أهدى المبدع زخات صور قاتمة اللون معتمة الآفاق ، وهو يرتشف الغربة ، يتتاءب الغبن في كوؤس غصص حارقة ، حيث تتكاثف الشجون ، يتعمق الأسى تنثر المرارة سخطا وتبرما ، تلعن الحروب وويلاتها .
روح الشاعرتصدع صبرها ، لا تكف تئن من الأرزاء ، دوما عطشى للحق للحرية للعز والكرامة للإنسانية الحقة ، تهيم بحثا عن السكينة والتصالح مع الذات ، فيظل القلب معلقا بالرجاء البعيد ، وأنى له ذلك ؟ لايملك غير أن يحصد شظايا الآهات والخيبات وكل
الأوجاع.
فالوطن مسقط الرأس ، مثوى الآباء ، رمز الإنماء نبض الفؤاد ، ديدن الحياةة، وكل الثراء والنعماء ، لا بديل له ، وحده يملك جمال الكون وأمكنته لاتبلى ، تظل مدلاة على عروش دوحة الحياة وتقسيم الذاكرة ، هو واحة لا تصفر أبدا نحتت بالفطرة في
تلافيف القلب ، مهما تنحت دياره تظل قلاعه وصروحه شامخة، يجترها الفكر يناجيها الحنين بل يناغي منزل الصبا
ومواطن الأهل ويطرز أذيالها المخيال ، حالما بتراب لا يتكرر وبسماء شمسها الأكثر
ضياء وتألقا .
بعد الشاعرعن شهباء الياسمين أتعبه أضناه أرق مضجعه ، فتمدد الحزن بكل أرجاء نفسه ، وضاقت عليه الدنيا برحابتها ، وكاد القلب في الصدر يحتضر .
فالغربة حتما عسيرة من أشد النوازل ، ليلها سهاد ، مضجعها شائك ، ودمعها حارق ، سقته مرارة خانقة ، تنخر الروح و تهشم الكيان ، إذ لم يسعه إلا أن استسلم لبشاعة الواقع ، وصبر على مضض يعتصر الألم فؤاده ، يتجرع الغصص دفعات يحاصره
الشتات وتعصف به مشاعر الشوق المتقد خاصة بعد أن تداعت كل الآمال،وتراكمت الإخفاقات وانفرط العقد الثمين ، فأنفق العمر في المهجر هباء ، لاسند ولا نصير .
وأجمل ما في القصيد أنه عنون بالسوري ، فعمم المبدع وأسدل مشاعره على كل سوري احترق حنينا و اشتياقا ، كتب عليه البعاد عن بلد الياسمين إلى منفى قصي.
مجيدة السّباعي .
المغرب
* قصيدة ( السّوري ) ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين
تهدّمت في دمي شموس ضحكتي
وتقصّفت أنجم أحلامي
وتهاوت أشجار أيامي
على أحجار غصّتي النّائحة
براكين موت تفجّرت بأوطاني
دم ينزف من الياسمين
وصراخ أسود يحلّقُ من فوقنا
الأرض لا تعرف أين تختبئ
السّماء لاذت بالظلام
والماء صار يتسوّل عصير الملح
ياالله
كم قاتل يبحثُ عنّي ؟!
كم سكّيناً يشتهي خاصرتي ؟!
وكم مسدّساً يشتاقُ ليتصيّدني ؟!
وما أنا إلاّ مواطن
فقدتُ على الأبواب كلّ الحقوق
تنكّر لي بيتي
وأوصدَ بوجهي بابه
وتخلّى فراشي عن عظامي
وطاردتني أزقّة الحارة
حتّى المدينة
اقتلعت خطايَ من جذورها
ورمتني الدّروب بحجارة الغربة
أقفُ تحت شرفات العدم
أناجي سراب النّار
لا جهة تسمح لي بالتقدّم
لا اختناق يمرّر لي تشرّدي
حاصرني انهزامي
طوّقتني خيبتي
وسخرت منّي العواصم
وحده
البرد يحتضن رعشتي
والجّوع يسلبني قامتي
والقبر تمتدُّ يده نحوي
أشفقَ على جنسيّتي
من أيّ أمة أنا ياالله
العرب تنكّروا لحرفِ الضّاد
وكلُّ البلدان
سيّجت حدودها بالكراهية
وبالحقدِ السّحيق .*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
--------------------------------------------
** (( تلابيب الرجاء)) ..
للشاعر والأديب السوري مصطفى الحاج حسين ..
