شكلت القصة القصيرة خلال العقود الأخيرة إلى حد ما ديوان المغاربة، وذلك بتزايد عدد اللواتي والذين واصلوا أو التحقوا بالكتابة والابداع في هذا المجال من أجيال وفئات عمرية مختلفة وعديدة من جهة، وكذلك لتزايد الاهتمام بها نقدا وتنظيرا وتنظيما للمهرجانات والتظاهرات الثقافية الخاصة من جهة أخرى.
وقد بادر سي حاميد اليوسفي مباشرة بعد تقاعده كأستاذ للغة العربية إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي من أجل نشر ما سماها وشوما، تلتها مجموعة من القصص القصيرة مدرا بذلك ما عنده، لنجد أنفسنا أمام كاتب يمطرنا بنصوص إبداعية متميزة، وليجد نفسه بعد ذلك من المبدعين الذين انغمسوا في هذا الجنس الأدبي، وأبدعوا فيه بشكل متميز.
وقد اختلفت علاقة القصاصين بالقصة القصيرة، إذ هناك من اعتبرها أما ترضعه حبا بكل أشكاله، وتحيطه حنانا، وتطعمه وتربيه وتخاف عليه. وهناك من اعتبرها النار المقدسة التي ارتأى لنفسه أن يكون من عبدتها. كما أن هناك من ارتبط بها بعلاقة صداقة غريبة الاطوار والتجليات تتسم تارة بالارتياح والتماهي بالانتساب والشوق والانجذاب، وتارة بالاستفزاز والمناوشة، وحرق الأعصاب، ليجد اليوسفي نفسه بعد عشقه للحياة والنضال والأسرة مع القصة كوسيلة تعبير جمالي وفني، أمام عشق أخير يشكل الهواء والدواء والحلم والهم بعد الغم.
واليوسفي الانسان بحضوره الطهراني، البسيط بتواضعه، والرافض لكل موقع مشبوه ولإيكال الأمور لكل معتوه، لم يجذبه الانسحاب، وبقي صامدا أمام كل محاولات التجريف وعلى كل المستويات. وتشبت بفضل كتاباته بالوقوف أمام محاولات غسل دماغ الفئات المحرومة الى جانب تفكيك الواقع، وكشف تناقضاته كما يكشف عورات مختلف الزعامات المعينة منها والمنتخبة ظلما وعدوانا. وقد وجد وهو اليوسفي ابن مدينة مراكش في القصة القصيرة وهي وليدة المدينة والحداثة بأناقة حجمها وسهولة قراءتها دون استصغار قوتها، ما يستثمر به قدرته الفائقة على الانصات لكل الوقائع التي تصل مسامعه، وكذلك قدرته الاستثنائية على تحليلها، وفحصها وإعادة تدوريها في شكل فني، يمكن ايصاله إلى القارئ المتلهف، ليؤكد بذلك التقاؤه مع أب الكيمياء الحديثة لافوازييي: "لا شيء يضيع، الكل يتحول"، ويقوم بهذا التدوير في كتابة القصة، كما يقوم بإعداد "الطنجية"* بالتدقيق في مقادير توابلها والسهر على ضمان طبخها في أحسن الظروف واستحضار القارئ الذي سيتذوقها.
