علجية عيش - في معركة وادي المقطع 17 جوان 1835 أطاح الأمير عبد القادر بالجنرال تريزل

جد الأمير عبد القادر إدريس الأكبر شيّد مدينة فاس المغربية
(من خلال كتاب أنتروبولوجيا الجزائر و صراع الهوية و الوطنية - قراءة نقدية- تأليف المتحدثة


--------------------------------

لم يكن الهدف المركزي للأمير عبد القادر هو المجد العسكري، و إنما كان بناء دولة جديدة على أطلال البايلك العثماني، دولة جزائرية حديثة برؤية معاصرة متفتحة، لم يكن الأمير عبد القادر بالرجل العادي، بل كان يفكر بعمق و يطلق العنان لفكره إلى الأعلى فكان مفكرا تنويريا، إلا أن خصومه و أعداؤه لم يستوعبوا تقدم فكره التنويري المرحلة التي كانت تعيشها الجزائر آنذاك رسم فيها طريقا لمن يأتي بعده ، فراحوا يطعنون فيه و يوجهون له تهمة الانتماء للماسونية بغية إجهاض مشروعه في بناء الدولة الجزائرية

المتتبع لمسيرة الأمير عبد القادر الجزائر يقف على أن الرجل أول من وضع الأسس الأولى لدولة جزائرية حديثة، فتحت تأثير القوى التهديمية القوية التي كانت تهز المجتمع الجزائري و مقاومة بعض الأرستقراطيات القبلية و الطرق الدينية لمنطق المركزية الحكومية التي بادر بها الأمير، و كذلك بسبب تخلي سلطات المغرب عنه ، رغم ذلك تحقق المشروع، كانت دولة الأمير عبد القادر لها إسلاميتها و أسسها القانونية و مظاهرها الأخلاقية و عصريتها، تقول الكتابات أن بيعة العروش و القبائل للأمير عبد القادر تمت في الثالث عشر من رمضان سنة ثمان و أربعين و مائتي و ألف ( 1248) ، و جرت بوثائق صدرت من زعماء غريس، فقبل الأمير عبد القادر بيعتهم، و نهض لجمع كلمتهم نهوض الزعيم، وقد ركز الأمير عبد القادر على مؤسسة الجيش، من خلال صناعة الأسلحة و المعدات الحربية، و لم يهدا له بال حتى يطرد الاستعمار من أرضه، كما أسس في تلمسان مصنعا للمدافع، و كان له مصنعا للسلاح في مليانة، فكان القائد الأعلى في مقاومة المستعمر، و في تنوير الجيل من الشباب المسلم، و غرس فيه ثقافة المرابطة، و إعداده الإعداد الجيد لتحمل المسؤوليات الجسام.


من قال ان الرجل الذي ينتهي نسبه إلى شجرة أهل البيت يتخلى عن دينه و ينتمي إلى الماسونية ، فالأمير عبد القادر يرجع نسبه إلى محمد بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن فاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوجة الإمام علي بن أبي طالب بن عمّ الرسول، كان أجداده يقطنون المدينة المنورة و أول من هاجر منهم هو إدريس الأكبر الذي صار سلطان المغرب و شيد مدينة فاس، فتطور نسله و تفرق ابناؤه ، إلى أن وصلت عائلته في غريس قرب مدينة معسكر، و لكونه كان جديرا بالثقة و التقدير اتجهت إليه كلمة العلماء و الأعيان لتحمله مسؤولية الجهاد ، حيث و تمت مبايعته في يوم 27 من نوفمبر عام 1832 ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، و استمرت هده المقاومة حتى عام 1847، ظهر فيها الأمير عبد القادر رجل حرب و سياسة و حكمة و رجل ثقافة و أدب و رجل دين ، واجه الاستعمار و جيشه بصبر و ثبات رغم خيانة بعض الأنظمة العربية خشية على عروشها من بطش فرنسا .

