على نقيض الروايات التي تدرس التجمعات السكنية وأساليب الحياة والعيش والقلق الوجودي في المدن والحواضر، والسلوكيات الاجتماعية وسط حواريها وأفضيتها وأمكنتها الضيقة، تنفتح رواية قرية ابن السيد على التجمعات البدوية، راصدة تحولات المجتمعات النووية المبنية على التضامن والتكافل الأسري والانسجام بين الأفراد، انطلاقا من قرية هامشية من بضع خيمات متفرقة، وبدون اسم معين ولا ملامح محددة السمات إلا ما تغدق عليها الطبيعة من سمات وأوصاف جغرافية وخيرات وبساطة وقناعة وتماسك، مؤسسة فضاءها على نتف من الحكايات والظواهر الإنسانية البسيطة في بنيتها، رواية تنماز بكتابتها الفاتنة عن الأرباض الهامشية القصية والمتميزة بمعمارها التقليدي وشخوصها الطاعنين في البساطة، وقيمها الإنسانية الراسخة في العراقة.
هكذا يحملناالرواي في رحلة إثنوغرافية ترصد بعض التحولات المجتمعية والافتراضات والعادات والاعتقادات والفلكلور وأنماط العيش، وتستبطن أسلوب الحياة، وتدرس مجموعة القيم والأفكار والاستعارات والمأثورات الشعبية والطقوس والمعتقدات والممارسات التي يتقاسمها أفراد جماعات مشتركة في المغرب العميق ابتداء من أوائل القرن الماضي في منطقة مغمورة منسية بين أحضان الأطلس العظيم، ثم ما تفتأ أن تتحول إلى طرق آفاق عالمية في انفتاح على أفكار وأمصار أكثر رحابة، وتمتد كرونولوجيا على مدى خمسة أجيال تعج بالشخصيات التي يمكن النظر إليها من زاوية التحول المنطقي للتاريخ منفردة في عصاميتها، أو مشتركة في تعالقها مع شخصيات ومجرى نهر الرواية، ولا يمكن بأية حال نسيان علاقة الثقافة والمأثورات الشعبية بمجال الانثربو لوجيا ، لان الرواية ممسكة بعناصر متوارثة عبر تاريخ طويل جدا. ولذا بالإمكان رصد الكثير من العقائد والطقوس والممارسات التي تحولت إلى ثقافة يومية بعدما كانت جزءا من حياة تخيلية ، يمثل الشيخ السيد الفقيه والمربي الورع أحد أقطاب الطريقة الجزولية، وكاتب العقود وموزع الزكوات والتركات وفاك النزاعات التجارية والأسرية، والمقاوم للاستعمار، أول نواة لهذه السلالة الطاهرة، والذي تغدق عليه فضائل الرواية ما يليق بمقامه الطاهر من الخلال الحميدة والأوصاف الزكية، وتمتح معطياتها الإبيستيمية من شذا الأجواء الروحانية العرفانية المهيمنة لإيصال رسالتها بشكل إبداعي يتوفر على حمولات فنية وجمالية ولغوية عالية القيمة، وذات مرجعيات فكرية وعرفانية تسعى إلى خلق توازن روحي في ذات المتلقي، وزرع قيم التسامح والعدالة الاجتماعية، والتوافق الفكري والوجداني حتى لتجد نفسك محاطا بأشكال من الفكر الثيولوجي الصرف الذي يزاوج بين النص القرآني كقاعدة، والفلسفة، والحكمة، والجمال، والأخلاق، والإيمان، والتصوف الذي تسعى الرواية لتكريس خطابه، والتوظيف الإبداعي لآليات الفلكلور وطقوس إعداد الشاي آداب الحديث والجماعة، المأثور الشعبي العالم، وفن المراسلةن والمثاقفة الممزوجة بالدعابة السوداء والنكتة والمثل الشعبي، والتغطية الإعلامية للأحداث، واللقطة السينمائية، في محاولة لتوليد شكل روائي مخالف للسائد، بمقاربة متأنية لحقبة الحماية كفيلة بإعادة الإعتبار للذاكرة الجمعية، والنبش عن مأثور الماضي البسيط الذي استفاد من التراكم على مستوى التجرية السردية المغربية المابعد الكولونيالية التي تحاول بعث الروح المغربية في بلد حافظت مقاومته للاستعمار على الأصالة والحيوية والقدرة على الإبهار، - المصطلح استعمل سنة 1921 من طرف أحد منظري الاستعمار جون لافان - وذلك عبر كتابات عبد الكريم غلاب، عبد الله العروي، أحمد زيادي، أحمد الصفريوي، إدريس الشرايبي، أحمد شماعو، أحمد زنيبر، محمد عزيز الحبابي، محمد أنقار وغيرهم، في مقابل كم هائل أيضا من النصوص الروائية الكولونيالية التي تنتصر وترسخ وتشرعن لمفاهيم وفرضيات استعمارية..