( قراءة من المغرب الأقصى لشلال جمال متدفق)
بقلم الكاتبة : مجيدة السّباعي .
ألف تحية وسلام لهذا الدفق الشعري العذب السلسبيل، لهذه النوتات السحرية ، والمعزوفات الأنيقة المبهرة ذات الجمال الخرافي، المتدفّقة بهاءً والمنهمرة سحراً والمذهلة صدقاً، لشاعر قديراستثنائي، ضليع في الحرف العربي الجميل، جادَ به الزمان مرّة واحدة وعزّ بمثله، ارتشف رحيق الإبداع الخالد حتّى النخاع ، وتربع مزهواً عرش الإبداع الشعري، إنه الأديب مصطفى الحاج حسين ، فكيف يا ترى سيخشى النزال؟ وهو يحلق مهاجراً على صهوة السحاب بأجنحة سناء في فضاءات بديعة ، يتأرجح على هودج القصيد المذهل؟!!!
يقول في قصيدته (( مملكة النّدى )) التي بثها في هذا الديوان :
وتكشّفَ رمادُ النّدى
في بحّةِ الآنداءِ السّقيمةِ
الجرحُ يتلظّى بملحِ المرارةِ
الأرضُ تثغو لنارِ الخيبةِ
في ارتجافِ غربةِ المعنى
يرتطمُ بي حائطُ الوقتِ
يسألني عن عمرِ التَّنهيدةِ
يجيبُ عنِّي السّدى السَّرمدي
غبارُ الذّكرياتِ يدقُّ لي
أعمدةَ السَّديمِ
لأعلّقَ عليها جثثَ المسافاتِ
القاتمةِ
في فضاءِ صمتي
تتآمرُ عليَّ الظُّنونُ
تريدُ أحشاءَ ينابيعي
ينكروني الماءُ الموّزعُ
على عشبِ لهاثي
حينَ يقطرُ خراباً
فوقَ وميضِ اشتهائي
أسابقُ أجنحةَ الهاويةِ
أعدو صوبَ تِلالِ الغيومِ
لي شفقٌ هناكَ
سأدثّرُهُ بأعطافِ هواجسي
وأزيلُ الموتَ عن يباسِ الضُّحى
أضحكُ من قهرٍ تخلّصتُ منه
ومن صحراءِ الجنون .
نعم بسخاء حاتميّ أهدى ديوانه، فجاء جميل القسمات شفيفاً ثريّاً بقصائد حبلىٰ بالبهاء، مضمّخة بشذىٰ الياسمين، موشّاة بمسك الليل حالمة بلون الجلنار، ثملة بهمسات لا كالهمسات، بل تغار منها كلّ الهمسات .
ويقول في قصيدة هي ملحمة من ملاحم الهمسات العذبة المؤلمة في آنٍ معاص :
(( عبّأتْ جيوبَ الليلِ بالهمساتِ
وأهدَتْ نوافذَ القلبِ
الدّفءَ والحنان
وَزَّعَتْ في صحراءِ الوحشةِ
شتائلَ الأملِ والزّعفرانِ
وصارتِ الأيّامُ تبتسمُ
ما عادَ للشّكوى مكان
ولا عادتِ الوحدةُ ترثي نفسَها
أخذتْ كلّ السّهوبِ
سرقَتْ كلّ الدّروبِ
واستحوذتْ على كنوزِ الينابيع
وباعَتْكَ برخصِ الكلامِ
صارتْ تتوارى خلفَ الأعذار
وما عادَ عندَكَ سماءٌ لتحلِّقَ فيها
ولا أرضٌ لتمشيَ عليها
رَمَتْ قصائدَكَ إلى الهاويةِ
صارَتْ تملكُ أجنحةً
من نسيجِ أصابعِكَ
لتحلِّقَ فوقَ جثّتِكَ
وترفرفَ بفجورٍ )).
