أمين الزاوي - نهاية حروب الأجيال الأدبية

هل لا تزال حرب "الأجيال الأدبية" قائمة؟
الجيل الأدبي كذبة كبيرة، لا أجيال في الأدب، الكتابة سلسلة متواصلة، ما يميز هذا الأدب أو هذا الأديب موجود في النص لا في العمر ولا في اللغة ولا في البلد.
إذا كان الدين هو النصيحة، كما يقال، فالأدب هو اللانصيحة.
أصعب سؤال هو ذاك الذي قد يواجهك به كاتب شاب قائلاً، ما هي نصيحتك لي كي أكون كاتباً؟
هو سؤال أحمق ولا جواب له لأن الكتابة لا تُعلّم، الكتابة كالسباحة يدرك سرها في الماء في لحظات ممارستها.
أنا لا أؤمن بما يسمى ورشات تعليم الكتابة الأدبية.
أقبح شيء في الكتابة هي النصيحة لأن جوهر "النصيحة" هو البحث عن صناعة شيء يشبه شيئاً آخر والكتابة المبدعة هي تلك التي لا تشبه كتابة أخرى والكاتب المميز هو ذاك الذي لا يشبه كاتباً آخر.
كل كاتب له سلالته الجينية الخاصة به وحده.
جينات الكتابة لا تورث أبداً ولا تنتقل بالعدوى.
أقوى شيء في الكتابة هي السباحة الحرة.
حين نتحدث عن الكاتب نتحدث عن القراءة، فلا كاتب من دون قراءة والكاتب الجيد قارئ جيد، لكن قراءة الكاتب تختلف عن قراءة القارئ العادي، فالكاتب يقرأ كي لا يكتب مثل كاتب آخر، كي يتحرر من حضور كاتب آخر، وقراءة الكاتب من أجل التحرر ومن أجل فتح طريق جديد.
إذا ما ذكّرنا أسلوب كاتب بأسلوب كاتب آخر، مهما كانت جودة هذا الأسلوب، فاعلم أن الأول نسخة فاسدة، نسخة منتهية الصلاحية، الولادة الميتة.
الكتابة هي سباق مع الذات لا مع الآخرين، سباق تحدي الذات ضد التكلس، فلا وجود للسباق الجماعي في الكتابة أو بين الكتاب، ليس هناك "ماراثون" الأدباء، الكتابة هي معركة ضد الأنا كي تتجدد وكي تتعدد من خلال القراءة المستمرة، لا معركة ضد الآخرين الذين يمارسون المهنة نفسها.
الكتابة في معركة من أجل فهم العالم المركب.
هل الكتابة حرفة؟
نعم الكتابة حرفة عالية الدقة، فالكاتب في ورشته مع الكلمات والأفكار يشبه إلى حد كبير الحرفي صانع الزرابي المدهشة أمام نوله وخيوطه وألوانه، لعبة الأنامل نفسها، فكما يثيرنا نساج الزرابي بأنامله وهي تلاعب الخيوط الملونة في حركات إبداعية تتداخل فيها وتتقاطع لتشكل في نهاية المهمة لوحة فريدة، الكتابة هي كذلك لعبة الكلمات الساحرة، الكاتب الجيد هو الذي يعرف كيف يضع الكلمة إلى جانب الكلمة الأخرى وضعاً غير مسبوق كي يشكل قطعة نسيج لغوي فريد.
لعبة الكتابة باللغة ليست لعبة فارغة، إنها رؤية جديدة للعالم، هي تركيب للعالم وتفكيك له.
الكتابة تعب كامل، صبر، جهد فكري ونفسي وجسمي أيضاً.
إن الموهبة في الكتابة هي أكبر كذبة يرددها الفضاء الثقافي والأدبي، وللأسف يصدقها كثيرون.
لا يعوّل أبداً على الموهبة في صناعة كتابة عميقة وجادة وخالدة، الكتابة تتطلب ذكاء حاداً قادراً على صناعة نص متقن.
التعليم لا يصنع كاتباً، لكن لا كاتب من دون تعليم متواصل.
الجنون من توابل الكتابة، فهو ضروري لها ولا نعني به ذلك الجنون المرضي، إنه القدرة على تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها تركيباً غير عادي، هو العبقرية في جعل الأمور تلتقي وتفترق بمنطق غير منطق العامة في الحكم على مصائر الأشياء والحيوات.
الجنون في الكتابة هو المشي في حقل مليء بالألغام.
