مدخل/إضاءة: بطاقة تعريفية
الشاعرة الرقيقة المفعمة بالحيوية والنبل والصفاء والنظم الشفيف ،المبدعة أريح محمد أحمد شاعرة سودانية تتدفق قصائدها بحورا من العذوبة والجمال والجرأة وحسن التقاط الصور البهية من الواقع بكل تجلياته.. و هي في ديوانها الذي يعد باكورة ثمارها والموسوم بـ (منازل الوجد) تنقلنا إلى عوالم تفيض بالجمال والدهشة والأصالة و الجدة ،وتمنحك الإحساس انك تقرأ شيئا مختلفا شكلا ومحتوى ، وقد صدر الديوان في يناير
(2022)من دار لأديب المصرية للطبع والنشر والتوزيع بالقاهرة ،يقع الديوان في (101) صفحة (27) قصيدة
مقدمة
الكتابة عن الشاعرة المبدعة (أريج محمد أحمد) سياحة مبهرة في جماليات شعر الحداثة وما بعد الحداثة ، واستحضار راشد للنفس الإنسانية بكل شوقها وعشقها وعنفها وعنفوانها ،وقلقها المستمر ،وبحثها الدائم عن الحرية والانعتاق، و التحرر من أوضارها وأوزارها ورعوناتها من خلال توظيف المفردة الشعرية السابرة الذكية المنسوجة بدقة مبدع ذواق ولوحة بريشة فنان تشكيلي ملهم يلتقط الصور البهية من الفضاءات الممتدة عبر أدوات مغايرة لسقوف المألوف، ومتجاوزة للروتين المتكرر من البيان ،وكل ذلك ينساب سحرا وشعرا في عوالم تضج بالشعرية و الرقة والوجدانية والدهشة والعذوبة ...ومشاهد إنسانية خلابة يطرب لها القارئ المتمعن ، ويجد الناقد متعة في ولوج عوالمها الغرائبية المدهشة ،ودخول تفاصيلها الفياضة بالإبهار الذي يملك الألباب ويحبب فيك الشعر، هذا الفن الإنساني الجميل الذي يلامس الأرواح فينقيها من أدران الزمن المادي الجحود والنكوص والتنكر وأوجاع هذا الكون المكتظ بالغربة والظلم والظلمات والصدمات وتصارع الخير بالشر والجمال بالقبح في ثنائية متضادة ربما تفضي لجراح دائمة واو افراح دائمة وفقا للمعايير واليات المعالجة
في خضم ذلك تطل علينا حزم من الضياء والجمال والتوقعات النبيلة من حديقة الفرح والانشراح والتصالح الروحي والانسجام المعرفي من خلال الديوان الموسوم بـ (منازل الوجد) للكاتبة الفتية المبدعة أريج محمد ، وهو ديوان يجسد أصالة تجربة الشاعرة النابعة من فضاءات معرفية باذخة ،وقراءات سابرة عميقة للمنتوج المحلي والإقليمي لكوني ، مما اتاح لها أن تجترح نمطا شعريا متفردا هو صفوة للكثير من التجارب المستمرة لعمارة نص هندسي جديد يتخطى الاطر القديمة أي تلك المألوفة في رصيدنا الشعري ، وكذلك البناءات الجديدة فيما يعرف بالحداثة الشعرية ، وهكذا تتفرد شاعرتنا إلى تبني شكل آخر فريد شكلا وجوهرا ، وبكل ثقة يمكن أن نعد منجزها الرفيع بعد التأمل والسبر و الدارسة المتعمقة ضمن شعر ما بعد الحداثة لغة وتأويلا وتصويرا وتفكيكا للواقع بدرجة ترتقي إلى أفاق رحيبة تنسجم مع الذات الانسانية ،وتتناغم مع حيوات البشر مترنمة بأفراح الانسان ومنغصاته وأحلامه وأحزانه ، ومما لا شك فيه أن شاعرتنا بإبداعها في بناء القصيدة وطقوسها في الكتابة والتصوير والرسم بالمفردات وخلق الفضاءات المفعمة بالرموز والأخيلة الخصيبة والايماءات الانيقة وفي تقديري تعد أريج واحدة من رائدات هذا الضرب .
