أشرقت شمس الصباح بإحدى مزارع تربية الدواجن المنتشرة في صحراء الهايكستب في منتصف السبعينيات، أطل من نافذة غرفة استراحته على الخضرة أمامه، إنها بعض شجيرات الطماطم مع شجيرات الفلفل الأخضر والجرجير، والتي تمد العاملين هنا ببعض مكملات الطعام الذي يصنعونه في استراحاتهم، حول تلك الشجيرات سورٌ وهمي من نباتات الزينة، أشهرها نبات العطر ذي الرائحة الذكية، يليه سورٌ من أشجار الكافور العالية حول المزرعة؛ لحمايتها من انتقال العدوى مع الرياح لعنابر تربية الدواجن. مدَّ نظره لأبعد من حيز الخضرة عبر الصحراء الممتدة أمامه، ليعيد نظره سريعًا للخضرة القريبة من النافذة، قبل أن تتحول ابتسامته لتكشيرة تأثرًا بجفاء الرمال المحيطة.
كان صاحبنا قد أنهى نوبتجيته بالمزرعة، فقام يلملم أشياءه ويستعد للمغادرة إلى المنزل، وككل دورة، يتم تسليم دواجن الوحدة للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر الآلي لاستلام الدواجن مبكرًا، ولتأمين التسليم يتولى السائق مهمة الاستلام والتسليم بالعدد على أوراق المأمورية، ويتم التفتيش عليه وعلى السيارة والمرافقين تفتيشًا تابع لمرور الداخلية على بوابات الطريق الخارجية.
نبه الغفير صاحبنا أن يحترس للتفتيش، فتسمر مكانه لثوانٍ، ثم تشجع أو أوهم نفسه بذلك، وصعد لكابينة إحدى سيارات النقل. تحرك السائق وتحرك معه القلق داخل صاحبنا، بدأ يشعر بالتوتر على الطريق، وكلما اقتربت السيارة من كمين التفتيش ازداد توتره وتسارعت دقات قلبه.
جاءت اللحظة الحاسمة، شعر عندها أنه يكاد يغيب عن الوعي من شدة الخوف والتوتر، أراد أن يعود من حيث أتى، باح للسائق برغبته في العودة بحجة نسيانه بعض الأشياء، ولكن قد فات الأوان. قال له السائق:
لقد اقتربنا من الكمين، وإذا توقفت أنا أو نزلتَ أنت سيشك فينا أفراد الكمين من بعيد وتصبح مشكلة.
صمت مرغمًا، شعر أنه في لحظة فاصلة بين ماضيه ومستقبله، وكان حاضره شاخصًا أمامه ..
فبعد تخرجه من المدرسة الصناعية، وبعد أن قضى مدة تجنيده التي انتهت في منتصف السبعينيات تم تعييينه من قِبل وزارة القوة العاملة.
عندما كانت الدولة مسئولة عن تشغيل الخريجين جاء هذا التعيين في إحدى شركات وزارة الزراعة على غير رغبته، ورغم اختياره وزارة الطيران المدني بقائمة الرغبات؛ كان التوزيع حسب احتياج مؤسسات الدولة، وتبعًا لمن له واسطة في زمن الواسطة وأقرباء السلطة في الحكومة، لذا فمن فاته تراب الميري تاهت حياته حسب عقيدة الشعب المصري في عصر عبد الناصر، أمّا من اعتمد على العمل الخاص فقد كان موعودًا بالبطالة.
كان حظه التعيين بمزارع تربية الدواجن الكثيرة في الصحراء مترامية الأطراف، والتي تخلو من الحياة إلا من بعض الأكواخ المتفرقة عشوائيًّا هنا وهناك على أطراف القاهرة من الجهة الشرقية، حيث كان يقضي أربعة وعشرين ساعة نوبتجية مقابل راحة لثمانٍ وأربعون ساعة. ومن الصدف أن وحدته العسكرية التي قضى فيها تجنيده، كانت قريبة من وحدة الدواجن التي يعمل بها، فاستطاع المرور عليها ذهابًا وإيابًا ليرى المكان الذي تخرَّج فيه رجلًا يحمل المسئولية، وتلك من سخرية القدر، فقد تخرج في وحدة تربية الرجال ليدخل وحدة تربية الدواجن!