فقد حمّلها همومه وهواجسه ، وترنّم بها لكلّ الدنيا، لمّا تعمق به الألم ،وتمدّد على كل مساحات روحه ، وعصفت به مشاعر الأسىٰ ،فحاكها بتفانٍ وطرّزها بحذق وزخرفها بكلّ تفنّن، مذهلة تلوك الوجع ، وتضمّد ندوب الزمن وأعطاب القدر، وتسطّر نبض الحياة بإصرار واستنكار لواقع طافح بالأسىٰ ومكتظّ بالألم ، بها نحت سحر اللقاء الواعد كنور الفجر شكله متوهّجاً مزغرداً
لقد ناغىٰ وترَ حروف أرهقها الصدق والتعلّق بتحليق مجنون إلى متخيّل ثمل، فانقادت له طيّعة تعزف على تلافيف قلب مهشّم، وديعة تحلم بالعودة إلى ياسمين حلب ، لكنّها منكهة بطعم الخيبة والألم ، فغنّىٰ بها وطنا يعشقه حدَّ الهذيان وذكرىٰ تحاصره أينما ارتحل ، زفرات روح تحترق أضناها الشوق ، وحنينا لا يكفّ يجترّه مرّاً، بها يلملم شظايا الروح ، ويعدّ آهات الوجع ويرشّ الجمال على مسامات القصيد، كلّما دقّ النبض واستنشق الحياة وتملّىٰ بالنور، فلايسعه إلاّ أن يضمّد بها الندوب ، ويمسح بها دمع ليل حارقاً لما يفيض القلب وتتأجّج المشاعر، لكن لا يغفل أن يعبّئَ القلب بشموس آمال لا تنطفئ ، ويزرع سنابل رجاء متواصل لغد قريب مشرق وفجر متدفّق، فمن تمسك بحياة يرسمها الإصرار، بالجدور بالأرض بالتراب، ورأى الوطن كلَّ الوجود والباقي عدماً صقيعاً ،استحقّ الحياة وطاب له الكفاح ، وأثمرت له المساعي .
قصائد كلّ هذا الديوان ملحمية ’ فلا تكادُ تقفُ عندَ قصيدةٍ إلّا وتحكي لكَ ألفَ رواية ورواية ’ بلغةٍ شعريّةٍ أخّاذة ’ يلخّصُ فيها مأساةَ حكايةَ وطنٍ ورواية عُمْرٍ ’ يقول في قصيدة ( وصيّة ) :
(( سيضحكُ الدّربُ أخيراً
حينَ تَتَلقّفُهُ خطواتي
سيجنّ غبارُ اشتياقي
وتتنفَّسُ أحجارُ الطَّريقِ
بعدَ انتظارٍ خانقٍ
شَابَتْ منهُ النَّسماتُ
وَتَوَجَّعَ قلبُ السّرابِ
ستستقبلني التّعرُّجاتُ بالشّذى
وتهمسُ لي المنعطفاتُ
تُعْرِبُ عن ترحابِ العُشْبِ
الأرضُ تذرفُ حنينَها
وتبتلُّ غصّةُ الأشجارِ بالندى
وسينزاحُ الهمُّ عَنِ السّماءِ
حيثُ الشَّمسُ تغتسلُ
بعدَ كربةٍ من احتقانٍ
وستحملني العصافيرُ
تَهَبُ لي أجنحَتَها
لتسابقَ قلبي الفراشاتُ
ويكونُ الهواءُ موسيقا
وتَتَبَادلُ السّحبُ البيضاءُ
التّهنئةَ
تزغردُ أوجاعُ الأفقِ
وأنا أحتضنُ التُّرابَ
سأبكي عندَ البوَّابةِ
وأصافحُ دَبيبَ الحياةِ
مدينةَ أنفاسي
سأعودُ
وإن كانَ دمي مسجّى
وإن كانتْ روحي تالفةٌ
نَخَرَهَا الاشتياقُ
لو كنْتُ حفنةَ رمادٍ
أوصيكُم أن تذروني
\من ذروةِ قَلعَتِكِ
يا حلب . ))
بالله عليكم ’ أليستْ هذه القصيدة ملحمة مختزلة مكثّفة لمدينته التي عشقها
ويتناغم باسمها وهو في غربته ؟.
إنها استراحة روحية لحروف ملحمية تلج سويداء القلب ، فتهزّ الكيان وتوقظ الحسّ ، تبزغ بجمال متفرّد، تطلع قمرا يطلّ وسط الدياجير، ترفل تتبخترتهمس ولكن لا تحاكــــىٰ ، إنها ليست عادية البتّة ، إذا قرأتها تحفظها كالعهد وتقرأها بإحساس قوي ، لكن
كلما ارتويت منها يتضاعف العطش فتستزيد وتستكثر .
