ذياب شاهين - تحولاتُ الفحل الشعري من الخَنَثِ إلى البطولة (ج3) (الفحل- المخنث) و(الفحل- الطائش) و(الفحل- الجميل)

(ج3)
(الفحل- المخنث) و(الفحل- الطائش) و(الفحل- الجميل)


في اللغة العربية نقرأ عن كلماتٍ تعني الشيء ونقيضه، أو الصفة ومعكوسها مثل كلمة (البصير) التي تطلق على الأعمى والمبصر أوالصريم التي تطلق على الليل والنهار أو كلمة الناهل التي تطلق علي العطشان والمرتوي، وكذلك السليم التي تشير لمن شفي من المرض أو لدغته الأفعى، ولو جئنا لأسماء الشعراء فكلمة عنترة تطلق على الشجاع والجبان معا، وهذا الفعل اللغوي الذي تمارسه اللغة يحدث لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها منها تعدد اللهجات عند القبائل العربية والتداخل بين ما يستخدم مجازا مع ما هو حقيقي، وبالتالي فكلمة الفحل الشعري تثير لدينا تساؤلات كثيرة منها: لمَ تمَّ استخدامها في التراث الشعري العربي لتكون رمزا للشاعر المفلق أو الموهوب والمطبوع، فالكلمة إذا أطلقت على شاعر معين فهي تشير بطرف خفي معاكس إلى من يجايله من الشعراء، وكأننا أمام ظاهرة (الفحل- الخصي)، أو الشاعر الفحل مقابل من يجايلونه من الشعراء المخنثين أو الخصيان حتى ولو مجازا، وبالطبع هذا يتوافق مع مزاج الشاعر القديم فعنوان الفحولة الذي يُغدق عليه سيكون ملائما لملء غروره واختياله وخصوصا أمام نساء القبيلة وأمام ذاته المتورمة، وهذا ينتقل أيضا إلى ما تريده القبيلة العربية التي تنجب الشاعر الفحل في لا وعيها الجمعي وخصوصا تلك التي تعيش على سيفها بما تسرقه من بقية القبائل أثناء الغزوات من ممتلكات ونساءٍ وغيرها، حتى أننا وجدنا الأعشى يفتخر بقبيلته الغازية، وينتقد قبيلة أياد التي تعيش على الزراعة ويصفها بالقذارة حيث يقول(23):
لسنا كمن جعلتْ أيادٌ دارَها تكريتَ تنظرُ حبَّها أن يُحصدا
قوما يعالجُ قـمَّـلا أبنـاؤهم وسلاسـلًا أجُدًا وبـابًـا مؤصـدا
جعل الإلهُ طعامَنا في مالنا رزقا تضمنـهُ لــنـا لــن ينـفـدا
ولو عدنا للشاعر المهلهل بن ربيعة بوصفه أول الفحول وصاحب السيرة المشهورة(سيرة الزير سالم) فنقرأ عنه نقلا عن صاخب الأغاني(24): (كان فيه خَنثٌ ولينٌ وكثير المحادثة للنساء وكان كليب يسميه زير نساء)، وهو بهذه الصفات العامة يكشف عن الحياة في عصر ما قبل الإسلام، فأبناء الملوك تكون حياتهم فيها ترف ورفاه ورقّة ولين لأن تربيتهم تكون مختلفة عن أبناء أفراد القبيلة، ولكن يمكن أن نجد ثلاثة صفات أخرى يشترك فيها شعراء ما قبل الإسلام هي(الخمرة ومحادثة النساء ومطاردتهن، والقتال من أجل القبيلة حتى الموت)، وهو ما وجدناه عند أمرئ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد، حيث يقول طرفة(25):
فـلولا ثـلاثٌ هـنَّ مـن عـيـشةِ الفتى وجدِّكَ لم أحفلْ متى ما قام عوَّدي
فمنهـنَّ سَـبــقُ الـعـاذلات بِـشَـربــةٍ كُميْـتٍ متـى مـا تُعلَ بالماءِ تُـزبِدِ
وكرِّي إذا ما نادى المُضافِ مُحنـِّبا كَسيـدِ الغـَضـا نـبَّـهْـتَـهُ المُتــوَّردِ
وتقصيرُ يومَ الدَّجنِ والدَّجنُ مُعجِبٌ ببهْكَـنَـةٍ تـحـتَ الخِـبــاءِ المُعـمَّــدِ
