مقدمة
بدر شاكر السيابحاولت في هذا الكتاب أن أتحدث عن السياب في إطار من الشئون العامة والخاصة التي أثرت في نفسيته وشعره، ولهذا آثرت طريقة تجمع بين التدرج الزمني والنمو (أو التراجع) النفسي والتطور (أو الانتكاس) الفني، فكان السياب الإنسان والسياب الشاعر معا دائما عل المسرح المكاني والزماني، ذلك لأني أرى أن هذه الطريقة توسع مجال الرؤية لدى القارئ لأنها تقدم له زوايا ثلاثا لا زاوية واحدة. وأنا أعلم أن كثيرا من الناس يضيقون ذرعا بالاحتكام المستمر إلى التاريخ، ولكن هؤلاء ينسون أن التاريخ صورة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية على الأرض، وأن دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا تعني انتقاصا من سماته الفنية، خصوصا حين يتفق الدارس والقارئ على أن ذلك الشعر كان جزءا من الحركة الكلية في التطور الجماعي، بل كان عاملا هاما في تلك الحركة، ولم يكن كله تهويما في دنيا الأحلام الدانية. كذلك فان دراسة دخائل النفس لا تعني
تشخيص " المرض " لدى الفنان من اجل التحليل النفسي ذاته وإنما هي وسيلة لفهم طبيعة المنابع التي فاض الشعر عنها. وقد خضع السياب في وقفته التاريخية والنفسية لعوامل عنيفة تركت آثارا عميقة في شعره ومن كان لا بد لاستبانة تلك الآثار من دراسة تلك الوقفة في موكب الجماعة وفي عزلة الذات على السواء. وكل فصل للشعر عن ذلك الموقف قد يعرض الدارس للتجريد أو للأخذ بالعموميات.
وقد بذلت جهدا غير قليل لأبرئ هذه الدراسة من التعميمات ومن انتحاء اللغة الشعرية الفضفاضة التي طغت على مناهج النقاد في هذه الأيام، ذلك لأني أومن إيمانا لا يدركه أي اضطراب بأنا حين نملك زمام الحقيقة نستطيع أن نعبر عنها بوضوح، وأننا حين نجد الحقيقة غائمة في نفوسنا نلجأ إلى المجازات، وأدهى من ذلك أن لا تكون لدى الناقد " حقيقة " يريد أن ينقلها إلى الآخرين فيهيم وراء عبارات شعرية سابغة الذيول يجرجرها لإثارة الغبار
ظانا بذلك ان تصاعد الغبار وحده كاف للدلالة على الفارس والفرس. وكذلك فإنني تعمدت ألا أمنح الشاعر الذي أدرسه نصيبا من المستوى الفكري والإنساني والنضالي اكبر مما يستطيع شعره نفسه أن يصوره لأني أكره أن أمنح أي شاعر " مركبا " فكريا لم يدر في خلد ولا يمكن أن يستنتج من شعره. وفي مثل هذه الدراسة المطولة تصبح المقارنات عبئا غير صغير، رغم إنها مفيدة في توسيع الآفاق وتوجيه الأنظار إلى المعالم المشتركة والمظاهر الهامة، ولكني لست ادرس الشعر الحديث في هذا الكتاب وإنما أحاول التركيز قدر المستطاع على شعر شاعر واحد هو السياب، ولهذا وحده لم يلجأ إلى المقارنات إلا نادرا.
وكنت اعد هذه الدراسة لتظهر قبل هذا الوقت بكثير، إذ كان معظم مادتها جاهزا ليدون في فصول قبل سنتين تقريبا. ولست احب أن اثقل على القارئ بالحديث الذاتي عن الشئون العامة والخاصة التي حالت دون ما أملت، وبعض تلك الشئون قد جعلني ؟فترة من الزمن
أشك في قيمة أية دراسة نظرية وأنا مشتت النفس تحت دوي الدعوة الملحة إلى الكفاح العملي المصيري؛ يكفي أن أقول أن كتبا ومقالات كثيرة ظهرت عن السياب في أثناء ذلك، وقد طالعت كل ما وصل إلي منها مطالعة مستفيد، ولمنها كانت متفاوتة في قيمتها وفي منحاها: فبعضها تأبيني لا تتطلبه هذه الدراسة، وبعضها نقدي إلا أنه لا يتلاءم والمنهج الذي اخترته، وبعضها أخباري ولعله كان أكثرها نفعا لأنه يقوي أجزاء الصورة التي أبنيها أو أضيف إليها.