ليلًا و بعد مُغادرة الموظفين، كان عمله يتلخص في المرور كل ساعة على عنابر التربية لمراقبة كفاءة أجهزة التهوية والتغذية وغيرها، باعتباره فني متابعة وصيانة للأعطال الطارئة، ولم يكن لديه ما يفعله غير ذلك سوى القراءة والقراءة، وشرب الشاي، والاستئناس بخفير الوحدة.
وللخفراء هنا وضع خاص في الوظيفة؛ فالخفير عامل زهرات، أي: غير مثبت في الوظيفة. يكون من بدو العرب في هذه الصحراء، وعملهم الأصلي ليس الحراسة فقط، بل إنهم يعملون سرًّا بتوزيع أو تجارة الحشيش، وقد انتشر الحشيش في ذلك الزمان كانتشار الفول المدمس الذي يشبع الإنسان المصري، بدءًا من الطبقة المتوسطة إلى الفقيرة، وهو المخدر الشعبي الرخيص نسبيًّا، بالطبع هو من الممنوعات حسب نص القانون ، لكن تجريمه لم يمنع انتشاره، ومن السخرية كما يراها الغفير، أن ضرر تناول الفول يوميًّا ربما يكون أسوأ بكثير من تدخين الحشيش.
عادةً يحمل الخفير معه لفة الحشيش أو ما يطلق عليه (تربة الحشيش) يجلس طول الليل إلا ببعض الدقائق في أول الليل وآخره؛ للمرور حول المحطة لتفقد وضع الأمن خلف العنابر، مجرد مرور روتيني، فالمكان صحراء ولا سكان هنا غير البدو العربان، وهم يعرفون بعضهم ولن يسرق أحدٌ منهم حفنة رمل طالما هناك حارس منهم. مجرد تأمين روتيني يعود بعده لجلسته أمام الراكية -منقد النار- ليضع عليها كنكة الشاي التي ليست لها معالم، سوداء بلون الفحم، مصبوغة بلون الشاي المغلي من الداخل، وبجوارها مطواة (قرن الغزال) المدفون نصلُها في الفحم المشتعل.
بجوار الراكية طاولة خشبية مهترئة، بها ثقوب محترقة إثر تساقط بقايا الفحم المتطاير، مرصوص عليها عشرين أو ثلاثين قطعة من حجارة الجوزة (الشيشة) وفي مشهد ذكّره بعماد حمدي في فيلم (ثرثرة فوق النيل) وقعدة الأنس في العوامة يعمر كل حجر بالمعسّل، ثم يبصم الحجر بقطعة من الحشيش بحجم أقل من قرص الأسبرين، ثم يضع الحجر على الجوزة بعد رص الفحم المجروش عليه؛ ليسحب منها دخان حريق خليط المعسل بالحشيش، فيتداخل ضوء القمر مع الدخان الأبيض المتصاعد بينهما كسحابة بيضاء لا تلبث أن تتفرق وكأنها شبورة في ليلة باردة، لا ينقص المشهد الذى أبهره كشاب لم يخبر الدنيا ، سوى باقي شلة العوامة. ومع غناء أم كلثوم الصادر من الراديو الترانزستور الذي ما زال يحتفظ به منذ أنهى تجنيده، تمرُّ الليلة وكل ليلة بهذه الصحراء.
عادةً يضع الخفير بجواره لفة حشيش في حجم كف اليد أو أكبر، ثم يخرج قرن الغزال من النار ليغرسها في قطعة الحشيش كقطعة شيكولاتة، ليقطعها قطعًا بأحجام مختلفة،موزونة بالخبرة، ثم يلف كل قطعة في سولوفان أحمر ويدسها في جيبه، يستمر هكذا حتى يتم عمله الذي ينتهي فجر اليوم الجديد، ويقتصد الخفير الكريم قطعةً لا بأس بها، تكفيه طول الليل وحتى شروق الشمس.
بمجرد جلوس صاحبنا بجواره يناوله الجوزة بحجر مبصوم بأجود أنواع الحشيش المزيِّت، ومعها كوب الشاي المغلي المُرّ، وكله ببلاش، وبلهجته البدوية الممزوجة باللهجة القاهرية يرجو صاحبنا:
- وحياتك يا أستاذنا هات لنا شوية ميّه.
- وحياتك يا أستاذنا وأنت بتمُر في العنابر بصّ بصّة كده وراها.