الكاتب بطبعه نرجسي ومصدر نرجسيته آتٍ من هشاشته وهذه النرجسية الضرورية هي من تقتله أو ترفعه، فحين يتمكن الكاتب من إعمال ذكائه في التحكم بمنسوبها في العلاقات العامة تكون النرجسية إيجابية، وحين يتحول الكاتب إلى شخص مهووس بنفسه وبمكانته أكثر من هوسه وانشغاله بنصه، لغة وفلسفة، فهذه النرجسية هي حال مرضية مدمرة.
وما حكاية قتل الأب من قبل الابن؟
إن قتل الأب في الكتابة هي مقولة مجانبة للصحة، كل الأدباء آباء بالولادة وكلهم أبناء بالولادة أيضاً، وكل أب موجود بموته الحي في الابن الذي هو أب أيضاً، الأب موجود من خلال رغبة التحدي التي في الكاتب الآخر بغض النظر عن العمر، الأب موجود من خلال فعل التجاوز نفسه لأن التجاوز يفترض وجود آخر، وجود أب نبحث عن القفز عليه كي نصبح آباء.
تبدو لي مسألة الأجيال في الكتابة مسألة غير دقيقة، فالكتابة لا تقاس بالعمر، فكثيرون من الكتاب الذين عاشوا قبلنا بمئات السنين يعيشون معنا يومياً ويؤثرون فينا أكثر من عدد كبير من الأحياء ونتعامل مع نصوصهم وكأنها ولدت اليوم أو البارحة، بهذا المعنى، فالكتاب الخالدون يشبهون قافلة لا تتوقف عن الرحلة، من جيل إلى آخر ومن جغرافية لأخرى ونصوصهم عابرة للأزمنة وعابرة للغات.
النصوص الأدبية الخالدة تشبه الخمرة كلما تعتقت زادت جودتها وارتفع ثمنها. النصوص الجميلة لا عمر لها، لا تشيخ، ولا جيل لها.
الكاتب الناجح هو الذي له القدرة على كتابة نصوص تحاور البشرية في شقاء وجودها ومسارات أحلامها، بهذا المعنى، فالكتابة ليست عميلة موسمية بل هي لحظة القبض على القيم الإنسانية الكبرى الفلسفية والجمالية والوجودية.
كثيرون من الكتاب يولدون كباراً، يولدون آباء من الكتاب الأول، وكثيرون من الكتاب يموتون صغاراً حتى إن عاشوا دهراً وكتبوا خزانة كتب كاملة.
علاقة الكتابة والكتاب مع الزمن علاقة لا تقوم على عدد الأعوام بل تحددها طبيعة عمق الرؤية الثقافية والجمالية والفلسفية.
إن الحديث عن "الأجيال الأدبية" و"صراع الأجيال الأدبية" هو حديث عن أمر خارج الأدب.
اليوم، تعيد التكنولوجيا الرقمية ترتيب أوراق الكتاب والكتابة من جديد، فالفرص أصبحت متوافرة للجميع ولكن الأذكياء هم الأكثر حضوراً، فثقافة الشاشة غيرت من مفهوم الزمن ومن مفهوم الجغرافيا ومن مفهوم الآخر، وأصبح بإمكان هذه التكنولوجيا المتوحشة صناعة كاتب عالمي في أيام قليلة، كما حصل مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس.
لم تعد حجة النشر قائمة اليوم، يرفعها بعض الأدباء لافتة كتعبير عن التهميش، فقد أصبح لكل كاتب فضاؤه لمحاورة الآخرين بكل حرية وباللغة التي يريد وهو ما عرى كذبة الأجيال الأدبية وأسقطها نهائياً.
اليوم ما يميز الأدباء بعضهم عن بعض ليست قضية المجايلة، بل مسألة المحلية والعالمية، فهناك كتاب استطاعوا من خلال مواقفهم الفكرية والسياسية والجمالية أن يؤسسوا لنصوص تخاطب بوعي حاد ذائقة الإنسان في كل مكان وتحاوره وتجعله جزءاً من انشغالها وهم بذلك أصبحوا كتاباً للعالم، وهناك آخرون ظلوا في نطاق القراءة المحلية أي لا يتجاوز طموح نصوصهم مخاطبة القريب في الجغرافيا وفي المعتقد، وهؤلاء كتاب محليون.


Amin Zaoui : Fin des guerres entre les générations littéraires
(ككل خميس، مقالي الأسبوعي بأندبندت اللندنية، الخميس 15 جوان 2023
Le lien :

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...