ارتبط الإنسان بالشعر إبداعاً و تلقياً بأواصر التقدير و الانجذاب لعالمه الفريد في خلق ما يتميز و يتَّسم بخصوصيَّةٍ تتطلَّب جودةً و إتقاناً، تمكِّنه من حصد الإعجاب و التسليم بقدرته على التثقيف و الإمتاع و المؤانسة .
فأصبح الشعر ابتكاراً خلاقاً يدخل عالَم النفس و الروح، فيغيِّر فيها الألوان والطبائع و الصور. و من هذا المنطلق، انجذب كثيرون إلى منبعه، ينهلون منه ما به يمتِّعون و يستمتعون. فصار له حيزُ وجودٍ معتبَرٍ في كل زمانٍ و مكان و سطحاً يطفو على أديمه عمق الإحساس و الشعور باعتباره خلاصة تجربةٍ انسانيَّةٍ ذات معنى وهدف .
وتعدُّ عمليَّة إصدار ديوان شعريٍّ توثيقاً لقصائد شاعر أبدعها متفرقةً في الزمان و المكان، قد تكون في موضوع واحد(كالحبِّ مثلاً) أو قد تتعدَّد مواضيعها و تختلف في نفس المجال(الإنسانيِّ مثلاً) لتقوى به تجربته الشعرية والتي تمتدُّ في الزمن تطوراً و تفاعلاً مع المحيط الذي يعيش فيه و يسعى دوماً إلى إغنائه و الحضور فيه ببصمةٍ خاصَّةٍ و أثرٍ واضح .
و بين أوَّلِ قصيدةٍ ينظمُها الشاعر و آخِرُ إبداعٍ له، زمن معركةٍ نفسيَّةٍ و عاطفيَّةٍ تجعل المخاض عسيراً عند كلِّ ولادةٍ. مما يراكِم لديه كماً من المقاييس التي يستقيها من انطباعات المتلقين نُقاداً و عاديينَ، لتصبح بوصلتَه للتقدُّم نحو اتجاهٍ صائبٍ، معتمداً تجاوز العثرات السابقة لتحقيق إجادةٍ مُرضِيةٍ له و لغيره .
و يبدو أن ولوج عالَم الشاعر، رحلةٌ في غياهبٍ معلومٍ(القصيدة) للبحث و الاستكشاف و التقويم. و هذا ما يصبو إليه كلُّ ساعٍ إلى قراءة ديوانٍ، توفَّرتْ لديه الإرادةُ المولِّدةُ للإحساس من جديد ٍ.
و أنا أخوض غمار هذه الرحلة، وجدتها ممتعةً، مثمرةً، ساحرةً، بما وفَّرته لي من أسباب الدهشةِ و الانبهارِ بشخصية الشاعر مصطفى الحاج حسين،و بتجربتِه الحياتية التي يمكن اعتبارها بصدقٍ نموذجاً للعزيمة و الإصرار على تجاوز المعاناة بكل أشكالها، و التعلُّق بتلابيب الكلمة كطوق نجاةٍ من بؤسِ واقعٍ مريرٍ تكاثفت على تجسيده عديدٌ من الظروف الذاتية و الموضوعية .
إنه الأديب السوري مصطفى الحاج حسين، عبر ستة عقود من الزمن (مواليد حلب، 1961) تشكلت لديه معالمُ شخصيَّةٍ عصاميَّةٍ مكافحةٍ مبدعة، اختارت الكلمة سبيلاً للتعبير و التغيير. فكان شغفه بالقراءة و هو صغير إعلاناً عن أديب محتمَلٍ برز و هو يخوض تجربةً إبداعيَّةً بمحاولات في نظم الشعر و كتابة القصة القصيرة، ليصير أديباً تعترف باسمه المجلات الأدبية و الصحف و الملتقيات و المحاضرات، فيعلو صوتُه منابر الأدب و الثقافة في كلِّ المحافظات السورية .
و ستستمرُّ شعلته متقدةً لتتجاوز حدود بلده إلى العالم العربي، بمشاركاته المتميزة في المسابقات الأدبية، و حصوله على التفوُّق فيها عن جدارةٍ و استحقاق ٍ.
