من قال أن عهد المثيولوجيات الشعرية قد ولى وأندثر ؟.
وأن ألسنة ملهميها الفصاح قد سكتت تحت اطباق الأزمنة وأكفان الدهور ؟.
وأن أعمال التراث الخالدة كألف ليلة وليلة أو الإلياذة والأوديسة مستحيلة المحاكاة وأن أضرابها من النصوص لن ترى النور؟.
من قال أن النبوغ قد مات وأن وحي الشعر قد أنقطع كوحي النبوءات؟.
ومن تونس الخضراء وبعبقرية الشاعرة المفوهة بوعتور وفاء قد قام صرح مثيولوجيا النهديات.
ليس عجبا أن تشرق شمس الشعر من مغرب العرب .. ولا كل ما أثارته من جدل وصخب.
إنما العجب كل العجب من قصور وعينا في فهم هذه المأساة !.
بأن النهديات ليست مشكلة جنسية بقدر ماهي مأساة وجودية تعبر عن نفسها بلسان الشعر المنثور في أدب الجنس المطروق منذ اقدم العصور.
وإن كنت آسف بألا زلنا بدل الجوهر لا نعنى إلا بالقشور .. وفي ظل خوائنا الحضاري لا نفسر النهديات إلا بمنطق الذكور .
تعالوا معي نسبح في ملكوت هذا النهد البهي .. ونلقي سمعنا لتغريده الشذي وهو يبث عبر ثقوب الروح ترانيم الحرية.
لا يخفى على أحد مدى أهمية عنوان أي نص في أي جنس أدبي كان .. باعتباره المفتاح الأساس لخارطة المتن .. والمقاربة الأمثل لولوج أغوار كل ما يكتب..
وأداة التمكين الأنسب لممارسة التأويل والإستنطاق كما بينته البحوث والدراسات السيميولوجية التي تعتبر العنوان نظاما دلاليا مفعما بالقيم الأخلاقية والإجتماعية والأيديولوجية .
وإذ سلمنا بذلك فكيف نستنطق مفهوم عنوان ديوان الشاعرة وفاء بوعتور الموسوم ب: نهديات السيدة : واو ..أو عنوانه الفرعي : ألف نهدية ونهدية؟.
إن النهديات ليست كأي ديوان شعر نثري .. فالشاعرة وفاء وإن قاسمت الأدباء ألم الكتابة ومخاضات الإبداع والخلق العسيرة فإنها تتميز بكونها صاحبة مشروع فني فريد يرقى إلى المعجزة.
وقد باتت قاب قوسين أو أدنى من تجسيد تحديها الطموح بسعيها الحثيث في صياغة مثيولوجية شعرية إتخذت لها من النهد رمزا للتعبير المركز على مأساة الوجود الإنساني للمرأة.
فالنهديات تطرح أزمة المرأة المثقفة وتأزم ذاتها الواعية في ظل واقع إجتماعي متخلف تحكمه سلطة ذكورية ظالمة منذ العصر العبودي الأول.
كما تكرس النهديات أحقية المرأة في تقرير مصيرها وهي تنشد الخلاص بتحقيق العدل والمساواة وإسترداد حريتها السليبة .
كما أنها رغبة جموح في تخطي واقع الإنحطاط بتخلية عقول أهله من طابع العينية ومفاهيم الحسية والجسمية والمباشرة .. لترقى بها إلى واقع حضاري أمثل يرقى إلى دلاليات الروح وعلويتها وسمو معانيها ونقاء حقائقها .
لتبدد منطق الذكورية الذي لا يرى في المرأة إلا عبدا لمتعة حسية عابرة .. ولا يكيل جمالها إلا بموازين الكم ومكيال الشحم واللحم وأوزان النهود والأرداف.
منطق تحكمه شهوة حيوانية مقززة لا تقيم لجمال الروح وزنا .. ولا تعد المراة إلا سلعة تقبل الملكية المطلقة بعقود الزواج .. وتقبل الإيجار بالبغاء .. كما تقبل السرقة بإبرام مختلف العلاقات غير الشرعية.
وأن القيمة الجنسية هي شهوة الملكية دون ثمن وشهوة الأخذ والسلب دون عطآء ولا تعب.
هذا هو نظام المجتمع الإقطاعي الذكوري البليد الذي لا يتيح للمرأة غير فعل المضاجعة.
تأتي النهديات لتنقض كل هذه الترهات القروسطية متخذة لها نهدا لغويا مدهشا يرافع عن المرأة كإنسان ويعيد لغريزة الجنس عفة فطرتها ويعطيها حقها كعلاقة إنسانية بريئة مبنية على الأخذ والعطآء .
إن النهديات ترقى بالمشهد الجنسي في لحظته الميكانيكية وحيوانية عمليته الرياضية الأرضية المباشرة إلى عالمه الروحي لتجعله حبا عذريا سماويا مقدسا.
ميزة النهديات كمثيولوجية شعرية قيد الصياغة والبناء أن صرحها المشيد يقوم على لفظة يتيمة بركائز أحرفها الثلاث: ( نهد) وهذا سبق فريد في تاريخ الشعر والمثيولوجيات.
مجموع نهديات السيدة واو بديوانيها هو ( 534) ومضة نهدية . والحقيقة أنها تخلو من ثلاث في شطحتها الثانية والمرقمة ب( 472 و 488 و534) كما أن لفظ النهد في الومضتين ( 502 و 542) لم يوظف توظيفا فنيا .. إنما جاء توظيفه توظيفا إيحاليا فلا أظنها تعد ضمن سابقاتها وأعتقد أن مجموعها الفعلي هو: ( 529) نهدية.
لموضع لفظ النهد في شكل النص الفني موضع القلب والرأس من الجسد .
لكنه نهد خرافي هلامي لا يقر على ثابت بتعدد أشكاله وأطيافه واختلاف معانيه وإن كانت جميعها تنصهر في بوتقة الحرية.
فالنهد عند الشاعرة وفاء بوعتور هو الوطن والمنفى .. هو الفرح والحزن هو الأمل واليأس هو الحب بأسمى معانيه وهو اليتم بكل لوعات الفقد ومرارات الغياب.