تتكون رواية قرية ابن السيد من حوالي 200 صفحة وقسمين، يشكل الشق الأول ربع المتن الروائي، ويغطي تاريخيا حقبة ما قبل الاستقلال منصبا أساسا على بنية المجتمع المغربي التقليدي من حيث أساليب العيش، وظروف الحياة، والتكافل الأسري، ونشوء خلايا الكفاح المسلح ضد الاستعمار، والتنسيق فيما بين فصائل المقاومة بجهات المغرب الأربع، ونشوء الفكر الصوفي الذي ساهم في حشد الهمم وتوحيد الكلمة الشعب، والحفاظ على الطقوس ومواقيت العبادات، والحث على العمل والتجارة كعبادة، حيث يشكل الشاعر الجوال روح العاطفة التي سرعان ما تكبح من طرف حصافة الشيخ السيد الذي يوصي بأن لا يشيد على قبره مزار، ممثلا في ذلك الضمير الحي، وروح الإيثار والعقل عملا بالحديث القائل « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها »، ثم يدفعنا هذا الفصل بالذات إلى التفكير في تاريخ المغرب القديم وبوادر نشأة الفكر الصوفي، وانتشار الطرق الصوفية ومزارات الأولياء والأضرحة والرابطات والزوايا ملتقى المؤمنين منذ حلول القوافل الأولى للفتح الإسلامي لهذه الربوع بداية من القرن الثالث الهجري، ومساهمة التصوف السني بقسط وافر في استتباب الأمن، ونبد العصبية، وإرساء قواعد الدين الإسلامي، وتحقيق الاستقرار الروحي والتضامن والتعاون والتكافل الأسري، والجهاد بالنفس والنفيس والدعوة للجهاد في سبيل نصرة وانعتاق البلاد من هيمنة الغازي، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن العجيب، والمدهش، كما يقول د. يوسف زيدان بــ " أن معظم الطرق الصوفية التى استقرت بمصر طيلة القرون الثمانية الماضية، ترجع أصولها إلى المغرب والأندلس! سواءٌ كانت قد وفدت من هناك مباشرةً، أو على نحوٍ غير مباشر"
"إذن، باستثناء الطريقة القادرية (أتباع سيدى عبدالقادر الجيلانى) والطريقة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومى) فإن أصول الطرق الصوفية المصرية، جميعها، مغاربية! أى أندلسية ومغربية.. وهو ما يفسِّر لنا اعتقاد أهل القرى المصرية، خاصةً فى الصعيد، بأن (الولىّ) لابد أن يكون مغربياً، ليكون باهر الكرامات"
ويستهل الجزء الثاني تناوله لجيل الاستقلال، والذي يشكله الجيل الثالث من سلالة قرية ابن السيد وما بينهما من شخوص تربطهم أواصر القرابة أو الاهتمامات الفكرية والعقائدية، ويمثله محمد بن المصطفى حفيد الشيخ السيد، الذي اختار الدراسة بألمانيا، وتخرج في كلية العلوم، واقترن بسارة من أصول تركية، ووجه اهتمامه للدراسات الفلسفية ومباحث التصوف، والاهتمام بتاريخ مسقط الراس وأصل الأجداد، وقد وفد للمشاركة في ملتقى دولي للتسامح بمراكش معية محاضرين وباحثين من مختلف الجنسيات والديانات، ولمراكش رمز كبير فيما يخص تلاقح الديانات السماوية وحوار الحضارات عبر تاريخها الطويل، باحتوائها لأضرحة سبعة رجال، محمد بن المصطفى في تكوينه الأكاديمي جمع بين جناحي المعرفة تليدها وحديثها، والحضارة شرقها وغربها، الإنسان الذي يجمع في شخصيته بين المثقف المتنور، والمتدين الوسطي الراسخ في الإيمان من دون غلو أو تطرف، والجيل الخامس الذي ينتهي بسعيد بن علي بن عبد العزيز بن المصطفى ابن الشيخ السيد مستعرضا ميولاته وهندامه العصري وهيأته وأفكاره العقلانية اليسارية وطموحاته العريضة وأحلامه بالهجرة إلى كندا عبر الزواج المختلط الذي يجابه باعتراض أسرته ، والعمة فطومة التي تمثل صلة وصل بين الأجيال بحركيتها وصبرها وحنانها وتسامحها
