د. أحمد الحطاب - هل بإمكانِنا، اليوم، أن نقول : لدينا قضاءٌ مستقلٌّ

ما معنى أن يكونَ القضاءُ مستقلا justice indépendante؟

معناه، أولا، أن تكونَ الأحكامُ الصادرة عن القضاء غير متأثِّرة بما قد يكون للقاضي من أحكام مسبقة préjugés حول ما سيبثُّ فيه من قضايا. ومعناه كذلك أن لا تتأثَّرَ الأحكامُ الصادرة عن القضاء بذاتية subjectivité القاضي. وبعبارة أخرى، أن يتجرَّدَ القاضي من ذاتيته حين إصدار الأحكام، أو بكيفية أوضح، أن تكونَ احكامُه مبنيةً على الموضوعية objectivité.

ثانيا، أن تكون الأحكامُ الصادرةُ عن القضاء غير متأثِّرة بما قد تقوم به السلطات الأخرى َ(التَّنفيذية والتَّشرعية) من ضغوط لتوجيه هذه الأحكام إلى اتجاهٍ غير الذي يفرضانه العدل والموضوعية.

ثالثا، أن لا تتأثَّرَ الأحكام الصادرة عن القضاء لا بالرأي العام ولا بضغوط أخرى قد تصدر عن لوبيات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، عائلية، مهنية…

رابعا، أن يكونَ القاضي، بصفة عامة، متمتِّعا بما يتطلَّبه الحكمُ العادل من صفات كالإنصاف équité والنزاهة intégrité والحِياد impartialité والاستقامة probité… وكل الصفات التي تضمن تطبيقَ القانون ولا شيءَ آخر غير القانون.

ولا داعيَ للقول أن الحُكمَ العادلَ يضمنُه الدستور والقوانين المنبثقة عنه. والدستور يضمن كذلك فصلَ السُّلط عن بعضها البعض، وكذلك فصلَ السلطة القضائية عن السلطتين التَّشرعية والتَّنفيذية. وهذا يعني أن القضاءَ مستقلٌّ، في إصدار أحكامه، عن البرلمان بغرفتيه وعن الحكومة. بمعنى أن وزراء هذه الأخيرة، وبالأخص وزير العدل، لا نفوذ ولا تأثيرَ لهم على هذا القضاء.

وللتَّذكير، فإن القضاء المستقل، العادل، المنصف، المستقيم، النزيه والمُحايد، هو الضامن :

1.لاحترام شروط التعايش والتساكن داخلَ المجتمع
2.للمساواة أمام القانون
3.لآرساء دولة الحق والقانون
4.،لتطبيق القانون ولا شيءَ غير القانون
5.للاستفادة من الحريات الفردية والجماعية
6.لاستقرار البلاد
7.لاستمرار السلم الاجتماعية
8.لاداء الواجبات والتَّمتُّع بالحقوق
9.لجلب وتشجيع الاستثمارات
10.لمحاربة الفساد والرشوة…

لكن، يجب أن لا ننسى أن استقلالَ القضاء المضمون دستوريا، قد لا يحقِّق ما هو مطلوبٌ منه إن لم يكن ناجعا. والنجاعة تقتضي من القضاء أن لا ينتظرَ الأوامرَ ليتحرَّكَ. وإلا سيكون استقلالُه مجرَّد شِعار صالحٍ فقط للدِّعاية والإنشاء في المنابر الإعلامية والخَطابية. السؤال الذي يجب أن يُطرحَ هنا هو : "لماذا لم يتحرَّك القضاءُ منذ سنين علما أن الفساد، بجميع أشكاله، نخَر وعفَّن المجتمعَ المغربي؟"

لقد بات من الواضح للداني والقاصي أن ممارسةَ السياسة، في هذا البلد السعيد، هي الوبال الذي ابتُليَ به شرفاءُ وأحرارُ وعقلاءُ الشعب المغربي. وبالٌ فتحَ البابَ على مصراعيه لانتشار الفساد في كل ركن من أركان هذا الوطن العزيز. بل إن ممارسة السياسة أصبحت مرادفةً لبثِّ الفساد في البلاد ولتعكِيرِ حياة العباد.