مرة يأخذ شكل الثمار بأنضج معاني الإشتهاء والرغبة ومرة يأتي على شاكلة الفراشات الراقصة في ربيع اللغة المدهشة.
يأتي مرة بنكهة الرحيق والعسل المصفى وتارة بطعم النبيذ وأخرى بطعم الملح والدم.
مرة يكون همسة حب دافئة واخرى صرخة مدوية في ميادين السياسة والدين والفلسفة..
يهب تارة كالأنسام وتارة يضرب كالأعاصير.
تارة يكون بوقع الرقصة وتارة له أثر الزلازل والبراكين.
نهد بقوته الأنثوية الناعمة نجح في قلب كل موازين القوى الذكورية المتجبرة .
بفضل القوة الفكرية الأصيلة الواعية التي إمتلكتها صاحبته وهي تناهض من أجل خلق وعي جمعوي يليق بالبشر .
يعلمنا كيف نحترم المرأة كإنسان وأن نمجدها بالحب كروح وعاطفة ووجدان .. حتى من خلال علاقاتنا الجنسية البريئة.. حينما نتجاوز اللحظة الميكانيكية في علاقاتنا المباشرة مع المرأة ونرفعها إلى مستوى الرمز لتصبح تعبيرا رائعا عن شهوتنا للحياة.
حينما تسمو بنا لحظات النشوة .. حينها فقط نكتسب عمقا في منهج التفكير وعمقا في منهج التعبير وعمقا في منهج الممارسة.. دون أن نكون مجرد أجساد تتأجج بحرائق الشهوة الصرف تعيش بين الكبت والإنغلاق والتآكل والحيوانية والإنحطاط.
إن من أهداف النهديات أن تخلق ذلك التفاعل الخصب بين العقل والقلب وبين الروح والجسد .
فرمزية النهد هنا ليست مجرد خدعة فنية او لعبة لغوية . إنه يمثل الذات في رحلة بحثها عن ( الأنا) وإعطائها حق الوجود والكينونة.
إن المهام الشعرية تسطرها ذات الشاعر فهو سيد فكرته وهو المخول بخلق مساحاتها.. وليست الأيديولوجيات من يفعل ذلك نيابة عنه بفعل نواميسها الجامدة وسطوة سلطتها الفوقية الضيقة التي تحجم المطلق وتلغي ذات الشاعر بفرض ذاتها.
فأيما قيمة فنية تتأتى بفعل الأيديولوجيات فإنها لا تصلح إلا علفا لقطعان العبيد حينما تجعل من الشاعر عبدا وتابعا لها.
إن هذه الفلسفات الإلزامية الجامدة تحد من دائرة الحقل الإبداعي وتضرب حصارها على بنيات القصيدة الفنية وتعمل على إجهاض قدراتها التجديدية باسم المرجعيات الدينية والتقاليد الأخلاقية المؤطرة لوظيفة الشعر.
إن الحرية الفكرية الأصيلة وقوة الوعي المكتملة لدى الشاعرة وفاء بوعتور هي من جنبتها مثل هذه الفخاخ الأيديولوجية المنصوبة.
وبما أن الهاجس الروحي هو لب شعرها الجنسي بغية تحقيق بعد سيوسيولوجي صحيح للمفاهيم والقيم فإنها لم تلجأ الى إستعارة أدواتها الفنية من غيرها .. إنما إختلقت لذاتها الشعرية خاص أدواتها وأخترعت لها جديدا لا يتقيد بإلزامات أحد
فحفظت بذلك للقيمة الفنية جمالها وسطرت مهمات تجربتها الشعرية التسطير الصحيح في البناء الحضاري الحق في مناخ كامل الحرية.
وأسست دعوتها بإعادة النظر في الموروثات والرواسب الفكرية وكل مايتعلق بالمرأة والجنس والعاطفة والحرية بعيدا عن المفاهيم الطوباوية التافهة وترهات نظرتها الفوقية الصدئة وجنونها الأنوي المقيت.
لقد خاضت الشاعرة مغامرتها الكبرى فاخترقت بتجربتها الشعرية الفذة نصوص التراث كما فعلت مع ألف ليلة وليلة .. وإذ لم تكتفي باتخاذها متكأ لتجربتها فقد شادت صرحا شعريا شاهقا يطاولها وأسمته في عنوان فرعي: ألف نهدية ونهدية.
في ظل هذا التناص المباشر البديع مع تراثنا الأدبي العريق أبدعت الشاعرة في نسج وشائج تجربتها بألف ليلة وليلة بسرديات حكاياها الأسطورية وأضفت عليها تجربة موضوعية.
إذ إختلقت من كل ليلة من تلك الليالي الألف نهدا دون المساس برمزية العدد وأختلقت من شهرزاد الحكي والقص شهرزاد شعر لا تقل عن سابقتها في الفصاحة والبلاغة وسحر البيان
فمن مخيالها البديع وملكتها اللغوية الباذخة الجمال والثراء باستعاراتها المذهلة وكناياتها المدهشة وعباراتها الرشيقة قدمت لنا تحفة أدبية خالصة بل معجزة شعرية سينصفها التاريخ ولو بعد حين.
لقد بعثت في مصادرنا التراثية الروح فأدامت لها الذكر وحفظت لها الإستمرارية والخلود بمزيد من الخلق والإبداع .
إبتكار لا يمس بقداسة الأساطير إنما يضفي عليها مزيدا من الإدهاش والمتعة والجمال .. إضافة إلى إغنائها بالمزيد من التجارب والوقائع والتصورات.
إستنادا إلى إسترجاع النص الغائب وبشعرية الإختراق واعتمادا على ثنائية البناء والهدم .. بناء شادت به صرحها الشعري الحداثي وهدم لمفاهيم التراث المعلبة .
تميزت النهديات بخروجها عن المتوارث والمألوف إذ كسرت حقا طابوهات عصرها المعروفة.. بتوظيفها للنهد كرمز مرتبط بواقعها تعبر من خلاله عن أزمتها الوجودية.
فالنهديات قضية (أنا) الشاعرة جراء تصادمها مع واقعها المعاش.
حتى ان ذلك كان باديا من خلال صورة الغلاف.. لم تكن تمثل فيه الصحراء بكل معاني القحط والسلب إلا واقعها الحضاري ..وماصورة الشاعرة وفاء إلا صورة كل أمرأة عربية مضطهدة.