فيتحول الغفير لوزير بهذه الليلة، يأمر فيطاع، ويقوم صاحبنا بعمله وعمل الغفير معًا. يستمر الحال هكذا حتى شقشقة الشمس وزقزقة العصافير، فيقوم بعدها كل واحد منهما لتهيئة نفسه لتسليم الغفرة والنوبتجية، بعدها يذهب الغفير ومعه لفة الحشيش وقد أصبحت قطعًا مقسمة، وفي طريق يعرفه هو داخل الصحراء يقابل آخرين يشترون منه كلٌّ حسب احتياجه، لتفرغ جيوبه من قطع الحشيش ويمتليء مكانها بالجنيهات، فيكمل طريقه إلى عشته ليرتاح.
أما صاحبنا فيذهب إلى منزله للنوم، وفي العصاري يستيقظ، يذهب صاحبنا لممارسة عمل آخر خاص، بورشة بوسط البلد بمركز خدمة للأجهزة المنزلية، يعمل به حتى منتصف الليل ويعود إليها في اليوم التالي؛ ليعود لمزرعته في النبضشية التالية.
المهندس داوود في أوائل العقد الخامس، وقد اكتفى من العمل بيديه وأصبح يدير العمل كصاحب لمركز الخدمة من مكتبه، كان مدمنًا للشيشة فلا يتركها، ومعه صبي لتعميرها وتجهيز النار. وجد أن شخصية صاحبنا تختلف عن العاملين معه، فكان يخصه ببعض أفكاره عن تشغيل وإدارة المركز، وكيفية رفع مستوى أدائه، وهكذا، فهناك دائمًا حوار بينهما في مختلف الموضوعات. كان يترك له بعض أنفاس الشيشة، وذات مرة أخبره صاحبنا أثناء سحب الأنفاس أنه عرف أن الشيشة مبصومة (مغمسة) بالحشيش. فتطرق الحوار بينهما لكيفية الحصول على الحشيش وأسعاره، أحب أن يتباهى بقدراته أمام صاحب الورشة؛ فحكى له عن الغفير والحشيش المزيِّت والسعر المخصوص، وهكذا طلب منه صاحب الورشة قطعتين، كل واحدة ربع قرش. هكذا كانت التسمية، وهكذا أحب صاحبنا أن يُظهر للمهندس أنه يمكنه جلب الحشيش له..
في صباح ذلك اليوم ، ككل دورة تسليم دواجن للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر لاستلام الدواجن مبكرًا. قبل أن يصعد إلى سيارة النقل نبهه الغفير أن يحترس من التفتيش، تسمر لثوانٍ، ثم سأل الغفير عن كيفية التأمين؛ فأشار له بوضع قطعتي الحشيش اللتين اشتراهما منه ليلة أمس داخل جوربه، تشجع صاحبنا أو أوهم نفسه بذلك، ركب السيارة وجلس بجوار السائق.
أفاق أو استيقظ من غفوته حين استرجع هذه الليلة الغبراء، والتي ليست ككل ليلة؛ فها هو يحمل معه ما سيدمر مستقبله وأحلامه.
انتبه صاحبنا عندما لمح أحد أفراد الكمين يقف وسط الطريق، رافعًا يديه للسائق بعلامة الوقوف، يا إلهي! ماذا فعل بنفسه؟!
ربما لن تكون لحظة فاصلة، بل زمنًا سحيقًا فاصلًا بين ماضيه ومستقبله، وربما يطول الزمن فلا يدرك مستقبله، وهو ما زال في بداية المشوار.
حاول طمأنة نفسه، متمنيًا أن تكون هذه الأحداث مجرد حلم، توقفت السيارة والكابوس بأبشع لحظة في حياته أمام أفراد الكمين، طلب أمين الشرطة الأوراق من السائق، ثم طلب منه نزوله ومرافقه. نزل صاحبنا، ورغم أن الزمن توقف فقد وجد أنه لا يعرف كيف استطاع الوقوف على قدميه، دقات قلبه تكاد تقول لمن حوله خذوني. طلب منه الأمين بطاقته الشخصيته وكارنيه العمل، وتم تفتيش كابينة السيارة، وقبل أن تنسحب روحه ويغيب عن الوعي أمرهما أمين الشرطة بركوب السيارة.
هكذا فقط! أهذا كل شيء؟!
ركب صاحبنا غير مصدق أن الأمر قد انتهى، وأن الكابوس قد انزاح. لا يعرف كيف وصل منزله؛ فما زال يرى الصحراء ممتدة أمامه وأكواخ البدو منتشرة هنا وهناك، لم ير زحام المدينة بعدها، توقفت الحياة حوله، لم يعد يسمع ضجيج السيارات، علامات الطريق البيضاء تتوالى وهو فاغر فاه ببلاهة، شاخصٌ تجاه لا شيء، ككفيف ينظر أمامه ولا ينظر. حتى هزه السائق بقوة لينبهه لوصوله.
