الأستاذ الدكتور السيد الجميلي - طبقات المحققين والمصححين.. دراسة وتقويم

يملى علينا التاريخ حقيقتين أجد أنه لابد من الاشارة إليهما ، ونحن نتكلم عن الطبقة الأولى من المصححين المحققين الذين نقلوا المؤلف المخطوط إلى المطبعة واستطاعوا أن يقرأوا كلمات هذه المؤلفات التي خلا أكثرها من النقط والهمز وما أشبهه مما ييسر على القارىء الاستمرار في مطالعته بيسر وسهولة :
أولاهما : أننا لم نتوصل ـ بعد ـ إلى الصف الأول لهذه المجموعة من المشايخ العلماء الأعلام القائمين فى المطبعة - إبان ذلك ـ بأمر التحقيق والتصحيح ، ومع ذلك فليس الوصول إليهم مستحيلاً ؛ بل إنه كلما وقع بأيدينا مطبوع قديم للمطبعة ( الميرية) ببولاق مصر - مثلا - سوف نجد بآخر المطبوع كلمة صريحة تسجل في وضوح - اسم المصحح، وتاريخ الطباعة، واسم المطبعة .
ثانيهما : هو كم هذه المطبوعات نفسها ، وتصنيفها ، لا من حيث المادة ؛ بل من حيث زمن الطباعة ، وبالتالى يتم لنا - بنفس الوضوح - بيان بـ ( ثبت ) هؤلاء العلماء من مشايخ الأزهر الأجلاء الذين تم على أيديهم الطفرة من المخطوط إلى المطبوع وذلك ـ بدوره ـ ليس عسيراً ، غاية الأمر أنه يحتاج إلى جهد البحث والتنقيب لنصل إلى أكبر قدر من هذه المطبوعات . وبين أيدينا طبقة من هؤلاء المحققين المصححين يعود عملها إلى القرن الثالث عشر الهجرى :
-------------------------------------------
(۰) پسر كاتب هذه الحلقات أن يدلى فيها كل ذى نصيب من العلم بأمرها ، ويرسل إلى مجلة الأزهر بحقيقة ما يعلم في هذا الموضوع حتى نقضى حقاً واجباً علينا أداؤه إلى هذه الطبقة الكريمة التي كانت همزة الوصل بين الماضى والحاضر .. والتي لولاها لتأخرت نهضتنا العلمية والأدبية سنين لا يعلم مداها إلا المولى - عز وجل ... ثم بجانب هذا الواجب تعلم الأجيال حقيقة هذه الحقبة لتواثق الصلة العلمية على يديها بين الماضى والحاضر فلا تقع فى فجوات التاريخ أو عثرات الغموض .
----------------------------------------------
منهم الشيخ <عبده على ندا البراني> مصحح شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير للإمام العالم العلامة الحبر البحر الفهامة العزيزي انتهى منه في منتصف شوال سنة ثمان وسبعين ومائتين بعد الألف (١٢٧٨هـ).
ومنهم العلامة الجليل الشيخ <محمد الصباغ> الذي صحح وحقق ، وأتم الطبعة الثانية لكتاب «الفتوحات الآلهية» بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية» لمؤلفه الشيخ <سليمان بن عُمر العجيل الشافعى> الشهير بـ (الجمل) صححها وطبعها بالمطبعة الأميرية في أواخر شهر رجب من عام اثنين وثمانين - أو ثلاث وثمانين - ومائتين وألف ۱۲۸۲ - ۱۲۸۳ من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ هـ .