ومن أشكال التناص في النهديات أيضا تقاطع تجربتها الشعرية بالتجربة الصوفية.. تقاطع الحداثة بالتراث.
بما أن عملية التناص مجازة في الإبداع الفني فمن خلال التجليات اللغوية والظلال التاريخية البينة على النص ندرك أن ماقامت به الشاعرة بداية هو إشتغالها على المتخيل بحكائية شعرية وهي عملية إستنساخ وتوليد للنصوص في غاية العسر والتعقيد مع إضافة بصمة فنية مائزة .. وهذا دليل على عبقرية الشاعرة الحقة .
الأبعاد التناصية في النهديات توضح إتخاذ الشاعرة وفاء لألف ليلة وليلة كمتكأ لألف نهدية ونهدية التي لم تأتي من فراغ ولم تبنى باللصق .
فألف نهدية ونهدية ليست هي ألف ليلة وليلة بل تجربة وفاء الشعرية التي أخضعت التراث إلى تحويل فني بصبغة جمالية مبهرة وأصالة بعد تاريخي خالصة.
وإن كنا نفهم من خلالهما وحدة التجربة الإنسانية بكل أحلامها وألامها وأنتصاراتها وهزائمها وطموحاتها وخيباتها وإنكساراتها القاتلة. حق للتاريخ أن يمجد كلتيهما.
فالنهديات ليست عملا جاهزا أجريت عليه الرتوش والإختزالات .. إنها قدرة بدبعة مذهلة في الخلق والإبتكار .. وصرح شعري مشاد بعيدا عن كل تكرارية وتسطح.
إنها مثيولوجيا مدججة بالتأويل مثقلة بالإيحاءات بعيدا عن كل مستهلك قديم.
تجربة شعرية فريدة بتمايزاتها الشكلية والفنية الخارقة تغرد خارج سرب الأنماط الشعرية المستهلكة والأيديولوجيات المبتذلة.
كما لجأت الشاعرة أيضا إلى تقنية التقنع الشخصية باستعارة شخصية شهرزاد من ألف ليلة وليلة كسيدة للحكي والقص باختلاق شخصية شهرزاد النهديات لتتسيد مملكة الشعر وإن تستر إسمها بلسان صاحبة النهديات .. لكننا نقرأه بالدلالة والإيحاء من خلال العنوان الفرعي للنص.
لقد تقمصت شهرزاد الشعر شهرزاد الحكي والقص لكنها شخصية مستقلة عن ذات الأخرى .
نلحظ من ذلك مدى تأثر الشاعرة وفاء بالتراث من خلال توظيفها للأقنعة الأسطورية .
إن تمثل الشاعرة بالأنساق المعرفية للشخوص التراثية إنما جاء لأجل توظيفها لتمثيل معاناة الذات وتحديد موقفها من واقع مرير واحد وإن باعدت بينهما الأزمنة والأمكنة.
فتلك الشخوص الأسطورية صالحة للإسقاط على تجاربنا المعاصرة وتعد ألسنا معبرة عن أزماتنا.
ومما زاد النهديات جمالا هو إستخدام مؤلفتها للرمز الصوفي الذي ظهر من خلال الدلالة الفكرية والفنية للنص.
فقد وهبت للمفردة الصوفية عبر مسار قصائدها نصيبا وافرا من المساحات لتفضح بها غطرسة مجتمعها الذكوري الأرضي الجامد وقهره المسلط على المرأة.
فنهد السبدة واو نهد صوفي شريد بين أبيات القصيد يردد صرخة رفض الإضطهاد ويرتل تسابيح الحرية.
لقد عبرت الشاعرة عن إختلاجات ذاتها ومكنوناتها بتوظيف الرموز المعبرة عن مأساتها على لسان أقنعتها المصدرية والمخترعة(شهرزاد_ السيدة واو) كوسيلة ناجعة في إيصال صرخاتها لأسماع المتلقي.
فإن هذه الأقنعة بمثابة مراياها العاكسة لصورة معاناتها الدامية في ظل واقع شرقي ذكوري متغطرس .
فجاءت هذه المثيولوجيا لتروي حقيقة مأساة المرأة منذ الأزل وتسرد سيرة كفاحها الحداثية الدامية وسعيها في سد شروخ ذاتها الإنسانية المعذبة.. فتؤرخ بذلك لجدلية صراع المفاهيم وثنائية الأضداد بين الرجل والمرأة.. بين المادة والروح . بين الحرية والعبودية .. وبين الجمال والقبح بنزعة روحية من خلال نص يعتمد على تأثير القيمة الدلالية الإيحائية في الفهم والإدراك.
فكانت تجربة شعرية حداثية تمظهرت عليها ملامح التجربة الصوفية المستقاة من سير رموزها الغابرين بفضل طاقة إبتكار جبارة ومحاولة فنية راقية في أنسنة التوحش.
فشهرزاد السيدة واو هي الوسيط الدرامي بين ديوانها وجمهرة قرائها الحصاف.
إذا كان الشهيد يصنع مجده من دمه .. والكاتب من حبره فإن المراة الشاعرة وفاء بوعتور صنعته من بعد دم حبرها المسفوك من لغة جسدها الذبيح بشفرة الذكورية المتوحشة .
وبفضل تفاعل وعيها التراثي ووعيها الذاتي تم للشاعرة هذا الخلق الجديد بأساليبه التعبيرية المبتكرة وبفضل تحررها الإبداعي الماتع من ربقة المذاهب والأيديولوجيات لتؤسس لنهضة جيل جثمت الرداءة على صدر ذائقته أمدا طويلا وأستحكمت في ذهنه لوثة التفاهة زمنا مديدا.
وتمنح بذلك للمتلقي حرية بناء تصوراته الذاتية بقراءة نموذجية خارج القراءة الموجهة ودوائر النقد المغلقة.
كل هذه الأشياء الجميلة هي ما فتح على الشاعرة وفاء بوعتور أبواب الجحيم ودوامات المعاناة ..
إذ أذكت شرارة صراعاتها المحتدمة مع كل من لم يكن له قبول واعتراف بهذا السبق المائز والتفرد الإبداعي الباهر وبهذه التجربة الجديدة التي إستقطبت كل الأضواء من حول مشاهير النجوم الأدبية .. الذين عذبتهم هواجس الأفول والإنطفاء..