ويتطرق الحديث على مدى الصفحات إلى مفهوم التسامح الصوفي الجامع بين رؤى وتأويلات مختلفة، كنوع من دفع الدين بالدين، أو عولمة الدين، وفقا للمنظور العرفاني والرباني، متجاوزا الدلالات الظاهرة إلى ما هو باطني جواني الداعي إلى الانصهار لحد الحلولية في الذات الإلهية، بحسب قول الشيخ ابن تيمية: "عدد الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق"، أو من حيث رؤية ابن عربي من جهة أخرى بأن الأديان والعقائد واحدة مهما اختلفت معبوداتها وصورها وتوجهاتها ورسالاتها بقوله:
عقد الخلائق في الإله عقائد / وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ولا بأس من التوقف في هذا المقام حول مفهوم التسامح انطلاقا من وجهة نظر وجيهة للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي تقول بأنه ( تولّد خلال حركة الإصلاح الديني الأوروبية، ليعبر عن تغير في الذهنية تمخض عن علاقة جديدة هي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد. لا عجب أن يظل المفهوم حاملاً لرواسب الإشكالية الدينية التي نشأ في حضنها، والتي جعلت منه، قبل كل شيء نداء "للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة " كما يؤكد جون لوك في رسالته الشهيرة)
هكذا تتلاشى الحدود بين الأمكنة والأزمنة، حيث ترتاد النصوص بلدانا وعوالم أخري متعددة الثقافات، يوحدها التسامح كلغة شمولية تعبر عن المشترك في العلاقات الدولية ضمن إطار الفصل بين الديني والدنيوي، وتماشي الرسالات السماوية مع القيم الإنسانية. فمن اوغست كونت إلى فرنسيس بيكون، إلى العهود الزاهرة للإسلام العقلاني المتنور الممثل بالفرق الكلامية، ابن عربي ابن رشد، سبعة رجال مراكش، صلحاء ركراكة السبعة، السلفية الوطنية، إلى الفكر اليساري كارل ماركس جورج لوكاش وبوادر التمدن العصري، والتوفيق بين الدين كتشريع سماوي عرفاني، والحداثة كمنظومة قيم معرفية. مفرقا اصطلاحيا بين التسامح كمبدأ إنساني، والتطبيع مع الكيان الصهيوني كموقف سياسي
ذلك أن القول الإلهي ينتج الوجود وإنما يقول له كن فيكون، بينما يخلق الكلام الإلهي العلم وإنما يخشى الله من عباده العلماء، رغم التماهي الظاهر في هذه الرواية مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم، لابد من إعادة تكوينه، عن طريق الانخراط الشامل في أشكال جديدة من الممارسات الروحية والجمالية، جامعا بين التفكيرين الإسلامي والغربي، تصورا وممارسة، عالمان متناقضان في نظرتهما للماضي والمستقبل، يربط بينهما الإيمان، وتفرقهما اللغات والأعراق. هكذا يعبر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في ابياته الشهيرة
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ
ِوبيت لأوثان وكعبةُ طائف / وألواحُ توراة ومصحف قرآن
أدين بدينِ الحب أنى توجهت / ركائبه، فالحبُ ديني وإيماني
في الختم، هناك مقولة لــ لوسيان غولدمان مفادها أن هناك علاقة بين الباحث وموضوعه حتى ولو كانت علاقة كره، والرواية التي بين أيدينا هي مقاربة دينية فكرية إثنوغرافية تساهم في التعريف ببعض مناطق المغرب العميق الملغاة من خطاطات التنمية، تنطلق بداية من منطقة معزولة جغرافيا في أحضان الأطلس الصغير، لتعانق آفاقا أكثر رحابة وأكثر إشراقا في الدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة والتسامح والتعايش بين الشعوب عودنا عليها المبدع حسن إمامي انطلاقا من بحوثه حفرياته السردية حول بعض الظواهر الميثولوجية والخرافية لبعض المواقع التاريخية والأثرية لحاضرة مولاي إدريس زرهون ، وصولا إلى هذا السرد الباذخ الذي يستحق أن يكون موضوع فيلم سينمائي يعرض رسالة إنسانية تدعو للتسامح والإخاء والتعايش السلمي بين كافة الشعوب، ذلك أن الإبداع الحقيقي يعيد الاعتبار للقيم الحضارية، ويربط المحلي بما هو كوني، والأدبي بما هو أنثربولوجي وسوسيولوجي وفكري، مع ما يمتلكه صدام الأجناس الأدبية هذا من سلطة الإقناع التي قد تغيب عن باقي أنواع الخطابات الأخرى.
