لعل في العنوان ما يشد الانتباه، ويجر القارئ إلى منابع السؤال عن العلاقة بين الحانة والمحو.
فالحانة تحمل سمكا دلاليا وتعبر عن تشظي الإنسان، كما أنها مكان للنسيان؛ نسيان الآلام وصدمات الواقع. يجتمع ناس تجمع بينهم الرغبة في الشرب بغاية خلق حالة نفسية منسجمة تقطع مع تلك التي دخلت إلى الحان. فهناك عتبة فاصلة بين مكانين؛ واحد مليئ بالأحداث، والثاني عامر بالنسيان، فخارج الحان يكون الإنسان مثقلا بالذكريات، مكتنز النفس بالصدمات، وداخله يكون في حالة انتشاء وتخفف، يحقق عبر الكأس والنغمات التي تملأ الفضاء توازنه المفقود. يحرر الكأس اللسان، فيندلق معبرا عن مشاكله الثيرة في بوح من دون موانع، مع أشخاص قد يكونوا أصدقاء وقد يكونوا غرباء، ففي هذا المكان لا أحد غريب، كما أنه فضاء فسيح، تتكسر فيه الحدود، حدود النفس والطبقة والانتماء.
أما المحو، فعملية قصدية تبغي إزالة ما كتب لإعادة الصفحة إلى سابق براءتها، ومن ثم إعادة كتابة الحياة بمداد المتعة لا الألم. ففي فضاء الحان تمحي الأحزان لتنبت ولو مرحليا وردة الأمل. والجميل أن في الحان تتم صفقات، وتنعقد صداقات، وتظهر عداوات سرعان ما تذوب.
وعليه، تكون الحان مكانا للمحو، أي للنسيان بغاية إعادة إعادة الكتابة؛ كتابة الذات وفق إيقاع جديد.
تأتي القصائد تباعا لتخبرنا أن المحو يرتب بكل ما هو سيء وجارح، وكئيب، وتكتب في حدائق العقول سنابل، فهل تمتلك القدرة لى هذا الإنبات؟
وبانتقالنا إلى قصدية البداية، نعثر في عنوانها ما يقوي معنى المحو والنسيان ولو بشكل ضمني "قنديل الغياب". فإذا كان القنديل معبرا عن النور والإضاءة، فإن الغياب بمثابة انطفاء له لكي تحل مكانه الظلمة، وهي اللحظة الزمنية الممتازة لدخول الحان.
وإذا قلت إن الحانة تجمع الأصدقاء والغرباء في جو موحد تجمع بينهم رغبة النسيان وتجاوز حالة التشظي، فإن ورود كثير من الكلمات مفككة الأحرف ما هو إلا تعبير عن هذه الحالة النفسية المعبرة عن معاناة شخصيات الديوان من ثقل الواقع وآثاره السلبية المؤدية إلى التشظي.
هكذا يتم رصد الواقع بحمولاته الثقيلة ورصد الإنسان الهش والعلاقة بينهما، تلك العلاقة غير المتوازنة التي تقود إلى هزيمة الفرد، مما يولد لديه حزنا يبغي التغلب عليه بفرح مؤقت. وتأتي القصائد بإيقاعات متعدد بتعدد ثيمات العملالمتحدثة عما يعتري الإنسان من أحزان. ديوان يكتب ورطة الكائن في الحياة ويرسم معالم محنته وسبل الخروج منها بأقل الخسائر.
وإذا كانت قصيدة المفتتح طويلة، كبقية القصائد التي تشي بنفس الشاعر الشعري والقصصي، ترصد الهباء والغباء واغتراب الذات عن وطنها، فإنها، في مقابل ذلك، تجد في الحرف وطنا، وفي الكتابة علاجا للوجع، ولعل قصيدة "دهشة القصيدة" خير مثال على هذا القول، تقول معاناة الواقع وفي الآن نفسه معاناة الكتابة؛ تلك الكتابة التي هي بمثابة تحرير للذات من سجن آلامها برسم ون من حرف حارق.
والشاعر في قصائده يؤكد انتماءه لشجرة الشعر الضاربة في القدم والممتدة إلى اللحظة الراهنة، فهو سليل امؤئ القيس والمتنبي والحلاج والسياب وأدونيس، والقائمة طويلة.
والنفس القصصي والشعري نجده مهتما بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وراصدا الهم الفردي والجماعي. ولعل قصيدة "مراكش" تقوم دليلا على ما أقول، فقد كانت ترسم معالم المدينة وفي الوقت نفسه كانت تعلة للحديث عن تاريخنا المنسي ودمنا المراق بعد ضعف.
القصيدة مليئة بمعجم الألم، ومعبرة عن التشظي الذي عبرت عنه مفردات الاغتراب والتشتت، وجاءت الأسئلة الحارقة معبرة عن التيه وراغبة في الخروج من منه ومن ضبابية الرؤية إلى أفق الرؤيا الساكنة سويداء البصيرة.
