نجد كثيرًا من النقاد والباحثين في الشعر العربي وبخاصة في الشعر الفلسطيني يهتمون كثيرًا بالشعراء المعروفين؛ فنرى، على سبيل المثال، أبحاثا كثيرة ودراسات ومقالات تتناول شعر إبراهيم طوقان وفدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم، في حين تندر مثل هذه الأعمال عن غيرهم من الشعراء مثل: عبد الرحمن بارود، وسليمان التاجي الفاروقي، وخليل زقطان، وراضي صدوق.
من أوجه الغرابة أن هؤلاء النقاد والباحثين حين يتناولون شعر المغمورين فإنهم يتناولونه في مناسبات معينة، ودون اهتمام يذكر، ودون تقويم سليم، مع أن ما يُبرز أهمية النقد، ويظهر تميز الناقد وموضوعيته وذكاءه وحصافته وصدق إنسانيته بيان الحقيقة الأدبية والحقيقة العلمية، والدفاع عن صاحبها حتى وإن كان قد غيبه الموت، أو غيبه إهمال الباحثين والنقاد الآخرين.
من المواقف النقدية الحصيفة والمنصفة يحضرني موقف الدكتور إبراهيم الكوفحي من الشاعر عبد الرحمن بارود في كتابه المعنون" قراءة في شعر عبد الرحمن بارود"(عمان دار المأمون 2015). ولعل من من الأفضل قبل الحديث عن هذا الموقف التعريف بالشاعر.
بارود هو شاعر فلسطيني ولد عام 1937، في قرية بيت دراس (لواء غزة). وطرد في الحادية عشرة من وطنه عام 1948، ولجأ إلى مخيم جباليا في غزة، واستطاع إكمال دراسته الجامعية في جامعة القاهرة وحصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1972م. وعمل أستاذًا جامعيًا في جامعة الملك عبد العزيز ثلاثين سنة (1972- 2002) وأصدر ديوانه الأول" غريب الديار عام 19988، ثم أصدرت له مؤسسة فلسطين للثقافة "الأعمال الشعرية الكاملة" عام 2010، قبل يومين من وفاته في جدة. وكانت بجمع د. أسامة جمعة الأشقر وتحريره وتعليقه.
يتجلى موقف الدكتور الكوفحي من هذا الشاعر في بحثين تكوّن منهما كتابه المذكور آنفًا. رصد في البحث الأول الملاحظات المنهجية والتحقيقية في الأعمال الكاملة التي أصدرها الدكتور الأشقر؛ فقد تجاوز حدود التدقيق اللغوي، وخالف أبسط قواعد تحقيق النصوص ونشرها لتجيء الأعمال، بخلاف ما كان يرجو صاحبها، مليئة بالتصحيف والتحريف، والأخطاء العلمية، والأحكام المتسرعة، والاجتهادات الخاطئة، والتعليقات التي لا معنى لها، واختيارات القصائد الرديئة التي لم يوردها الشاعر في ديوانه الأول "غريب الديار".
وتناول البحث الثاني ظواهر التشكيل الفني في شعر عبد الرحمن بارود. وبين فيه بأن شعره ليس مجرد أفكار فحسب، بل إبداع له لغته الخاصة التي تعبر عن تجربته في الحياة بأسلوب مؤثر أخاذ يستثمر التراث، ويستخدم التقنيات الشعرية مثل التناص والتكرار وغيرهما من التقنيات؛ ليغدو مؤثرًا في متلقيه من الناحتين الجمالية والفكرية، وبخاصة في قصائده التي تعبر عن قضايا الأمة العربية والإسلامية في مقدمتها القضية الفلسطينية.
من قصائد الشاعر عبد الرحمن بارود الناجحة، التي تتوهج بالعاطفة والصور المادية، ويتجلى فيها حب الشاعر لوطنه فلسطين قصيدة" عام مضى" التي أبدعها عام 1989.