ولم يتقبلوا أن تمتلك إمراة شاعرة حرية تبعث في الملهمين روح التجديد والإبتكار حتى يظلوا هم أسياد المشهد والممثل الأوحد على مسرحنا الأدبي الشاغر.
وإذ كانت هذه الإمكانات المبهرة تهدد عرش مجدهم المزعوم أشهروا في وجهها أسلحة الأيديولوجيات القديمة لكسر تطورها.
وإذ لم تخلو مستودعات ذخائرهم من التهم الجاهزة فقد وسموها بالدعر والعهر والمجون.. وصنفوا أدبها ضمن الأدب الأيروتيكي المحض بتقييماتهم الاخلاقوية الكذوب .. وأعتبروا شعرها كنار في هشيم القيم .. لا تبقي ولا تذر بهتانا وزورا.
لكأنهم من زمر الملائكة المقربين لا بشرا جبلوا على هذه الغريزة الفطرية البريئة.
فأعطوا للجتس مفاهيم الرفض واللعن وما ذاك إلا دليل على خصائهم الفكري وعنتهم الحضارية.
وتمادوا في وصف شعرها بكل سمات الحطة والوضاعة والسخف وعدوه خرقا وجب عليه المنع والحضر .. فارتكبوا بذلك جرما آخر في حق جماهير قرائها العريضة دونما ذنب _ إلا إذا كانت الذائقة الفنية جرما وخطيئة_.
إن كل أولئك الظلمة المدججون بالحقد والغيرة والحسد والعقد ماهم إلا خفافيش ظلام وأعداء النور والفن والكلمة الحرة والنبوغ.. أعداء الحرية.
ستهزم جمعهم إمراة واعية واحدة هي أقدر مايكون على بناء صرح شعري جديد أجمل وأبهى وأمتع وأرقى وأسمق وأشمخ وأشهق من كل مابنوه مجتمعين بعد ان إستعادت للشعر دوره النبيل وأعادت لغريزة الجنس براءة فطرته وأبدعت في إعطائه أدهش صوره الجميلة وأستعادت للمرأة قدرها الروحي العظيم ولجسدها السليب عذريته المغتصبة ومنحت للحب معانيه الأجمل والارقى والأكمل.
ولم تضعف حتى وهي تبيع كتبها على حسابها الخاص وتشهر لها عبر مواقع تواصلها الإجتماعي وتعرض أعمالها للبيع من غرف بيتها .. وما أمر هذه المعاناة وما أقساها وكم هي غائرة مثل هذه الطعنات في صميم عزتنا وكبريائنا.
إن النهديات تجربة شعرية مائزة يسممونها بالتهم ويخنقونها بالحضر .
لعمري إن مثل هذه القرارات لتفضح فداحة الفساد العريض المستشري في مؤسساتنا الثقافية .. وتكشف عن طوايا المقيمين عليها بشكل يدعو للأسف .. وللكثير من الشفقة.
ولا عجب أن تصدر مثل هذه الأحكام الذكورية التي لا تمنح للمرأة من كينونة إلا في غرفة النوم ولا أرحب من مساحة سرير وفراش.
في حين أن الشاعرة بوعيها الحضاري التام قد طوحت بمعايير المادية المقيتة وأستعادت للوجدان نبضه وللروح حميمياتها وأججت ثورة الإحتجاج ورفض الأوضاع الإجتماعية القائمة على الأفكار الرعناء والمفاهيم المتحجرة ودوت صرختها الواعية مجلجلة عبر أرجاء الأمصار والأصقاع في وجه سطوة الإقطاع الشرقي المتوحش البائس.
إذا كانت ألف ليلة وليلة قد توجت شهرزاد.ملكة على عرش الحكي والقص وكتب لها الخلود كشخصية شعبية تراثية .. فإن الف نهدية ونهدية ستتوج السبدة وفاء بوعتور شهرزاد ملكة على عرش الشعر النثري الحديث وسيكتب لها الخلود كامرأة عربية مثقفة ثائرة في وجه الظلم وأباطرة الرق وقياصرة العبودية ..
لأنها نجحت فعلا في تحرير القصيدة من ربقة إمبراطوريات الإقطاع الفكري المستبدة وفكت عنها حصارها المضروب وهزمت ورثاء القصيدة غير الشرعيين من أدعياء الفكر وصعاليك الأدب وأنصاف الشعراء.
وهاهي عن قريب ستتم بناء مثيولوجية شعرية يقوم صرحها الشامخ العتيد على أس لفظ يتيم : (النهد) بكل قوته ودعاماته الرمزية وهذا سبق في تاريخ الشعر وتفرد إبداعي لا ند له ولا نظير .. ومغامرة شعرية لم يسبق لها مثيل .. كسرت فعلا منظومات الطابوهات .
لقد سبقت الشاعرة الملهمة وفاء بوعتور شعراء عصرها بألف عام وعام أو يزيد.
إن هذه الموهبة الشعرية لا تقوضها الأيديولوجيات ولا تخضعها الموروثات الإجتماعية لمنظوراتها وحدودها الضيقة .. إذ يرجع فضل القيمة الفنية لهذا الإبتكار الجبار إلى الحرية.
بذلك فرضت الشاعرة ذاتها وأسمعتنا صرختها المدوية وعرفتنا بمنتهى الصدق والأمانة على مأساة بني جنسها في شرقنا الذكوري البليد.
إن نهدا لغويا في الحب هذا شأنه نهد حر لا يمتلك ولا يستعبد.
إن النهد من ظاهر عالمه المادي وباطن عالمه الروحي المغيب هو الوجه الآخر للحرية.
إن هذا النهد المدجج بالرموز.. المملوء بالإيحاء .. المتخم بالحب والمفعم بالحيل نهد محفوف بالأنوار.
نهديات السيدة واو: في غرفة نومي مارست عليها فعل القراءة من على فراش ..
وبالنقد والتحليل من على سطح مكتب ضاجعتها ..
فأي مريد منكم قاسمني صوفيتي وطرق مسالك النهديات مثلي فتكشفت له حقائق أنوارها وتجلت له مكامن أسرار جمالياتها المشتهاة؟.