وكثيرا ما وقفت وأنا اكتب هذا البحث لألقي على نفسي هذا السؤال: لماذا أتصدى لكتابة ما يحسنه كثيرون غيري ؟ممن عرفوا السياب وعاشروه - اكثر مما أحسنه؟ ثم تتضاءل حدة السؤال حين أذكر أن كثيرا من أولئك الناس لم يضنوا علي أبداً بجميع الوسائل والأدوات التي تمكنني من القيام لهذا العمل بل قدموها إلي راضين مشجعين. ولولا الشهادات الشفوية والوثائق الخطية التي حصلت عليها لم يتح لهذه الدراسة ان تتم على هذا الوجه
فأنا مدين بواجب الشكر لعدد كبير من الأصدقاء:
وفي طليعة هؤلاء، الشاعران: الأستاذ خالد الشواف والأستاذ علي أحمد سعيد (أدونيس) والدكتور سهيل إدريس فانهم جميعا قدموا لي ما في حوزتهم من رسائل السياب؛ وتلطف الأستاذ الشواف من بينهم فأرفق الرسائل بملاحظات تفسيرية قيمة، ونزولا على رغبته الكريمة أغفلت التصريح بأسماء من كان السياب يتغزل بهن، كما أغفلت ذكر أسماء أشخاص كان يشير إليهم في تلك الرسائل، ولم أخالف هذه الرغبة إلا مرة واحدة حين ذكرت اسم محبوبته الريفية؛ والأستاذ محمد علي إسماعيل صديق السياب الوفي، والأستاذ نجاح السياب إذ سمحا بتصوير ما لديهما من قصائد للسياب لم ينشر بعضها. والأساتذة: الشاعر الكويتي علي رفيق السياب في فترة استشفائه بالكويت، والدكتور عبد الله السياب ومصطفى السياب شقيقا المرحوم بدر، وعبد اللطيف السياب ابن خاله الذي كان رفيقا له في المرحلة الدراسية بالبصرة، فإليهم يعود
الفضل فيما تجمع لدي من شهادات شفوية؛ ومحمود يوسف الذي سمح باستنساخ دفتر يحتوي عددا من الموضوعات الإنشائية بخط السياب؛ ومحمد عبد الجبار المعيبد مدير ثانوية القرنة لأنه أذن بتصوير قصيدة " فجر الإسلام " من نسخة محفوظة بمكتبته؛ والصديق عبد الرزاق الهلالي الذي أرسل إلي نسخته الخاصة من كتاب الأستاذ عبد الجبار البصري عن السياب، والصديق الأديب خضر الولي الذي أمدني بعدد غير قليل من المؤلفات العراقية وخاصة كتاب الأستاذ محمود العبطة المحامي.
ولست أنسى الجهد المشكور الذي بذله صديقي الحميم الدكتور محمد الصفوري والأستاذ حسن عباس في استيفاء بعض المعلومات اللازمة عن مرض السياب وعن فترة إقامته الأخيرة في الكويت.
وأخيرا لا آخرا فان هذه الدراسة مدينة بأكبر الفضل لشباب ضحى في سبيلها بقسط كبير من راحته ووقته وهو يجمع المادة اللازمة متنقلا بين بغداد والبصرة، اعني ابن
أختي البار الوصول السيد فتح الله احمد عباس الذي لولا جده وحماسته في الجمع والتقيد وتصوير الأصول الخطية والمنشورة في الصحف، ومقابلته لكل من يستطيع أن يمده بمعلومات عن الشاعر الراحل لم أستطع أن أقوم بعبئها.
إن المعاونة الكريمة التي تلقيتها من هؤلاء الأصدقاء جميعا كانت عاملا هاما في إنجاز هذا البحث، وقد كنت أحس انهم قد أولوني ثقتهم حينما بذلوا ذلك العون، وكل ما أرجوه أن يكفل هذا الكتاب الحفاظ على تلك الثقة الغالية، فإنها طريق إلى مزيد من الثقة لدى سائر القراء، والله الموفق.