دخل غرفته وانفجر باكيًا، استمر في البكاء حتى نام نومًا عميقًا دون أحلام حتى صباح اليوم التالي، قام بعدها على صوت أم كلثوم "يا صباح الخير يا اللي معانا يا اللي معانا"
كان صاحبنا قد أنهى نوبتجيته بالمزرعة، فقام يلملم أشياءه ويستعد للمغادرة إلى المنزل، وككل دورة، يتم تسليم دواجن الوحدة للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر الآلي لاستلام الدواجن مبكرًا، ولتأمين التسليم يتولى السائق مهمة الاستلام والتسليم بالعدد على أوراق المأمورية، ويتم التفتيش عليه وعلى السيارة والمرافقين تفتيشًا تابع لمرور الداخلية على بوابات الطريق الخارجية.
نبه الغفير صاحبنا أن يحترس للتفتيش، فتسمر مكانه لثوانٍ، ثم تشجع أو أوهم نفسه بذلك، وصعد لكابينة إحدى سيارات النقل. تحرك السائق وتحرك معه القلق داخل صاحبنا، بدأ يشعر بالتوتر على الطريق، وكلما اقتربت السيارة من كمين التفتيش ازداد توتره وتسارعت دقات قلبه.
جاءت اللحظة الحاسمة، شعر عندها أنه يكاد يغيب عن الوعي من شدة الخوف والتوتر، أراد أن يعود من حيث أتى، باح للسائق برغبته في العودة بحجة نسيانه بعض الأشياء، ولكن قد فات الأوان. قال له السائق:
لقد اقتربنا من الكمين، وإذا توقفت أنا أو نزلتَ أنت سيشك فينا أفراد الكمين من بعيد وتصبح مشكلة.
صمت مرغمًا، شعر أنه في لحظة فاصلة بين ماضيه ومستقبله، وكان حاضره شاخصًا أمامه ..
فبعد تخرجه من المدرسة الصناعية، وبعد أن قضى مدة تجنيده التي انتهت في منتصف السبعينيات تم تعييينه من قِبل وزارة القوة العاملة.
عندما كانت الدولة مسئولة عن تشغيل الخريجين جاء هذا التعيين في إحدى شركات وزارة الزراعة على غير رغبته، ورغم اختياره وزارة الطيران المدني بقائمة الرغبات؛ كان التوزيع حسب احتياج مؤسسات الدولة، وتبعًا لمن له واسطة في زمن الواسطة وأقرباء السلطة في الحكومة، لذا فمن فاته تراب الميري تاهت حياته حسب عقيدة الشعب المصري في عصر عبد الناصر، أمّا من اعتمد على العمل الخاص فقد كان موعودًا بالبطالة.
كان حظه التعيين بمزارع تربية الدواجن الكثيرة في الصحراء مترامية الأطراف، والتي تخلو من الحياة إلا من بعض الأكواخ المتفرقة عشوائيًّا هنا وهناك على أطراف القاهرة من الجهة الشرقية، حيث كان يقضي أربعة وعشرين ساعة نوبتجية مقابل راحة لثمانٍ وأربعون ساعة. ومن الصدف أن وحدته العسكرية التي قضى فيها تجنيده، كانت قريبة من وحدة الدواجن التي يعمل بها، فاستطاع المرور عليها ذهابًا وإيابًا ليرى المكان الذي تخرَّج فيه رجلًا يحمل المسئولية، وتلك من سخرية القدر، فقد تخرج في وحدة تربية الرجال ليدخل وحدة تربية الدواجن!
ليلًا و بعد مُغادرة الموظفين، كان عمله يتلخص في المرور كل ساعة على عنابر التربية لمراقبة كفاءة أجهزة التهوية والتغذية وغيرها، باعتباره فني متابعة وصيانة للأعطال الطارئة، ولم يكن لديه ما يفعله غير ذلك سوى القراءة والقراءة، وشرب الشاي، والاستئناس بخفير الوحدة.