جمعي شايبي
وأن ألسنة ملهميها الفصاح قد سكتت تحت اطباق الأزمنة وأكفان الدهور ؟.
وأن أعمال التراث الخالدة كألف ليلة وليلة أو الإلياذة والأوديسة مستحيلة المحاكاة وأن أضرابها من النصوص لن ترى النور؟.
من قال أن النبوغ قد مات وأن وحي الشعر قد أنقطع كوحي النبوءات؟.
ومن تونس الخضراء وبعبقرية الشاعرة المفوهة بوعتور وفاء قد قام صرح مثيولوجيا النهديات.
ليس عجبا أن تشرق شمس الشعر من مغرب العرب .. ولا كل ما أثارته من جدل وصخب.
إنما العجب كل العجب من قصور وعينا في فهم هذه المأساة !.
بأن النهديات ليست مشكلة جنسية بقدر ماهي مأساة وجودية تعبر عن نفسها بلسان الشعر المنثور في أدب الجنس المطروق منذ اقدم العصور.
وإن كنت آسف بألا زلنا بدل الجوهر لا نعنى إلا بالقشور .. وفي ظل خوائنا الحضاري لا نفسر النهديات إلا بمنطق الذكور .
تعالوا معي نسبح في ملكوت هذا النهد البهي .. ونلقي سمعنا لتغريده الشذي وهو يبث عبر ثقوب الروح ترانيم الحرية.
لا يخفى على أحد مدى أهمية عنوان أي نص في أي جنس أدبي كان .. باعتباره المفتاح الأساس لخارطة المتن .. والمقاربة الأمثل لولوج أغوار كل ما يكتب..
وأداة التمكين الأنسب لممارسة التأويل والإستنطاق كما بينته البحوث والدراسات السيميولوجية التي تعتبر العنوان نظاما دلاليا مفعما بالقيم الأخلاقية والإجتماعية والأيديولوجية .
وإذ سلمنا بذلك فكيف نستنطق مفهوم عنوان ديوان الشاعرة وفاء بوعتور الموسوم ب: نهديات السيدة : واو ..أو عنوانه الفرعي : ألف نهدية ونهدية؟.
إن النهديات ليست كأي ديوان شعر نثري .. فالشاعرة وفاء وإن قاسمت الأدباء ألم الكتابة ومخاضات الإبداع والخلق العسيرة فإنها تتميز بكونها صاحبة مشروع فني فريد يرقى إلى المعجزة.
وقد باتت قاب قوسين أو أدنى من تجسيد تحديها الطموح بسعيها الحثيث في صياغة مثيولوجية شعرية إتخذت لها من النهد رمزا للتعبير المركز على مأساة الوجود الإنساني للمرأة.
فالنهديات تطرح أزمة المرأة المثقفة وتأزم ذاتها الواعية في ظل واقع إجتماعي متخلف تحكمه سلطة ذكورية ظالمة منذ العصر العبودي الأول.
كما تكرس النهديات أحقية المرأة في تقرير مصيرها وهي تنشد الخلاص بتحقيق العدل والمساواة وإسترداد حريتها السليبة .
كما أنها رغبة جموح في تخطي واقع الإنحطاط بتخلية عقول أهله من طابع العينية ومفاهيم الحسية والجسمية والمباشرة .. لترقى بها إلى واقع حضاري أمثل يرقى إلى دلاليات الروح وعلويتها وسمو معانيها ونقاء حقائقها .
لتبدد منطق الذكورية الذي لا يرى في المرأة إلا عبدا لمتعة حسية عابرة .. ولا يكيل جمالها إلا بموازين الكم ومكيال الشحم واللحم وأوزان النهود والأرداف.
منطق تحكمه شهوة حيوانية مقززة لا تقيم لجمال الروح وزنا .. ولا تعد المراة إلا سلعة تقبل الملكية المطلقة بعقود الزواج .. وتقبل الإيجار بالبغاء .. كما تقبل السرقة بإبرام مختلف العلاقات غير الشرعية.
وأن القيمة الجنسية هي شهوة الملكية دون ثمن وشهوة الأخذ والسلب دون عطآء ولا تعب.
هذا هو نظام المجتمع الإقطاعي الذكوري البليد الذي لا يتيح للمرأة غير فعل المضاجعة.
تأتي النهديات لتنقض كل هذه الترهات القروسطية متخذة لها نهدا لغويا مدهشا يرافع عن المرأة كإنسان ويعيد لغريزة الجنس عفة فطرتها ويعطيها حقها كعلاقة إنسانية بريئة مبنية على الأخذ والعطآء .
إن النهديات ترقى بالمشهد الجنسي في لحظته الميكانيكية وحيوانية عمليته الرياضية الأرضية المباشرة إلى عالمه الروحي لتجعله حبا عذريا سماويا مقدسا.
ميزة النهديات كمثيولوجية شعرية قيد الصياغة والبناء أن صرحها المشيد يقوم على لفظة يتيمة بركائز أحرفها الثلاث: ( نهد) وهذا سبق فريد في تاريخ الشعر والمثيولوجيات.
مجموع نهديات السيدة واو بديوانيها هو ( 534) ومضة نهدية . والحقيقة أنها تخلو من ثلاث في شطحتها الثانية والمرقمة ب( 472 و 488 و534) كما أن لفظ النهد في الومضتين ( 502 و 542) لم يوظف توظيفا فنيا .. إنما جاء توظيفه توظيفا إيحاليا فلا أظنها تعد ضمن سابقاتها وأعتقد أن مجموعها الفعلي هو: ( 529) نهدية.
لموضع لفظ النهد في شكل النص الفني موضع القلب والرأس من الجسد .
لكنه نهد خرافي هلامي لا يقر على ثابت بتعدد أشكاله وأطيافه واختلاف معانيه وإن كانت جميعها تنصهر في بوتقة الحرية.
فالنهد عند الشاعرة وفاء بوعتور هو الوطن والمنفى .. هو الفرح والحزن هو الأمل واليأس هو الحب بأسمى معانيه وهو اليتم بكل لوعات الفقد ومرارات الغياب.
مرة يأخذ شكل الثمار بأنضج معاني الإشتهاء والرغبة ومرة يأتي على شاكلة الفراشات الراقصة في ربيع اللغة المدهشة.