أعد الأمير عبد القادر في إطار مواجهته الاستعمار الفرنسي، جيشا شبه منظم من متطوعي القبائل ومن أتباعه تجاوز 50 ألف رجل من المشاة، و أكثر من 2000 من الفرسان و بعض قطع المدفعية، و نجح في العديد من المعارك، في حنق النطاح الأولى و الثانية و برج العين عام 1832 في الغرب الجزائري، كان لها صدى كبير على الرأي العام الفرنسي، و أجبر العدو على إبرام اتفاقية مع الأمير عبد القادر اعترف فيها الفرنسيون بسيادة دولة الأمير عبد القادر في إقليمها، مما سمحت للأمير من تنظيم جيشه و تعيين عدة ولاة له على الولايات الداخلية، و لكن سلطته وصلت إلى أقصى الجنوب الأغواط و أقصى الشرق سطيف، لم تمر سنة الهدنة بسلام، حيث وصلت جيوش عسكرية من وراء البحر يقودها جنرالات، و بدأوا في تحريض شيوخ القبائل بالمال للتمرد على دولة الأمير عبد القادر، الأمر الذي أرغم الأمير على العودة إلى الحرب على الفرنسيين، فانتصر في عدة معارك منها معركة وادي المقطع قرب سيق في 17 جوان 1835 ، ألحق فيها بالجنرال تريزل trezil، شرّ هزيمة، و أصاب من قواته ما يفوق 700 عسكري، ثم كانت واقعة " التافنة" التي انهزم فيها الجنرال بيجو و جيوشه، لم تقبل فرنسا بهذه الهزيمة ، حيث شكلت قوة عسكرية كبيرة قصد القضاء على دولة الأمير و طرده إلى المغرب، و إتمام غزو الجنوب الجزائري، بعد أن دخلت جيوشها قسنطينة عام 1937 و سيطرت على أغلب مناطق الشرق الجزائري، و عرف ما سمي بممارسة الأرض المحروقة، و استمر تكالب الاستعمار على دولة الأمير و وضع نهاية له، حيث هاجمت التخوم التي كان يقوم عليها جيشه، فانسحب إلى الونشريس و أنشا عاصمة “الزمالة” عام 1841 ثم هاجمته في 16 ماي 1843 بتاغيت جنوب بوغار، استشهد كثير من المجاهدين.

يؤكد المؤرخون أن إمارة الأمير عبد القادر بن محي الدين كانت شرعية و معقولة، و قد بين الأمير عبد القادر في أكثر من مناسبة لأتباعه الذين بايعوه بالإمارة قائلا لهم: "إذا كنت قد رضيت بالإمارة، فإنما ليكون لي حق السير في الطليعة و السير بكم في المعارك في سبيل الله"، فقد قبل الأمير عبد القادر الإمارة في وقت الشدة و الضيق قصد رفع الظلم على الجزائريين و دفعا للفساد و إرهاب الاستعمار الفرنسي، و الإمارة عنده تعني الطاعة لله و الجهاد من أجل إحياء راية الإسلام و هي مهمة ليست سهلة، و لكن إيمان الرجل بدينه و وطنه مكنه من توحيد القبائل في الغرب، و تأديب الخونة الذين تعاونوا مع الاستعمار، فزاد حقد فرنسا على الأمير عبد القادر و هو يؤسس جيشا قويا، حيث تراءى لها أن الإنتصار عليه بالسلاح أمر صعب و بعيد المنال، فلجأت إلى الدسّ و المؤامرات بمساعدة الخونة الذين تنكروا لوطنهم و أصبحوا يؤيدون فرنسا، و بواسطة الجنرال بيجو بدأت فرنسا تلاحق الأمير عبد القادر في مكان محصور من الصحراء حتى تجبره على الاستسلام، فأرسل بيجو فرقة خاصة بزيّ مناضلين جزائريين و أدخل فيها عدد من الخونة المؤيدين للحكام الفرنسيين و المناوئين للأمير عبد القادر، و تمكنوا من خداع الأمير الذي ظن أن الفرقة جاءت لمساعدته.

و لما انكشفت حقيقتهم كانت المقاومة غير مجدية لأن الأمير و من معه لم يكونوا مسلحين و هم يستقبلون الإخوة المزيفون، و في معركة "الزمالة" أحاط الفرنسيون بالمدينة و استولوا على ممتلكات الأمير و من معه، كانت هذه المعركة بداية نهاية الأمير عبد القادر الذي اضطر للاستسلام بعدما رأى القبائل تتناحر وسط نيران فرنسا، و نار سلطان مراكش الذي خذله، سلم الأمير عبد القادر نفسه لفرنسا وفق شروط و هي أن يحمل متاعه و أسرته إلى عكة أو الإسكندرية، و ألا تتعرض فرنسا لمن يريد السفر من الضباط و العساكر معه، و أن الذي يبقى بالوطن من الجزائريين يكون أمينا على نفسه و ماله، و كان له ما أراد، و قد سلم الأمير عبد القادر سيفه هدية للدوق دومال قائلا: إني أحسب هذا شرفا قدم لفرنسا، و رغم ذلك وقع الأمير عبد القادر في فخ الخيانة من جديد، ففرنسا لم تعمل بما تم الإتفاق عليه، حيث كانت سنة 1848 السنة التي تقلص فيها ظل الأمير عبد القادر من وجهة نظر فرنسية.