حَلاَّكِ مَنْ يَتَحَلَّى بِاسمْهِ الذَّهَبُ وأَطْيَبُ الطِّيْبِ فِيْكِ الرُّسْلُ والكُتُبُ
تَنْأَى بِنَا الدَّارُ لَكِنْ مِنْ مَهَاجِرِنَا إِلَيْكِ مِثْلَ رُفُوفِ الطَّيْرِ نَنْجَذِبُ
فيَا فِلَسْطِيْنُ حَيَّاكِ الحَيَا غَدَقاً ولَى الرَّدَى هَارِباً واخْضَوضَرَ الحَطَبُ
أقُولُ والقَلْبُ يَشْدُو في خَمَائِلِهَا هَذَا الجَمَالُ إلَى الفِرْدَوْسِ يَنْتَسِبُ
يَا لَلْجَمَالِ إِذَا مَا ازَّيْنَتْ وعلَى سُفُوحِهَا غَرَّدَ الزَّيْتُونُ والعِنَبُ
لاَ لاَ تَسَلْ عَنْ شُمُوخِ البُرْتُقَالِ ضُحًى وقَدْ تَلأْلأَ في نُوَّارِهِ الحَبَبُ
هَذِي فِلَسْطِيْنُ يَا مَنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا كأَنَّ أَحْجَارَهَا القُدْسِيَّةَ الشُّهُبُ
لا شك أن الدكتور الكوفحي دافع عن شعر عبد الرحمن بارود دون أن يتأثر بعوامل خارجية، كأن يتعصب لمذهب أو يتحزب لفئة، فرأيناه بإخلاصه لحقائق العلم والإبداع يأخذ على جامع ذلك الشعر ومحققه مآخذ تعيد القيمة للشعر والشاعر. ولم يكتف الدكتور إبراهيم بذلك، بل أورد ما يعزز ما طرحه ويثريه بالحديث عن شعر بارود ميزاته الفنية وتقنياته.
في النهاية ما نريد أن نلفت إليه في هذه المقالة أن في حياتنا الأدبية شعراء كثر ظُلموا من ناحيتين: الناحية الأولى حين قل الاهتمام بهم، وتجاهل النقاد دورهم في الحياة الثقافية، والناحية الثانية حين اهتُم بشعرهم دون رويّة ودقة؛ ليبقوا في الظل ويطويهم النسيان.
لعل من الضرورة والواجب العلمي في المقام الأول أن ينتبه النقاد والباحثون، كما فعل الدكتور إبراهيم الكوفحي، إلى الشعراء المظلومين بالنسيان أو الإهمال؛ ليعيدوا إليهم قيمتهم وأهميتهم في عالم الشعر والإبداع.
من أوجه الغرابة أن هؤلاء النقاد والباحثين حين يتناولون شعر المغمورين فإنهم يتناولونه في مناسبات معينة، ودون اهتمام يذكر، ودون تقويم سليم، مع أن ما يُبرز أهمية النقد، ويظهر تميز الناقد وموضوعيته وذكاءه وحصافته وصدق إنسانيته بيان الحقيقة الأدبية والحقيقة العلمية، والدفاع عن صاحبها حتى وإن كان قد غيبه الموت، أو غيبه إهمال الباحثين والنقاد الآخرين.
من المواقف النقدية الحصيفة والمنصفة يحضرني موقف الدكتور إبراهيم الكوفحي من الشاعر عبد الرحمن بارود في كتابه المعنون" قراءة في شعر عبد الرحمن بارود"(عمان دار المأمون 2015). ولعل من من الأفضل قبل الحديث عن هذا الموقف التعريف بالشاعر.
بارود هو شاعر فلسطيني ولد عام 1937، في قرية بيت دراس (لواء غزة). وطرد في الحادية عشرة من وطنه عام 1948، ولجأ إلى مخيم جباليا في غزة، واستطاع إكمال دراسته الجامعية في جامعة القاهرة وحصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1972م. وعمل أستاذًا جامعيًا في جامعة الملك عبد العزيز ثلاثين سنة (1972- 2002) وأصدر ديوانه الأول" غريب الديار عام 19988، ثم أصدرت له مؤسسة فلسطين للثقافة "الأعمال الشعرية الكاملة" عام 2010، قبل يومين من وفاته في جدة. وكانت بجمع د. أسامة جمعة الأشقر وتحريره وتعليقه.