وهذا يعني أن الشاعر يعيشُ عدة حيواتٍ، ففي وقتِ السلمِ نجدهُ يعاقرُ الخمرةَ ومصاحبةِ النساءِ، وفي وقت الحربِ يكرُّ ويغزو ويحمي القبيلة، ولكنَّ كتب التراث تقول إن للمهلهلِ صديقا وخلا حيث نقرأ (26):(وهناك أمر هام اتفقت حوله جميع الروايات، وهو أنَّ نديم المهلهل في حياته الخاصة هذه هو همام بن مرّة الذي آخاه وعاهده ألا يكتمه شيئا، ولم يعرف عن همام هذا الخنث واللين مع أنه كان نديم المهلهل وخله، فلماذا يتهم المهلهل بالخنث واللين فيما لم يوجه أيَّ اتهام إلى نديمه همام بن مرة)، وإذا كان المهلهل متهما بالخنث وصديقه وخله غير ذلك، فهذا قد يعزز الاتهام ولا ينفيه لأنه قد يكشف عن طبيعة العلاقة بينهما. ولكنَّ هذا الشاعر المخنث سرعان ما يتحول إلى بطل صنديد بعد مقتلِ كليبٍ، ونجده قد هجر حياة اللين والنساء وغيرها إلى حياة الحرب والسيوف والرماح والدروع ليأخذ ثأره من قبيلة بكر(27):
خـذِ العهـدَ الأكيـدَ عليَّ عمــري بِتركي كل ما حَوتِ الدِّيارُ
وهجري الغانياتِ وشرب كأسٍ ولـبْـسي جبَّــةً لا تُـستـعارُ
ولستُ بخالـعٍ دِرعي وسَيـــفي إلى أن يـخـلعَ الليـلَ النهارُ
ولو قرأنا قصة حياة أمرؤ القيس فهي شبيهة بقصة خاله المهلهل، فهو أيضا كان قد تحول من اللين والرقة ومطاردة النساء إلى الأخذ بالثأر والحروب بعد مقتل أبيهِ، وتكاد تكون الأسطورة نفسها، بتغيير مكوناتها، فالمهلهل ترك حياة اللين بعد مقتل أخيه كليب، ففي أسطورة المهلهل أستبدل كليب بدلا من والد أمرئ القيس، وكلاهما قد سمعا بحادثة الموت وهما يشربان ويتمتعان بحياتهما الصاخبة وليس لهما دور في حياة قبيلتيهما (كندة وتغلب)، وكلاهما قد مات قتلا، وتحوّلت قصته إلى أسطورة وهما يخوضان بدماء أعدائهما، إلا أن المهلهل لم يستعن بالروم في الأخذ بثأره عكس أمرئ القيس الذي أراد استرجاع ملك أبيه بمساعدة الروم، حتى إن الدكتور طه حسين قال إن قصة أمرئ القيس تشبه قصة (عبد الرحمن بن الأشعث) الذي عاش في العصر الأموي في معظم تفاصيلها، حيث يقول(28):
(وقصة أمرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبد الرحمن بن الأشعث، فهي تمثل لنا أمرأ القيس مطالبا بثأر أبيه، وتمثل أمرأ القيس مطالبا بالملك، وقد كان عبد الرحمن يرى أنه ليس أقل استئهالا للملك من بني أمية، وكان يطالب به، وهي تمثل أمرأ القيس متنقلا في قبائل العرب، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث يتنقل في مدن العراق وفارس، وتمثل أمرأ القيس لاجئا لملك الترك مستعينا به، وقد كان عبد الرحمن مستعينا بملك الترك لاجئا عنده، وتمثل أمرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديٌّ في القصر، وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجّاج، وتمثل أمرأ القيس وقد مات في طريق عودته من بلاد الروم، وقد مات عبد الرحمن وهو عائد من بلاد الترك). ولا شك أن هذه الأحداث المتشابهة بين هاتين الشخصيتين تثير الدهشة فكيف يحدث كل ذلك بالصدفة إذا لم يكن من عمل القصاصين والرواة، وحملوها الكثير من الشعر ليكون شعرا جاهليا، ولكن د.طه حسين سرعان ما يأتي لنا برأي آخر حيث يرى أن أمرأ القيس يشابه هوميروس في تنقلاته بين المدن والأمكنة حيث يقول(29): (وأن شيئا من هذا يلاحظ في حياة هوميروس، فهو- كما يزعم رواة اليونان- قد تنقل في المدن اليونانية فلقى من بعضها الكرامة والتجلة، ومن بعضها الإعراض والانصراف، ومؤرخو الآداب اليونانية يفسرون هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظهر التنافس بين المدن اليونانية: كلها يزعم لنفسه أنه ضيَّف هوميروس أو نشَّأه أو أجاره أو عطف عليه.). وهنا سندخل في دائرة أخرى هي تشابه الرواة وليس الشعراء في خلق أساطيرهم، وهذا يعني بكل وضوح أن أمرأ القيس وهوميروس هما شخصيتان موجودتان تاريخيا، وهما شاعران معروفان في حضارتيهما، وقد يكون ما كتباه من شعر قد ضاع ولكنه بقي متداولا بين الناس ليس بوصفه ملفوظات حقيقية بل بوصفه بقايا معان سطرت عليها الكلمات ولكن برأينا ليس كل ما قالاه قد اختفى.
