سميرة شرف - قراءة في قصيدة "شقوق الماء".. للشاعر مصطفى الحاج حسين .

ارتبط الإنسان بالشعر إبداعاً و تلقياً بأواصر التقدير و الانجذاب لعالمه الفريد في خلق ما يتميز و يتَّسم بخصوصيَّةٍ تتطلَّب جودةً و إتقاناً، تمكِّنه من حصد الإعجاب و التسليم بقدرته على التثقيف و الإمتاع و المؤانسة .
فأصبح الشعر ابتكاراً خلاقاً يدخل عالَم النفس و الروح، فيغيِّر فيها الألوان والطبائع و الصور. و من هذا المنطلق، انجذب كثيرون إلى منبعه، ينهلون منه ما به يمتِّعون و يستمتعون. فصار له حيزُ وجودٍ معتبَرٍ في كل زمانٍ و مكان و سطحاً يطفو على أديمه عمق الإحساس و الشعور باعتباره خلاصة تجربةٍ انسانيَّةٍ ذات معنى وهدف .
وتعدُّ عمليَّة إصدار ديوان شعريٍّ توثيقاً لقصائد شاعر أبدعها متفرقةً في الزمان و المكان، قد تكون في موضوع واحد(كالحبِّ مثلاً) أو قد تتعدَّد مواضيعها و تختلف في نفس المجال(الإنسانيِّ مثلاً) لتقوى به تجربته الشعرية والتي تمتدُّ في الزمن تطوراً و تفاعلاً مع المحيط الذي يعيش فيه و يسعى دوماً إلى إغنائه و الحضور فيه ببصمةٍ خاصَّةٍ و أثرٍ واضح .
و بين أوَّلِ قصيدةٍ ينظمُها الشاعر و آخِرُ إبداعٍ له، زمن معركةٍ نفسيَّةٍ و عاطفيَّةٍ تجعل المخاض عسيراً عند كلِّ ولادةٍ. مما يراكِم لديه كماً من المقاييس التي يستقيها من انطباعات المتلقين نُقاداً و عاديينَ، لتصبح بوصلتَه للتقدُّم نحو اتجاهٍ صائبٍ، معتمداً تجاوز العثرات السابقة لتحقيق إجادةٍ مُرضِيةٍ له و لغيره .
و يبدو أن ولوج عالَم الشاعر، رحلةٌ في غياهبٍ معلومٍ(القصيدة) للبحث و الاستكشاف و التقويم. و هذا ما يصبو إليه كلُّ ساعٍ إلى قراءة ديوانٍ، توفَّرتْ لديه الإرادةُ المولِّدةُ للإحساس من جديد ٍ.
و أنا أخوض غمار هذه الرحلة، وجدتها ممتعةً، مثمرةً، ساحرةً، بما وفَّرته لي من أسباب الدهشةِ و الانبهارِ بشخصية الشاعر مصطفى الحاج حسين،و بتجربتِه الحياتية التي يمكن اعتبارها بصدقٍ نموذجاً للعزيمة و الإصرار على تجاوز المعاناة بكل أشكالها، و التعلُّق بتلابيب الكلمة كطوق نجاةٍ من بؤسِ واقعٍ مريرٍ تكاثفت على تجسيده عديدٌ من الظروف الذاتية و الموضوعية .
إنه الأديب السوري مصطفى الحاج حسين، عبر ستة عقود من الزمن (مواليد حلب، 1961) تشكلت لديه معالمُ شخصيَّةٍ عصاميَّةٍ مكافحةٍ مبدعة، اختارت الكلمة سبيلاً للتعبير و التغيير. فكان شغفه بالقراءة و هو صغير إعلاناً عن أديب محتمَلٍ برز و هو يخوض تجربةً إبداعيَّةً بمحاولات في نظم الشعر و كتابة القصة القصيرة، ليصير أديباً تعترف باسمه المجلات الأدبية و الصحف و الملتقيات و المحاضرات، فيعلو صوتُه منابر الأدب و الثقافة في كلِّ المحافظات السورية .
و ستستمرُّ شعلته متقدةً لتتجاوز حدود بلده إلى العالم العربي، بمشاركاته المتميزة في المسابقات الأدبية، و حصوله على التفوُّق فيها عن جدارةٍ و استحقاق ٍ.