كان الصباغ أديباً عالماً كأكثر هذه الطبقة ، وقد ختم حديثه - في هذه الطبعة - بهذه الأبيات :
إن لله في جميع الأنام
مننا عقدها بديـع النظـام
أرسل الرسل بالشرائع واختار
لنا منهم سليل الكرام
سيد العالمين قطب دائرة الكـون
وإنسان عين كل إمـام
خصه بالكتاب أشرف آيـات
الهدى داعيا لنهج السلام
أفحم الملسنين آياته الغرم
وحلت بهم كوقع السهـام
والبلاغات أهلهـا حين يتلى
سجد من جلال هذا النظـام
يا لآياته التى لذ منها
للنهى نشوة بأحلى مدام
ذاقها الأذكيا ففاض عليهم
من سناها ما طاح بالأحلام
دخلوا روضها النضير ففازوا
من شهى الجنى بكل المرام
شيدوا للأنام ما أحكمـوه
وجلوا منه نير الأحكام
أبرزوا من مخدرات معانيــــــــــه
حسانا تروق بالأفهـام
ونحا كنزه الجلالان فاختارا
من الجوهر اليتيم السامى
أبدعا في نظامه وأجادا
فغدا حلية لجيـد الفخام
و بدا في ثمين ما نظماه
كل َحسْنَا جادت بكشف اللثام
بحواش رقت سدى وطـرازاً
شية الجهبذ الوحيد الهمام
علم الفضل في الورى الجمل الحبر
م سليمان ذى الكمال الهامي
لاح منها صبح الجبين فقَزَّتْ
ذجية المشكلات بالأوهام
عذبت منهلا وراق سناهـا
وتبدت تزهو بحسن انسجام
وإذا ما بالطبع تمت جمالاً
أرخوا حسنها بديع الختام
والذى تجدر الإشارة إليه هنا أن هذه الطبعة هي الطبعة الثانية ، ويعني ذلك أن الأولى سبقتها بزمن . وإنك لتأسى أسى بليغاً حين تقارن هذه الطبعة بأخرى مستحدثة في القرن الهجرى الماضى من سنوات حين تجد هذه الأخيرة مشحونة بالأخطاء والنقص ..
وهناك أيضا صحيح البخارى المطبوع بـ «المطبعة البهية» بالقاهرة عام تسع وتسعين ومائتين وألف ١٢٩٩ بتصحيح الشيخ <أحمد مصطفى المكتبي>.
ومسند أحمد بن حنبل - رضی الله عنه - بتصحيح الشيخ <محمد الزهرى الغمراوى> مصحح بـ «المطبعة الميمنية» وقد تم طبعه عام ثلاثة عشر وثلثمائة وألف من هجرة النبي ﷺ .
لقد كان من هؤلاء الأقطاب <العلامة الشيخ قطة العدوى> الذى نود أن نلم بطرف من سيرته ، هو وغيره من هؤلاء الأعلام .
ومن أعلام هذه الطبقة التي عاشت في القرن الثالث عشر الهجرى وامتد بها العمر إلى شيء من القرن الهجرى الماضى الشيخ العلامة <حسن العدوى الحمزاوى> المتوفى سنة ثلاث وثلثمائة وألف للهجرة النبوية المشرفة الموافق سنة ست وثمانين وثمانمائة والف للميلاد ، وكان على الراجح - بل المقطوع به تقريبا من أكبر وأقدم شيوخ هذه الطبقة الأولى فقد ولد سنة ١٢٢١هـ الموافق سنة ١٨٦٠م.
كان فقيها مالكياً من قرية عدوة بمصر ، تعلم في الأزهر الشريف وقد توفر ـ رضوان الله عليه - على أعمال جليلة ، له منها : «النور السارى من فيض صحيح البخارى» وهو مطبوع في خمسة مجلدات . وله أيضاً : «تبصرة القضاة والإخوان» مطبوع ، لكن ليس معروفاً . ومن مطبوعاته النفيسة أيضاً : «إرشاد المريد في خلاصة علم التوحيد» .. كذا له : «المدد الفياض» وهو شرح ( على الشفا ) للقاضي عياص ، وغير ذلك . وتوفى - رحمه الله - في القاهرة ، فرضى الله عنه وأرضاه . ، وجعل الجنة مثواه.
كان أحمد زكى باشا عالماً باحثاً أديباً من كبار الكتاب ولد بالاسكندرية ، ثم تخرج في كلية الحقوق التي كانت تسمى مدرسة الحقوق وقتذاك بالقاهرة ، ثم أتقن بعض اللغات.
اتصل أحمد زكى باشا بعلماء المشرقيات ، ومثل مصر فى مؤتمراتهم . وعمد إلى إحياء الكتب العربية بهمة عالية مشكورة غير مسبوق فيها ولا إليها.
وقد طبعت في عهده الحكومة المصرية مخطوطات عدة تولى هو بنفسه تصحيحها ومراجعتها .
