يمكنني تلخيصُ علاقتي بالقصة في الحقيقة التالية: أعيشُ أحلى أيامي حين أكتبُ القصة. وبالرغم من الإجهاد الذي يحلُّ بي في أثناء فعل الكتابة – وربما يكون مصدرُه الأنيميا – فإنني أكون في أزهى حالاتي، وأكتفي بنمو العمل بين يديَّ، فلا يضيرني إفلاس ماديٌّ، ولا أهتمُّ بنوعية طعام، وأُقبلُ على أسرتي وأصدقائي بصدر رحب، فلقد كتبتُ، وتصالحتُ مع العالم. أما في أيام (الكساد)، وقد ازدادت طولاً في الآونة الأخيرة، فإن الغيوم الثقيلة تتسللُ إلى سمائي.
وإذا كان لي أن أحدد تاريخاً لبدء علاقتي بكتابة القصة، فهو منتصف الستينيات، أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية. ويهمني أن ألفت نظر القارئ إلى بعض (المحطات) العُمرية التي مررتُ بها مع أبناء جيلي، فربما كانت لها دلالات؛ أولُها محطة الطفولة المُبكرة التي كانت حول سنة (النكبة): 1948، ثم مرَّ بنا عقدُ الخمسينيات بكل ما به من تغيرات سياسية واجتماعية، إمتدت لتغطي سنوات العقد التالي.
وبالرغم من أن المناخ العام في هذه الفترة الطويلة، التي شهدت نموَّنا المادي والعاطفي، وتشكُّلَ رويتنا للحياة، كان حافلاً بالعلامات الموجبة الشاحنة، إلاَّ أنه لم يسلم من كبواتٍ جلبتْ لنا الإحباطَ والشعورَ بالأسى، وكانت ذروةُ الإنكسار في يونية 1967، وهي – عند المبدعين – عواملُ شاحنة أيضاً.
ثم عادت رياحُ، أو قل عواصف التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تهبُّ من جديد خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وقد اختلف الحالُ بالنسبة لنا، حيث انتقلنا إلى صفوف المشاركين والمؤثرين، إبتداءً بالانخراط في سلك الجندية، إلى تحمل مسؤولية العمل الوظيفي أو السياسي، إلى بدء الإنتاج عند من اختاروا أن يحملوا القلم، واكتملت لهم أدواتُهم، وتبلورت لهم رؤىً يكتبون من خلالها، وقضايا يدافعون عنها.
وقد اشترك (داءُ الكتابة)، مع عوامل أخرى، في إبعادي عن تحقيق أي تقدم في مجال الوظيفة، فقد اخترتُ العملَ في البحث العلمي، حيث أحمل درجتي الجامعية الأولى (البكالوريوس) في الكيمياء وعلوم البحار، ولكنني عجزتُ عن الحصول على درجاتٍ أعلى، فقد (إنحرفتُ) إلى الأدب والقصة!
لقد تجمَّعت عواملُ عديدة جعلت القصة تُمسِك بتلابيبي، وأشعرُ، أحياناً، كأنني لم أبذل جهداً لأكون كاتباً.، غير أنني يمكنني الآن أن أستخلص ما يمكن تسميتُه بعوامل البناء.
أول هذه العوامل هو حفظي لحوالي عشرة أجزاء من القرآن الكريم، في السنوات الأربع الأولى من المدرسة الابتدائية. وقد تأكدتُ بنفسي من أن معظم من عرفتُهم من الأدباء اكتسبوا هذا العامل الفائق التأثير في طفولتهم. لقد أنعم الله عليَّ، بصحبة القرآن الكريم، بحسٍّ لُغوي يجعلُني، وإن كنتُ لم أدرس اللغة العربية طويلاً، أحرصُ على سلامة لغة الكتابة، وأضع يدي على قدرٍ لا بأس به من أسرار الفن والجمال في لغتنا الجميلة، عندما أعيش تجربة الكتابة.
وكانت طفولتي فقيرة، ولكن خصبة. وأمضيتُ معظم أيام سنوات عمري العشر الأولى مستمتعاً إلى أقصى حدٍّ بمشاركة الرفاق عدداً كبيراً من الألعاب الشعبية، التي كانت، بالإضافة إلى كونها ضرورة لصحة أجسامنا ونفوسنا، مملوءةً بالإيحاءات والأحلام والعوالم الخيالية، التي لا يمكن إلاَّ أن تكون مفيدةً وخلاَّقة. وإنني لأجدُ جزئيات من ذكريات الطفولة تقفز إلى سطور قصصي، بل إن مجموعتي القصصية (نوستالجيا غيط العنب) تعتمد كلها على هذه الذكريات.