بيروت في 20 نيسان 1969
إحسان عباس
بدر شاكر السيابحاولت في هذا الكتاب أن أتحدث عن السياب في إطار من الشئون العامة والخاصة التي أثرت في نفسيته وشعره، ولهذا آثرت طريقة تجمع بين التدرج الزمني والنمو (أو التراجع) النفسي والتطور (أو الانتكاس) الفني، فكان السياب الإنسان والسياب الشاعر معا دائما عل المسرح المكاني والزماني، ذلك لأني أرى أن هذه الطريقة توسع مجال الرؤية لدى القارئ لأنها تقدم له زوايا ثلاثا لا زاوية واحدة. وأنا أعلم أن كثيرا من الناس يضيقون ذرعا بالاحتكام المستمر إلى التاريخ، ولكن هؤلاء ينسون أن التاريخ صورة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية على الأرض، وأن دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا تعني انتقاصا من سماته الفنية، خصوصا حين يتفق الدارس والقارئ على أن ذلك الشعر كان جزءا من الحركة الكلية في التطور الجماعي، بل كان عاملا هاما في تلك الحركة، ولم يكن كله تهويما في دنيا الأحلام الدانية. كذلك فان دراسة دخائل النفس لا تعني
تشخيص " المرض " لدى الفنان من اجل التحليل النفسي ذاته وإنما هي وسيلة لفهم طبيعة المنابع التي فاض الشعر عنها. وقد خضع السياب في وقفته التاريخية والنفسية لعوامل عنيفة تركت آثارا عميقة في شعره ومن كان لا بد لاستبانة تلك الآثار من دراسة تلك الوقفة في موكب الجماعة وفي عزلة الذات على السواء. وكل فصل للشعر عن ذلك الموقف قد يعرض الدارس للتجريد أو للأخذ بالعموميات.
وقد بذلت جهدا غير قليل لأبرئ هذه الدراسة من التعميمات ومن انتحاء اللغة الشعرية الفضفاضة التي طغت على مناهج النقاد في هذه الأيام، ذلك لأني أومن إيمانا لا يدركه أي اضطراب بأنا حين نملك زمام الحقيقة نستطيع أن نعبر عنها بوضوح، وأننا حين نجد الحقيقة غائمة في نفوسنا نلجأ إلى المجازات، وأدهى من ذلك أن لا تكون لدى الناقد " حقيقة " يريد أن ينقلها إلى الآخرين فيهيم وراء عبارات شعرية سابغة الذيول يجرجرها لإثارة الغبار
ظانا بذلك ان تصاعد الغبار وحده كاف للدلالة على الفارس والفرس. وكذلك فإنني تعمدت ألا أمنح الشاعر الذي أدرسه نصيبا من المستوى الفكري والإنساني والنضالي اكبر مما يستطيع شعره نفسه أن يصوره لأني أكره أن أمنح أي شاعر " مركبا " فكريا لم يدر في خلد ولا يمكن أن يستنتج من شعره. وفي مثل هذه الدراسة المطولة تصبح المقارنات عبئا غير صغير، رغم إنها مفيدة في توسيع الآفاق وتوجيه الأنظار إلى المعالم المشتركة والمظاهر الهامة، ولكني لست ادرس الشعر الحديث في هذا الكتاب وإنما أحاول التركيز قدر المستطاع على شعر شاعر واحد هو السياب، ولهذا وحده لم يلجأ إلى المقارنات إلا نادرا.
وكنت اعد هذه الدراسة لتظهر قبل هذا الوقت بكثير، إذ كان معظم مادتها جاهزا ليدون في فصول قبل سنتين تقريبا. ولست احب أن اثقل على القارئ بالحديث الذاتي عن الشئون العامة والخاصة التي حالت دون ما أملت، وبعض تلك الشئون قد جعلني ؟فترة من الزمن
أشك في قيمة أية دراسة نظرية وأنا مشتت النفس تحت دوي الدعوة الملحة إلى الكفاح العملي المصيري؛ يكفي أن أقول أن كتبا ومقالات كثيرة ظهرت عن السياب في أثناء ذلك، وقد طالعت كل ما وصل إلي منها مطالعة مستفيد، ولمنها كانت متفاوتة في قيمتها وفي منحاها: فبعضها تأبيني لا تتطلبه هذه الدراسة، وبعضها نقدي إلا أنه لا يتلاءم والمنهج الذي اخترته، وبعضها أخباري ولعله كان أكثرها نفعا لأنه يقوي أجزاء الصورة التي أبنيها أو أضيف إليها.