يمكن القول إن أول قصيدة في الديوان بمثابة أم القصائد التي ستأتي من بعدها حاملة همومها بتفاصيل جديدة. فمن رحمها ستولد تلك الأسئلة، ومنها ستتفرع التفاصيل المخبرة عن واقع الألم، وشدة اليومي، وسعي الذات إلى الانفلات من قبضته لصنع واقع بديل يحقق للإنسان توازنه بله إنسانيته المفقودة والمهدورة.
ولا ينبغي القول إن الحديث عن الذات هو مجرد تعبير عن هموم خاصة، وآلام شخصية، بل إن تلك الذات جمعية تشير إلى الذات العربية في شموليتها، وما تعانيه من وجع، وتشتت، وتأتي عملية التشكيل الكاليغرافي لتخبرنا بشكل فني عن كل ذلك، لننظر إلى المقتطف التالي حيث نجد الصورة البصرية تعاضد الصورة اللغوية في دلالاتها المتعددة لتقول الأمر نفسه، يقول السارد:
زلزلني
أنهكني
شردني
غربني
والقارئ سيلاحظ مفاتيح الديوان من خلال هذا المعجم الجريح وقد تشكل منزلقا تشي بانزلاق الذات الجمعية باتجاه الهوة القاتلة.
ويزداد الألم برصد معجم ثان، يتشكل من الكلمات التالية:
قيود وقروح وقيود، وهي كلمات جاءت بصريا كالأولى متزحلقة واحد تحت الأخرى وبالأخص أتى الحرف الأول تحت الحرف الأخير للكلمة التي سبقته. وهي كلمات معبرة عن الوجع، ولها الصيغة الصرفية نفسها، وتسير في نهر المعنى ذاته مقوية بدلالتها المتنوعة. هو تنويع للثيمة نفسها التي سافرت في نصوص المبدعين العرب كل من وجهة نظره وخلفيته المعرفية، وتصوره الفني والجمالي.
مجموعة "حانة المحو" ديوان بإيقاعات متعددة، غني بثيماته، معبر عن ودع الذات الفردية والجماعية وبمعجم يخلق صوتا وصورة المشهد العام لعالم عربي جريج، مع الإشارة إلى ورود كلمات خاصة تدفع إلى استشارة المعاجم للقبض على دلالتها الأولى، وفي تشكل تلك الدلالة في سياقها المتنوعة.
فالحانة تحمل سمكا دلاليا وتعبر عن تشظي الإنسان، كما أنها مكان للنسيان؛ نسيان الآلام وصدمات الواقع. يجتمع ناس تجمع بينهم الرغبة في الشرب بغاية خلق حالة نفسية منسجمة تقطع مع تلك التي دخلت إلى الحان. فهناك عتبة فاصلة بين مكانين؛ واحد مليئ بالأحداث، والثاني عامر بالنسيان، فخارج الحان يكون الإنسان مثقلا بالذكريات، مكتنز النفس بالصدمات، وداخله يكون في حالة انتشاء وتخفف، يحقق عبر الكأس والنغمات التي تملأ الفضاء توازنه المفقود. يحرر الكأس اللسان، فيندلق معبرا عن مشاكله الثيرة في بوح من دون موانع، مع أشخاص قد يكونوا أصدقاء وقد يكونوا غرباء، ففي هذا المكان لا أحد غريب، كما أنه فضاء فسيح، تتكسر فيه الحدود، حدود النفس والطبقة والانتماء.
أما المحو، فعملية قصدية تبغي إزالة ما كتب لإعادة الصفحة إلى سابق براءتها، ومن ثم إعادة كتابة الحياة بمداد المتعة لا الألم. ففي فضاء الحان تمحي الأحزان لتنبت ولو مرحليا وردة الأمل. والجميل أن في الحان تتم صفقات، وتنعقد صداقات، وتظهر عداوات سرعان ما تذوب.
وعليه، تكون الحان مكانا للمحو، أي للنسيان بغاية إعادة إعادة الكتابة؛ كتابة الذات وفق إيقاع جديد.
تأتي القصائد تباعا لتخبرنا أن المحو يرتب بكل ما هو سيء وجارح، وكئيب، وتكتب في حدائق العقول سنابل، فهل تمتلك القدرة لى هذا الإنبات؟
وبانتقالنا إلى قصدية البداية، نعثر في عنوانها ما يقوي معنى المحو والنسيان ولو بشكل ضمني "قنديل الغياب". فإذا كان القنديل معبرا عن النور والإضاءة، فإن الغياب بمثابة انطفاء له لكي تحل مكانه الظلمة، وهي اللحظة الزمنية الممتازة لدخول الحان.