وفي طفولتي أيضاً كان لي حظُّ النهل من نبع ثري: الجدة!. وقد وهبني الله جدتين تبارتا في شحذ خيالي؛ وكانت جدتي لأبي ساحلية، أما جدتي لأمي فكانت فلاحية، وقد تلوَّنت حكاياتهما باختلاف البيئتين، وأُجزم، أنني لم أعش في حياتي لحظات من الفرح بنفس العمق والدفء والدهشة، وغيرها من المشاعر الغامرة التي كنتُ أجدها عند جدَّتيَّ، رحمهما الله.
وتزامن صباي، أو شبابي المبكر مع سنوات من الانتعاش الثقافي في مصر، وكان بمقدوري خلالها أن أشتري مجلة للقصة وكتاباً مسرحياً وآخر ثقافياً، وأن أشاهد مسرحيةً، كل شهر، في مقعد بأعلى التياترو. كل ذلك من (مصروفي) الزهيد.
وفي المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، رزقني الله بمجموعة من الزملاء لهم نفس التطلعات، أبرزهم كاتب الدراما المشهور الأستاذ محمد السيد عيد، ولم أُحرم من استمرار الرعاية، فقابلت الأديب الكبير الأستاذ سليمان فياض، رحمه الله، وكان مدرسا للغة العربية بالمدرسة، الذي قرأ بعض كتاباتي، وأهداني نسخة من كتابه (عطشان يا صبايا)، كما وجهني إلى قراءة هيمنجواي، وأعارني كتاباً عنه. وأعطاني ذلك ثقة بالنفس.
ولا أجدني بحاجة إلى الاعتراف ببساطة البداية، فقد كانت قصصي الأولى محاولات للرصد المباشر لبعض ملامح الواقع المعيش، ولا تخلو من تأثير مزاج مرحلة المراهقة أو بداية الشباب، فكانت مملوءة بالأحاسيس الحسية.
عرفتني أبواب الردِّ على (الأصدقاء) في المجلات الأدبية. ورفضت مجلة القصة، القاهرية، كلَّ ما أرسلتُه لها من قصص. ثم أقدمتُ على مغامرةٍ بأن كتبتُ قصة اسمها (سرُّ حيَّةٍ مُبرقشَة)، في محاولة لتقليد من يدعون (تحطيم) الشكل التقليدي للقصة. وفوجئتُ بالمجلة تنشرها، بينما أنا – حتى الآن – لا أعرفُ ماذا كتبتُ!
وكان "يحيى حقي" يرأس تحرير مجلة (المجلة) في الستينيات، ويعطي الفرصة للعديد من الأسماء الجديدة في القصة والشعر، فقررتُ أن أحاول مع (المجلة) فأرسلتُ له عدداً من قصصي. وأريد الآن أن أقدم (نموذجاً) لما يجبُ أن يكون عليه موقفُ الأستاذ من التلميذ، وأكتفي بإثبات جانب من نص خطاب أرسله إليَّ الأستاذ الكبير يحيى حقي، يرحمه الله، ويحمل تاريخ 29/8/1966:
"عزيزي رجب، وعن سريعٍ صديقي، فيما أرجو، وعما قريب زميلي، أنا واثق. يا رجب، قرأتُ كلَّ قصصك حرفاً بحرف بلذة كبيرة. وأُسارعُ وأؤكد لك أن لديك موهبة صادقة، أدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظها لك ويحفظك لها، جعلتني بالمقارنة أستهزئ بكل ما كتبته في صباي. إنني لا أخشى عليك من الغرور لأني أكلمك من قلبي المفتوح لك كلام أب لإبنه، كما لا أخشى تألمك إذا قلت لك إنك تمرُّ الآن بأدق مرحلة في حياتك، لأن موهبتك أكبر من خبرتك .... صدقني إذا قلت لك إنني تمنيتُ أن أنشر لك إحدى هذه القصص في مجلة (المجلة)، لكنها مجلة وقور، لا تحب رائحة التلاميذ، ولا رائحة الجنس الصارخة. ولذلك، سأجتهد في أن أوصي على قصتك (الصرخة) لدي مجلة (صباح الخير) التي يتنفس فيها الشباب، وأخبرك بالنتيجة ...".