وكثيرا ما وقفت وأنا اكتب هذا البحث لألقي على نفسي هذا السؤال: لماذا أتصدى لكتابة ما يحسنه كثيرون غيري ؟ممن عرفوا السياب وعاشروه - اكثر مما أحسنه؟ ثم تتضاءل حدة السؤال حين أذكر أن كثيرا من أولئك الناس لم يضنوا علي أبداً بجميع الوسائل والأدوات التي تمكنني من القيام لهذا العمل بل قدموها إلي راضين مشجعين. ولولا الشهادات الشفوية والوثائق الخطية التي حصلت عليها لم يتح لهذه الدراسة ان تتم على هذا الوجه
فأنا مدين بواجب الشكر لعدد كبير من الأصدقاء:
وفي طليعة هؤلاء، الشاعران: الأستاذ خالد الشواف والأستاذ علي أحمد سعيد (أدونيس) والدكتور سهيل إدريس فانهم جميعا قدموا لي ما في حوزتهم من رسائل السياب؛ وتلطف الأستاذ الشواف من بينهم فأرفق الرسائل بملاحظات تفسيرية قيمة، ونزولا على رغبته الكريمة أغفلت التصريح بأسماء من كان السياب يتغزل بهن، كما أغفلت ذكر أسماء أشخاص كان يشير إليهم في تلك الرسائل، ولم أخالف هذه الرغبة إلا مرة واحدة حين ذكرت اسم محبوبته الريفية؛ والأستاذ محمد علي إسماعيل صديق السياب الوفي، والأستاذ نجاح السياب إذ سمحا بتصوير ما لديهما من قصائد للسياب لم ينشر بعضها. والأساتذة: الشاعر الكويتي علي رفيق السياب في فترة استشفائه بالكويت، والدكتور عبد الله السياب ومصطفى السياب شقيقا المرحوم بدر، وعبد اللطيف السياب ابن خاله الذي كان رفيقا له في المرحلة الدراسية بالبصرة، فإليهم يعود
الفضل فيما تجمع لدي من شهادات شفوية؛ ومحمود يوسف الذي سمح باستنساخ دفتر يحتوي عددا من الموضوعات الإنشائية بخط السياب؛ ومحمد عبد الجبار المعيبد مدير ثانوية القرنة لأنه أذن بتصوير قصيدة " فجر الإسلام " من نسخة محفوظة بمكتبته؛ والصديق عبد الرزاق الهلالي الذي أرسل إلي نسخته الخاصة من كتاب الأستاذ عبد الجبار البصري عن السياب، والصديق الأديب خضر الولي الذي أمدني بعدد غير قليل من المؤلفات العراقية وخاصة كتاب الأستاذ محمود العبطة المحامي.
ولست أنسى الجهد المشكور الذي بذله صديقي الحميم الدكتور محمد الصفوري والأستاذ حسن عباس في استيفاء بعض المعلومات اللازمة عن مرض السياب وعن فترة إقامته الأخيرة في الكويت.
وأخيرا لا آخرا فان هذه الدراسة مدينة بأكبر الفضل لشباب ضحى في سبيلها بقسط كبير من راحته ووقته وهو يجمع المادة اللازمة متنقلا بين بغداد والبصرة، اعني ابن
أختي البار الوصول السيد فتح الله احمد عباس الذي لولا جده وحماسته في الجمع والتقيد وتصوير الأصول الخطية والمنشورة في الصحف، ومقابلته لكل من يستطيع أن يمده بمعلومات عن الشاعر الراحل لم أستطع أن أقوم بعبئها.
إن المعاونة الكريمة التي تلقيتها من هؤلاء الأصدقاء جميعا كانت عاملا هاما في إنجاز هذا البحث، وقد كنت أحس انهم قد أولوني ثقتهم حينما بذلوا ذلك العون، وكل ما أرجوه أن يكفل هذا الكتاب الحفاظ على تلك الثقة الغالية، فإنها طريق إلى مزيد من الثقة لدى سائر القراء، والله الموفق.
بيروت في 20 نيسان 1969
إحسان عباس