و للشاعر مصطفى الحاج حسين إصدارات سجل اسمه بها قيمة مضافة للساحة الأدبية العربية و منها :
في القصة
( قهقهات الشيطان- المبدع ذو الضفتين )
و في الشعر دواوين:
قبل أن يستفيق الضوء
- راية الندى
- تلابيب الرجاء
أصابع الركام
- نوافذ على الجرح
و كلها طبعة ورقية
وله دواوين طباعة الكترونية:
تابوت العدم
أجنحة الجمر
قصيدتي مقبرتي
أبجدية القبلا
ذبيح الجهات
سعف السراب
أخاديد الظلام
و هذا العطاء الأدبي منحة من الشاعر مصطفى الحاج حسين يروم بها التعبير عن الذات أولا و الوجود ثانيا بكل تجلياته المادية و المعنوية، و تفاعلها مع العيش و المأمول عيشه، باعتبار أن الشعر أرض الانفعال و الفعل لخلق التفاعل و هو مطمح كل أديب له رسالة التأثير على أرض الواقع .
و الشاعر مصطفى الحاج حسين مسكون بالهم الإنساني عامة من ظلم و قهر و استبداد، يحاول دوما التمسك بانتمائه و وطنيته و قوميته كمقاربة حقيقية لقانون البقاء تحت ظل الجمال، وهو ما ستترجمه قصائده في هذا
الديوان(شقوق الماء) الذي يستمد سماته من الطبيعة أولا(الفن الصادق)كما تشير إليه أغلب عناوين قصائده، و هي ستون قصيدة اتسمت بنبرة الحزن و الأسى و الحسرة و الأسف، مردها سعيه الحثيث إلى النفور من القبح و الرداءة. و بالمزاوجة بين المحسوس و المعقول في تمثله للأفكار و حسن صياغتها و رحابة المعاني التي تضمنتها قصائده، لاهثا وراء الجمال المعنوي في كل موضوع طرحه بانسياق فني تعبيري أعفاه من الالتزام بالقواعد الشكلية لاستمالة القارئ .
وقد برع الشاعر مصطفى الحاج حسين في الاقتصاد اللغوي في التعبير، مستجيبا فنيا لما يمليه الترابط المعنوي في الصياغة الشعرية، و الواقعية في المطاوعة الفنية لما يريد قوله، في إطار القصيدة النثرية الحداثية التي تعد تحررا من قيود القصيدة الشعرية السابقة لها زمنيا، استجابة لتطور العصر و تقدم آليات الأشتغال فيه حسب المتطلبات التي يفرضها الواقع المادي و المعنوي .
والشاعر مصطفى الحاج حسين مدرك لهذه الحركية المنسجمة مع رؤيته الفنية، لذلك جند لها إمكانياته و طاقاته الإبداعية للنجاح في إثبات ذاته الشاعرة ضمن كوكبة ممن آمنوا بالتحرر قبل الحرية، بإسهام مسهب في هذه الطفرة النوعية التي شهدها الشعر العربي الحديث و التي حققت انجازا فنيا كبيرا على مستوى تحديث الشعر العربي الذي كان، كسائر مناحي الحياة في حاجة إلى قوالب جديدة تستوعب تراكمات التغيير و تؤطره. فجاءت القصيدة النثرية،التي برع فيها شاعرنا و هو يتعامل مع التجربة الشعورية بها، بإبداع سيمكنها من الخروج إلى أرض الواقع، قصائد تشهد دواوينه على جمالها و جودة نظمها في هذا النموذج المستحدث .
وإذا اعتبرنا (شقوق الماء) آخر إبداعات الشاعر زمنيا، فلدينا أن نقيس قيمتها من حيث سلم التدرج للتطور الفني، بحكم ان الشاعر مصطفى الحاج حسين يسعى دوما إلى الأخذ بآراء النقاد و جمهور المتلقين، و الاستفادة منها بتواضع كبير، ليكون ديوان (شقوق الماء) مثالا على سعيه الحثيث نحو قصيدة أرقى و أجود و أنفع و أطول رسوخا في ساحة أدبية تعج بالانتاج و الإصدار و النشر و التوثيق إلكترونيا يكون فيها الانتشار الواسع و الإقبال الكبير على الأقوى تأثيرا و تغييرا في الفرد و المجتمع .