ورغم ازدهاء الرواية بنفسها بفعل امتلاء جسدها بالأحداث والحكايات وقامتها الفارعة، وتربعها على عرش الأدب منذ بداية القرن العشرين، كما يتربع علم البيئة على البيولوجيا، ورغم ايماء العديد من الأصدقاء سواء بالغمز أو اللمز بأهمية وجدوى الارتماء في حضنها، فإن اليوسفي لم يفعل ما فعله العديد من القصاصين حين هجروا ديار القصة القصيرة نحو ديار الرواية. وربما يحضره ما قاله الشاعر إبراهيم ناجي:
"أدعي أني مقيم وغداً ركبي المضني إلى الصحراء سائر"
ولم يظهر بذلك عنده ما يشير إلى تغيير الديار مؤكدا شعاره "أحب المشي على الرصيف ولا أرغب في تجاوز علامة الأربعين"
بين انشغالاته اليومية، ومسؤوليته الأسرية المعتادة، وباستحضار طفولته وشبابه وتجربته المهنية والنضالية والإنسانية، وما بين بيته الموجود بحي يرادف اسمه العربي كلمة "إضاءة"، ومقهى باسم فرنسي يعني "رومانسي"، ومقهى آخر باسم أمازيغي يعني "بساتين"، يستمر الاهتمام بالكتابة. فكانت بداية عبارة عن حفريات حملت اسم وشوم في الذاكرة، لتتبعها ثلاث مجموعات قصصية "الكأس المكسورة"، ثم "وجوه"، و"وهزك الما". وبذلك صارت الكتابة عند اليوسفي انشغالا حيويا يوميا، يخرجه من هذا المألوف، ليكتب دون توقف، كما يسوق دراجته الهوائية بكل العناية اللازمة، وهو مستمر في الدواسة. فالكتابة بالنسبة إليه هوية أساسية، وضرورة حتمية من أجل البقاء. بل هي الوجود في حد ذاته "أنا أكتب إذن أنا موجود". واختار اللغة العربية ليعبر عن الحياة بحلاوتها ومرارتها، ويفجر ما بداخله من انشراح وانزعاج، من تفاؤل وتشاؤم، من تهلل وتجهم، من رضى وحذر، وليسعي في نهاية المطاف إلى إعادة ترتيب حروف "ألم" إلى "أمل".
وعلى الرغم من صعوبة كتابة القصة القصيرة، بالنظر لصغر حجمها وتنطعها، واشتراطها الدقة والتركيز والحذر الشديد لكون اللجوء إليها كمن يستعمل جرعة، قليلها منشط وكثيرها قاتل، فإن اليوسفي استطاع أن يروضها ويجعلها ناطقة باسم المجتمع بكل تفاصيله وإشكالاته وقضاياه، ومعبرة عن الاخطار المحدقة به في كل المجالات .
وأمام صعوبة النشر، وتعقيدات الطبع، وهزالة الدعم، ورفض الصدقة، ونفوره من تكرار مشهد بعض الكتاب وهم يطوفون كالشحاذين على دور النشر والمكتبات والاكشاك، لجمع ما خسروه في طبع مؤلفاتهم، تكونت لدى اليوسفي قناعة بأن الحصول على رقم ايداع، واسم مطبعة وعدد الطبعات قد يكون مضللا خادعا وليس دليلا على السطوع الحقيقي. وأن العديد من الانتاجات لا تحمل في الحقيقة إلا هذا الرقم والاسم. ولهذا فضل تقاسم إبداعاته مع كل اللواتي والذين تجمعه بهن وبهم روابط الابداع عبر وسائط التواصل الاجتماعي ثم بالطرق البسيطة الممكنة.
ولا غرابة ان تلتقط مجلة من بلاد الرافدين والقرامطة، وأخرى من منطقة انسان (ايغود)* الذي عاش بالمغرب منذ 300 الف سنة على الاقل، أهمية ما يكتبه اليوسفي من اجل العمل على نشره الشيء الذي شكل مسحة خاصة.
الهامش:
ـ محمد آيت واكروش : رجل تعليم متقاعد ومسؤول نقابي سابق ومهتم بالشأن التربوي والثقافي والسياسي.
ـ الطنجية : وجبة محلية تتفرد بها مدينة مراكش عن باقي المناطق المغربية.
إيغود: موقع أثري يعود إلى العصر الحجري القديم يقع في الجنوب الشرقي لإقليم اليوسفية. وقد عُثر به على أقدم بقايا عظمية يقارب عمرها ثلاث مئة ألف سنة.
