د. علي زين العابدين الحسيني - التجديد الفقهي..

موضوع مهم يثير الاهتمام من حينٍ لآخر، ويحتدم فيه النقاش بين المحافظين على القديم والمحدثين المطالبين بالتجديد، ويبقى أنّ أهمّ ما في الموضوع هي حالة الغموض والإبهام حول ماهية التجديد، وكيفيته، ووسائل تجديد التراث الفقهي.
في السنوات الأخيرة بات واضحاً أن المطالبين بتجديد التراث -ومنه التراث الفقهي- لا يفصحون عن مرادهم الأصلي من التجديد والمطالبة به؛ لأنهم يأتون بكلماتٍ فضفاضةٍ لا تفصح عن غرضهم، فيكون غالب طرحهم باستخدام كلماتٍ مجملةٍ تحمل معانيّ كثيرة مما يجعل الأمر حتى هذه اللحظة مبهماً غامضاً.
هل المراد من تجديد التراث الفقهي القديم تغيير الأحكام الشرعية أو استبدالها؟ أم أن المراد من التجديد تغيير الألفاظ ووسيلة التعلم بما يتناسب مع عقول الناشئة الآن؟
لا أحسب أن مرادهم من التجديد الطرح الثاني؛ لأنه إذا كان المراد من التجديد محاولة كتابة المعلومات الفقهية بلغة عصرية تناسب العصر، وإضافة ما يستجد من مسائل عصرية في البحوث الفقهية، فهو أمر متوفر وموجود.
وأنا من الداعين إلى إنقاذ المادة الفقهية من عزلتها والانقال بها إلى الاحتكاك بالواقع انتقالا جاداً ومعالجة مشاكله، وإدراك الواقع لا يتحقق إلا بمساهمة كل التخصصات المعرفية ذات الصلة بالنواحي الفقهية، ولا يمكن لأي فقيه فهم واقع الفتوى دون حاجته إلى العناصر المساعدة، مع الإقرار باتساع مضمون الفقه، حيث جدت مجالات كثيرة في الفقه وأخرى تفرعت عليها.
وهمة الفقيه المعاصر تكمن في المساهمة في إنتاج الفقه، ومواصلة البناء، وعمارة الحضارة، والعمل على زيادة الوعي المعرفي لدى المجتمعات، هذه المعرفة المساهمة في بناء الأرض، وعلاقات التعايش، ومجالات الحياة الواسعة، وللفقه أيضا تعلق بالسلوك والآداب، وهو غاية نبيلة، وينبغي على المشتغلين بتدريس الفقه ومسائله التركيز على السلوك في الخطاب الفقهي، وهو ما كان موجوداً من قبل في مصنفات الفقهاء ومشاريعهم؛ كمؤلفات الإمام الغزالي.
على أنه يوجد في علم الفقه أصولٌ ثابتة لا تقبل التغيير أو الاستغناء عنها، وهي الأحكام الشرعية التي لا يمكن تغييرها بأيّ حال من الأحوال، أو الابتعاد عنها، وفي الفقه وغيره عناصر أخرى ليست ثابتة، وهي قابلة للتجديد أو التغيير، ومنها مسائل لم يعد لها وجود في واقعنا المعاصر يمكن الاستغناء عنها، أو على الأقلّ تدرس لفئة المتخصصين دون غيرهم، فالأمر الأول لا نستطيع تغييره، وما بعده هو الذي يكون فيه التجديد.
وقد يظن أن التجديد الفقهي ينفرد به المعاصرون دون غيرهم لكن بعد إمعان النظر في التراث سنجد أنه لا يخلو عصر من العصور من تجديدٍ، وأقرب مثال على ذلك أن لغة الفقهاء تختلف من جيلٍ إلى جيلٍ بناءً على اختلاف البيئة والعصر، فعندما نقرأ في تراث شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت926) الفقهي، وهو من فقهاء الشافعية في القرن العاشر الهجري سنلحظ أن لغته تختلف عن لغة وأسلوب شيخ الأزهر إبراهيم الباجوري (ت1276) من أعيان علماء القرن الثالث عشر، وهما من مدرسةٍ فقهيةٍ واحدةٍ، حيث ينتميان للمذهب الشافعي، مع أن الأحكام في كتبهما واحدة، ولا يكاد يكون هناك كبير اختلاف، لكن احتاج الباجوري إلى الكتابة بلغةٍ فقهيةٍ متميزةٍ بالسهولة مناسبةٍ لأهل عصره.