و للشاعر مصطفى الحاج حسين إصدارات سجل اسمه بها قيمة مضافة للساحة الأدبية العربية و منها :
في القصة
( قهقهات الشيطان- المبدع ذو الضفتين )
و في الشعر دواوين:
قبل أن يستفيق الضوء
- راية الندى
- تلابيب الرجاء
أصابع الركام
- نوافذ على الجرح
و كلها طبعة ورقية
وله دواوين طباعة الكترونية:
تابوت العدم
أجنحة الجمر
قصيدتي مقبرتي
أبجدية القبلا
ذبيح الجهات
سعف السراب
أخاديد الظلام
و هذا العطاء الأدبي منحة من الشاعر مصطفى الحاج حسين يروم بها التعبير عن الذات أولا و الوجود ثانيا بكل تجلياته المادية و المعنوية، و تفاعلها مع العيش و المأمول عيشه، باعتبار أن الشعر أرض الانفعال و الفعل لخلق التفاعل و هو مطمح كل أديب له رسالة التأثير على أرض الواقع .
و الشاعر مصطفى الحاج حسين مسكون بالهم الإنساني عامة من ظلم و قهر و استبداد، يحاول دوما التمسك بانتمائه و وطنيته و قوميته كمقاربة حقيقية لقانون البقاء تحت ظل الجمال، وهو ما ستترجمه قصائده في هذا
الديوان(شقوق الماء) الذي يستمد سماته من الطبيعة أولا(الفن الصادق)كما تشير إليه أغلب عناوين قصائده، و هي ستون قصيدة اتسمت بنبرة الحزن و الأسى و الحسرة و الأسف، مردها سعيه الحثيث إلى النفور من القبح و الرداءة. و بالمزاوجة بين المحسوس و المعقول في تمثله للأفكار و حسن صياغتها و رحابة المعاني التي تضمنتها قصائده، لاهثا وراء الجمال المعنوي في كل موضوع طرحه بانسياق فني تعبيري أعفاه من الالتزام بالقواعد الشكلية لاستمالة القارئ .
وقد برع الشاعر مصطفى الحاج حسين في الاقتصاد اللغوي في التعبير، مستجيبا فنيا لما يمليه الترابط المعنوي في الصياغة الشعرية، و الواقعية في المطاوعة الفنية لما يريد قوله، في إطار القصيدة النثرية الحداثية التي تعد تحررا من قيود القصيدة الشعرية السابقة لها زمنيا، استجابة لتطور العصر و تقدم آليات الأشتغال فيه حسب المتطلبات التي يفرضها الواقع المادي و المعنوي .
والشاعر مصطفى الحاج حسين مدرك لهذه الحركية المنسجمة مع رؤيته الفنية، لذلك جند لها إمكانياته و طاقاته الإبداعية للنجاح في إثبات ذاته الشاعرة ضمن كوكبة ممن آمنوا بالتحرر قبل الحرية، بإسهام مسهب في هذه الطفرة النوعية التي شهدها الشعر العربي الحديث و التي حققت انجازا فنيا كبيرا على مستوى تحديث الشعر العربي الذي كان، كسائر مناحي الحياة في حاجة إلى قوالب جديدة تستوعب تراكمات التغيير و تؤطره. فجاءت القصيدة النثرية،التي برع فيها شاعرنا و هو يتعامل مع التجربة الشعورية بها، بإبداع سيمكنها من الخروج إلى أرض الواقع، قصائد تشهد دواوينه على جمالها و جودة نظمها في هذا النموذج المستحدث .
وإذا اعتبرنا (شقوق الماء) آخر إبداعات الشاعر زمنيا، فلدينا أن نقيس قيمتها من حيث سلم التدرج للتطور الفني، بحكم ان الشاعر مصطفى الحاج حسين يسعى دوما إلى الأخذ بآراء النقاد و جمهور المتلقين، و الاستفادة منها بتواضع كبير، ليكون ديوان (شقوق الماء) مثالا على سعيه الحثيث نحو قصيدة أرقى و أجود و أنفع و أطول رسوخا في ساحة أدبية تعج بالانتاج و الإصدار و النشر و التوثيق إلكترونيا يكون فيها الانتشار الواسع و الإقبال الكبير على الأقوى تأثيرا و تغييرا في الفرد و المجتمع .