و في ديوان (شقوق الماء) أعتبر عناوين القصائد سرا من أسرار روعة النصوص في مدى إتقان الشاعر في جعلها جسرا من جسور العبور إلى قراءة النص و فهمه واستيعابه بشكل لا تجد فيه هامش خطأ في التوقع. لذلك فالتوقف عند العنوان و التمعن فيه، كفيل بأن يدل على مضمون القصيدة كلها، مثلا(عقوق، خصام، بزوغ، المصير، احتضار، غواية ،حشرجة...) يوجد المعنى نفسه مدرجا ضمن قالب لغوي تعبيري يشكل جسد قصيدة عار من التكلف و الحشو، منساق لدواخل الشاعر و مكنوناته للتشكيل على أحسن صورة ممكنة ستترجم لواعجه و مواجعه و فواجعه (أمنيات محالة، لسوء حظي، زوابع الشتات، أحب موتي، وصيتي..) بسحر شاعري يفرض الإعجاب برقي اللغة و تميز المعنى المرتبط بذات الشاعر المنصهرة في واقعها، تتجرع آلامه، فتبحث لها بدل الوجع و الأنين عن صورة أجمل تلفظ بها الآه عاليا.
و أفضل شاهد على ما سبق(شقوق الماء) عنوان الديوان الذي أفاض في رسم معالم الدقة في التصوير الفني و الرمزية السلسة في الجمع بين لفظي تركيبه جمعا سيولد استفزازا محمودا لقارئ الديوان في طرح سؤال سيجد جوابه في القصائد تباعا عندما ستثري مخيلته إمكانية التوفيق بين المادي/المادي، و المادي/المعنوي .
فالشق هو الصدع، و قد يكون ظاهرا أوغير غير ظاهر يحيل عليه التسرب البين للسوائل أو الأدخنة أو الأشعة، و كلها مواد ستصبح في العنوان معان تستنبط ونحن نطرح السؤال بصيغة سريالية تضفي عليه التفرد التعبيري في خلق تركيبة من عنصرين في الواقع
(الشقوق/الماء) هي عنصر مستحيل (تشقق الماء) .
وهنا ندرك ما للكلمة عند الشاعر من قدرة على خلق الدهشة و بث الاطمئنان إلى صورة تجد لها مرتعا في تخيلك، الذي بفضل دينامية التأثر، يرسم للماء شقوقا في لوحة لن تتكرر عند اثنين، لأنها إبداع المتلقي وحده .
نعم إنه الوصال المحظور حقيقة، المباح في الخيال، و هذا ما سيترجم لنا بمتعة، تلقي فظائع الواقع الخاص و العام للشاعر مصطفى الحاج حسين ( الشقوق ) في الماضي و الحاضر في كل مناحي الحياة: سياسيا( دول التحالف، ضمائر، من يحاكم الحاكم؟..)
اجتماعيا( كفى، عقوق، خصام، حشرجة.. )
فكريا( كلاب الثقافة..)
دينيا ( يا سيدي الموت، أحب موتي، لست بيوسف..)
بصيغة تمكن من تحقيق مباشر للتعاطف و الشجب و المؤازرة باتخاذ موقف جديد، أو تصحيح موقف بدا خطأه، مع العلم أننا نتقاسم هذا الواقع مع الشاعر و نعيش معه فيه بظروف خاصة غالبا ما يكون فيها الهم واحد، و المطلب واحد، و المسالك متعددة .
وسيرتفع منسوب الانتشاء بهذا الغوص في كل العناوين ذات التركيب الإضافي مثلا :
( مطر الذاكرة، زوابع الشتات، شهقة المدى، طاووس الغبار، رمق العبور، شهيق الخراب..)
وكلها تحمل من الصور الإبداعية معنى و مبنى ما سيشهد للشاعر مصطفى الحاج حسين على براعته الأدبية في النفاذ إلى أعماق نفس المتلقي لرجها و خلخلة عقله بما يتوفرعليه من قوة و صمود و وفاء للوطن و للأحبة و للقيم الإنسانية الفضلى و للتاريخ.