عتبات النص :
النص الأدبي بوصفه وثيقة إبداعية مدونة، هو رسالة تفاعلية مشفرة مرسلة من الكاتب إلى المتلقي القارئ عبر منظومة من العلامات والسمات والعلاقات والنصوص المصاحبة التي تحيط بمتن النص ،وتكشف أبعاده ،لتشكل خارطة طريق الى فضاء النص، والنص الموازي أو ما يسمى بالعتبات هو في الواقع بتية نصية متضمنة في النص ومحولاته ([1]) .
ويشتمل على كل ما له علاقة بالنص من سياح وعتبات لغوية وبصرية تتمثل في مجموعة من السيمائيات اللسانية ،والايقونات البصرية المتموضعة خارج النص الواقعة بين دفتي الغلاف المشتملة على(اللون – الصوة – العنوان الرئيس – والعنوان الفرعي -اسم الكاتب -دار النشر – الاهداء المقدمة ) وتتصف هذا العتبات بأنها مراشد دلالية ، ومفاتيح نصية تساعد المتلقي على فك شفرات النص ومعرفة علاقاته البنائية مما يمكنه من التحكم بالخطوط الأساسية لقراءة النص وتأويله ([2]).
وقد أولى جيرار جينيت النص الموازي اهتماما خاصا في كتابه "عتبات "بغية توسيعه ليشمل كل النصوص المصاحبة ،على أساس أن لكل نص أدبي نصا موازيا ([3])
ومن هذا المنطلق في تقديري المتواضع أن العتبات بمفهومها النقدي الحديث تعتبر منصات ومحطات جوهرية لا ينبغي تجاوزها لأنها المدخل الطبيعي إليه والمرشد والدال للمتلقي الى طريق التواصل والتناغم معه ،والانفتاح على مستوياته وأساليبه وتراكيبه و أبعاده ،ما يعني أن النص الموازي يحمل في طياته وظيفة تأليفية لكشف اسرار الكتابة.
سأحاول هنا أن استجلي بعض المعاني من خلال لوحة الغلاف ،وهي عتبة يتجاوزها بعض النقاد ولكن في تقديري أن تلكم العتبات كالعنوان ولوحة الغلاف والتصدير والمقدمة والاهداء عتبات جوهرية ينبغي الوقوف عندها وتأملها وقراءاتها بعمق للخروج بفكرة عامة تخدم النص ،يعد الغلاف بكل معطياته وعلاماته البصرية واللسانية مدخلا مضيئا الى فضاءات العمل الإبداعي ، نجد أن الخلفية(لوحة الغلاف) التي تتكئ عليها ، تتوزع بين اللون الرمادي والأبيض ،والعنوان أيضا يتوسد اللونين الأصفر والاحمر ،ولا تخفى علينا الدلالة السيكولوجية للألوان عامة ،وهنا نجد اللون الأحمر بتوهجه يعبر عن الاثارة والتحفيز والحيوية ،ويرمز لحرارة الحب والقوة والرغبة والتقبل ،أما اللون الأصفر فهو دائما ينشر البهجة والسعادة والود ويتضمن مشاعر الرضا مما يضفي على المكان إحساسا بالإلفة والراحة ،ويوقظ التوق والحنين في النفس والروح ، وتتصدر اللوحة صورة أنثى بهية الملامح تتناسل من جوفها الكثير الكائنات البشرية والحيوانية كأنما تشير أن الانثى هي رمز العطاء والتضحية ورمز الاصطبار والتحمل والإرادة ..فهي رغم المسؤوليات تقف شامخة مثل الشمس التي تزين اللوحة باللون الأصفر ،وجماع تلك الألوان والشخوص والشمس والخلفيات الوضيئة تشي بعدة أمور ولعل أهمها أن الانثى قادرة على صنع الجمال والحياة .