وبدأت رحلة الجُندية في أكتوبر 1970، فور تخرجي في كلية العلوم. ولم تكن قسوة الحياة العسكرية مُتمثَّلةً في مكابدة جفافها، فقط، بل – أيضاً، وبشكل أشد – في الجهل التام بموعد نهاية تلك الرحلة؛ فالزمن الرسمي لها كان سنة واحدة، غير أن ظروف النكسة فرضت على كل أبناء جيلي أن يبقوا في (الزي الكاكي) سنواتٍ طويلة. وكنا ننتظر الحرب، ولا نعرفُ هل ستُكتب لنا الشهادةُ فيها، أم سنخرج منها أحياء، لنعود إلى مجرى الحياة الطبيعية؟. وكيف ستكون صورةُ الحياة بعد الحرب؟. وكنتُ أرى الحربَ شيئاً آخر، غير مجرد الكرِّ والفرِّ والقصف والموت .. كنت أراها (حدثاً حضارياً) كفيلاً بأن يضعنا على عتبات دنيا جديدة، إن نحن أحسنَّا التفكير والتدبير. وقد عالجتُ هذه الفكرة، بتنويعات مختلفة، في قصصي التي كتبتُها خلال سنوات الجندية الأربع، التي انتهت في سبتمبر 1974.
وكنتُ أحسب أن الحياة العسكرية ستقضي على آمالي في أن أستمر كاتباً للقصة، غير أنني سرعان ما تكيَّفتُ مع هذه الحياة، بل واستمتعتُ ببعض جوانبها، فلا شيئ سيئاً على طول الخط. وخالطتُّ في الجيش نماذج بشرية متنوعة، كما اكتسبتُ خبرات مهارية ومعيشية عديدة أضافت إلى رصيدي ككاتب قصة، ويبدو ذلك بوضوح في جزئيات مجموعتي القصصية (الأشرعة الرمادية). كما أتيح لي أن أنشر بعض القصص في مجلة (النصر) التي تصدرها القوات المسلحة المصرية، وهي مجلة واسعة الانتشار، وكانت تضمن لي عشرات الآلاف من القراء المثقفين، المجندين في المؤسسة العسكرية.
وقد ضمت تلك المجموعة القصصية الأولى أعمالاً ترصدُ أحوال مجتمع النكسة من خلال المثقف المصري، الذي حمل على كاهليه أعباء معايشتها، وآمال وتخوفات الحلم بالتخلص منها؛ ثم بعض القصص التي تسجل خيبة الأمل والمرارة التي شعر بها (المحاربون الرومانتيكيون) بعد أن خلعوا (الكاكي).
وبالرغم من أننا نتحدث عن تجربة الكتابة القصصية، فقد يكون من المفيد الإشارة إلى نوع آخر من الإنتاج، وهو الكتابة العلمية للعامة. وقد شجعني على الخوض في هذا المجال اشتغالي بالعلم، وعلوم البحار بصفة خاصة، ثم نصيحة سمعتُها في ندوة للأستاذ يحيى حقي، مفادها أن على الأديب ألاَّ يقنع بالكتابة في صنف أدبي واحد، بل عليه أن يجرِّبَ أنواعاً أخرى غير النوع الأثير لديه، لأن ذلك من شأنه أن يثري خبرته، وقد يفيده إذا مرَّت به فترةُ توقف عن الإبداع، كما يحدث لكثير من الأدباء.
ويجبُ أن أعترف بأن اشتغالي بالكتابة العلمية للمجلات كان له دافع جوهري، وهو كونه مصدر دخل، تفرضه ضرورات الحياة. فالكتابة الأدبية – للأسف، وبالنسبة لمعظم الأدباء – لا يمكن الاعتماد عليها، ولا يزال كثير من منافذ النشر يعاملها، مادياً، معاملة متدنية، فإذا جازف أديب واعتمد عليها، جاع. لذلك، كان لكل الأدباء وظائفهم الثابتة – وهذه، أيضاً، نصيحة "محفوظية" – وكان اشتغالهم بالأدب يأتي في المرتبة الثانية، بعد الوظيفة الرسمية.