رغم استسلام الأمير عبد القادر للجيش الفرنسي من أجل حقن دماء الجزائريين و إنقاذهم من الهلاك و إعلان نهاية معركته في 1847م، لم تتوقف "المسيرة" بل ظلت مستمرة، و خلفا لأبيهم ، فقد حمل أبناء الأمير عبد القادر ( عبد المالك و عبد الكريم ) راية الجهاد ضد الإستعمار الفرنسي، انطلاقا من المغرب الأقصى، و الأمير عبد المالك الجزائري هو الابن الثاني قبل الأخير للأمير عبد القادر الذي ولد بدمشق سنة 1285ه/ 1868م بعد تم نفي العائلة، فكان مستقرها بسوريا، و فيها وجهت له تهمة الانتماء إلى الماسونية ، و تعريض صورته لحملات التشويه ، لكن الأقلام التي دافعت عن الأمير عبد القادر و رفعت عنه التهمة كانت قليلة جدا، تشير بعض الكتابات أن الكولونيل وليام تشرشل صاحب كتاب "حياة عبد القادر"، هو من روج لهذه الدعاية ، حيث انتشرت وأذاعها مفكرون عرب، كأمثال جرجي زيدا، فما كان على الحركة الماسونية إلا أن تستغل هذه الدعاية لصالحها، و تستثمر في الأحداث التي وقعت في سوريا عام 1860م على خلفية إنقاذه 15 ألف مسيحي في دمشق من أجل القضاء على الطائفية، فبثت سمومها بأن الأمير عبد القادر انتسب لمحافلها.

حدث ذلك بعد وفاة الأمير عبد القادر، و لو كان على قيد الحياة لكان رده عنيفا، لكن صوت ليبي أطلق العنان لقلمه ليرد على هذه الادعاءات الكاذبة، فلم ينصر الأمير عبد القادر وحده، بل نصر الشعب الجزائري كله، إنه المؤرخ و المفكر علي الصلابي الذي تحدث عن التجربة الماسونية في مقال مطول نشر بموقع الجزيرة، و قال أنها ( اي التجربة الماسونية) لم تقف عند اتهام الأمير عبد القادر بالانتماء لها، بل هي جزء من الحركة الاستعمارية الفرنسية، كما ذكر بعض الأسماء التي تحدثت عن المؤامرة التي حيكت خيوطها ضد الأمير علد القادر الجزائري، و رغم تأسيس مؤسسة تحمل اسمه، تمنينا لو قامت هذه المؤسسة بمبادرة ترد فيها على فرنسا و حلفائها من الماسونيين و الصهاينة و ترفع التهمة عن الأمير عبد القادر و تفضح كل من اساء لهذا المقاوم سواء في الداخل او الخارج.

كانت لنا مساهمة يسيرة في ذكر خصال الأمير عبد القادر و عائلته في كتابنا الأخير الذي حمل عنوان: "أنثروبولوجيا الجزائر و صراع الهوية و الوطنية" و خصّصنا له محورا كاملا تحت عنوان: " في دولة الأمير عبد القادر" ( و تستمرّ المسيرة) ، عندما قرر الأمير عبد القادر تنفيذ وصية والده محي الدين حين عقد له اللواء و أمره بأن يقاوم بكل ما أوتي من قوة، و قد كلفه أبوه أن يكون على رأس جيش عرمرم ليواجه العدو في واقعة برج رأس الطين، و دامت المعارك أياما و كان النصر حليفه، و حظي بمبايعة الجزائريين له، و في مقدمتهم أعيان غريس و شرفائها و علمائها، و هي القبيلة التي ينتسب إليها الأمير عبد القادر، كما بايعته القبائل المجاورة، و أفهموه أن الوطن بحاجة ماسة لمن يدافع عنه، و استجاب الأمير عبد القادر لدعوة أبيه و قال له: (أنا لها أنا لها)، و خيّم القوم عند شجرة "الدردرة" و هي شجرة عظيمة كان يجتمع إليها الأعيان للشورى كلما دعا الأمر إلى ذلك، و بايعوه و لقبه أبوه بناصر الدين.

كما تحدثنا عن علاقته بالمغرب عندما شيّد جدهم إدريس الأكبر مدينة فاس و أصبح سلطانا عليها و كيف انقلب عليه أحمد باي و أصبح يراه العدو اللدود إلى غاية استسلامه، كان ذلك في 27 ديسمبر 1847 و بحضور الدوق دومال الحاكم العام الجديد في الغزوات، و تم التوقيع على وثيقة التسليم بعد 17 عاما من المقاومة و المعاناة ضد أكبر دولة اوروبية مسيحية و صليبية ، و حمل الأمير عبد القادر أسيرا إلى فرنسا حتى عام 1852 ثم إلى دمشق التي توفي بها، و قد عرف الأمير عبد القادر الجزائر بمواقفه النبيلة و المشرفة، فقد كان لا يعترف بقانون سوى القرآن الكريم و لن يكون مرشده غير القرآن الكريم إلى حد أنه صرح أن لو أن أخاه الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لمات، لقد تفطن الأمير عبد القادر بذكائه و تجربته و إخلاصه لدينه و لوطنه في جهاد ضد الإستعمار الفرنسي الصليبي أن أهم عامل من عوامل فَلاحه في جهاده ضد العدوّ هو وحدة الشعب الجزائري و دعم الإخوة في الداخل و الأشقاء العرب و المسلمين في الخارج، ثم ياتي قائل أو كاتب يشوّه مسيرة هذا المقاوم و ينعته بالماسوني ، و تلك هي قمة الخيانة للتاريخ.

علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...