2/عتبة العنوان :
قبل أن نلج العالم الشعري للشاعرة (أريج ) في باكورة انتاجها الشعري ديوانه ، يسعدني الوقوف على عتبة العنوان المثير والرشيق ، عنوان يتميز بالإيجاز ليختزل في أحشائه العديد من المعاني والكثافة وتعدد الفضاءات والرموز والاشارات ، وفي ذات الوقت يبدو ان العنوان مستعار من نظرية التلقي حيث يفتح المداخل لكل التأويلات والتفسيرات والاحتمالات باعتبار أن العمل الأدبي نص واحد والقراءات متعددة ، مما يتيح السانحة لكي ينشط المتلقي ذهنه لملاحقة الشوارد من المعاني والايحاءات والاشارات وما استخفى بين السطور مما يشكل متعة نوعية تحرض القارئ للامساك بنبض اللحظة الشعرية فتتوهج في دواخله شعلة البحث والتقصي و التماهي والاندماج مع روح النص و والتأمل عميقا في ظاهر النص و باطنه ويبدو جليا أن الشاعرة لا تسكب علينا الدلالات والمضامين والانشغالات التي تضج في روحها وكلماتها و مفرداتها السحرية ، بل تعطينا فرصة التنقيب عن ذلك الجمال المنثور في ثنايا النص بجهد وانغماس وانهماك للفوز بتلك المعاني . كما أن الشاعرة تبتعد عن توصيف ديوانها كجنس أدبي ، بل تترك ذلك لذكاء القارئ ، و في الواقع أن تصنيف قصائد النثر يعتبر عملية معقدة أحيانا ، و يرجع ذلك للمصادر والمظان التي تستقي منها رؤاها ومعارفها ،فالشعر الحداثي هو نتاج توليفة من القراءات والحقول المعرفية مما يمكنه في دمج معظم الخطابات الأدبية في اطار واحد يطلق عليه قصيدة النثر .
ويعتبر من أهم عناصر النص الموازي وأقواها أثرا وتأثيرا في المتلقي، باعتباره منفذ الولوج الى حدائق النص وجماليات فضاءاته ، فهو يتميز بالحساسية العالية ،وما ينطوي عليه من تلميحات واشارات واغراءات تشعل نار الاثارة والفضول في ذهنية القارئ
فالعنوان يتكون من مركب إضافي (منازل الوجد) ، فلماذا اختارت الكاتبة الوجد ولم تختر الوجدان . وللكشف عن ذلك ينبغي تحليل وتفكيك المفردة ومحاولة تفسيرها ،يقول ابن منظور في لسان العرب عن "الوجد" يقال في الحب لا غير ،وأضاف: وجد الرجل في الحب وجدا أي (حزن) إذن الحزن والحب الشديد ،والغضب، والشكوى ...من روح جذر مادة(وجد)، والوجد ما يصادف القلب ،ويرد عليه بلا تكلف ،وقيل هو بروق تلمع ثم تخمد سريعا .
أما الوجدان كل إحساس أولي باللذة والألم ،وكل ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم ،والاجابة عن سر اختيار مفردة الوجد مرجعيته رؤية الشاعر ومنظوره الفلسفي ، وفي اصطلاح الصوفية مصادفة الباطن من الله تعالى واردا يورث حزنا أو سروا ،أو يغيره من هيئته ،ويغيبه عن أوصافه بشهود الحق ، وَالْوَجْدُ هُوَ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَارِدَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. وَ الْمَوَاجِيدُ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الْوَجْدِ. فَإِنَّ الْوَجْدَ مُصَادَفَةٌ. وَ الْمَوَاجِيدَ ثَمَرَاتُ الْأَوْرَادِ. وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَوْرَادُ قَوِيَتِ الْمَوَاجِيدُ. الْوَجْدُ مَعْنَاهُ: لَهَبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضِ الْقَلَقِ.وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْوَجْدُ الدَّرَجَةُ الْأُولَى وَجْدٌ عَارِضٌ يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهَدُ السَّمْعِ، الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَجْدٌ تَسْتَفِيقُ لَهُ الرُّوحُ بِلَمْعِ نُورٍ أَزَلِيٍّ ،والدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ وَجْدٌ يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ، وإن كنت أفضل كلمة (الوجدان) لان فيه من الحركة والديناميكية الشعورية ، وأما (المنازل) هي المساكن والمراتب والدرجات والمقامات ،وهي الموئل الذي تلوذ فيه الكائنات ،وبالتالي فالمنازل تتطلب شروطا ذاتية وموضوعية لتصل حالة الانسجام بين الظاهر و الباطن ،فكلما ارتقى الفرد درجة في المنازل يستفزه ويحرضه الشوق الى الوصول الى منزلة اعلى .