والقصة القصيرة فن خطير. إن صفة القِصَرِ فيها لا تزيد عن الحيز (الجغرافي) الذي تحتله القصة على العدد القليل من الأوراق، غير أنها – كما أحبها وأراها – يمكن أن تمتد في مستويات زمنية ونفسية سحرية، تطولُ إلى أبعد من حدودها الجغرافية، ويمكن أن تتسع لتزدحم فيها الأصواتُ وتتلاطم المشاعر والرؤى، مستفيدةً من غيرها من الفنون: الشعر والموسيقى والتشكيل اللوني، بشرط أن يتوفر عليها (معماري) واعٍ، يمسك بناصية لغته الخاصة، ليبدع هذا (المخلوق) العبقري، المسمى بالقصة القصيرة.
www.facebook.com
وإذا كان لي أن أحدد تاريخاً لبدء علاقتي بكتابة القصة، فهو منتصف الستينيات، أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية. ويهمني أن ألفت نظر القارئ إلى بعض (المحطات) العُمرية التي مررتُ بها مع أبناء جيلي، فربما كانت لها دلالات؛ أولُها محطة الطفولة المُبكرة التي كانت حول سنة (النكبة): 1948، ثم مرَّ بنا عقدُ الخمسينيات بكل ما به من تغيرات سياسية واجتماعية، إمتدت لتغطي سنوات العقد التالي.
وبالرغم من أن المناخ العام في هذه الفترة الطويلة، التي شهدت نموَّنا المادي والعاطفي، وتشكُّلَ رويتنا للحياة، كان حافلاً بالعلامات الموجبة الشاحنة، إلاَّ أنه لم يسلم من كبواتٍ جلبتْ لنا الإحباطَ والشعورَ بالأسى، وكانت ذروةُ الإنكسار في يونية 1967، وهي – عند المبدعين – عواملُ شاحنة أيضاً.
ثم عادت رياحُ، أو قل عواصف التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تهبُّ من جديد خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وقد اختلف الحالُ بالنسبة لنا، حيث انتقلنا إلى صفوف المشاركين والمؤثرين، إبتداءً بالانخراط في سلك الجندية، إلى تحمل مسؤولية العمل الوظيفي أو السياسي، إلى بدء الإنتاج عند من اختاروا أن يحملوا القلم، واكتملت لهم أدواتُهم، وتبلورت لهم رؤىً يكتبون من خلالها، وقضايا يدافعون عنها.
وقد اشترك (داءُ الكتابة)، مع عوامل أخرى، في إبعادي عن تحقيق أي تقدم في مجال الوظيفة، فقد اخترتُ العملَ في البحث العلمي، حيث أحمل درجتي الجامعية الأولى (البكالوريوس) في الكيمياء وعلوم البحار، ولكنني عجزتُ عن الحصول على درجاتٍ أعلى، فقد (إنحرفتُ) إلى الأدب والقصة!
لقد تجمَّعت عواملُ عديدة جعلت القصة تُمسِك بتلابيبي، وأشعرُ، أحياناً، كأنني لم أبذل جهداً لأكون كاتباً.، غير أنني يمكنني الآن أن أستخلص ما يمكن تسميتُه بعوامل البناء.
أول هذه العوامل هو حفظي لحوالي عشرة أجزاء من القرآن الكريم، في السنوات الأربع الأولى من المدرسة الابتدائية. وقد تأكدتُ بنفسي من أن معظم من عرفتُهم من الأدباء اكتسبوا هذا العامل الفائق التأثير في طفولتهم. لقد أنعم الله عليَّ، بصحبة القرآن الكريم، بحسٍّ لُغوي يجعلُني، وإن كنتُ لم أدرس اللغة العربية طويلاً، أحرصُ على سلامة لغة الكتابة، وأضع يدي على قدرٍ لا بأس به من أسرار الفن والجمال في لغتنا الجميلة، عندما أعيش تجربة الكتابة.
وكانت طفولتي فقيرة، ولكن خصبة. وأمضيتُ معظم أيام سنوات عمري العشر الأولى مستمتعاً إلى أقصى حدٍّ بمشاركة الرفاق عدداً كبيراً من الألعاب الشعبية، التي كانت، بالإضافة إلى كونها ضرورة لصحة أجسامنا ونفوسنا، مملوءةً بالإيحاءات والأحلام والعوالم الخيالية، التي لا يمكن إلاَّ أن تكون مفيدةً وخلاَّقة. وإنني لأجدُ جزئيات من ذكريات الطفولة تقفز إلى سطور قصصي، بل إن مجموعتي القصصية (نوستالجيا غيط العنب) تعتمد كلها على هذه الذكريات.