وللخفراء هنا وضع خاص في الوظيفة؛ فالخفير عامل زهرات، أي: غير مثبت في الوظيفة. يكون من بدو العرب في هذه الصحراء، وعملهم الأصلي ليس الحراسة فقط، بل إنهم يعملون سرًّا بتوزيع أو تجارة الحشيش، وقد انتشر الحشيش في ذلك الزمان كانتشار الفول المدمس الذي يشبع الإنسان المصري، بدءًا من الطبقة المتوسطة إلى الفقيرة، وهو المخدر الشعبي الرخيص نسبيًّا، بالطبع هو من الممنوعات حسب نص القانون ، لكن تجريمه لم يمنع انتشاره، ومن السخرية كما يراها الغفير، أن ضرر تناول الفول يوميًّا ربما يكون أسوأ بكثير من تدخين الحشيش.
عادةً يحمل الخفير معه لفة الحشيش أو ما يطلق عليه (تربة الحشيش) يجلس طول الليل إلا ببعض الدقائق في أول الليل وآخره؛ للمرور حول المحطة لتفقد وضع الأمن خلف العنابر، مجرد مرور روتيني، فالمكان صحراء ولا سكان هنا غير البدو العربان، وهم يعرفون بعضهم ولن يسرق أحدٌ منهم حفنة رمل طالما هناك حارس منهم. مجرد تأمين روتيني يعود بعده لجلسته أمام الراكية -منقد النار- ليضع عليها كنكة الشاي التي ليست لها معالم، سوداء بلون الفحم، مصبوغة بلون الشاي المغلي من الداخل، وبجوارها مطواة (قرن الغزال) المدفون نصلُها في الفحم المشتعل.
بجوار الراكية طاولة خشبية مهترئة، بها ثقوب محترقة إثر تساقط بقايا الفحم المتطاير، مرصوص عليها عشرين أو ثلاثين قطعة من حجارة الجوزة (الشيشة) وفي مشهد ذكّره بعماد حمدي في فيلم (ثرثرة فوق النيل) وقعدة الأنس في العوامة يعمر كل حجر بالمعسّل، ثم يبصم الحجر بقطعة من الحشيش بحجم أقل من قرص الأسبرين، ثم يضع الحجر على الجوزة بعد رص الفحم المجروش عليه؛ ليسحب منها دخان حريق خليط المعسل بالحشيش، فيتداخل ضوء القمر مع الدخان الأبيض المتصاعد بينهما كسحابة بيضاء لا تلبث أن تتفرق وكأنها شبورة في ليلة باردة، لا ينقص المشهد الذى أبهره كشاب لم يخبر الدنيا ، سوى باقي شلة العوامة. ومع غناء أم كلثوم الصادر من الراديو الترانزستور الذي ما زال يحتفظ به منذ أنهى تجنيده، تمرُّ الليلة وكل ليلة بهذه الصحراء.
عادةً يضع الخفير بجواره لفة حشيش في حجم كف اليد أو أكبر، ثم يخرج قرن الغزال من النار ليغرسها في قطعة الحشيش كقطعة شيكولاتة، ليقطعها قطعًا بأحجام مختلفة،موزونة بالخبرة، ثم يلف كل قطعة في سولوفان أحمر ويدسها في جيبه، يستمر هكذا حتى يتم عمله الذي ينتهي فجر اليوم الجديد، ويقتصد الخفير الكريم قطعةً لا بأس بها، تكفيه طول الليل وحتى شروق الشمس.
بمجرد جلوس صاحبنا بجواره يناوله الجوزة بحجر مبصوم بأجود أنواع الحشيش المزيِّت، ومعها كوب الشاي المغلي المُرّ، وكله ببلاش، وبلهجته البدوية الممزوجة باللهجة القاهرية يرجو صاحبنا:
- وحياتك يا أستاذنا هات لنا شوية ميّه.
- وحياتك يا أستاذنا وأنت بتمُر في العنابر بصّ بصّة كده وراها.
فيتحول الغفير لوزير بهذه الليلة، يأمر فيطاع، ويقوم صاحبنا بعمله وعمل الغفير معًا. يستمر الحال هكذا حتى شقشقة الشمس وزقزقة العصافير، فيقوم بعدها كل واحد منهما لتهيئة نفسه لتسليم الغفرة والنوبتجية، بعدها يذهب الغفير ومعه لفة الحشيش وقد أصبحت قطعًا مقسمة، وفي طريق يعرفه هو داخل الصحراء يقابل آخرين يشترون منه كلٌّ حسب احتياجه، لتفرغ جيوبه من قطع الحشيش ويمتليء مكانها بالجنيهات، فيكمل طريقه إلى عشته ليرتاح.