عتبة الاهداء:
وهنا تتجلى قمة الوشائج الإنسانية والعلاقة الحميمية التي تحيط بالكتابة لأناس لهم مكانة خاصة في القلب ،ومن ناحية يحمل دلالة صدقية الانتماء للأسرة ودفئها مما يشي بالتعافي الداخلي ، فالتحية للأبوين برا ووفاء، ثم الأسرة الصغيرة المحضن الدافئ الذي يخلق الطقس الملائم للإنتاج والابداع ، ثم مهدي نفوس تقديرا لدوره الهائل في نشر الثقافة والادب في منصة الأنطولوجيا السرد ،وأخيرا كان الاهداء لروح ...؟! ربما كان عزيزا مضى أو حلما تلاشى، أو مشروعا في طور المخاض ،عموما يعبر عن حالة إنسانية نبيلة تكشف عن رقة وشفافية روح المؤلفة ،وشغفها اللامحدود بالبيئة المحيطة بها
عتبة التصدير /المقدمة:
وحده القلم يعرف كل شيء..؟!
يعرف كل ما يكتبه ..
وما لم يكتبه
رئة ثالثة..!!
تنبض..بين دفتين من
فرح ..ووجع..!!
تذكرت للتو مقولة تنسب للكاتب والفنان والشاعر ،وليم شكسبير "مداد قلم الكاتب مقدس مثل دم الشهيد) ، والكتابة في تقديري حياة ومسؤولية تتدفق على لسان الكاتب منسابة من كنوز اللغة ، لذلك كانت الكاتبة صادقة ومتصالحة مع ذاتها حين صدرت ديوانها بكلمة وفاء وامتنان للقلم الذي هو رئة ثالثة بين متناقضين (فرح ووجع )، ولذلك استودعت اسرارها واشواقها ومناجاتها للقلم الذي لا يخون ولا يراوق ولا يداهن بل كالقنديل ينشر النور والحرية والحب والحياة ، ما بين القلم والإنسان علاقة حميمة، تبدأ باكراً ، فهو الأداة الموثوقة في ترجمة المشاعر والأفكار، و شبّه محمد بن عبدالملك بن صالح الهاشمي القلم
بالإنسان لأنه ينطق، وقال إن نطقه جواهر:
وأهيف طاوي الكشح أسمر ناطق...له جــولانٌ فــي بطــون المهارق...كـأنَّ اللآلئ والـزبـرجـدَ نـطقُـه
وهنا تطلق الكاتبة العنان لقلمها الرئة الثالثة لينطلق بعيد ا عن التابوهات و التدثر خلف اسوار مظلمة ، بحثا عن الحرية والانعتاق من ريقة الطين والسمو عاليا في سموات الصفاء والجمال والخير.
في رحاب المتن (النص):
ثم ندلف الى حديقة الورد والجمال (منازل الوجد) بعد التطواف اللازم حول النص الموازي اوما يسمى العتبات لنقتحم الريتاج ونرتاح في حضن الربيع والبهاء ، ولنستنشق عبير و أريج الكلمات والرؤى المبثوثة في ثنايا المتن، حيث نجد أن نصوصه صدى لعنوانه ، كما لو أن شاعرتنا لخصت في عنوانها كل مشاعرها و مكابداتها وهواجسها وأشواقها ، ثم ذهبت تنسجها قصيدةً قصيدة ً ، مما يؤكد الوحدة الموضوعية للديوان، وانت تقرأ تجد نفسك كمجذوب مستغرق في يم الاصطلام والدهشة ذاهل ثمل لفرط العذوبة ...أول ما تطالعنا به الشاعرة في الديوان قصيدة ” كسريان الليل في أوردة المدينة كمدخل للديوان الذي يضج بالحركة والديناميكية والعواطف الجياشة والصدق الفني الاثيري الذي يخترق كافة المنصات وصولا الى الشغاف ،حيث تقول في المعزوفة الأولى :
كسريان الليل في أوردة المدينة
ونخر المارة على ظهر الرصيف
وكما تصحو المدينة
فزعة من قبلة الشمس الأولى
هكذا أنت..
