2/2 تعدد الأسباب
يُروى أن الكاتب والصحفي الأمريكي جوزيف ميتشل Joseph Mitchellتوقف نهائيًا عن الكتابة بعد إنجازه سلسلة من المقالات الناجحة؛ لأن أحد النقاد وصفه بأنه "أعظم من كتب الجملة المباشرة في اللغة الإنجليزية". وجه الغرابة أن مقاله الرائع الأخير عام 1964 كان عن التوقف عن الكتابة.
وفي المقابل كان لتقدير الآخرين أثر في الكاتب الروائي الأمريكي سكوت كي فيتزجيرالد Scott Key Fitzgerald الذي ولد عام 1896 وكتب أربع روايات، هي: "هذا الجانب من الجنة"، و"الجميلة والملعون"، و"غاتسبي العظيم"، و"الليلة الناعمة". وأعلن عام 1937 بأن نجاحه السريع جعله لا يعتمد على إرادته، وأنه انتهى روائيًا. وبدأ بكتابة روايته الخامسة بعد سنتين، ولكنه مات عام 1940م قبل أن يكملها.
لعل حالة فيتزجيرالد تدل على أن النجاح المبكر للكاتب يجعله غير قادر على الكتابة؛ لأنه يطمح إلى أن يكون متميزًا عن أعماله السابقة. وهكذا فإن الروائي الأمريكي جيفري يوجينايدزJeffrey Eugenides كتب روايته الأولى عام 1993، ومع أنها لاقت نجاحًا باهرًا فإنه لم يكتب روايته الثانية إلا بعد تسع سنوات؛ لطموحه بأن تكون أكثر تفوقًا من روايته الأولى، فالناس ينتظرون منه المزيد، وهو يخشى أن يخسر كل شيء.
وفي عام 1912 أعلن الكاتب فيلب روثPhilip Milton Roth الذي يعد من أهم الروائيين الأمريكيين المعاصرين والمرشح الدائم لنوبل توقفه عن الكتابة بعد خمسين سنة من ممارستها، وصرح في لقاء صحفي بأنه لن يعود إلى الكتابة؛ فلم يعد يحتمل أعباءها؛ فهي ليست عملًا شاقًا، كما قال، بل إنها كابوس.
ونجد الروائي والناقد الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر Edward Morgan Forsterمؤلف رواية "رحلة إلى الهند" الذي ولد عام 1879 وتوفي عام 1970م يتوقف عن كتابة الرواية قبل ستة وأربعين عامًا من وفاته. واتجه إلى كتابة مقالات وتراجم.
هكذا تتعدد الأسباب لتوقف الكتّاب عن ممارسة الكتابة، فقد يكون السبب، كما رأينا في حالة الكاتب روث، التخلص من عذابات الكتابة، عذابات تحيط بها ظروف صعبة للمبدع، منها قضاء أيام طويلة في الكتابة، ثم معاناة النشر، وقد يكون العذاب في الإحساس بعجز اللغة وعدم قدرتها على التعبير عن تجربة الكاتب الحقيقية. ولا يغيب عنا أن بعض الكتاب يتوجسون الخوف من عدم القدرة على الابتكار، والوصول إلى أفكار جديدة بأسلوب متميز، أو الخوف من المنافسة مع غيرهم، أو من رفض أعمالهم، أو من النقد السلبي لها.
لا شك أن فقدان أي دافع داخلي أو خارجي للاستمرار في الكتابة يساعد على التشتت الذهني للكاتب، كما أن التكنولوجيا تساعد في بعض الأحيان على التأثير في الكتّاب، وتدفع بعضهم إلى التبلد والانقطاع عن الكتابة في خضم سعيهم إلى زيادة الوصول إلى جمهور أكبر على الشبكة الإلكترونية.
ويواجهنا رأي العالم النفسي إدموند برجلر بأن السبب في التوقف عن الكتابة نفسي حيث إن الكاتب يتلذذ شفويًا بتعذيب الذات والوقوع في مرحلة الفطام عن الرضاعة؛ فالكاتب الذي عانى الجوع في مرحلة الرضاعة سيعاني الجوع مرة أخرى ويتوقف عن الكتابة.