كتاب القصص والأساطير وضعوا لنا قصتين متشابهتين أدتا لمقتل شاعرين جاهليين، الأولى قصة أمرئ القيس وحدثت عندما دخل الحمام مع قيصر الروم وأعجبت به ابنة القيصر فشبب بها، وعلم بها القيصر وأبعده عن بلاده واتبعه بحلةٍ مسمومة ولما لبسها تقطَّع جسده وتناثر ليموت بالطريق، وفيها يقول(30):
ربَّ طعنةً مسحنفرة و جفنة مثعنجرة
وخطـبـةٍ مخــبِّــرة تـبقى غدا بأنقرة
والجفنة هي القصعة والبئر الصغيرة، والمُثْعَنْجِرُ والمُسْحَنْفِرُ: السَّيْلُ والمطر الْكَثِيرُ؛ واثْعَنْجَرَتِ السَّحَابَةُ بِقَطْرها، ولكن بعض الرواة يقول إنه مات بالجدري، أما القصة الثانية فهي قصة طرفة بن العبد حيث شبب بأخت ملك الحيرة عمرو بن هند، حيث نقرأ التالي(31): (فبينما كان يشرب يوما بين يدي عمرو بن هند أطلت أخته فشبب بها قائلا:
ألا يا ثاني الظبي الـ ذي يبرقُ شنفاه
ولـولا الملــكُ القاعد قــد ألثــني فـــاه
فنظر إليه همرو نظرة غضب ووضعه بالسجن)، وبرغم عفوه عنه إلا أنه عاد وهجا الملك قائلا(32):
فليت لنا مكانَ الملك عمرو رغوشا، حول قبتنا تخورُ
لعمركَ أن قابوسَ بن هندٍ ليخلـطَ ملكـَهُ نـوكٌ كثـيـرُ
والرغوش هي الناقة، وقابوس هو أخو الملك عمرو، والنوك هي الحماقة، فأسرَّ الملك ذلك له إلى أن اطمأن طرفة إليه، فأعطى له كتابا وكذلك لخاله المتلمس الذي سبق وإن هجا الملك، لعامله على البحرين، وبالطبع فبقية القصة معروفة، حيث نجا المتلمس لم فتح الكتاب وعرف محتواه فهرب للشام، وقُتل طرفة بعناد غريب برغم معرفته فحوى الكتاب في البحرين.
الفحل الجميل
هنالك شاعر له قصة قريبة لقصة النبي يوسف في التراثين اليهودي والإسلامي، وهي قصة الشاعر عمرو بن قميئة، حيث عرف بشدة جماله، وقد وضعه ابن سلام في الطبقة الثامنة من الفحول(33) مع كلِّ من النمر بن تولب، وأوس بن غلفاء الهجيمي، وعوف بن عطية بن الخرع، وكأن أقدم من أمرئ القيس وقد اصطحبه معه إلى بلاد الروم وحين عرف ذلك بكى لأنه لم يحتمل طول الطريق وقال أمرؤ القيس حينما بكى:
بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دونه
ويقال إنه قد مات في الطريق، وقد ذكر أيضا إن بعضا من شعر أمرئ القيس كان شعره، وليس ذاك بشيء، وهو شيء غريب أن ينتحل شعره لأمئ القيس ويقال ليس ذاك بشيء، ويعلل د. طه حسين ذلك بأن شعره وشعر أمرئ القيس كان قد ضاع وما وصل إلينا منتحلا فلم يعد لشعرهما وجود بل معان متداولة لا أكثر. وكذلك فالعرب كانت تسمي أمرأ القيس بالملك الضليل وعمرو بن قميئة بعمر الضائع، إذن فهما ضائعان وتائهان كشعرهما، حيث يقول د.طه حسين(34):( إن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة كما لا يمكن أن يكون لأمرئ القيس لأنه شعر منحول). إما عن قصة حياته فنقرأ التالي: ولد يتيما فتربى في حضن عمه وكان جميلا وضيء الطلعة، فكلفت به امرأة عمه حتى إذا غاب زوجها أرسلت عليه، ولما جاء دعته لنفسها، فامتنع وفاء لعمه، وانصرف، لكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنة، ولما جاء زوجها أظهرت الغضب والحنق وقصت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر). لكنه اعتذر لعمه بقصيدة نقتبس منه هذه الأبيات(35):
لعمركَ مـا نـفـسٌ بجــدٍّ رشيــدةٌ تـؤامُرني سـوءا لأصـرِم مَرثــدا
وإن ظهرتْ مني قوارصُ جمةٌ وأفرغ من لؤمي مرارا وأصعدا
على غير جرمٍ أن أكونَ جنيتهُ ســوى قــولِ باغٍ كــادني فتجهَّدا
ويقول الرواة إنه هرب إلى الحيرة هربا من غضب عمه الذي كاد أن يقتله لكنه أعرض عن ذلك.
من هنا يمكن أن نقول إن تراثنا الشعري فيه عدة أنواع من الفحول بحسب ما سطره لنا الرواة وكتاب الأساطير هي (الفحل- الخنثى) الذي تحول إلى بطل، و(الفحل- الطائش) لكنه اغترب ومات، و(الفحل- الجميل) الذي نال غضب عمه ولكنه نجى من الموت.(يتبع)

بابل- الجمعة
‏19‏/05‏/2023‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...