وفي طفولتي أيضاً كان لي حظُّ النهل من نبع ثري: الجدة!. وقد وهبني الله جدتين تبارتا في شحذ خيالي؛ وكانت جدتي لأبي ساحلية، أما جدتي لأمي فكانت فلاحية، وقد تلوَّنت حكاياتهما باختلاف البيئتين، وأُجزم، أنني لم أعش في حياتي لحظات من الفرح بنفس العمق والدفء والدهشة، وغيرها من المشاعر الغامرة التي كنتُ أجدها عند جدَّتيَّ، رحمهما الله.
وتزامن صباي، أو شبابي المبكر مع سنوات من الانتعاش الثقافي في مصر، وكان بمقدوري خلالها أن أشتري مجلة للقصة وكتاباً مسرحياً وآخر ثقافياً، وأن أشاهد مسرحيةً، كل شهر، في مقعد بأعلى التياترو. كل ذلك من (مصروفي) الزهيد.
وفي المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، رزقني الله بمجموعة من الزملاء لهم نفس التطلعات، أبرزهم كاتب الدراما المشهور الأستاذ محمد السيد عيد، ولم أُحرم من استمرار الرعاية، فقابلت الأديب الكبير الأستاذ سليمان فياض، رحمه الله، وكان مدرسا للغة العربية بالمدرسة، الذي قرأ بعض كتاباتي، وأهداني نسخة من كتابه (عطشان يا صبايا)، كما وجهني إلى قراءة هيمنجواي، وأعارني كتاباً عنه. وأعطاني ذلك ثقة بالنفس.
ولا أجدني بحاجة إلى الاعتراف ببساطة البداية، فقد كانت قصصي الأولى محاولات للرصد المباشر لبعض ملامح الواقع المعيش، ولا تخلو من تأثير مزاج مرحلة المراهقة أو بداية الشباب، فكانت مملوءة بالأحاسيس الحسية.
عرفتني أبواب الردِّ على (الأصدقاء) في المجلات الأدبية. ورفضت مجلة القصة، القاهرية، كلَّ ما أرسلتُه لها من قصص. ثم أقدمتُ على مغامرةٍ بأن كتبتُ قصة اسمها (سرُّ حيَّةٍ مُبرقشَة)، في محاولة لتقليد من يدعون (تحطيم) الشكل التقليدي للقصة. وفوجئتُ بالمجلة تنشرها، بينما أنا – حتى الآن – لا أعرفُ ماذا كتبتُ!
وكان "يحيى حقي" يرأس تحرير مجلة (المجلة) في الستينيات، ويعطي الفرصة للعديد من الأسماء الجديدة في القصة والشعر، فقررتُ أن أحاول مع (المجلة) فأرسلتُ له عدداً من قصصي. وأريد الآن أن أقدم (نموذجاً) لما يجبُ أن يكون عليه موقفُ الأستاذ من التلميذ، وأكتفي بإثبات جانب من نص خطاب أرسله إليَّ الأستاذ الكبير يحيى حقي، يرحمه الله، ويحمل تاريخ 29/8/1966:
"عزيزي رجب، وعن سريعٍ صديقي، فيما أرجو، وعما قريب زميلي، أنا واثق. يا رجب، قرأتُ كلَّ قصصك حرفاً بحرف بلذة كبيرة. وأُسارعُ وأؤكد لك أن لديك موهبة صادقة، أدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظها لك ويحفظك لها، جعلتني بالمقارنة أستهزئ بكل ما كتبته في صباي. إنني لا أخشى عليك من الغرور لأني أكلمك من قلبي المفتوح لك كلام أب لإبنه، كما لا أخشى تألمك إذا قلت لك إنك تمرُّ الآن بأدق مرحلة في حياتك، لأن موهبتك أكبر من خبرتك .... صدقني إذا قلت لك إنني تمنيتُ أن أنشر لك إحدى هذه القصص في مجلة (المجلة)، لكنها مجلة وقور، لا تحب رائحة التلاميذ، ولا رائحة الجنس الصارخة. ولذلك، سأجتهد في أن أوصي على قصتك (الصرخة) لدي مجلة (صباح الخير) التي يتنفس فيها الشباب، وأخبرك بالنتيجة ...".