يأتي مرة بنكهة الرحيق والعسل المصفى وتارة بطعم النبيذ وأخرى بطعم الملح والدم.
مرة يكون همسة حب دافئة واخرى صرخة مدوية في ميادين السياسة والدين والفلسفة..
يهب تارة كالأنسام وتارة يضرب كالأعاصير.
تارة يكون بوقع الرقصة وتارة له أثر الزلازل والبراكين.
نهد بقوته الأنثوية الناعمة نجح في قلب كل موازين القوى الذكورية المتجبرة .
بفضل القوة الفكرية الأصيلة الواعية التي إمتلكتها صاحبته وهي تناهض من أجل خلق وعي جمعوي يليق بالبشر .
يعلمنا كيف نحترم المرأة كإنسان وأن نمجدها بالحب كروح وعاطفة ووجدان .. حتى من خلال علاقاتنا الجنسية البريئة.. حينما نتجاوز اللحظة الميكانيكية في علاقاتنا المباشرة مع المرأة ونرفعها إلى مستوى الرمز لتصبح تعبيرا رائعا عن شهوتنا للحياة.
حينما تسمو بنا لحظات النشوة .. حينها فقط نكتسب عمقا في منهج التفكير وعمقا في منهج التعبير وعمقا في منهج الممارسة.. دون أن نكون مجرد أجساد تتأجج بحرائق الشهوة الصرف تعيش بين الكبت والإنغلاق والتآكل والحيوانية والإنحطاط.
إن من أهداف النهديات أن تخلق ذلك التفاعل الخصب بين العقل والقلب وبين الروح والجسد .
فرمزية النهد هنا ليست مجرد خدعة فنية او لعبة لغوية . إنه يمثل الذات في رحلة بحثها عن ( الأنا) وإعطائها حق الوجود والكينونة.
إن المهام الشعرية تسطرها ذات الشاعر فهو سيد فكرته وهو المخول بخلق مساحاتها.. وليست الأيديولوجيات من يفعل ذلك نيابة عنه بفعل نواميسها الجامدة وسطوة سلطتها الفوقية الضيقة التي تحجم المطلق وتلغي ذات الشاعر بفرض ذاتها.
فأيما قيمة فنية تتأتى بفعل الأيديولوجيات فإنها لا تصلح إلا علفا لقطعان العبيد حينما تجعل من الشاعر عبدا وتابعا لها.
إن هذه الفلسفات الإلزامية الجامدة تحد من دائرة الحقل الإبداعي وتضرب حصارها على بنيات القصيدة الفنية وتعمل على إجهاض قدراتها التجديدية باسم المرجعيات الدينية والتقاليد الأخلاقية المؤطرة لوظيفة الشعر.
إن الحرية الفكرية الأصيلة وقوة الوعي المكتملة لدى الشاعرة وفاء بوعتور هي من جنبتها مثل هذه الفخاخ الأيديولوجية المنصوبة.
وبما أن الهاجس الروحي هو لب شعرها الجنسي بغية تحقيق بعد سيوسيولوجي صحيح للمفاهيم والقيم فإنها لم تلجأ الى إستعارة أدواتها الفنية من غيرها .. إنما إختلقت لذاتها الشعرية خاص أدواتها وأخترعت لها جديدا لا يتقيد بإلزامات أحد
فحفظت بذلك للقيمة الفنية جمالها وسطرت مهمات تجربتها الشعرية التسطير الصحيح في البناء الحضاري الحق في مناخ كامل الحرية.
وأسست دعوتها بإعادة النظر في الموروثات والرواسب الفكرية وكل مايتعلق بالمرأة والجنس والعاطفة والحرية بعيدا عن المفاهيم الطوباوية التافهة وترهات نظرتها الفوقية الصدئة وجنونها الأنوي المقيت.
لقد خاضت الشاعرة مغامرتها الكبرى فاخترقت بتجربتها الشعرية الفذة نصوص التراث كما فعلت مع ألف ليلة وليلة .. وإذ لم تكتفي باتخاذها متكأ لتجربتها فقد شادت صرحا شعريا شاهقا يطاولها وأسمته في عنوان فرعي: ألف نهدية ونهدية.
في ظل هذا التناص المباشر البديع مع تراثنا الأدبي العريق أبدعت الشاعرة في نسج وشائج تجربتها بألف ليلة وليلة بسرديات حكاياها الأسطورية وأضفت عليها تجربة موضوعية.
إذ إختلقت من كل ليلة من تلك الليالي الألف نهدا دون المساس برمزية العدد وأختلقت من شهرزاد الحكي والقص شهرزاد شعر لا تقل عن سابقتها في الفصاحة والبلاغة وسحر البيان
فمن مخيالها البديع وملكتها اللغوية الباذخة الجمال والثراء باستعاراتها المذهلة وكناياتها المدهشة وعباراتها الرشيقة قدمت لنا تحفة أدبية خالصة بل معجزة شعرية سينصفها التاريخ ولو بعد حين.
لقد بعثت في مصادرنا التراثية الروح فأدامت لها الذكر وحفظت لها الإستمرارية والخلود بمزيد من الخلق والإبداع .
إبتكار لا يمس بقداسة الأساطير إنما يضفي عليها مزيدا من الإدهاش والمتعة والجمال .. إضافة إلى إغنائها بالمزيد من التجارب والوقائع والتصورات.
إستنادا إلى إسترجاع النص الغائب وبشعرية الإختراق واعتمادا على ثنائية البناء والهدم .. بناء شادت به صرحها الشعري الحداثي وهدم لمفاهيم التراث المعلبة .
تميزت النهديات بخروجها عن المتوارث والمألوف إذ كسرت حقا طابوهات عصرها المعروفة.. بتوظيفها للنهد كرمز مرتبط بواقعها تعبر من خلاله عن أزمتها الوجودية.
فالنهديات قضية (أنا) الشاعرة جراء تصادمها مع واقعها المعاش.
حتى ان ذلك كان باديا من خلال صورة الغلاف.. لم تكن تمثل فيه الصحراء بكل معاني القحط والسلب إلا واقعها الحضاري ..وماصورة الشاعرة وفاء إلا صورة كل أمرأة عربية مضطهدة.