مجيدة السباعي
المغرب .
--------------------------------------------
** ( فشّة خلق)
للأديب السّوري ( مصطفى الحاج حسين )..
/// بقلم النّاقدة والأديبة مجيدة السّباعي.
على ناصية حروف عبقة من مخمل بهي سرّج القاص الفذ ( مصطفى الحاج حسين ) قصصه القصيرة بعذوبة منقطعة النظير ، سطر بها عصارة آلام مستضعفين كثر ، سقوا كؤوس قدر مريرة أسقاما وخيبات وانكسارا . اختار القصة القصيرة فناً رائقا ممتعاً مسلّياً يتوجّه مباشرة للإنسان ،
يجوب مكامن الأسى يخاطب النبض والعقل والوجدان ، مرآة تعكس حياة الناس فيراها المتلقي مصقولة تبين ما يجرّون من صخورٍ موجعة ثقال ، سئموها حد القرف ، بها ترجم دفين طيات نفوسهم ،ولخص أعمق أفكارهم ، وطرح أبعد طموحهم ، وجسّد أجمل أحلامهم . وظّف قصصه هذه سرداً نثرياً يجمع بين الحقيقة والخيال ، فناً راسخاً واعياً عميقاً مركزاً مذهلاً ، يحتفي باليومي وبكل تفاصيله ، تنصهر خلاله الذّات بالمجتمع ، وبكلّ إشكالياته وكأنّه نقد فني للواقع الإجتماعي ، مرّر به رسائل دالة وبثّ أقصى قناعاته داعياً للمساواة والحقّ ودفع الظلم والطغيان ، يهدي به قصصاً مثقلة
بالأوجاع ، كلّ شخصية تحمل بين طيّاتها خبايا حياة شائكة وانفعالات خاصة ، كيف لا ؟ فالإبداع لا يتشكل إلا من رحم المعاناة ، حقق ذاك بأسلوب منمق وسرد آسر ولغة أنيقة وفصاحة مميزة ، تندس إلى العقل بيسر ومرونة وذكاء . هو كاتب من العيار الثقيل ، متضلّع في الحرف العربي الجميل قدير الحرف جميله ،يركب سفين القص و الخيال فيستشفّ أغوار المواقف العميقة ، ويقتنّص المفارقات الدّقيقة التي تحمل شحنات انفعالية ، تحرّك النّاس و الحياة ، فيمنح السّرد قوّة وحيويّة مذهلة ، فلا يسع
الشّخصية إلّا أن تحكي عن نفسها بنفسها ، وتطرز الأحداث وتلونها بألوان قزحية وأيضاً تسدل عليها تأويلات لا تنتهي ، بغية أن ينحت انطباع حقيقي في نفس المتلقي المتذوق ، وبه يجني عبير الموعظة وشهد المتعة ووحدة الإنطباع . يزن مبدعنا جمله بميزان الذّهب يقتصدها فلا يرهلها ، وبها يجسد صوراً بصرية دقيقة موازية للواقع المعاش ولدروب المكان ، فيأتي سحر الحدث والمكان متناغماً ملتحماً وكأنهما واحد ، هنا يؤجّج الدّهشة والتّشويق بحرفية واقتدار و خاصة عند القفلة التي تذهل بإيجازها وإضمارها تصدم بما حبلت به من مفاجآت غير منتظرة , إذا فتحت مزلاج قصصه منحت بسخاء آثاراً معرفية ووعياً اجتماعياً ينسيك مكانك ويمنحك لذّة قراءة لا متناهية ، فتحسبه عاش وسط أبطاله ، وانصهر في تفاصيل حياتهم ، وقاسمهم الأسى دفعات ، فتقرأها وتعود ثانية كمن يتفقد عبق الحبق بعد يباسه . أما لغته وعاء إبداعه جعلها ترتبط بالفكرة وبالإيحاء والإشارة لا بالوصف ، ضمنها كل آليات القص المتين والحرف العتيد ، رؤى وجماليات متعددة الأبعاد ودلالات مذهلة
آسرة ، و في غمرة سكرات الألم رسم أبواب عدة تفضي للأمل العريض . هنا نستحضر قولة زكي مبارك المأثورة : ( إن الحياة هي كتاب الأديب ، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة ، وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود . )
مجيدة السباعي
المغرب.