شكرا شاعرنا الكبير على هذه التحفة( شقوق الماء) والتي لامست حسي و ذوقي بما لامسته دواوين الشعراء الكبار الذين بصموا ذاكرتنا بروائعهم الخالدة.
سميرة شرف
المغرب
فأصبح الشعر ابتكاراً خلاقاً يدخل عالَم النفس و الروح، فيغيِّر فيها الألوان والطبائع و الصور. و من هذا المنطلق، انجذب كثيرون إلى منبعه، ينهلون منه ما به يمتِّعون و يستمتعون. فصار له حيزُ وجودٍ معتبَرٍ في كل زمانٍ و مكان و سطحاً يطفو على أديمه عمق الإحساس و الشعور باعتباره خلاصة تجربةٍ انسانيَّةٍ ذات معنى وهدف .
وتعدُّ عمليَّة إصدار ديوان شعريٍّ توثيقاً لقصائد شاعر أبدعها متفرقةً في الزمان و المكان، قد تكون في موضوع واحد(كالحبِّ مثلاً) أو قد تتعدَّد مواضيعها و تختلف في نفس المجال(الإنسانيِّ مثلاً) لتقوى به تجربته الشعرية والتي تمتدُّ في الزمن تطوراً و تفاعلاً مع المحيط الذي يعيش فيه و يسعى دوماً إلى إغنائه و الحضور فيه ببصمةٍ خاصَّةٍ و أثرٍ واضح .
و بين أوَّلِ قصيدةٍ ينظمُها الشاعر و آخِرُ إبداعٍ له، زمن معركةٍ نفسيَّةٍ و عاطفيَّةٍ تجعل المخاض عسيراً عند كلِّ ولادةٍ. مما يراكِم لديه كماً من المقاييس التي يستقيها من انطباعات المتلقين نُقاداً و عاديينَ، لتصبح بوصلتَه للتقدُّم نحو اتجاهٍ صائبٍ، معتمداً تجاوز العثرات السابقة لتحقيق إجادةٍ مُرضِيةٍ له و لغيره .
و يبدو أن ولوج عالَم الشاعر، رحلةٌ في غياهبٍ معلومٍ(القصيدة) للبحث و الاستكشاف و التقويم. و هذا ما يصبو إليه كلُّ ساعٍ إلى قراءة ديوانٍ، توفَّرتْ لديه الإرادةُ المولِّدةُ للإحساس من جديد ٍ.
و أنا أخوض غمار هذه الرحلة، وجدتها ممتعةً، مثمرةً، ساحرةً، بما وفَّرته لي من أسباب الدهشةِ و الانبهارِ بشخصية الشاعر مصطفى الحاج حسين،و بتجربتِه الحياتية التي يمكن اعتبارها بصدقٍ نموذجاً للعزيمة و الإصرار على تجاوز المعاناة بكل أشكالها، و التعلُّق بتلابيب الكلمة كطوق نجاةٍ من بؤسِ واقعٍ مريرٍ تكاثفت على تجسيده عديدٌ من الظروف الذاتية و الموضوعية .
إنه الأديب السوري مصطفى الحاج حسين، عبر ستة عقود من الزمن (مواليد حلب، 1961) تشكلت لديه معالمُ شخصيَّةٍ عصاميَّةٍ مكافحةٍ مبدعة، اختارت الكلمة سبيلاً للتعبير و التغيير. فكان شغفه بالقراءة و هو صغير إعلاناً عن أديب محتمَلٍ برز و هو يخوض تجربةً إبداعيَّةً بمحاولات في نظم الشعر و كتابة القصة القصيرة، ليصير أديباً تعترف باسمه المجلات الأدبية و الصحف و الملتقيات و المحاضرات، فيعلو صوتُه منابر الأدب و الثقافة في كلِّ المحافظات السورية .
و ستستمرُّ شعلته متقدةً لتتجاوز حدود بلده إلى العالم العربي، بمشاركاته المتميزة في المسابقات الأدبية، و حصوله على التفوُّق فيها عن جدارةٍ و استحقاق ٍ.