ومن أشكال التناص في النهديات أيضا تقاطع تجربتها الشعرية بالتجربة الصوفية.. تقاطع الحداثة بالتراث.
بما أن عملية التناص مجازة في الإبداع الفني فمن خلال التجليات اللغوية والظلال التاريخية البينة على النص ندرك أن ماقامت به الشاعرة بداية هو إشتغالها على المتخيل بحكائية شعرية وهي عملية إستنساخ وتوليد للنصوص في غاية العسر والتعقيد مع إضافة بصمة فنية مائزة .. وهذا دليل على عبقرية الشاعرة الحقة .
الأبعاد التناصية في النهديات توضح إتخاذ الشاعرة وفاء لألف ليلة وليلة كمتكأ لألف نهدية ونهدية التي لم تأتي من فراغ ولم تبنى باللصق .
فألف نهدية ونهدية ليست هي ألف ليلة وليلة بل تجربة وفاء الشعرية التي أخضعت التراث إلى تحويل فني بصبغة جمالية مبهرة وأصالة بعد تاريخي خالصة.
وإن كنا نفهم من خلالهما وحدة التجربة الإنسانية بكل أحلامها وألامها وأنتصاراتها وهزائمها وطموحاتها وخيباتها وإنكساراتها القاتلة. حق للتاريخ أن يمجد كلتيهما.
فالنهديات ليست عملا جاهزا أجريت عليه الرتوش والإختزالات .. إنها قدرة بدبعة مذهلة في الخلق والإبتكار .. وصرح شعري مشاد بعيدا عن كل تكرارية وتسطح.
إنها مثيولوجيا مدججة بالتأويل مثقلة بالإيحاءات بعيدا عن كل مستهلك قديم.
تجربة شعرية فريدة بتمايزاتها الشكلية والفنية الخارقة تغرد خارج سرب الأنماط الشعرية المستهلكة والأيديولوجيات المبتذلة.
كما لجأت الشاعرة أيضا إلى تقنية التقنع الشخصية باستعارة شخصية شهرزاد من ألف ليلة وليلة كسيدة للحكي والقص باختلاق شخصية شهرزاد النهديات لتتسيد مملكة الشعر وإن تستر إسمها بلسان صاحبة النهديات .. لكننا نقرأه بالدلالة والإيحاء من خلال العنوان الفرعي للنص.
لقد تقمصت شهرزاد الشعر شهرزاد الحكي والقص لكنها شخصية مستقلة عن ذات الأخرى .
نلحظ من ذلك مدى تأثر الشاعرة وفاء بالتراث من خلال توظيفها للأقنعة الأسطورية .
إن تمثل الشاعرة بالأنساق المعرفية للشخوص التراثية إنما جاء لأجل توظيفها لتمثيل معاناة الذات وتحديد موقفها من واقع مرير واحد وإن باعدت بينهما الأزمنة والأمكنة.
فتلك الشخوص الأسطورية صالحة للإسقاط على تجاربنا المعاصرة وتعد ألسنا معبرة عن أزماتنا.
ومما زاد النهديات جمالا هو إستخدام مؤلفتها للرمز الصوفي الذي ظهر من خلال الدلالة الفكرية والفنية للنص.
فقد وهبت للمفردة الصوفية عبر مسار قصائدها نصيبا وافرا من المساحات لتفضح بها غطرسة مجتمعها الذكوري الأرضي الجامد وقهره المسلط على المرأة.
فنهد السبدة واو نهد صوفي شريد بين أبيات القصيد يردد صرخة رفض الإضطهاد ويرتل تسابيح الحرية.
لقد عبرت الشاعرة عن إختلاجات ذاتها ومكنوناتها بتوظيف الرموز المعبرة عن مأساتها على لسان أقنعتها المصدرية والمخترعة(شهرزاد_ السيدة واو) كوسيلة ناجعة في إيصال صرخاتها لأسماع المتلقي.
فإن هذه الأقنعة بمثابة مراياها العاكسة لصورة معاناتها الدامية في ظل واقع شرقي ذكوري متغطرس .
فجاءت هذه المثيولوجيا لتروي حقيقة مأساة المرأة منذ الأزل وتسرد سيرة كفاحها الحداثية الدامية وسعيها في سد شروخ ذاتها الإنسانية المعذبة.. فتؤرخ بذلك لجدلية صراع المفاهيم وثنائية الأضداد بين الرجل والمرأة.. بين المادة والروح . بين الحرية والعبودية .. وبين الجمال والقبح بنزعة روحية من خلال نص يعتمد على تأثير القيمة الدلالية الإيحائية في الفهم والإدراك.
فكانت تجربة شعرية حداثية تمظهرت عليها ملامح التجربة الصوفية المستقاة من سير رموزها الغابرين بفضل طاقة إبتكار جبارة ومحاولة فنية راقية في أنسنة التوحش.
فشهرزاد السيدة واو هي الوسيط الدرامي بين ديوانها وجمهرة قرائها الحصاف.
إذا كان الشهيد يصنع مجده من دمه .. والكاتب من حبره فإن المراة الشاعرة وفاء بوعتور صنعته من بعد دم حبرها المسفوك من لغة جسدها الذبيح بشفرة الذكورية المتوحشة .
وبفضل تفاعل وعيها التراثي ووعيها الذاتي تم للشاعرة هذا الخلق الجديد بأساليبه التعبيرية المبتكرة وبفضل تحررها الإبداعي الماتع من ربقة المذاهب والأيديولوجيات لتؤسس لنهضة جيل جثمت الرداءة على صدر ذائقته أمدا طويلا وأستحكمت في ذهنه لوثة التفاهة زمنا مديدا.
وتمنح بذلك للمتلقي حرية بناء تصوراته الذاتية بقراءة نموذجية خارج القراءة الموجهة ودوائر النقد المغلقة.
كل هذه الأشياء الجميلة هي ما فتح على الشاعرة وفاء بوعتور أبواب الجحيم ودوامات المعاناة ..
إذ أذكت شرارة صراعاتها المحتدمة مع كل من لم يكن له قبول واعتراف بهذا السبق المائز والتفرد الإبداعي الباهر وبهذه التجربة الجديدة التي إستقطبت كل الأضواء من حول مشاهير النجوم الأدبية .. الذين عذبتهم هواجس الأفول والإنطفاء..