روح الشاعرتصدع صبرها ، لا تكف تئن من الأرزاء ، دوما عطشى للحق للحرية للعز والكرامة للإنسانية الحقة ، تهيم بحثا عن السكينة والتصالح مع الذات ، فيظل القلب معلقا بالرجاء البعيد ، وأنى له ذلك ؟ لايملك غير أن يحصد شظايا الآهات والخيبات وكل
الأوجاع.
فالوطن مسقط الرأس ، مثوى الآباء ، رمز الإنماء نبض الفؤاد ، ديدن الحياةة، وكل الثراء والنعماء ، لا بديل له ، وحده يملك جمال الكون وأمكنته لاتبلى ، تظل مدلاة على عروش دوحة الحياة وتقسيم الذاكرة ، هو واحة لا تصفر أبدا نحتت بالفطرة في
تلافيف القلب ، مهما تنحت دياره تظل قلاعه وصروحه شامخة، يجترها الفكر يناجيها الحنين بل يناغي منزل الصبا
ومواطن الأهل ويطرز أذيالها المخيال ، حالما بتراب لا يتكرر وبسماء شمسها الأكثر
ضياء وتألقا .
بعد الشاعرعن شهباء الياسمين أتعبه أضناه أرق مضجعه ، فتمدد الحزن بكل أرجاء نفسه ، وضاقت عليه الدنيا برحابتها ، وكاد القلب في الصدر يحتضر .
فالغربة حتما عسيرة من أشد النوازل ، ليلها سهاد ، مضجعها شائك ، ودمعها حارق ، سقته مرارة خانقة ، تنخر الروح و تهشم الكيان ، إذ لم يسعه إلا أن استسلم لبشاعة الواقع ، وصبر على مضض يعتصر الألم فؤاده ، يتجرع الغصص دفعات يحاصره
الشتات وتعصف به مشاعر الشوق المتقد خاصة بعد أن تداعت كل الآمال،وتراكمت الإخفاقات وانفرط العقد الثمين ، فأنفق العمر في المهجر هباء ، لاسند ولا نصير .
وأجمل ما في القصيد أنه عنون بالسوري ، فعمم المبدع وأسدل مشاعره على كل سوري احترق حنينا و اشتياقا ، كتب عليه البعاد عن بلد الياسمين إلى منفى قصي.
مجيدة السّباعي .
المغرب
* قصيدة ( السّوري ) ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين
تهدّمت في دمي شموس ضحكتي
وتقصّفت أنجم أحلامي
وتهاوت أشجار أيامي
على أحجار غصّتي النّائحة
براكين موت تفجّرت بأوطاني
دم ينزف من الياسمين
وصراخ أسود يحلّقُ من فوقنا
الأرض لا تعرف أين تختبئ
السّماء لاذت بالظلام
والماء صار يتسوّل عصير الملح
ياالله
كم قاتل يبحثُ عنّي ؟!
كم سكّيناً يشتهي خاصرتي ؟!
وكم مسدّساً يشتاقُ ليتصيّدني ؟!
وما أنا إلاّ مواطن
فقدتُ على الأبواب كلّ الحقوق
تنكّر لي بيتي
وأوصدَ بوجهي بابه
وتخلّى فراشي عن عظامي
وطاردتني أزقّة الحارة
حتّى المدينة
اقتلعت خطايَ من جذورها
ورمتني الدّروب بحجارة الغربة
أقفُ تحت شرفات العدم
أناجي سراب النّار
لا جهة تسمح لي بالتقدّم
لا اختناق يمرّر لي تشرّدي
حاصرني انهزامي
طوّقتني خيبتي
وسخرت منّي العواصم
وحده
البرد يحتضن رعشتي
والجّوع يسلبني قامتي
والقبر تمتدُّ يده نحوي
أشفقَ على جنسيّتي
من أيّ أمة أنا ياالله
العرب تنكّروا لحرفِ الضّاد
وكلُّ البلدان
سيّجت حدودها بالكراهية
وبالحقدِ السّحيق .*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
--------------------------------------------
** (( تلابيب الرجاء)) ..
للشاعر والأديب السوري مصطفى الحاج حسين ..
( قراءة من المغرب الأقصى لشلال جمال متدفق)
بقلم الكاتبة : مجيدة السّباعي .