مراكش 09 يونيو 2023
وقد بادر سي حاميد اليوسفي مباشرة بعد تقاعده كأستاذ للغة العربية إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي من أجل نشر ما سماها وشوما، تلتها مجموعة من القصص القصيرة مدرا بذلك ما عنده، لنجد أنفسنا أمام كاتب يمطرنا بنصوص إبداعية متميزة، وليجد نفسه بعد ذلك من المبدعين الذين انغمسوا في هذا الجنس الأدبي، وأبدعوا فيه بشكل متميز.
وقد اختلفت علاقة القصاصين بالقصة القصيرة، إذ هناك من اعتبرها أما ترضعه حبا بكل أشكاله، وتحيطه حنانا، وتطعمه وتربيه وتخاف عليه. وهناك من اعتبرها النار المقدسة التي ارتأى لنفسه أن يكون من عبدتها. كما أن هناك من ارتبط بها بعلاقة صداقة غريبة الاطوار والتجليات تتسم تارة بالارتياح والتماهي بالانتساب والشوق والانجذاب، وتارة بالاستفزاز والمناوشة، وحرق الأعصاب، ليجد اليوسفي نفسه بعد عشقه للحياة والنضال والأسرة مع القصة كوسيلة تعبير جمالي وفني، أمام عشق أخير يشكل الهواء والدواء والحلم والهم بعد الغم.
واليوسفي الانسان بحضوره الطهراني، البسيط بتواضعه، والرافض لكل موقع مشبوه ولإيكال الأمور لكل معتوه، لم يجذبه الانسحاب، وبقي صامدا أمام كل محاولات التجريف وعلى كل المستويات. وتشبت بفضل كتاباته بالوقوف أمام محاولات غسل دماغ الفئات المحرومة الى جانب تفكيك الواقع، وكشف تناقضاته كما يكشف عورات مختلف الزعامات المعينة منها والمنتخبة ظلما وعدوانا. وقد وجد وهو اليوسفي ابن مدينة مراكش في القصة القصيرة وهي وليدة المدينة والحداثة بأناقة حجمها وسهولة قراءتها دون استصغار قوتها، ما يستثمر به قدرته الفائقة على الانصات لكل الوقائع التي تصل مسامعه، وكذلك قدرته الاستثنائية على تحليلها، وفحصها وإعادة تدوريها في شكل فني، يمكن ايصاله إلى القارئ المتلهف، ليؤكد بذلك التقاؤه مع أب الكيمياء الحديثة لافوازييي: "لا شيء يضيع، الكل يتحول"، ويقوم بهذا التدوير في كتابة القصة، كما يقوم بإعداد "الطنجية"* بالتدقيق في مقادير توابلها والسهر على ضمان طبخها في أحسن الظروف واستحضار القارئ الذي سيتذوقها.