ولو أجرينا هذا الأمر على كتب المعاصرين في نفس المدرسة الفقهية سنتأكد أن اللغة أيضاً تغيرت بما تناسب عقول المتفقهين، وهذا تجديدٌ في الطرح الفقهي المعاصر، كما أنّه توجد إضافات متوالية في الدرس الفقهي، ولا تظنن أن الأمرَ مقتصرٌ على الفقه، بل التجديد حاصل والتغيير موجود في العلوم الأخرى أيضاً.
نحن نقرّ ونعترف أن أحداث الزمان وعوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، ولا يقول أحدٌ بأنْ يظل ّالفقه حبيسَ ألفاظٍ لا تتغير ولا تتبدل على أن التجديد الذي يراد منه تغيير الحكم الشرعي في المسائل هو في حقيقته ليس تجديداً بل تطاولاً على المسائل دون علم أو دراسة؛ لأن هذه المسائل خاضعة لقوانين وقواعد تدرس في علوم كثيرة مرتبطة بعضها ببعض.
نشط كثيرٌ من المعتنين بالدرس الفقهي المعاصر لشرح الأحكام الفقهية في بدايتها باستخدام وسائل تعليمية حديثة في شروحاتهم كعمل الباور بوينت والمشجرات الفقهية، وأضاف كثير من الباحثين في كتبهم بعض النوازل المستجدة، ودخلت التقنية الحديثة في بعض المسائل الفقهية، وألفت في ذلك مؤلفات، وهذا كله نوعٌ من أنواع التجديد.
وربما نوجز أنواع التجديد الممكنة في الأعمال الفقهية بما يلي:
الأول: تجديد الألفاظ؛ فيختار المدرسون ألفاظاً جديدة تناسب لغة المتعلمين؛ بحيث تؤدي المعاني كما هي دون تغيير في الأحكام الشرعية؛ لأننا نؤمن أن لكلّ جيلٍ وعصرٍ لغته الخاصة به التي تناسبه، ولا شك أن الطلبة يمجون ألفاظاً لا يفهمونها، أو تكاد تكون صعبة على عقولهم، ويمكن أن يكون هذا في بداية طلبهم للفقه أو لفئة غير المتخصصين، وأما المتخصصون فيتدرج معهم المعلم باستخدام لغة سهلة إلى أن يصل بهم إلى لغة الفقهاء القدماء؛ لأنّ أعمالهم تراث حضاريّ يجب الحفاظ عليه، وتمام فهم الشريعة لا يكمن إلا بعد الإحاطة بلغتهم وعلومهم.
الثاني: مسائل جديدة وحوادث نازلة وأحداث معاصرة يجب البحث فيها وإصدار الحكم الشرعي بعد التمعن والنظر والإلمام بالقواعد والأصول، وهذا ليس لآحاد المعلمين بل لفئة متخصصة تمتلك من أهلية النظر والعمق في البحث ما لا يتوفر في غيرها، وهذه المسائل تضاف تباعاً للكتب الفقهية، ووجود المسائل المستجدة أمر طبيعي تفرضه سنة تطور الحياة، وواقع التراث الفقهي يشهد بأن هناك جزءاً من القضايا الفقهية قد اختفى اليوم من الحياة، وهناك قسط آخر في كثير من المجالات صار جزءاً من واقع الناس لا يمكن أن يهمله الفقه، وينبغي الموازنة في ذلك.
الثالث: استخدام وسائل التعليم الحديثة في الدرس الفقهي، وإضافة الطرق الجديدة في التدريس، وابتكار وسائل تتناسب مع عقول الناشئة بما يجعلهم يقبلون على درسهم الفقهي بكلّ عناية، والتطوير في الدرس الفقهي ليس معناه عدم الاهتمام بجهود السابقين، بل معناه المحافظة على القديم الصالح، والأخذ بالجديد الأصلح.
إنّما يحيا الفقيه ويحيا تلامذته يوم يوفَّق لاختيار الألفاظ الرائقة التي تناسب عقول طلابه، واستخدام التجديد في طريقة التدريس والوسيلة التعليمية التي تدعم درسه الفقهي؛ لأن الطلبة يحتاجون الوضوح والجلاء لا الغموض والغرابة.


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...