وإذا قلت إن الحانة تجمع الأصدقاء والغرباء في جو موحد تجمع بينهم رغبة النسيان وتجاوز حالة التشظي، فإن ورود كثير من الكلمات مفككة الأحرف ما هو إلا تعبير عن هذه الحالة النفسية المعبرة عن معاناة شخصيات الديوان من ثقل الواقع وآثاره السلبية المؤدية إلى التشظي.
هكذا يتم رصد الواقع بحمولاته الثقيلة ورصد الإنسان الهش والعلاقة بينهما، تلك العلاقة غير المتوازنة التي تقود إلى هزيمة الفرد، مما يولد لديه حزنا يبغي التغلب عليه بفرح مؤقت. وتأتي القصائد بإيقاعات متعدد بتعدد ثيمات العملالمتحدثة عما يعتري الإنسان من أحزان. ديوان يكتب ورطة الكائن في الحياة ويرسم معالم محنته وسبل الخروج منها بأقل الخسائر.
وإذا كانت قصيدة المفتتح طويلة، كبقية القصائد التي تشي بنفس الشاعر الشعري والقصصي، ترصد الهباء والغباء واغتراب الذات عن وطنها، فإنها، في مقابل ذلك، تجد في الحرف وطنا، وفي الكتابة علاجا للوجع، ولعل قصيدة "دهشة القصيدة" خير مثال على هذا القول، تقول معاناة الواقع وفي الآن نفسه معاناة الكتابة؛ تلك الكتابة التي هي بمثابة تحرير للذات من سجن آلامها برسم ون من حرف حارق.
والشاعر في قصائده يؤكد انتماءه لشجرة الشعر الضاربة في القدم والممتدة إلى اللحظة الراهنة، فهو سليل امؤئ القيس والمتنبي والحلاج والسياب وأدونيس، والقائمة طويلة.
والنفس القصصي والشعري نجده مهتما بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وراصدا الهم الفردي والجماعي. ولعل قصيدة "مراكش" تقوم دليلا على ما أقول، فقد كانت ترسم معالم المدينة وفي الوقت نفسه كانت تعلة للحديث عن تاريخنا المنسي ودمنا المراق بعد ضعف.
القصيدة مليئة بمعجم الألم، ومعبرة عن التشظي الذي عبرت عنه مفردات الاغتراب والتشتت، وجاءت الأسئلة الحارقة معبرة عن التيه وراغبة في الخروج من منه ومن ضبابية الرؤية إلى أفق الرؤيا الساكنة سويداء البصيرة.
يمكن القول إن أول قصيدة في الديوان بمثابة أم القصائد التي ستأتي من بعدها حاملة همومها بتفاصيل جديدة. فمن رحمها ستولد تلك الأسئلة، ومنها ستتفرع التفاصيل المخبرة عن واقع الألم، وشدة اليومي، وسعي الذات إلى الانفلات من قبضته لصنع واقع بديل يحقق للإنسان توازنه بله إنسانيته المفقودة والمهدورة.
ولا ينبغي القول إن الحديث عن الذات هو مجرد تعبير عن هموم خاصة، وآلام شخصية، بل إن تلك الذات جمعية تشير إلى الذات العربية في شموليتها، وما تعانيه من وجع، وتشتت، وتأتي عملية التشكيل الكاليغرافي لتخبرنا بشكل فني عن كل ذلك، لننظر إلى المقتطف التالي حيث نجد الصورة البصرية تعاضد الصورة اللغوية في دلالاتها المتعددة لتقول الأمر نفسه، يقول السارد:
زلزلني
أنهكني
شردني
غربني
والقارئ سيلاحظ مفاتيح الديوان من خلال هذا المعجم الجريح وقد تشكل منزلقا تشي بانزلاق الذات الجمعية باتجاه الهوة القاتلة.
ويزداد الألم برصد معجم ثان، يتشكل من الكلمات التالية:
قيود وقروح وقيود، وهي كلمات جاءت بصريا كالأولى متزحلقة واحد تحت الأخرى وبالأخص أتى الحرف الأول تحت الحرف الأخير للكلمة التي سبقته. وهي كلمات معبرة عن الوجع، ولها الصيغة الصرفية نفسها، وتسير في نهر المعنى ذاته مقوية بدلالتها المتنوعة. هو تنويع للثيمة نفسها التي سافرت في نصوص المبدعين العرب كل من وجهة نظره وخلفيته المعرفية، وتصوره الفني والجمالي.
مجموعة "حانة المحو" ديوان بإيقاعات متعددة، غني بثيماته، معبر عن ودع الذات الفردية والجماعية وبمعجم يخلق صوتا وصورة المشهد العام لعالم عربي جريج، مع الإشارة إلى ورود كلمات خاصة تدفع إلى استشارة المعاجم للقبض على دلالتها الأولى، وفي تشكل تلك الدلالة في سياقها المتنوعة.