و للشاعر مصطفى الحاج حسين إصدارات سجل اسمه بها قيمة مضافة للساحة الأدبية العربية و منها :
في القصة
( قهقهات الشيطان- المبدع ذو الضفتين )
و في الشعر دواوين:
قبل أن يستفيق الضوء
- راية الندى
- تلابيب الرجاء
أصابع الركام
- نوافذ على الجرح
و كلها طبعة ورقية
وله دواوين طباعة الكترونية:
تابوت العدم
أجنحة الجمر
قصيدتي مقبرتي
أبجدية القبلا
ذبيح الجهات
سعف السراب
أخاديد الظلام
و هذا العطاء الأدبي منحة من الشاعر مصطفى الحاج حسين يروم بها التعبير عن الذات أولا و الوجود ثانيا بكل تجلياته المادية و المعنوية، و تفاعلها مع العيش و المأمول عيشه، باعتبار أن الشعر أرض الانفعال و الفعل لخلق التفاعل و هو مطمح كل أديب له رسالة التأثير على أرض الواقع .
و الشاعر مصطفى الحاج حسين مسكون بالهم الإنساني عامة من ظلم و قهر و استبداد، يحاول دوما التمسك بانتمائه و وطنيته و قوميته كمقاربة حقيقية لقانون البقاء تحت ظل الجمال، وهو ما ستترجمه قصائده في هذا
الديوان(شقوق الماء) الذي يستمد سماته من الطبيعة أولا(الفن الصادق)كما تشير إليه أغلب عناوين قصائده، و هي ستون قصيدة اتسمت بنبرة الحزن و الأسى و الحسرة و الأسف، مردها سعيه الحثيث إلى النفور من القبح و الرداءة. و بالمزاوجة بين المحسوس و المعقول في تمثله للأفكار و حسن صياغتها و رحابة المعاني التي تضمنتها قصائده، لاهثا وراء الجمال المعنوي في كل موضوع طرحه بانسياق فني تعبيري أعفاه من الالتزام بالقواعد الشكلية لاستمالة القارئ .
وقد برع الشاعر مصطفى الحاج حسين في الاقتصاد اللغوي في التعبير، مستجيبا فنيا لما يمليه الترابط المعنوي في الصياغة الشعرية، و الواقعية في المطاوعة الفنية لما يريد قوله، في إطار القصيدة النثرية الحداثية التي تعد تحررا من قيود القصيدة الشعرية السابقة لها زمنيا، استجابة لتطور العصر و تقدم آليات الأشتغال فيه حسب المتطلبات التي يفرضها الواقع المادي و المعنوي .
والشاعر مصطفى الحاج حسين مدرك لهذه الحركية المنسجمة مع رؤيته الفنية، لذلك جند لها إمكانياته و طاقاته الإبداعية للنجاح في إثبات ذاته الشاعرة ضمن كوكبة ممن آمنوا بالتحرر قبل الحرية، بإسهام مسهب في هذه الطفرة النوعية التي شهدها الشعر العربي الحديث و التي حققت انجازا فنيا كبيرا على مستوى تحديث الشعر العربي الذي كان، كسائر مناحي الحياة في حاجة إلى قوالب جديدة تستوعب تراكمات التغيير و تؤطره. فجاءت القصيدة النثرية،التي برع فيها شاعرنا و هو يتعامل مع التجربة الشعورية بها، بإبداع سيمكنها من الخروج إلى أرض الواقع، قصائد تشهد دواوينه على جمالها و جودة نظمها في هذا النموذج المستحدث .
وإذا اعتبرنا (شقوق الماء) آخر إبداعات الشاعر زمنيا، فلدينا أن نقيس قيمتها من حيث سلم التدرج للتطور الفني، بحكم ان الشاعر مصطفى الحاج حسين يسعى دوما إلى الأخذ بآراء النقاد و جمهور المتلقين، و الاستفادة منها بتواضع كبير، ليكون ديوان (شقوق الماء) مثالا على سعيه الحثيث نحو قصيدة أرقى و أجود و أنفع و أطول رسوخا في ساحة أدبية تعج بالانتاج و الإصدار و النشر و التوثيق إلكترونيا يكون فيها الانتشار الواسع و الإقبال الكبير على الأقوى تأثيرا و تغييرا في الفرد و المجتمع .