ولم يتقبلوا أن تمتلك إمراة شاعرة حرية تبعث في الملهمين روح التجديد والإبتكار حتى يظلوا هم أسياد المشهد والممثل الأوحد على مسرحنا الأدبي الشاغر.
وإذ كانت هذه الإمكانات المبهرة تهدد عرش مجدهم المزعوم أشهروا في وجهها أسلحة الأيديولوجيات القديمة لكسر تطورها.
وإذ لم تخلو مستودعات ذخائرهم من التهم الجاهزة فقد وسموها بالدعر والعهر والمجون.. وصنفوا أدبها ضمن الأدب الأيروتيكي المحض بتقييماتهم الاخلاقوية الكذوب .. وأعتبروا شعرها كنار في هشيم القيم .. لا تبقي ولا تذر بهتانا وزورا.
لكأنهم من زمر الملائكة المقربين لا بشرا جبلوا على هذه الغريزة الفطرية البريئة.
فأعطوا للجتس مفاهيم الرفض واللعن وما ذاك إلا دليل على خصائهم الفكري وعنتهم الحضارية.
وتمادوا في وصف شعرها بكل سمات الحطة والوضاعة والسخف وعدوه خرقا وجب عليه المنع والحضر .. فارتكبوا بذلك جرما آخر في حق جماهير قرائها العريضة دونما ذنب _ إلا إذا كانت الذائقة الفنية جرما وخطيئة_.
إن كل أولئك الظلمة المدججون بالحقد والغيرة والحسد والعقد ماهم إلا خفافيش ظلام وأعداء النور والفن والكلمة الحرة والنبوغ.. أعداء الحرية.
ستهزم جمعهم إمراة واعية واحدة هي أقدر مايكون على بناء صرح شعري جديد أجمل وأبهى وأمتع وأرقى وأسمق وأشمخ وأشهق من كل مابنوه مجتمعين بعد ان إستعادت للشعر دوره النبيل وأعادت لغريزة الجنس براءة فطرته وأبدعت في إعطائه أدهش صوره الجميلة وأستعادت للمرأة قدرها الروحي العظيم ولجسدها السليب عذريته المغتصبة ومنحت للحب معانيه الأجمل والارقى والأكمل.
ولم تضعف حتى وهي تبيع كتبها على حسابها الخاص وتشهر لها عبر مواقع تواصلها الإجتماعي وتعرض أعمالها للبيع من غرف بيتها .. وما أمر هذه المعاناة وما أقساها وكم هي غائرة مثل هذه الطعنات في صميم عزتنا وكبريائنا.
إن النهديات تجربة شعرية مائزة يسممونها بالتهم ويخنقونها بالحضر .
لعمري إن مثل هذه القرارات لتفضح فداحة الفساد العريض المستشري في مؤسساتنا الثقافية .. وتكشف عن طوايا المقيمين عليها بشكل يدعو للأسف .. وللكثير من الشفقة.
ولا عجب أن تصدر مثل هذه الأحكام الذكورية التي لا تمنح للمرأة من كينونة إلا في غرفة النوم ولا أرحب من مساحة سرير وفراش.
في حين أن الشاعرة بوعيها الحضاري التام قد طوحت بمعايير المادية المقيتة وأستعادت للوجدان نبضه وللروح حميمياتها وأججت ثورة الإحتجاج ورفض الأوضاع الإجتماعية القائمة على الأفكار الرعناء والمفاهيم المتحجرة ودوت صرختها الواعية مجلجلة عبر أرجاء الأمصار والأصقاع في وجه سطوة الإقطاع الشرقي المتوحش البائس.
إذا كانت ألف ليلة وليلة قد توجت شهرزاد.ملكة على عرش الحكي والقص وكتب لها الخلود كشخصية شعبية تراثية .. فإن الف نهدية ونهدية ستتوج السبدة وفاء بوعتور شهرزاد ملكة على عرش الشعر النثري الحديث وسيكتب لها الخلود كامرأة عربية مثقفة ثائرة في وجه الظلم وأباطرة الرق وقياصرة العبودية ..
لأنها نجحت فعلا في تحرير القصيدة من ربقة إمبراطوريات الإقطاع الفكري المستبدة وفكت عنها حصارها المضروب وهزمت ورثاء القصيدة غير الشرعيين من أدعياء الفكر وصعاليك الأدب وأنصاف الشعراء.
وهاهي عن قريب ستتم بناء مثيولوجية شعرية يقوم صرحها الشامخ العتيد على أس لفظ يتيم : (النهد) بكل قوته ودعاماته الرمزية وهذا سبق في تاريخ الشعر وتفرد إبداعي لا ند له ولا نظير .. ومغامرة شعرية لم يسبق لها مثيل .. كسرت فعلا منظومات الطابوهات .
لقد سبقت الشاعرة الملهمة وفاء بوعتور شعراء عصرها بألف عام وعام أو يزيد.
إن هذه الموهبة الشعرية لا تقوضها الأيديولوجيات ولا تخضعها الموروثات الإجتماعية لمنظوراتها وحدودها الضيقة .. إذ يرجع فضل القيمة الفنية لهذا الإبتكار الجبار إلى الحرية.
بذلك فرضت الشاعرة ذاتها وأسمعتنا صرختها المدوية وعرفتنا بمنتهى الصدق والأمانة على مأساة بني جنسها في شرقنا الذكوري البليد.
إن نهدا لغويا في الحب هذا شأنه نهد حر لا يمتلك ولا يستعبد.
إن النهد من ظاهر عالمه المادي وباطن عالمه الروحي المغيب هو الوجه الآخر للحرية.
إن هذا النهد المدجج بالرموز.. المملوء بالإيحاء .. المتخم بالحب والمفعم بالحيل نهد محفوف بالأنوار.
نهديات السيدة واو: في غرفة نومي مارست عليها فعل القراءة من على فراش ..
وبالنقد والتحليل من على سطح مكتب ضاجعتها ..
فأي مريد منكم قاسمني صوفيتي وطرق مسالك النهديات مثلي فتكشفت له حقائق أنوارها وتجلت له مكامن أسرار جمالياتها المشتهاة؟.
جمعي شايبي