د. أحمد الحطاب - لا يريدون أن نكونَ ديمقراطيين

ما دامت الديمقراطية مقترنةً بالسياسة، فمَن هم الذين لا يريدون أن نكونَ ديمقراطيين؟ هم الأشخاص أو جماعة من الأشخاص أو حزب سياسي أو أحزاب سياسية أو حتى بلدانٌ بأكملها. لماذا لا يريدون أن نكونَ ديمقراطيين؟ بكل بساطة، لأن لكل منهم مصلحة أو مصالح في أن نكون غير ديمقراطيين.

على مستوى الأشخاص، كثيرٌ من الناس يستفيدون من الوضع اللاديمقراطي (شبه ديمقراطي أو الذي يبدو ديمقراطيا) عن طريق الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح الشخصية. فمثلا، كثيرٌ من الأشخاص، بحكم تقربهم من السلطة بطرق غير مشروعة، يستفيدون من ريعٍ أو من صفقات أو من احتلال للمِلك العام أو من وِشاية أو من كذب أو من أو من فقر أو من باطلٍ أو من تُهمة… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة، 146).

على مستوى جماعاتٍ من الأشخاص، فالأمر يتعلَّق بلوبيات قد تكون سياسية أو اقتصادية أو استبدادية أو… وهذه اللوبيات، غالبا ما تكون مبنيةً على السيطرة على السلطة أو على المال أو عليهما معا. وحينما تكون اللوبيات مبنيةً على استغلال السلطة، فالنفوذ والتَّواطؤ هما سيد الموقف. وحينما تكون اللوبيات مبنيةً على المال، فالفساد المالي هو سيد الموقف. حينها، يصبح كل شيء مباحا : الغش، التَّزوير، الجشع، النهب، الرشوة، شراء الذمم، شراء الصمت… وحينما تكون اللوبيات مبنيةً على السلطة والمال، فحدٍِث ولا حرج : كل شيء يُباع ويُشترى لأن السلطةَ المدعَّمة بسلطة المال، لا شيءَ يصمد أمامها. حينها، تعمى الأبصارُ والقلوب وتُبكَّم الأفواه وتُصَمُّ الآذان وتنعدم الأخلاق والمواطنة…

على مستوى حزب أو أحزاب سياسية، فالأمر يكتسي خطورةً ما بعدها خطورة. لماذا؟ لأن الحزبَ السياسي هو امتداد لصوت الشعب، بل إنه صوت الشعب اجتماعيا، سياسيا، دستوريا، قانونيا، أخلاقيا، أي من المفروض أن الحزب السياسي هو الذي يحمل همومَ الشعب إلى مَن يهمهم الأمر لإيجاد حلول لها. فإذا تخلى الحزبُ السياسي عن الشعب ولم يعد يشغل بالَه إلا الوصول إلى السلطة، فما على هذا الشعب إلا أن يلعنَ السياسةَ والسياسيين أينما حلوا وارتحلوا.

على مستوى البلدان، يجب التَّذكيرُ بأن العلاقات التي تقيمها بلدان مع بلدان أخرى مبنية على المصالح المتبادلة. ومَن يقول شيئا آخر، فهو خاطئ. البلدان لا يهمها أن تكون البلدانُ الأخرى ديمقراطية أو شيوعية أو اشتراكية أو راسمالية أو ليبرالية… ما يهمها هو تحقيق مصالحها والباقي كله ذرُّ الرماد على العيون وخداعٌ. فإذا كانت علاقاتُ البلدان رهينة بوجود الديمقراطية في البلدان الشريكة، فكثيرٌ من هذه البلدان ستبقى معزولة عن العالم ولن يفكِّرَ أي بلد في إقامة علاقات معها. غير أن الواقعَ يبيِّن عكسَ هذا. فمثلا كوريا الشمالية، إيران، الجزائر، روسيا، أفغانستان وكثير من البلدان الإفريقية والآسيوية، لها علاقات مع العديد من البلدان في العالم رغم أن الحكمِ فيها استبدادي ولا علاقةَ له بالديمقراطية. ما يهمُّ البلدانَ، في إقامة علاقات دولية، ليست الديمقراطية أو احترام حقوق الإنسان أو القضاء على الفقر أو العدالة… ما يهمها هو البراغماتية le pragmatisme، أي أن تكونَ العلاقات ناجعة ومُربحة. بل إن البلدان، وعلى رأسها البلدان المتقدمة ديمقراطيا، اقتصاديا وصناعيا، من مصلحتها أن يكونَ الحكمُ، في البلدان الشريكة، قويا وماسكا بزمام الأمور. في هذه الحالة، إن العلاقات الدولية قائمةٌ أساسا على النفاق السياسي وليس على اشتراط وجود الديمقراطية. وإن وُجِد هذا الاشتراطُ، فإنه لا يصلح إلا للواجهة ولإسكات الأفواه المعارضة. العمق كل العمق هو تحقيق المصالح. وحتى البلدان اللاديمقراطية، من مصلحتها أن يكونَ لها شركاء من بلدان قوية. لأن هذه الشراكة تُعد بمثابة اعتراف ضمني للحكم ولو كان استبداديا.

في نهاية المطاف، سواءً تعلق الأمرُ بالأشخاص أو بجماعة من الأشخاص أو بحزب أو بأحزاب سياسية أو ببلدان بأكملها، الديمقراطية ليست إلا مَطية يركبها هؤلاء الأشخاص أو جماعة أشخاص أو أحزاب سياسة أو بلدان لتحقيق مصالح معيَّنة. هذا هو حال العالم الذي أصبحت فيه القيم الإنسانية لا تساوي شيئا أمام جشع الأشخاص والبلدان. والغريب في الأمر أن البلدان، في علاقاتها الدولية، تعرف حق المعرفة أن هذه العلاقات قائمة على النفاق، ورغم ذلك، فإنها تغض الطرفَ عن هذا النفاق ما دام ناجعا ومربِحا، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة، 42).

وكمثال على هذا النفاق السياسي، أعود شيئا ما إلى الوراء لأذكِّر بالزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron إلى الجزائر وكيف كان يقبِّل الرئيس الجزائري رغم أنه سبق له وأن وجَّه له وللجزائر انتقادا لاذعا يحط من كرامته وكرامة الجزائر والجزائريين.

وكمثال آخر، نفس الرئيس الفرنسي، عندما أراد أن يُمرِّرَ قانونَه الجديد حول تمديد سن التَّقاعد من 62 سنة إلى 64 سنة، لم يُعِر أي اهتمام للديمقراطية رغم معارضة شبه إجماعية لهذا القانون. لقد استعمل سلطتَه الدستورية غير آبِهٍ بهذه المعارضة.

وكمثال آخر للنفاق السياسي، كم هي عديدة القرارات التي اتخذها مجلس الأمن ضد إسرائيل. هذه القرارات، إما يتمُّ إجهاضُها باستعمال حق الفيتو من طرف الولايات المتَّحدة. وإما لا يعرف ولو واحد منها طريقَه إلى حيز التنفيذ. أليس استعمال حق الفيتو نوع من النفاق السياسي، وخصوصا أنه صادر عن أكبر ديمقراطية في العالم!

ما أختم به هذه المقالة هو قول لله سبحانه وتعالى في حق التافهين. : "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (التوبة، 67).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...