هكذا يحملناالرواي في رحلة إثنوغرافية ترصد بعض التحولات المجتمعية والافتراضات والعادات والاعتقادات والفلكلور وأنماط العيش، وتستبطن أسلوب الحياة، وتدرس مجموعة القيم والأفكار والاستعارات والمأثورات الشعبية والطقوس والمعتقدات والممارسات التي يتقاسمها أفراد جماعات مشتركة في المغرب العميق ابتداء من أوائل القرن الماضي في منطقة مغمورة منسية بين أحضان الأطلس العظيم، ثم ما تفتأ أن تتحول إلى طرق آفاق عالمية في انفتاح على أفكار وأمصار أكثر رحابة، وتمتد كرونولوجيا على مدى خمسة أجيال تعج بالشخصيات التي يمكن النظر إليها من زاوية التحول المنطقي للتاريخ منفردة في عصاميتها، أو مشتركة في تعالقها مع شخصيات ومجرى نهر الرواية، ولا يمكن بأية حال نسيان علاقة الثقافة والمأثورات الشعبية بمجال الانثربو لوجيا ، لان الرواية ممسكة بعناصر متوارثة عبر تاريخ طويل جدا. ولذا بالإمكان رصد الكثير من العقائد والطقوس والممارسات التي تحولت إلى ثقافة يومية بعدما كانت جزءا من حياة تخيلية ، يمثل الشيخ السيد الفقيه والمربي الورع أحد أقطاب الطريقة الجزولية، وكاتب العقود وموزع الزكوات والتركات وفاك النزاعات التجارية والأسرية، والمقاوم للاستعمار، أول نواة لهذه السلالة الطاهرة، والذي تغدق عليه فضائل الرواية ما يليق بمقامه الطاهر من الخلال الحميدة والأوصاف الزكية، وتمتح معطياتها الإبيستيمية من شذا الأجواء الروحانية العرفانية المهيمنة لإيصال رسالتها بشكل إبداعي يتوفر على حمولات فنية وجمالية ولغوية عالية القيمة، وذات مرجعيات فكرية وعرفانية تسعى إلى خلق توازن روحي في ذات المتلقي، وزرع قيم التسامح والعدالة الاجتماعية، والتوافق الفكري والوجداني حتى لتجد نفسك محاطا بأشكال من الفكر الثيولوجي الصرف الذي يزاوج بين النص القرآني كقاعدة، والفلسفة، والحكمة، والجمال، والأخلاق، والإيمان، والتصوف الذي تسعى الرواية لتكريس خطابه، والتوظيف الإبداعي لآليات الفلكلور وطقوس إعداد الشاي آداب الحديث والجماعة، المأثور الشعبي العالم، وفن المراسلةن والمثاقفة الممزوجة بالدعابة السوداء والنكتة والمثل الشعبي، والتغطية الإعلامية للأحداث، واللقطة السينمائية، في محاولة لتوليد شكل روائي مخالف للسائد، بمقاربة متأنية لحقبة الحماية كفيلة بإعادة الإعتبار للذاكرة الجمعية، والنبش عن مأثور الماضي البسيط الذي استفاد من التراكم على مستوى التجرية السردية المغربية المابعد الكولونيالية التي تحاول بعث الروح المغربية في بلد حافظت مقاومته للاستعمار على الأصالة والحيوية والقدرة على الإبهار، - المصطلح استعمل سنة 1921 من طرف أحد منظري الاستعمار جون لافان - وذلك عبر كتابات عبد الكريم غلاب، عبد الله العروي، أحمد زيادي، أحمد الصفريوي، إدريس الشرايبي، أحمد شماعو، أحمد زنيبر، محمد عزيز الحبابي، محمد أنقار وغيرهم، في مقابل كم هائل أيضا من النصوص الروائية الكولونيالية التي تنتصر وترسخ وتشرعن لمفاهيم وفرضيات استعمارية..