ورغم ازدهاء الرواية بنفسها بفعل امتلاء جسدها بالأحداث والحكايات وقامتها الفارعة، وتربعها على عرش الأدب منذ بداية القرن العشرين، كما يتربع علم البيئة على البيولوجيا، ورغم ايماء العديد من الأصدقاء سواء بالغمز أو اللمز بأهمية وجدوى الارتماء في حضنها، فإن اليوسفي لم يفعل ما فعله العديد من القصاصين حين هجروا ديار القصة القصيرة نحو ديار الرواية. وربما يحضره ما قاله الشاعر إبراهيم ناجي:
"أدعي أني مقيم وغداً ركبي المضني إلى الصحراء سائر"
ولم يظهر بذلك عنده ما يشير إلى تغيير الديار مؤكدا شعاره "أحب المشي على الرصيف ولا أرغب في تجاوز علامة الأربعين"
بين انشغالاته اليومية، ومسؤوليته الأسرية المعتادة، وباستحضار طفولته وشبابه وتجربته المهنية والنضالية والإنسانية، وما بين بيته الموجود بحي يرادف اسمه العربي كلمة "إضاءة"، ومقهى باسم فرنسي يعني "رومانسي"، ومقهى آخر باسم أمازيغي يعني "بساتين"، يستمر الاهتمام بالكتابة. فكانت بداية عبارة عن حفريات حملت اسم وشوم في الذاكرة، لتتبعها ثلاث مجموعات قصصية "الكأس المكسورة"، ثم "وجوه"، و"وهزك الما". وبذلك صارت الكتابة عند اليوسفي انشغالا حيويا يوميا، يخرجه من هذا المألوف، ليكتب دون توقف، كما يسوق دراجته الهوائية بكل العناية اللازمة، وهو مستمر في الدواسة. فالكتابة بالنسبة إليه هوية أساسية، وضرورة حتمية من أجل البقاء. بل هي الوجود في حد ذاته "أنا أكتب إذن أنا موجود". واختار اللغة العربية ليعبر عن الحياة بحلاوتها ومرارتها، ويفجر ما بداخله من انشراح وانزعاج، من تفاؤل وتشاؤم، من تهلل وتجهم، من رضى وحذر، وليسعي في نهاية المطاف إلى إعادة ترتيب حروف "ألم" إلى "أمل".
وعلى الرغم من صعوبة كتابة القصة القصيرة، بالنظر لصغر حجمها وتنطعها، واشتراطها الدقة والتركيز والحذر الشديد لكون اللجوء إليها كمن يستعمل جرعة، قليلها منشط وكثيرها قاتل، فإن اليوسفي استطاع أن يروضها ويجعلها ناطقة باسم المجتمع بكل تفاصيله وإشكالاته وقضاياه، ومعبرة عن الاخطار المحدقة به في كل المجالات .
وأمام صعوبة النشر، وتعقيدات الطبع، وهزالة الدعم، ورفض الصدقة، ونفوره من تكرار مشهد بعض الكتاب وهم يطوفون كالشحاذين على دور النشر والمكتبات والاكشاك، لجمع ما خسروه في طبع مؤلفاتهم، تكونت لدى اليوسفي قناعة بأن الحصول على رقم ايداع، واسم مطبعة وعدد الطبعات قد يكون مضللا خادعا وليس دليلا على السطوع الحقيقي. وأن العديد من الانتاجات لا تحمل في الحقيقة إلا هذا الرقم والاسم. ولهذا فضل تقاسم إبداعاته مع كل اللواتي والذين تجمعه بهن وبهم روابط الابداع عبر وسائط التواصل الاجتماعي ثم بالطرق البسيطة الممكنة.
ولا غرابة ان تلتقط مجلة من بلاد الرافدين والقرامطة، وأخرى من منطقة انسان (ايغود)* الذي عاش بالمغرب منذ 300 الف سنة على الاقل، أهمية ما يكتبه اليوسفي من اجل العمل على نشره الشيء الذي شكل مسحة خاصة.
الهامش:
ـ محمد آيت واكروش : رجل تعليم متقاعد ومسؤول نقابي سابق ومهتم بالشأن التربوي والثقافي والسياسي.
ـ الطنجية : وجبة محلية تتفرد بها مدينة مراكش عن باقي المناطق المغربية.
إيغود: موقع أثري يعود إلى العصر الحجري القديم يقع في الجنوب الشرقي لإقليم اليوسفية. وقد عُثر به على أقدم بقايا عظمية يقارب عمرها ثلاث مئة ألف سنة.
مراكش 09 يونيو 2023
سي حاميد اليوسفي.. للحلم بقية! (ملف خاص)
الملف الخاص بالعدد 244 من مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية شارك في الملف:الحسين الحيانمحمد ايت واكروشعبد المجيد ايت اباعمرنقوس المهديالطايع ميلودموسى مليحد. رضوان كعيةلمصدق مصطفىعبد العزيز لتشينيعبد ا…
basrayatha.com