وقد كانت له مكتبة عامرة في بيته بها زهاء عشرة آلاف كتاب . وكان وقفها على أهل العلم ، ثم بعد وفاته نقلت هذه المكتبة إلى دار الكتب المصرية باسمه ؛ وهي لا تزال حتى الآن مصدراً لكثير من المراجع القيمة مخطوطة ومطبوعة ينهل منها أهل العلم من دارسين وباحثين .
أحمد تيمور باشا : هو العالم الأديب الباحث النحرير صاحب التصانيف العالية والمحررات الجليلة ، وإليه يرجع فضل كبير في دفع <يوسف إليان سركيس> واستحثاثه واستنهاضه لتصنيف معجمه الشهير المسمى بـ «معجم المطبوعات العربية والمعربة منذ فجر الطباعة» أول عهدها حتى سنة تسع عشرة وتسعمائة وألف للميلاد ، وذلك على غرار المعاجم والفهارس الأوربية ، وقد وضع أحمد تيمور باشا كل مكتبتة العامرة تحت تصرف يوسف إليان سركيس على مدار ست عشرة سنة كاملة ، مع المعاونة الجادة والتوجيه السديد ، والتعهد الكامل والرعاية التامة حتى تم لكلا الرجلين ما أرادا.
أمين الخانجي ... الوراق العالم
أمين الخانجي هو في الأصل تاجر حلبى اسمه <محمد أمين بن عبد العزيز الخانجي> ، وهو سورى الأصل شرفت به مصر ، ونهلت من علمه وأدبه ذخائر لا تزال باقية وكانت صلته وكيدة وطيدة بالعلامة <أحمد تيمور باشا> فما أن يسمع عن مخطوطة نادرة في أي بلد أو مكتبة في العالم ويخبر تيمور بذلك ؛ حتى يرسله على الفور إلى مكان وجودها لشرائها وجلبها إلى مصر على نفقة تيمور باشا - رحمه الله ورضى عنه وأرضاه.
ومن البلدان التي زارها : الآستانة والعراق وغيرهما . وقد كانت له أياد سابغة ندية مذكورة بالخير وكان العلامة المخطوطى محمد أمين الخانجي من واقع هذه المثابة على دربة وخبرة ودراية بعيدة بالمخطوطات المختلفة وأماكن وجودها ، وقيل : تيسر له نشر زهاء ثلاثمائة مخطوط من النوادر ... والصحيح أن المنشورات المخطوطة عنده قد بلغت قرابة الثلاثمائة وثمانية وسبعين كتاباً ورسالة.
وقد نشأ كما أسلفنا في (حلب) فكان حلبياً مولداً ونشأة ، ثم عمل كاتباً في ديوان ولاية حلب ، ثم عمل في بداية حياته بنسخ المخطوطات ، ثم ما لبث أن انطلق إلى القاهرة وأدمن العمل في ذلك ، وألقى فيها عصاه سنة ١٨٨٥ خمس وثمانين ، وثمانمائة وألف للميلاد .. وهو الذي أنشأ «مكتبة الخانجي» التي كان يشترى ويستجلب لها أخطر وأعجب المخطوطات وأندرها وأغلاها سعراً ، ثم يعمد هو بنفسه إلى تحقيقها ، وتصحيحها وضبطها ونشرها.
ومن جلائل أعمال هذا الوراقة العلامة كتاب «معجم البلدان» لياقوت الحموى ، وما أضفاه عليه من ذيل سماه : «منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان» وقد شايعه وآزره على إخراجه لفيف من العلماء الجهابذة .. وقد كانت مكتبة - ولا تزال حتى الآن تزخر بالكثير من المطبوعات القيمة النادرة فى فنون اللغة العربية والأدب العربي ، سيما فقه اللغة ، والفروق اللغوية الدقيقة ، وقد أشرف عليها وحققها نخبة من أساتذة الجامعة المشهورين.
توفى الخانجي - رحمه الله - سنة ١٣٥٨ ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق سنة ۱۹۳۹ تسع وثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية.
ولم تنطو بوفاته صفحة أعماله الجليلة البيضاء المسداة إلى هذا الجيل والأجيال القادمة ، وهى تنطوي على خير وبركة وأفياء ظليلة ، وتوفى رحمة الله عن أربعة وسبعين عاماً.


اللهم تقبل من أبى صلاته، وصيامه لك، وسائر طاعاته، وصالح أعماله، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام، واجعله من الفائزين، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ يا رب العالمين
دينا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...