و في ديوان (شقوق الماء) أعتبر عناوين القصائد سرا من أسرار روعة النصوص في مدى إتقان الشاعر في جعلها جسرا من جسور العبور إلى قراءة النص و فهمه واستيعابه بشكل لا تجد فيه هامش خطأ في التوقع. لذلك فالتوقف عند العنوان و التمعن فيه، كفيل بأن يدل على مضمون القصيدة كلها، مثلا(عقوق، خصام، بزوغ، المصير، احتضار، غواية ،حشرجة...) يوجد المعنى نفسه مدرجا ضمن قالب لغوي تعبيري يشكل جسد قصيدة عار من التكلف و الحشو، منساق لدواخل الشاعر و مكنوناته للتشكيل على أحسن صورة ممكنة ستترجم لواعجه و مواجعه و فواجعه (أمنيات محالة، لسوء حظي، زوابع الشتات، أحب موتي، وصيتي..) بسحر شاعري يفرض الإعجاب برقي اللغة و تميز المعنى المرتبط بذات الشاعر المنصهرة في واقعها، تتجرع آلامه، فتبحث لها بدل الوجع و الأنين عن صورة أجمل تلفظ بها الآه عاليا.
و أفضل شاهد على ما سبق(شقوق الماء) عنوان الديوان الذي أفاض في رسم معالم الدقة في التصوير الفني و الرمزية السلسة في الجمع بين لفظي تركيبه جمعا سيولد استفزازا محمودا لقارئ الديوان في طرح سؤال سيجد جوابه في القصائد تباعا عندما ستثري مخيلته إمكانية التوفيق بين المادي/المادي، و المادي/المعنوي .
فالشق هو الصدع، و قد يكون ظاهرا أوغير غير ظاهر يحيل عليه التسرب البين للسوائل أو الأدخنة أو الأشعة، و كلها مواد ستصبح في العنوان معان تستنبط ونحن نطرح السؤال بصيغة سريالية تضفي عليه التفرد التعبيري في خلق تركيبة من عنصرين في الواقع
(الشقوق/الماء) هي عنصر مستحيل (تشقق الماء) .
وهنا ندرك ما للكلمة عند الشاعر من قدرة على خلق الدهشة و بث الاطمئنان إلى صورة تجد لها مرتعا في تخيلك، الذي بفضل دينامية التأثر، يرسم للماء شقوقا في لوحة لن تتكرر عند اثنين، لأنها إبداع المتلقي وحده .
نعم إنه الوصال المحظور حقيقة، المباح في الخيال، و هذا ما سيترجم لنا بمتعة، تلقي فظائع الواقع الخاص و العام للشاعر مصطفى الحاج حسين ( الشقوق ) في الماضي و الحاضر في كل مناحي الحياة: سياسيا( دول التحالف، ضمائر، من يحاكم الحاكم؟..)
اجتماعيا( كفى، عقوق، خصام، حشرجة.. )
فكريا( كلاب الثقافة..)
دينيا ( يا سيدي الموت، أحب موتي، لست بيوسف..)
بصيغة تمكن من تحقيق مباشر للتعاطف و الشجب و المؤازرة باتخاذ موقف جديد، أو تصحيح موقف بدا خطأه، مع العلم أننا نتقاسم هذا الواقع مع الشاعر و نعيش معه فيه بظروف خاصة غالبا ما يكون فيها الهم واحد، و المطلب واحد، و المسالك متعددة .
وسيرتفع منسوب الانتشاء بهذا الغوص في كل العناوين ذات التركيب الإضافي مثلا :
( مطر الذاكرة، زوابع الشتات، شهقة المدى، طاووس الغبار، رمق العبور، شهيق الخراب..)
وكلها تحمل من الصور الإبداعية معنى و مبنى ما سيشهد للشاعر مصطفى الحاج حسين على براعته الأدبية في النفاذ إلى أعماق نفس المتلقي لرجها و خلخلة عقله بما يتوفرعليه من قوة و صمود و وفاء للوطن و للأحبة و للقيم الإنسانية الفضلى و للتاريخ.
شكرا شاعرنا الكبير على هذه التحفة( شقوق الماء) والتي لامست حسي و ذوقي بما لامسته دواوين الشعراء الكبار الذين بصموا ذاكرتنا بروائعهم الخالدة.

سميرة شرف
المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...