و في ديوان (شقوق الماء) أعتبر عناوين القصائد سرا من أسرار روعة النصوص في مدى إتقان الشاعر في جعلها جسرا من جسور العبور إلى قراءة النص و فهمه واستيعابه بشكل لا تجد فيه هامش خطأ في التوقع. لذلك فالتوقف عند العنوان و التمعن فيه، كفيل بأن يدل على مضمون القصيدة كلها، مثلا(عقوق، خصام، بزوغ، المصير، احتضار، غواية ،حشرجة...) يوجد المعنى نفسه مدرجا ضمن قالب لغوي تعبيري يشكل جسد قصيدة عار من التكلف و الحشو، منساق لدواخل الشاعر و مكنوناته للتشكيل على أحسن صورة ممكنة ستترجم لواعجه و مواجعه و فواجعه (أمنيات محالة، لسوء حظي، زوابع الشتات، أحب موتي، وصيتي..) بسحر شاعري يفرض الإعجاب برقي اللغة و تميز المعنى المرتبط بذات الشاعر المنصهرة في واقعها، تتجرع آلامه، فتبحث لها بدل الوجع و الأنين عن صورة أجمل تلفظ بها الآه عاليا.
و أفضل شاهد على ما سبق(شقوق الماء) عنوان الديوان الذي أفاض في رسم معالم الدقة في التصوير الفني و الرمزية السلسة في الجمع بين لفظي تركيبه جمعا سيولد استفزازا محمودا لقارئ الديوان في طرح سؤال سيجد جوابه في القصائد تباعا عندما ستثري مخيلته إمكانية التوفيق بين المادي/المادي، و المادي/المعنوي .
فالشق هو الصدع، و قد يكون ظاهرا أوغير غير ظاهر يحيل عليه التسرب البين للسوائل أو الأدخنة أو الأشعة، و كلها مواد ستصبح في العنوان معان تستنبط ونحن نطرح السؤال بصيغة سريالية تضفي عليه التفرد التعبيري في خلق تركيبة من عنصرين في الواقع
(الشقوق/الماء) هي عنصر مستحيل (تشقق الماء) .
وهنا ندرك ما للكلمة عند الشاعر من قدرة على خلق الدهشة و بث الاطمئنان إلى صورة تجد لها مرتعا في تخيلك، الذي بفضل دينامية التأثر، يرسم للماء شقوقا في لوحة لن تتكرر عند اثنين، لأنها إبداع المتلقي وحده .
نعم إنه الوصال المحظور حقيقة، المباح في الخيال، و هذا ما سيترجم لنا بمتعة، تلقي فظائع الواقع الخاص و العام للشاعر مصطفى الحاج حسين ( الشقوق ) في الماضي و الحاضر في كل مناحي الحياة: سياسيا( دول التحالف، ضمائر، من يحاكم الحاكم؟..)
اجتماعيا( كفى، عقوق، خصام، حشرجة.. )
فكريا( كلاب الثقافة..)
دينيا ( يا سيدي الموت، أحب موتي، لست بيوسف..)
بصيغة تمكن من تحقيق مباشر للتعاطف و الشجب و المؤازرة باتخاذ موقف جديد، أو تصحيح موقف بدا خطأه، مع العلم أننا نتقاسم هذا الواقع مع الشاعر و نعيش معه فيه بظروف خاصة غالبا ما يكون فيها الهم واحد، و المطلب واحد، و المسالك متعددة .
وسيرتفع منسوب الانتشاء بهذا الغوص في كل العناوين ذات التركيب الإضافي مثلا :
( مطر الذاكرة، زوابع الشتات، شهقة المدى، طاووس الغبار، رمق العبور، شهيق الخراب..)
وكلها تحمل من الصور الإبداعية معنى و مبنى ما سيشهد للشاعر مصطفى الحاج حسين على براعته الأدبية في النفاذ إلى أعماق نفس المتلقي لرجها و خلخلة عقله بما يتوفرعليه من قوة و صمود و وفاء للوطن و للأحبة و للقيم الإنسانية الفضلى و للتاريخ.
شكرا شاعرنا الكبير على هذه التحفة( شقوق الماء) والتي لامست حسي و ذوقي بما لامسته دواوين الشعراء الكبار الذين بصموا ذاكرتنا بروائعهم الخالدة.
سميرة شرف
المغرب