ألف تحية وسلام لهذا الدفق الشعري العذب السلسبيل، لهذه النوتات السحرية ، والمعزوفات الأنيقة المبهرة ذات الجمال الخرافي، المتدفّقة بهاءً والمنهمرة سحراً والمذهلة صدقاً، لشاعر قديراستثنائي، ضليع في الحرف العربي الجميل، جادَ به الزمان مرّة واحدة وعزّ بمثله، ارتشف رحيق الإبداع الخالد حتّى النخاع ، وتربع مزهواً عرش الإبداع الشعري، إنه الأديب مصطفى الحاج حسين ، فكيف يا ترى سيخشى النزال؟ وهو يحلق مهاجراً على صهوة السحاب بأجنحة سناء في فضاءات بديعة ، يتأرجح على هودج القصيد المذهل؟!!!
يقول في قصيدته (( مملكة النّدى )) التي بثها في هذا الديوان :
وتكشّفَ رمادُ النّدى
في بحّةِ الآنداءِ السّقيمةِ
الجرحُ يتلظّى بملحِ المرارةِ
الأرضُ تثغو لنارِ الخيبةِ
في ارتجافِ غربةِ المعنى
يرتطمُ بي حائطُ الوقتِ
يسألني عن عمرِ التَّنهيدةِ
يجيبُ عنِّي السّدى السَّرمدي
غبارُ الذّكرياتِ يدقُّ لي
أعمدةَ السَّديمِ
لأعلّقَ عليها جثثَ المسافاتِ
القاتمةِ
في فضاءِ صمتي
تتآمرُ عليَّ الظُّنونُ
تريدُ أحشاءَ ينابيعي
ينكروني الماءُ الموّزعُ
على عشبِ لهاثي
حينَ يقطرُ خراباً
فوقَ وميضِ اشتهائي
أسابقُ أجنحةَ الهاويةِ
أعدو صوبَ تِلالِ الغيومِ
لي شفقٌ هناكَ
سأدثّرُهُ بأعطافِ هواجسي
وأزيلُ الموتَ عن يباسِ الضُّحى
أضحكُ من قهرٍ تخلّصتُ منه
ومن صحراءِ الجنون .
نعم بسخاء حاتميّ أهدى ديوانه، فجاء جميل القسمات شفيفاً ثريّاً بقصائد حبلىٰ بالبهاء، مضمّخة بشذىٰ الياسمين، موشّاة بمسك الليل حالمة بلون الجلنار، ثملة بهمسات لا كالهمسات، بل تغار منها كلّ الهمسات .
ويقول في قصيدة هي ملحمة من ملاحم الهمسات العذبة المؤلمة في آنٍ معاص :
(( عبّأتْ جيوبَ الليلِ بالهمساتِ
وأهدَتْ نوافذَ القلبِ
الدّفءَ والحنان
وَزَّعَتْ في صحراءِ الوحشةِ
شتائلَ الأملِ والزّعفرانِ
وصارتِ الأيّامُ تبتسمُ
ما عادَ للشّكوى مكان
ولا عادتِ الوحدةُ ترثي نفسَها
أخذتْ كلّ السّهوبِ
سرقَتْ كلّ الدّروبِ
واستحوذتْ على كنوزِ الينابيع
وباعَتْكَ برخصِ الكلامِ
صارتْ تتوارى خلفَ الأعذار
وما عادَ عندَكَ سماءٌ لتحلِّقَ فيها
ولا أرضٌ لتمشيَ عليها
رَمَتْ قصائدَكَ إلى الهاويةِ
صارَتْ تملكُ أجنحةً
من نسيجِ أصابعِكَ
لتحلِّقَ فوقَ جثّتِكَ
وترفرفَ بفجورٍ )).