يتجلى موقف الدكتور الكوفحي من هذا الشاعر في بحثين تكوّن منهما كتابه المذكور آنفًا. رصد في البحث الأول الملاحظات المنهجية والتحقيقية في الأعمال الكاملة التي أصدرها الدكتور الأشقر؛ فقد تجاوز حدود التدقيق اللغوي، وخالف أبسط قواعد تحقيق النصوص ونشرها لتجيء الأعمال، بخلاف ما كان يرجو صاحبها، مليئة بالتصحيف والتحريف، والأخطاء العلمية، والأحكام المتسرعة، والاجتهادات الخاطئة، والتعليقات التي لا معنى لها، واختيارات القصائد الرديئة التي لم يوردها الشاعر في ديوانه الأول "غريب الديار".
وتناول البحث الثاني ظواهر التشكيل الفني في شعر عبد الرحمن بارود. وبين فيه بأن شعره ليس مجرد أفكار فحسب، بل إبداع له لغته الخاصة التي تعبر عن تجربته في الحياة بأسلوب مؤثر أخاذ يستثمر التراث، ويستخدم التقنيات الشعرية مثل التناص والتكرار وغيرهما من التقنيات؛ ليغدو مؤثرًا في متلقيه من الناحتين الجمالية والفكرية، وبخاصة في قصائده التي تعبر عن قضايا الأمة العربية والإسلامية في مقدمتها القضية الفلسطينية.
من قصائد الشاعر عبد الرحمن بارود الناجحة، التي تتوهج بالعاطفة والصور المادية، ويتجلى فيها حب الشاعر لوطنه فلسطين قصيدة" عام مضى" التي أبدعها عام 1989.
حَلاَّكِ مَنْ يَتَحَلَّى بِاسمْهِ الذَّهَبُ وأَطْيَبُ الطِّيْبِ فِيْكِ الرُّسْلُ والكُتُبُ
تَنْأَى بِنَا الدَّارُ لَكِنْ مِنْ مَهَاجِرِنَا إِلَيْكِ مِثْلَ رُفُوفِ الطَّيْرِ نَنْجَذِبُ
فيَا فِلَسْطِيْنُ حَيَّاكِ الحَيَا غَدَقاً ولَى الرَّدَى هَارِباً واخْضَوضَرَ الحَطَبُ
أقُولُ والقَلْبُ يَشْدُو في خَمَائِلِهَا هَذَا الجَمَالُ إلَى الفِرْدَوْسِ يَنْتَسِبُ
يَا لَلْجَمَالِ إِذَا مَا ازَّيْنَتْ وعلَى سُفُوحِهَا غَرَّدَ الزَّيْتُونُ والعِنَبُ
لاَ لاَ تَسَلْ عَنْ شُمُوخِ البُرْتُقَالِ ضُحًى وقَدْ تَلأْلأَ في نُوَّارِهِ الحَبَبُ
هَذِي فِلَسْطِيْنُ يَا مَنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا كأَنَّ أَحْجَارَهَا القُدْسِيَّةَ الشُّهُبُ
لا شك أن الدكتور الكوفحي دافع عن شعر عبد الرحمن بارود دون أن يتأثر بعوامل خارجية، كأن يتعصب لمذهب أو يتحزب لفئة، فرأيناه بإخلاصه لحقائق العلم والإبداع يأخذ على جامع ذلك الشعر ومحققه مآخذ تعيد القيمة للشعر والشاعر. ولم يكتف الدكتور إبراهيم بذلك، بل أورد ما يعزز ما طرحه ويثريه بالحديث عن شعر بارود ميزاته الفنية وتقنياته.
في النهاية ما نريد أن نلفت إليه في هذه المقالة أن في حياتنا الأدبية شعراء كثر ظُلموا من ناحيتين: الناحية الأولى حين قل الاهتمام بهم، وتجاهل النقاد دورهم في الحياة الثقافية، والناحية الثانية حين اهتُم بشعرهم دون رويّة ودقة؛ ليبقوا في الظل ويطويهم النسيان.
لعل من الضرورة والواجب العلمي في المقام الأول أن ينتبه النقاد والباحثون، كما فعل الدكتور إبراهيم الكوفحي، إلى الشعراء المظلومين بالنسيان أو الإهمال؛ ليعيدوا إليهم قيمتهم وأهميتهم في عالم الشعر والإبداع.