يقترح كثيرون للتغلب على حالة التوقف عن ممارسة الكتابة اللجوء إلى كتابة نوع آخر من تلك التي لم يعتد عليها الكاتب، كأن يكتب الروائي قصة قصيرة أو مسرحية أو خاطرة أو حتى خربشات. فيروي نجيب محفوظ للناقد المصري فؤاد دوارة بأنه كان يجلس إلى مكتبه وليس في رأسه أي فكرة، ثم يكتب من وحي القلم، فيتغلب على هذا التوقف المؤقت بكتابة كلمات. وكما يُروى عن الروائية التشيلية إيزابيل اللينديIsabel Allende بأنها كانت تلجأ إلى كتابة شيء آخر غير الرواية مثل المذكرات؛ فجاء كتابها "أفروديت" بعيدًا عن الرواية.
وقد يلجأ بعض الكتّاب إلى العقاقير لتحفيز نشاطهم الذهني، فكما يقول علماء النفس إن التوقف مرتبط بالفص الأمامي من المخ، ويمكن معالجته بعملية الحث المغناطيسي، أي معالجة مناطق معينة من الجمجمة بالمجالات المغناطيسية، أو بالعلاج السلوكي الإدراكي. ومن الطريف لجوء بعض الكتاب إلى حيل غير تقليدية لاستعادة نشاطهم الكتابي؛ فمثلًا هوجو Hugo الروائي الفرنسي أمضى سبعة عشر عامًا في كتابة رواية" البؤساء"، فكان يطلب من خادمه إخفاء ملابسه كل صباح، ويبقى في غرفته للكتابة حتى يُرجع الخادم ملابسه. أما دان براون Dan Brown الروائي الأمريكي فكان يقلب جسمه رأسًا على عقب ليستعيد بهذه الطريقة تدفق أفكاره.
الخلاصة أن التوقف عن الكتابة يراود الكاتب في مرحلة ما من حياته، ولا يلجأ إليه الكاتب الذي احترف هذه المهنة إلا في حالات ضاغطة لا يستطيع منها فكاكًا، كالمرض الشديد، أو الألم النفسي العنيف، أو الظروف القاسية كما يحدث في القمع السلطوي بأن يسجن الكاتب أو يمنع من الكتابة. وفي كل الأحوال فإن التوقف يكون مؤلمًا للكاتب الذي سرت في دمه وأعصابه الرغبة في الكتابة، إنه حالة من العذاب الذي هو أشد عذابًا من عذابات الكتابة ذاتها.
يُروى أن الكاتب والصحفي الأمريكي جوزيف ميتشل Joseph Mitchellتوقف نهائيًا عن الكتابة بعد إنجازه سلسلة من المقالات الناجحة؛ لأن أحد النقاد وصفه بأنه "أعظم من كتب الجملة المباشرة في اللغة الإنجليزية". وجه الغرابة أن مقاله الرائع الأخير عام 1964 كان عن التوقف عن الكتابة.
وفي المقابل كان لتقدير الآخرين أثر في الكاتب الروائي الأمريكي سكوت كي فيتزجيرالد Scott Key Fitzgerald الذي ولد عام 1896 وكتب أربع روايات، هي: "هذا الجانب من الجنة"، و"الجميلة والملعون"، و"غاتسبي العظيم"، و"الليلة الناعمة". وأعلن عام 1937 بأن نجاحه السريع جعله لا يعتمد على إرادته، وأنه انتهى روائيًا. وبدأ بكتابة روايته الخامسة بعد سنتين، ولكنه مات عام 1940م قبل أن يكملها.
لعل حالة فيتزجيرالد تدل على أن النجاح المبكر للكاتب يجعله غير قادر على الكتابة؛ لأنه يطمح إلى أن يكون متميزًا عن أعماله السابقة. وهكذا فإن الروائي الأمريكي جيفري يوجينايدزJeffrey Eugenides كتب روايته الأولى عام 1993، ومع أنها لاقت نجاحًا باهرًا فإنه لم يكتب روايته الثانية إلا بعد تسع سنوات؛ لطموحه بأن تكون أكثر تفوقًا من روايته الأولى، فالناس ينتظرون منه المزيد، وهو يخشى أن يخسر كل شيء.
وفي عام 1912 أعلن الكاتب فيلب روثPhilip Milton Roth الذي يعد من أهم الروائيين الأمريكيين المعاصرين والمرشح الدائم لنوبل توقفه عن الكتابة بعد خمسين سنة من ممارستها، وصرح في لقاء صحفي بأنه لن يعود إلى الكتابة؛ فلم يعد يحتمل أعباءها؛ فهي ليست عملًا شاقًا، كما قال، بل إنها كابوس.