فقد حمّلها همومه وهواجسه ، وترنّم بها لكلّ الدنيا، لمّا تعمق به الألم ،وتمدّد على كل مساحات روحه ، وعصفت به مشاعر الأسىٰ ،فحاكها بتفانٍ وطرّزها بحذق وزخرفها بكلّ تفنّن، مذهلة تلوك الوجع ، وتضمّد ندوب الزمن وأعطاب القدر، وتسطّر نبض الحياة بإصرار واستنكار لواقع طافح بالأسىٰ ومكتظّ بالألم ، بها نحت سحر اللقاء الواعد كنور الفجر شكله متوهّجاً مزغرداً
لقد ناغىٰ وترَ حروف أرهقها الصدق والتعلّق بتحليق مجنون إلى متخيّل ثمل، فانقادت له طيّعة تعزف على تلافيف قلب مهشّم، وديعة تحلم بالعودة إلى ياسمين حلب ، لكنّها منكهة بطعم الخيبة والألم ، فغنّىٰ بها وطنا يعشقه حدَّ الهذيان وذكرىٰ تحاصره أينما ارتحل ، زفرات روح تحترق أضناها الشوق ، وحنينا لا يكفّ يجترّه مرّاً، بها يلملم شظايا الروح ، ويعدّ آهات الوجع ويرشّ الجمال على مسامات القصيد، كلّما دقّ النبض واستنشق الحياة وتملّىٰ بالنور، فلايسعه إلاّ أن يضمّد بها الندوب ، ويمسح بها دمع ليل حارقاً لما يفيض القلب وتتأجّج المشاعر، لكن لا يغفل أن يعبّئَ القلب بشموس آمال لا تنطفئ ، ويزرع سنابل رجاء متواصل لغد قريب مشرق وفجر متدفّق، فمن تمسك بحياة يرسمها الإصرار، بالجدور بالأرض بالتراب، ورأى الوطن كلَّ الوجود والباقي عدماً صقيعاً ،استحقّ الحياة وطاب له الكفاح ، وأثمرت له المساعي .
قصائد كلّ هذا الديوان ملحمية ’ فلا تكادُ تقفُ عندَ قصيدةٍ إلّا وتحكي لكَ ألفَ رواية ورواية ’ بلغةٍ شعريّةٍ أخّاذة ’ يلخّصُ فيها مأساةَ حكايةَ وطنٍ ورواية عُمْرٍ ’ يقول في قصيدة ( وصيّة ) :
(( سيضحكُ الدّربُ أخيراً
حينَ تَتَلقّفُهُ خطواتي
سيجنّ غبارُ اشتياقي
وتتنفَّسُ أحجارُ الطَّريقِ
بعدَ انتظارٍ خانقٍ
شَابَتْ منهُ النَّسماتُ
وَتَوَجَّعَ قلبُ السّرابِ
ستستقبلني التّعرُّجاتُ بالشّذى
وتهمسُ لي المنعطفاتُ
تُعْرِبُ عن ترحابِ العُشْبِ
الأرضُ تذرفُ حنينَها
وتبتلُّ غصّةُ الأشجارِ بالندى
وسينزاحُ الهمُّ عَنِ السّماءِ
حيثُ الشَّمسُ تغتسلُ
بعدَ كربةٍ من احتقانٍ
وستحملني العصافيرُ
تَهَبُ لي أجنحَتَها
لتسابقَ قلبي الفراشاتُ
ويكونُ الهواءُ موسيقا
وتَتَبَادلُ السّحبُ البيضاءُ
التّهنئةَ
تزغردُ أوجاعُ الأفقِ
وأنا أحتضنُ التُّرابَ
سأبكي عندَ البوَّابةِ
وأصافحُ دَبيبَ الحياةِ
مدينةَ أنفاسي
سأعودُ
وإن كانَ دمي مسجّى
وإن كانتْ روحي تالفةٌ
نَخَرَهَا الاشتياقُ
لو كنْتُ حفنةَ رمادٍ
أوصيكُم أن تذروني
\من ذروةِ قَلعَتِكِ
يا حلب . ))
بالله عليكم ’ أليستْ هذه القصيدة ملحمة مختزلة مكثّفة لمدينته التي عشقها
ويتناغم باسمها وهو في غربته ؟.
إنها استراحة روحية لحروف ملحمية تلج سويداء القلب ، فتهزّ الكيان وتوقظ الحسّ ، تبزغ بجمال متفرّد، تطلع قمرا يطلّ وسط الدياجير، ترفل تتبخترتهمس ولكن لا تحاكــــىٰ ، إنها ليست عادية البتّة ، إذا قرأتها تحفظها كالعهد وتقرأها بإحساس قوي ، لكن
كلما ارتويت منها يتضاعف العطش فتستزيد وتستكثر .
مجيدة السباعي
المغرب .