تتكون رواية قرية ابن السيد من حوالي 200 صفحة وقسمين، يشكل الشق الأول ربع المتن الروائي، ويغطي تاريخيا حقبة ما قبل الاستقلال منصبا أساسا على بنية المجتمع المغربي التقليدي من حيث أساليب العيش، وظروف الحياة، والتكافل الأسري، ونشوء خلايا الكفاح المسلح ضد الاستعمار، والتنسيق فيما بين فصائل المقاومة بجهات المغرب الأربع، ونشوء الفكر الصوفي الذي ساهم في حشد الهمم وتوحيد الكلمة الشعب، والحفاظ على الطقوس ومواقيت العبادات، والحث على العمل والتجارة كعبادة، حيث يشكل الشاعر الجوال روح العاطفة التي سرعان ما تكبح من طرف حصافة الشيخ السيد الذي يوصي بأن لا يشيد على قبره مزار، ممثلا في ذلك الضمير الحي، وروح الإيثار والعقل عملا بالحديث القائل « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها »، ثم يدفعنا هذا الفصل بالذات إلى التفكير في تاريخ المغرب القديم وبوادر نشأة الفكر الصوفي، وانتشار الطرق الصوفية ومزارات الأولياء والأضرحة والرابطات والزوايا ملتقى المؤمنين منذ حلول القوافل الأولى للفتح الإسلامي لهذه الربوع بداية من القرن الثالث الهجري، ومساهمة التصوف السني بقسط وافر في استتباب الأمن، ونبد العصبية، وإرساء قواعد الدين الإسلامي، وتحقيق الاستقرار الروحي والتضامن والتعاون والتكافل الأسري، والجهاد بالنفس والنفيس والدعوة للجهاد في سبيل نصرة وانعتاق البلاد من هيمنة الغازي، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن العجيب، والمدهش، كما يقول د. يوسف زيدان بــ " أن معظم الطرق الصوفية التى استقرت بمصر طيلة القرون الثمانية الماضية، ترجع أصولها إلى المغرب والأندلس! سواءٌ كانت قد وفدت من هناك مباشرةً، أو على نحوٍ غير مباشر"
"إذن، باستثناء الطريقة القادرية (أتباع سيدى عبدالقادر الجيلانى) والطريقة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومى) فإن أصول الطرق الصوفية المصرية، جميعها، مغاربية! أى أندلسية ومغربية.. وهو ما يفسِّر لنا اعتقاد أهل القرى المصرية، خاصةً فى الصعيد، بأن (الولىّ) لابد أن يكون مغربياً، ليكون باهر الكرامات"
ويستهل الجزء الثاني تناوله لجيل الاستقلال، والذي يشكله الجيل الثالث من سلالة قرية ابن السيد وما بينهما من شخوص تربطهم أواصر القرابة أو الاهتمامات الفكرية والعقائدية، ويمثله محمد بن المصطفى حفيد الشيخ السيد، الذي اختار الدراسة بألمانيا، وتخرج في كلية العلوم، واقترن بسارة من أصول تركية، ووجه اهتمامه للدراسات الفلسفية ومباحث التصوف، والاهتمام بتاريخ مسقط الراس وأصل الأجداد، وقد وفد للمشاركة في ملتقى دولي للتسامح بمراكش معية محاضرين وباحثين من مختلف الجنسيات والديانات، ولمراكش رمز كبير فيما يخص تلاقح الديانات السماوية وحوار الحضارات عبر تاريخها الطويل، باحتوائها لأضرحة سبعة رجال، محمد بن المصطفى في تكوينه الأكاديمي جمع بين جناحي المعرفة تليدها وحديثها، والحضارة شرقها وغربها، الإنسان الذي يجمع في شخصيته بين المثقف المتنور، والمتدين الوسطي الراسخ في الإيمان من دون غلو أو تطرف، والجيل الخامس الذي ينتهي بسعيد بن علي بن عبد العزيز بن المصطفى ابن الشيخ السيد مستعرضا ميولاته وهندامه العصري وهيأته وأفكاره العقلانية اليسارية وطموحاته العريضة وأحلامه بالهجرة إلى كندا عبر الزواج المختلط الذي يجابه باعتراض أسرته ، والعمة فطومة التي تمثل صلة وصل بين الأجيال بحركيتها وصبرها وحنانها وتسامحها
ويتطرق الحديث على مدى الصفحات إلى مفهوم التسامح الصوفي الجامع بين رؤى وتأويلات مختلفة، كنوع من دفع الدين بالدين، أو عولمة الدين، وفقا للمنظور العرفاني والرباني، متجاوزا الدلالات الظاهرة إلى ما هو باطني جواني الداعي إلى الانصهار لحد الحلولية في الذات الإلهية، بحسب قول الشيخ ابن تيمية: "عدد الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق"، أو من حيث رؤية ابن عربي من جهة أخرى بأن الأديان والعقائد واحدة مهما اختلفت معبوداتها وصورها وتوجهاتها ورسالاتها بقوله:
عقد الخلائق في الإله عقائد / وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ولا بأس من التوقف في هذا المقام حول مفهوم التسامح انطلاقا من وجهة نظر وجيهة للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي تقول بأنه ( تولّد خلال حركة الإصلاح الديني الأوروبية، ليعبر عن تغير في الذهنية تمخض عن علاقة جديدة هي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد. لا عجب أن يظل المفهوم حاملاً لرواسب الإشكالية الدينية التي نشأ في حضنها، والتي جعلت منه، قبل كل شيء نداء "للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة " كما يؤكد جون لوك في رسالته الشهيرة)
هكذا تتلاشى الحدود بين الأمكنة والأزمنة، حيث ترتاد النصوص بلدانا وعوالم أخري متعددة الثقافات، يوحدها التسامح كلغة شمولية تعبر عن المشترك في العلاقات الدولية ضمن إطار الفصل بين الديني والدنيوي، وتماشي الرسالات السماوية مع القيم الإنسانية. فمن اوغست كونت إلى فرنسيس بيكون، إلى العهود الزاهرة للإسلام العقلاني المتنور الممثل بالفرق الكلامية، ابن عربي ابن رشد، سبعة رجال مراكش، صلحاء ركراكة السبعة، السلفية الوطنية، إلى الفكر اليساري كارل ماركس جورج لوكاش وبوادر التمدن العصري، والتوفيق بين الدين كتشريع سماوي عرفاني، والحداثة كمنظومة قيم معرفية. مفرقا اصطلاحيا بين التسامح كمبدأ إنساني، والتطبيع مع الكيان الصهيوني كموقف سياسي
ذلك أن القول الإلهي ينتج الوجود وإنما يقول له كن فيكون، بينما يخلق الكلام الإلهي العلم وإنما يخشى الله من عباده العلماء، رغم التماهي الظاهر في هذه الرواية مع المقولات التي تري أنه بدلا من تغيير العالم، لابد من إعادة تكوينه، عن طريق الانخراط الشامل في أشكال جديدة من الممارسات الروحية والجمالية، جامعا بين التفكيرين الإسلامي والغربي، تصورا وممارسة، عالمان متناقضان في نظرتهما للماضي والمستقبل، يربط بينهما الإيمان، وتفرقهما اللغات والأعراق. هكذا يعبر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في ابياته الشهيرة
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي / إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ
ِوبيت لأوثان وكعبةُ طائف / وألواحُ توراة ومصحف قرآن
أدين بدينِ الحب أنى توجهت / ركائبه، فالحبُ ديني وإيماني
في الختم، هناك مقولة لــ لوسيان غولدمان مفادها أن هناك علاقة بين الباحث وموضوعه حتى ولو كانت علاقة كره، والرواية التي بين أيدينا هي مقاربة دينية فكرية إثنوغرافية تساهم في التعريف ببعض مناطق المغرب العميق الملغاة من خطاطات التنمية، تنطلق بداية من منطقة معزولة جغرافيا في أحضان الأطلس الصغير، لتعانق آفاقا أكثر رحابة وأكثر إشراقا في الدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة والتسامح والتعايش بين الشعوب عودنا عليها المبدع حسن إمامي انطلاقا من بحوثه حفرياته السردية حول بعض الظواهر الميثولوجية والخرافية لبعض المواقع التاريخية والأثرية لحاضرة مولاي إدريس زرهون ، وصولا إلى هذا السرد الباذخ الذي يستحق أن يكون موضوع فيلم سينمائي يعرض رسالة إنسانية تدعو للتسامح والإخاء والتعايش السلمي بين كافة الشعوب، ذلك أن الإبداع الحقيقي يعيد الاعتبار للقيم الحضارية، ويربط المحلي بما هو كوني، والأدبي بما هو أنثربولوجي وسوسيولوجي وفكري، مع ما يمتلكه صدام الأجناس الأدبية هذا من سلطة الإقناع التي قد تغيب عن باقي أنواع الخطابات الأخرى.