والطامة الكبري هي أن السياسيين الفاسدين والمُفسدين اتخذوا من ممارسة السياسة مَطِيَّةً للوصول إلى المال العام هدفُهم الواحد والوحيد هو الاغتناء السريع وعلى مرأى ومسمع من القضاء ومن جميع أطياف الشعب المغربي. ومُمارستُهم للسياسة أوصلتهم إلى السلطة وإلى مختلف مراكز القرار وإلى دواليب الدولة حيث أصبحوا يصولون ويجولون بكل وقاحة، أوكما نقول بالدارجة : "عْلَى عينك يا بنعَدِّي".

وهكذا، فإن السياسيين الفاسدين والمُفسدين وصلوا إلى البرلمان وإلى الحكومة وإلى ضالَّتِهم الكبرى، المجالس التُّرابية. بل إنهم شكَّلوا لوبياتٍ تحتكر السلطةَ والمالَ وأحكمت السيطرةَ عليهما إلى درجة أن البلادَ أصبحت ملكاً لهم ينتفعون، هم وحدهم ومَن يسير في فلكهم، مِن خيراتها ومن مالِها العام الذي أتى من كدِّ وجِدِّ أجبِنَة (جمع جبين) المواطنين.

واللهِ لأمرٌ غريب أن ينتظرَ القضاءُ عقوداً بأكملها ليُخبرَ المواطنين بوجود الفساد في البلاد! ألم يعلم هذا القضاءُ أن الكثيرين من السياسيين الموجودين في البرلمان وفي الجماعات التُّرابية تحوم حولهم شُبُهات فساد مدوِّية؟ فلماذا لم يبادر بفتح تحقيقات في هذا الشأن؟ ألم يُصدِرْ القضاءُ نفسُه أحكاما ابتدائية أو استئنافية في حق سياسيين يمارسون حاليا السياسةَ، بمفهومها الفاسد والمفسد، وبكل حرِّية؟

والله لكذلك أمرٌ غريبٌ أن ينتظرَ القضاءُ عقوداً بأكملها ليعتقلَ سياسيا فاسدا ومفسدا كان وزيرا سابقا ورئيسا لجماعة ترابية؟ إن هذا الاعتقالَ شيءٌ مهِمٌّ وحاسم انتظره المواطنون منذ زمان. لكن، ألم يعلم القضاء أن الجماعات الترابية تعُجُّ بمثل هذا الفاسد المُفسد؟ ألم يعلم القضاءُ أن البرلمانَ يوجد من بين أعضائه سياسيون فاسدون ومفسدون يختبئون وراء الحصانة البرلمانية لبثِّ الفساد في البلاد وبين العباد؟ ألم يعلم القضاءُ أن الصفقات العمومية، وخصوصا تلك التي تُطلِقها الجماعات الترابية، مَرتَعٌ للفساد؟

والآن، آن الأوانُ لتقديم جواب عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة (هل بإمكانِنا، اليوم، أن نقول : لدينا قضاءٌ مستقلٌّ؟)

الجوابُ هو : لن نقولَ "لدينا قضاءٌ مستقل" حتى تُفتحَ تحقيقاتٌ حول مَن تحوم حولهم شُبُهاتُ الفساد. ولن نقولَ "لدينا قضاءٌ مستقل" حتى يطالَ الاعتقالُ جميع السياسيين الفاسدين والمفسدين الموجودين في البرلمان وفي الجماعات التُّرابية وحتى في الحكومة. وما أكثرهم وما أفظعهم وما أكبرهم ثقلا على صدور المواطنين! ولن نقولَ "لدينا قضاءٌ مستقل" حتى ينالَ المواطن كرامتَه التي احتجزها أو اعتقلها السياسيون الفاسدون والمفسِدون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...