--------------------------------------------
** ( فشّة خلق)
للأديب السّوري ( مصطفى الحاج حسين )..
/// بقلم النّاقدة والأديبة مجيدة السّباعي.
على ناصية حروف عبقة من مخمل بهي سرّج القاص الفذ ( مصطفى الحاج حسين ) قصصه القصيرة بعذوبة منقطعة النظير ، سطر بها عصارة آلام مستضعفين كثر ، سقوا كؤوس قدر مريرة أسقاما وخيبات وانكسارا . اختار القصة القصيرة فناً رائقا ممتعاً مسلّياً يتوجّه مباشرة للإنسان ،
يجوب مكامن الأسى يخاطب النبض والعقل والوجدان ، مرآة تعكس حياة الناس فيراها المتلقي مصقولة تبين ما يجرّون من صخورٍ موجعة ثقال ، سئموها حد القرف ، بها ترجم دفين طيات نفوسهم ،ولخص أعمق أفكارهم ، وطرح أبعد طموحهم ، وجسّد أجمل أحلامهم . وظّف قصصه هذه سرداً نثرياً يجمع بين الحقيقة والخيال ، فناً راسخاً واعياً عميقاً مركزاً مذهلاً ، يحتفي باليومي وبكل تفاصيله ، تنصهر خلاله الذّات بالمجتمع ، وبكلّ إشكالياته وكأنّه نقد فني للواقع الإجتماعي ، مرّر به رسائل دالة وبثّ أقصى قناعاته داعياً للمساواة والحقّ ودفع الظلم والطغيان ، يهدي به قصصاً مثقلة
بالأوجاع ، كلّ شخصية تحمل بين طيّاتها خبايا حياة شائكة وانفعالات خاصة ، كيف لا ؟ فالإبداع لا يتشكل إلا من رحم المعاناة ، حقق ذاك بأسلوب منمق وسرد آسر ولغة أنيقة وفصاحة مميزة ، تندس إلى العقل بيسر ومرونة وذكاء . هو كاتب من العيار الثقيل ، متضلّع في الحرف العربي الجميل قدير الحرف جميله ،يركب سفين القص و الخيال فيستشفّ أغوار المواقف العميقة ، ويقتنّص المفارقات الدّقيقة التي تحمل شحنات انفعالية ، تحرّك النّاس و الحياة ، فيمنح السّرد قوّة وحيويّة مذهلة ، فلا يسع
الشّخصية إلّا أن تحكي عن نفسها بنفسها ، وتطرز الأحداث وتلونها بألوان قزحية وأيضاً تسدل عليها تأويلات لا تنتهي ، بغية أن ينحت انطباع حقيقي في نفس المتلقي المتذوق ، وبه يجني عبير الموعظة وشهد المتعة ووحدة الإنطباع . يزن مبدعنا جمله بميزان الذّهب يقتصدها فلا يرهلها ، وبها يجسد صوراً بصرية دقيقة موازية للواقع المعاش ولدروب المكان ، فيأتي سحر الحدث والمكان متناغماً ملتحماً وكأنهما واحد ، هنا يؤجّج الدّهشة والتّشويق بحرفية واقتدار و خاصة عند القفلة التي تذهل بإيجازها وإضمارها تصدم بما حبلت به من مفاجآت غير منتظرة , إذا فتحت مزلاج قصصه منحت بسخاء آثاراً معرفية ووعياً اجتماعياً ينسيك مكانك ويمنحك لذّة قراءة لا متناهية ، فتحسبه عاش وسط أبطاله ، وانصهر في تفاصيل حياتهم ، وقاسمهم الأسى دفعات ، فتقرأها وتعود ثانية كمن يتفقد عبق الحبق بعد يباسه . أما لغته وعاء إبداعه جعلها ترتبط بالفكرة وبالإيحاء والإشارة لا بالوصف ، ضمنها كل آليات القص المتين والحرف العتيد ، رؤى وجماليات متعددة الأبعاد ودلالات مذهلة
آسرة ، و في غمرة سكرات الألم رسم أبواب عدة تفضي للأمل العريض . هنا نستحضر قولة زكي مبارك المأثورة : ( إن الحياة هي كتاب الأديب ، فالأدب يجب أن يكون من وحي الحياة ، وإنه من الضروري أن نعيش الحياة حتى نكتب آيات الوجود . )
مجيدة السباعي
المغرب.