د. محمد عبدالله القواسمة - التوقف عن الكتابة حالة عامة 2/1

1/2

الكتابة في أي جنس من أجناسها نشاط ذهني، بخلاف ما كان يرى العرب الشعر بأنه وحي من عالم الغيب أو عالم الجن، أو أنه حالة خارجة عن إرادة الإنسان كما كان يرى رومانسيو القرن التاسع عشر، فهذا الشاعر الإنجليزي شيلي Shelley يرى الشعر ناتجًا عن تأثير غير ملموس كالرياح المتقلبة.
وإذا كانت الكتابة نشاطًا ذهنيًّا فيمكن أن تفتر همة الكاتب عن ممارستها ويتوقف عن الكتابة. إنها حالة عامة تصيب الكتّاب عادة، لكنها لم تُعرف بصورة واضحة ويُنتبه إليها إلا في القرن التاسع عشر حين توقف الشاعر صامويل كولريدج Samuel Coleridge عن قول الشعر، وكان من أوائل من عانى من هذه الحالة. ربما لنوبات قلق واكتئاب كانت تنتابه؛ أو ربما لأمراض أخرى تحدرت إليه من مرحلة الطفولة، التي أدت إلى إدمانه الأفيون.
ووجدت حالات كثيرة من التوقف، فبعض الكتاب توقف توقفًا تامًا وبعضهم توقف مؤقتًا،، وعانى بعضهم من العجز عن كتابة ما يريده، أو جاءت كتابته ركيكة لا تصلح للنشر، وبعضهم لم يستطع مواصلة الكتابة في جنس اعتاد عليه، فتحول إلى كتابة جنس غيره، كأن يكون شاعرًا فيتحول إلى كتابة الرواية، أو كاتبًا صحفيًّا أو مسرحيًا فيتحول إلى الشعر أو الرواية.
وقد دفعت هذه الحالة، حالة عدم الاستمرار في الكتابة الروائي الإسباني أنريكه بيلا- ماتاس Enrique Vila-Matas أن يكتب روايته "بارتلبي وأصحابه" 2000 التي نقلها إلى العربية سعدون عبد الهادي عام 2018 يتحدث فيها بيلا-ماتاس عن كثيرين من الكتاب الذين أصابهم مرض التوقف عن الكتابة، المرض الذي أطلق عليه بطل الرواية مرض الـ “لا”. والبطل هذا كاتب أنجز رواية واحدة، ثم توقف خمسًا وعشرين سنة ليعود بعدها إلى الكتابة عن كُتّاب أدب "لا"، أي الذين توقفوا عن فعل الكتابة. ويطلق عليهم البارتلبيين نسبة إلى شخصية بارتلبي التي وردت في قصة هرمان ملفل، صاحب رواية "موبي ديك" وهي شخصية كسول لم تقرأ شيئًا ولم تغادر مكان عملها حتى في أوقات العطل.
من الذين توقفوا عن الكتابة ثم عادوا إليها الشاعر والروائي البريطاني جون رونالد رويل تولكين John Ronald Reuel Tolkien‏ الذي أمضى اثني عشر عامًا في كتابة روايته "سيد الخواتم"، وكذلك فعل الشاعر الفرنسي بول فاليري Paul Valéry الذي توقف عشرين عامًا، ثم عاد ليكتب قصيدته الرائعة "بارك الشابة" التي تتمثل فيها شعريته وبيانه الشعري. لقد كتب قصائده الشهيرة في عقده الثاني، وأضاع ما بقي من عمره في تناول الأفيون، فذكر في مذكراته عام 1804 أنه كان في الثانية والثلاثين عندما تأوه بعد مرور عام بأنه صار عاجزًا عن ممارسة الكتابة.
وظهرت حالات كثيرة من التوقف عن الكتابة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد عانى في الولايات المتحدة كثير من الكتاب من أمراض نفسية، فلجأوا إلى الأطباء النفسيين بدلًا من الجلوس إلى مكاتبهم للكتابة. وأعلن عالم النفس الأمريكي إدموند بيرجلر Edmund Bergler بأنه نجح في معالجة أربعين كاتبًا من حالة التوقف، وصرح بعد ذلك بأنه لم ير في حياته كاتبًا طبيعيًا من الناحية النفسية، فحتى الذين ساروا في حياتهم سيرًا عاديًا فإنهم عانوا من اضطرابات عصابية.
وعُرف أن الأديب نجيب محفوظ توقف عن كتابة الرواية سبع سنوات. فبعد أن كتب الثلاثية عام 1952 عمد إلى الانضمام إلى نقابة السينمائيين المصريين كاتبًا للسيناريو. وأنجز اثني عشر فيلمًا، وعاد إلى الكتابة عام 1959 عندما نشر رواية "أولاد حارتنا". وبرر توقفه عن كتابة الرواية طوال تلك المدة في حديثه مع جمال الغيطاني الذي ورد في كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" بأن سبب توقفه وقوعه في أزمة مالية بعد زواجه؛ إذ كان مسؤولًا عن إعالة ثلاث أسر: والدته وإخوته، وشقيقته المتوفى زوجها فضلًا عن عائلته.
ومن الذين توقفوا عن الكتابة توقفًا نهائيًا من الشعراء الرمزيين الفرنسيين الشاعر آرثر رامبو Arthur Rimbaud الذي ترك الشعر في التاسعة عشرة من عمره وجمع منجزه الشعري الذي تُصنف وفقه الحداثة الشعرية في كتابين: "إشراقات"، و "فصل في الجحيم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...