ونجد الروائي والناقد الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر Edward Morgan Forsterمؤلف رواية "رحلة إلى الهند" الذي ولد عام 1879 وتوفي عام 1970م يتوقف عن كتابة الرواية قبل ستة وأربعين عامًا من وفاته. واتجه إلى كتابة مقالات وتراجم.
هكذا تتعدد الأسباب لتوقف الكتّاب عن ممارسة الكتابة، فقد يكون السبب، كما رأينا في حالة الكاتب روث، التخلص من عذابات الكتابة، عذابات تحيط بها ظروف صعبة للمبدع، منها قضاء أيام طويلة في الكتابة، ثم معاناة النشر، وقد يكون العذاب في الإحساس بعجز اللغة وعدم قدرتها على التعبير عن تجربة الكاتب الحقيقية. ولا يغيب عنا أن بعض الكتاب يتوجسون الخوف من عدم القدرة على الابتكار، والوصول إلى أفكار جديدة بأسلوب متميز، أو الخوف من المنافسة مع غيرهم، أو من رفض أعمالهم، أو من النقد السلبي لها.
لا شك أن فقدان أي دافع داخلي أو خارجي للاستمرار في الكتابة يساعد على التشتت الذهني للكاتب، كما أن التكنولوجيا تساعد في بعض الأحيان على التأثير في الكتّاب، وتدفع بعضهم إلى التبلد والانقطاع عن الكتابة في خضم سعيهم إلى زيادة الوصول إلى جمهور أكبر على الشبكة الإلكترونية.
ويواجهنا رأي العالم النفسي إدموند برجلر بأن السبب في التوقف عن الكتابة نفسي حيث إن الكاتب يتلذذ شفويًا بتعذيب الذات والوقوع في مرحلة الفطام عن الرضاعة؛ فالكاتب الذي عانى الجوع في مرحلة الرضاعة سيعاني الجوع مرة أخرى ويتوقف عن الكتابة.
يقترح كثيرون للتغلب على حالة التوقف عن ممارسة الكتابة اللجوء إلى كتابة نوع آخر من تلك التي لم يعتد عليها الكاتب، كأن يكتب الروائي قصة قصيرة أو مسرحية أو خاطرة أو حتى خربشات. فيروي نجيب محفوظ للناقد المصري فؤاد دوارة بأنه كان يجلس إلى مكتبه وليس في رأسه أي فكرة، ثم يكتب من وحي القلم، فيتغلب على هذا التوقف المؤقت بكتابة كلمات. وكما يُروى عن الروائية التشيلية إيزابيل اللينديIsabel Allende بأنها كانت تلجأ إلى كتابة شيء آخر غير الرواية مثل المذكرات؛ فجاء كتابها "أفروديت" بعيدًا عن الرواية.
وقد يلجأ بعض الكتّاب إلى العقاقير لتحفيز نشاطهم الذهني، فكما يقول علماء النفس إن التوقف مرتبط بالفص الأمامي من المخ، ويمكن معالجته بعملية الحث المغناطيسي، أي معالجة مناطق معينة من الجمجمة بالمجالات المغناطيسية، أو بالعلاج السلوكي الإدراكي. ومن الطريف لجوء بعض الكتاب إلى حيل غير تقليدية لاستعادة نشاطهم الكتابي؛ فمثلًا هوجو Hugo الروائي الفرنسي أمضى سبعة عشر عامًا في كتابة رواية" البؤساء"، فكان يطلب من خادمه إخفاء ملابسه كل صباح، ويبقى في غرفته للكتابة حتى يُرجع الخادم ملابسه. أما دان براون Dan Brown الروائي الأمريكي فكان يقلب جسمه رأسًا على عقب ليستعيد بهذه الطريقة تدفق أفكاره.
الخلاصة أن التوقف عن الكتابة يراود الكاتب في مرحلة ما من حياته، ولا يلجأ إليه الكاتب الذي احترف هذه المهنة إلا في حالات ضاغطة لا يستطيع منها فكاكًا، كالمرض الشديد، أو الألم النفسي العنيف، أو الظروف القاسية كما يحدث في القمع السلطوي بأن يسجن الكاتب أو يمنع من الكتابة. وفي كل الأحوال فإن التوقف يكون مؤلمًا للكاتب الذي سرت في دمه وأعصابه الرغبة في الكتابة، إنه حالة من العذاب الذي هو أشد عذابًا من عذابات الكتابة ذاتها.