أما صاحبنا فيذهب إلى منزله للنوم، وفي العصاري يستيقظ، يذهب صاحبنا لممارسة عمل آخر خاص، بورشة بوسط البلد بمركز خدمة للأجهزة المنزلية، يعمل به حتى منتصف الليل ويعود إليها في اليوم التالي؛ ليعود لمزرعته في النبضشية التالية.
المهندس داوود في أوائل العقد الخامس، وقد اكتفى من العمل بيديه وأصبح يدير العمل كصاحب لمركز الخدمة من مكتبه، كان مدمنًا للشيشة فلا يتركها، ومعه صبي لتعميرها وتجهيز النار. وجد أن شخصية صاحبنا تختلف عن العاملين معه، فكان يخصه ببعض أفكاره عن تشغيل وإدارة المركز، وكيفية رفع مستوى أدائه، وهكذا، فهناك دائمًا حوار بينهما في مختلف الموضوعات. كان يترك له بعض أنفاس الشيشة، وذات مرة أخبره صاحبنا أثناء سحب الأنفاس أنه عرف أن الشيشة مبصومة (مغمسة) بالحشيش. فتطرق الحوار بينهما لكيفية الحصول على الحشيش وأسعاره، أحب أن يتباهى بقدراته أمام صاحب الورشة؛ فحكى له عن الغفير والحشيش المزيِّت والسعر المخصوص، وهكذا طلب منه صاحب الورشة قطعتين، كل واحدة ربع قرش. هكذا كانت التسمية، وهكذا أحب صاحبنا أن يُظهر للمهندس أنه يمكنه جلب الحشيش له..
في صباح ذلك اليوم ، ككل دورة تسليم دواجن للمجزر بعد انتهاء مدة التسمين، وصلت سيارات المجزر لاستلام الدواجن مبكرًا. قبل أن يصعد إلى سيارة النقل نبهه الغفير أن يحترس من التفتيش، تسمر لثوانٍ، ثم سأل الغفير عن كيفية التأمين؛ فأشار له بوضع قطعتي الحشيش اللتين اشتراهما منه ليلة أمس داخل جوربه، تشجع صاحبنا أو أوهم نفسه بذلك، ركب السيارة وجلس بجوار السائق.
أفاق أو استيقظ من غفوته حين استرجع هذه الليلة الغبراء، والتي ليست ككل ليلة؛ فها هو يحمل معه ما سيدمر مستقبله وأحلامه.
انتبه صاحبنا عندما لمح أحد أفراد الكمين يقف وسط الطريق، رافعًا يديه للسائق بعلامة الوقوف، يا إلهي! ماذا فعل بنفسه؟!
ربما لن تكون لحظة فاصلة، بل زمنًا سحيقًا فاصلًا بين ماضيه ومستقبله، وربما يطول الزمن فلا يدرك مستقبله، وهو ما زال في بداية المشوار.
حاول طمأنة نفسه، متمنيًا أن تكون هذه الأحداث مجرد حلم، توقفت السيارة والكابوس بأبشع لحظة في حياته أمام أفراد الكمين، طلب أمين الشرطة الأوراق من السائق، ثم طلب منه نزوله ومرافقه. نزل صاحبنا، ورغم أن الزمن توقف فقد وجد أنه لا يعرف كيف استطاع الوقوف على قدميه، دقات قلبه تكاد تقول لمن حوله خذوني. طلب منه الأمين بطاقته الشخصيته وكارنيه العمل، وتم تفتيش كابينة السيارة، وقبل أن تنسحب روحه ويغيب عن الوعي أمرهما أمين الشرطة بركوب السيارة.
هكذا فقط! أهذا كل شيء؟!
ركب صاحبنا غير مصدق أن الأمر قد انتهى، وأن الكابوس قد انزاح. لا يعرف كيف وصل منزله؛ فما زال يرى الصحراء ممتدة أمامه وأكواخ البدو منتشرة هنا وهناك، لم ير زحام المدينة بعدها، توقفت الحياة حوله، لم يعد يسمع ضجيج السيارات، علامات الطريق البيضاء تتوالى وهو فاغر فاه ببلاهة، شاخصٌ تجاه لا شيء، ككفيف ينظر أمامه ولا ينظر. حتى هزه السائق بقوة لينبهه لوصوله.
دخل غرفته وانفجر باكيًا، استمر في البكاء حتى نام نومًا عميقًا دون أحلام حتى صباح اليوم التالي، قام بعدها على صوت أم كلثوم "يا صباح الخير يا اللي معانا يا اللي معانا"
تمت
ابراهــــيم ســـلامه ابراهــــيم