقدار أكبر.
ولذا فنحن في هذا العالم نتحرك بين نفوس، وطبقات ومقتضيات عامة لعصر كامل، نتحرك بفعل النزوة أو بفعل التأمل، أو بفعل التمرد، أو الفعل الوطني، أو الفعل الاجتماعي، أو الفعل التاريخي، دون أن نترك الأرض والطبيعة والكون والأقدار الغامضة.
وتتفجر القيم والمواقف والأحداث المختلفة.
قد يتوازى بعضها وقد يتوازن، فتسود الثنائية، ثنائية القدر والقانون العلمي، ثنائية الإيمان والعلم المادي، ثنائية القلب والعقل، ثنائية النظام والتمرد، الشر والخير ... ويدور صراع بينهما ثم يسود التوازن أو يرف قلق غامض يبحث عن تركيب يجمع بين النقيضين. وقد يدور الصراع ثم لا يبلغ توازنًا بل ينفجر في تمرد حاد أعمى، أو ثورة واعية مستنيرة.
وتتعدد لهذا وسائل التعبير عن ذلك كله. فهي الوصف والتحليل والتعليل الذي يقف بنا أحيانًا عند حدود التسجيل، وقد يغوض بنا أحيانًا أخرى داخل النفس، داخل المجتمع، أو يرف بنا في سماوات الشعر والحكمة، وقد يصبح شكل التعبير تنمية ذات اتجاه واحد لحركة الأحداث، أو توازيًا أو توازنًا وثنائية بين اتجاهين، وقد يصبح تشابكًا بين اتجاهات مختلفة، في رواياته وقصصه القصيرة، في مراحلها المتعددة، التاريخية والاجتماعية والفلسفة والاجتماعية الجديدة، وقد يتفجر أخيرًا في حوار مسرحي.
قد يتسلح بالمونولوج الداخلي، أو الوصف الخارجي، أو بازدواجية التعبير عن الداخل والخارج في آن واحد، بين الأنا والآخر في آن واحد، بين أنا الأعماق، وأنا الوجه في آن واحد، وقد تتعدد الأنحاء والزوايا في الرؤيا الواحدة.
ولهذا يتجسد التعبير في لغة متنوعة. وهي تارة مثقلة بالرصانة والوقار، وهي تارة أخرى ترتدي الأقنعة الرمزية الشفافة، وهي تارة ثالثة تنبض بحرارة الشعر، وهي تارة رابعة تحتضن الرصانة والحرارة معًا، وتتدفق في رحلة ملحمية، أو حوار مسرحي.
ويتجسد هذا كله كذلك في شخصيات ونماذج تتنوع وتختلف أحوالها النفسية، وأوضاعها الاجتماعية، ومواقفها الوطنية، وأبعادها الفكرية. قد تؤلف في مجموعها وتفاصيلها، في حركاتها ووقفاتها، تاريخ مصر الوطني والاجتماعي، تاريخها الوجداني والفكري على السوء، وقد تؤلف في مجموعها وتفاصيلها تأريخًا لعصر، ملامح للإنسان في عصر عالم واحد، يخطط له مبدعه، تخطيطًا ذكيًّا واعيًا مقتدرًا، وإن لم يفتقر إلى عفوية الخلق الفني، وحلاوة الإبداع الرفيع.
عالم واحد، ولكنه ليس عالمًا جامدًا. لأنه عالم الإنسان، عالم يزخر بالصدق والتناقض والاحتدام والحركة.
عالم واحد، لا يتوقف أبدًا، بحثًا عن الحقيقة، حقيقة الإنسان، بحثًا عن الحرية والكرامة والعدالة والمحبة والتقدم والسلام، ونضالاً شريفًا من أجل انتصارها. لست أغالي إن قلت، أن أدب نجيب محفوظ هو أرفع صورة متكاملة ديناميكية نابضة لأديب عربي معاصر، يمتزج فيها المفكر بالعالم بالشاعر بالمناضل امتزاجًا خلاقًا.
وهذه الصفحات، ليست إلا بعض تأملات العالم الخصب الرحب، قد يخطئ بعضها، وقد يصيب. ولهذا فهي ليست إلا مجرد تأملات.
كل قيمتها أنها تأملات في عالم القيم الإنسانية التي يعبر عنها أدب نجيب محفوظ بصدق وأمانة وجدية. ولا أضيف بها شيئًا جديدًا، أكثر مما أضافه ويضيفه هذا الأدب إلى وجداننا أنها بعض ما يلهمه وما أكثر ما يلهم.
لعلي اجترأت بهذه التأملات، فحاولت أن أكشف بعض أسرار الجمال، بعض أسرار الحكمة، بعض أسرار الهموم الإنسانية في عالم نجيب محفوظ. وحاولت أن أوضح منهجًا علميًّا في النقد الأدبي ما أكثر ما حاولت الإساءة إليه أقلام غير منصفة.
وإذا استطاعت هذه التأملات أن تحقق بعضًا من هذا تكون قد بلغت غايتها، ولكنها ستظل مجرد تأملات متواضعة على هامش هذا العالم الفني الإنساني المتجدد أبدًا، عالم نجيب محفوظ.
مجمود امين العالم
يناير 1970