وبدأت رحلة الجُندية في أكتوبر 1970، فور تخرجي في كلية العلوم. ولم تكن قسوة الحياة العسكرية مُتمثَّلةً في مكابدة جفافها، فقط، بل – أيضاً، وبشكل أشد – في الجهل التام بموعد نهاية تلك الرحلة؛ فالزمن الرسمي لها كان سنة واحدة، غير أن ظروف النكسة فرضت على كل أبناء جيلي أن يبقوا في (الزي الكاكي) سنواتٍ طويلة. وكنا ننتظر الحرب، ولا نعرفُ هل ستُكتب لنا الشهادةُ فيها، أم سنخرج منها أحياء، لنعود إلى مجرى الحياة الطبيعية؟. وكيف ستكون صورةُ الحياة بعد الحرب؟. وكنتُ أرى الحربَ شيئاً آخر، غير مجرد الكرِّ والفرِّ والقصف والموت .. كنت أراها (حدثاً حضارياً) كفيلاً بأن يضعنا على عتبات دنيا جديدة، إن نحن أحسنَّا التفكير والتدبير. وقد عالجتُ هذه الفكرة، بتنويعات مختلفة، في قصصي التي كتبتُها خلال سنوات الجندية الأربع، التي انتهت في سبتمبر 1974.
وكنتُ أحسب أن الحياة العسكرية ستقضي على آمالي في أن أستمر كاتباً للقصة، غير أنني سرعان ما تكيَّفتُ مع هذه الحياة، بل واستمتعتُ ببعض جوانبها، فلا شيئ سيئاً على طول الخط. وخالطتُّ في الجيش نماذج بشرية متنوعة، كما اكتسبتُ خبرات مهارية ومعيشية عديدة أضافت إلى رصيدي ككاتب قصة، ويبدو ذلك بوضوح في جزئيات مجموعتي القصصية (الأشرعة الرمادية). كما أتيح لي أن أنشر بعض القصص في مجلة (النصر) التي تصدرها القوات المسلحة المصرية، وهي مجلة واسعة الانتشار، وكانت تضمن لي عشرات الآلاف من القراء المثقفين، المجندين في المؤسسة العسكرية.
وقد ضمت تلك المجموعة القصصية الأولى أعمالاً ترصدُ أحوال مجتمع النكسة من خلال المثقف المصري، الذي حمل على كاهليه أعباء معايشتها، وآمال وتخوفات الحلم بالتخلص منها؛ ثم بعض القصص التي تسجل خيبة الأمل والمرارة التي شعر بها (المحاربون الرومانتيكيون) بعد أن خلعوا (الكاكي).
وبالرغم من أننا نتحدث عن تجربة الكتابة القصصية، فقد يكون من المفيد الإشارة إلى نوع آخر من الإنتاج، وهو الكتابة العلمية للعامة. وقد شجعني على الخوض في هذا المجال اشتغالي بالعلم، وعلوم البحار بصفة خاصة، ثم نصيحة سمعتُها في ندوة للأستاذ يحيى حقي، مفادها أن على الأديب ألاَّ يقنع بالكتابة في صنف أدبي واحد، بل عليه أن يجرِّبَ أنواعاً أخرى غير النوع الأثير لديه، لأن ذلك من شأنه أن يثري خبرته، وقد يفيده إذا مرَّت به فترةُ توقف عن الإبداع، كما يحدث لكثير من الأدباء.
ويجبُ أن أعترف بأن اشتغالي بالكتابة العلمية للمجلات كان له دافع جوهري، وهو كونه مصدر دخل، تفرضه ضرورات الحياة. فالكتابة الأدبية – للأسف، وبالنسبة لمعظم الأدباء – لا يمكن الاعتماد عليها، ولا يزال كثير من منافذ النشر يعاملها، مادياً، معاملة متدنية، فإذا جازف أديب واعتمد عليها، جاع. لذلك، كان لكل الأدباء وظائفهم الثابتة – وهذه، أيضاً، نصيحة "محفوظية" – وكان اشتغالهم بالأدب يأتي في المرتبة الثانية، بعد الوظيفة الرسمية.
والقصة القصيرة فن خطير. إن صفة القِصَرِ فيها لا تزيد عن الحيز (الجغرافي) الذي تحتله القصة على العدد القليل من الأوراق، غير أنها – كما أحبها وأراها – يمكن أن تمتد في مستويات زمنية ونفسية سحرية، تطولُ إلى أبعد من حدودها الجغرافية، ويمكن أن تتسع لتزدحم فيها الأصواتُ وتتلاطم المشاعر والرؤى، مستفيدةً من غيرها من الفنون: الشعر والموسيقى والتشكيل اللوني، بشرط أن يتوفر عليها (معماري) واعٍ، يمسك بناصية لغته الخاصة، ليبدع هذا (المخلوق) العبقري، المسمى بالقصة القصيرة.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.