تجتاحني
بصخب العشق
تمرد الرغبة
يتخللان مواطن أماني ...
في القلب أنت نبضة”
حيث تدهشنا بكثافة الصور الشعرية والرموز المبتكرة ، وتوظيف مفاتيح الابداع البلاغي من الاستعارات و التشبيهات والمجازات والكنايات ، فالمدينة مكان له تصور ما في الذهن ،ولكن الشاعرة بذكاء نفخت الروح في المدينة وشبهتها بالإنسان بقرينة الشرايين ،والليل بصمته يسري فيها ، ثم تتشكل الحيوية من خلال نخر المارة ،والنخر لغة هو يأتي بمعنى الثقب والاتلاف، فوقع اقدام المارة على ظهر الرصيف يدل على الحياة ، ثم تستيقظ المدينة فزعة من قبلة الشمس ، هناك ثمة حلم تتطلع الى تحققه في الواقع ،ولذلك جاء الوصف مليئا بالقوة يجتاح الجوانح والروح عشقا ورغبة ،وليستقر في القلب كنبضة تنبئ بالحياة ، فتنداح المشاعر بين الاجتياح والفزع والحزن، وما بين ذلك يبرز من يقطع ذلك ويحول دون التواصل الوجداني بين لغتين ،ولما كان سلاح الانثى الدموع فهي تعلن الصمود والتحدي مواجهة الصدمات ، فتسدل الستار على مشهديات مليئة بالزخم والمجابهة والحيوية وتتدفق الكلمات
الصمت في لغتي
من ملح العيون
كم بتَّ بعيدا
عن مرمى عطري
وعن همسة شفاهي
بمقدار محيط ونسيان
أحتاج جسراً من تنهداتي
لأهديك نص
يا لروعة هذا الرسم الجميل ،وهذه المناجاة الراقية لردم الهوة بين العطر وهمسة الشفاه لتختلق جسرا من الخيال لكتابة نص يليق بشرف وسمو المثال الذي تشرئب اليه الاعناق و تتوق إليه القلوب لتعلن الحب
ولعلنا في بعثرة روح ...!!نتكئ على مساحة أخرى من مساحات الابداع والقدرة على استنساخ معاني متفردة ، فخيال الشاعر دوما فيتحد معه ويجسده في صورة جمالية وبيانية ونفسية ،وتلك ميكانيزمات يوظفها الشاعر لإعادة صياغة المرئيات في تجربة ثرية بالانفعال و التفاعل ، وعندما نتأمل تجربة أريج نلحظ هذا التدفق الرائع بين المعاني والدلالات الباذخة ،إذ نجدها تأسس لمشروع ما حيث يتوحد الشاعر مع انفعاله الشعري وانفاسه وخياله الجامح مثل الخيول الاصيلة حيث تتلقى المادة بالروح تمازحا وإندغاما ،أي أن بأسلوبه الشعري يقنعنا بضرورة أن يتحرر الانفعال بالأشياء من نفسه وحين يستقبله الخيال ،لحظة ذاك يمنحه شكلا روحيا ومتنفسا يتنسم خلاله عبير الذات المركبة فيجليها من الكدر والطين فتصفو وتبدو نضيرة بهية ،فالخيال الشعري في التجربة الشعرية للمبدعة( أريح)، نوع أصيل ومختلف وفريد يتلاقح مع الفكر وفي ذات الوقت لا ينفصل عن الفؤاد ومشاعره ،وهو نوع من الذكاء الباطني الذي يحيل الشعور السلبي إلى نوع جديد ومستمر من التفكير الإيجابي ،وهذا ما نلحظه في الابيات الاتية:
ما بين ذلك المسفوح على قارعةِ القلب
وبسخاءٍ غبي..
وعيناكِ إسفنجة عالية الامتصاص
أجد نفسي آلة ممرغةً في التكرار
انتج لكِ في الليلةِ الواحدةِ
خمسا وستين نجمة..
وحينما تشرِ ق النّهارات من بينِ عينيكِ
تنفرط نجماتي انكفئ
الملمها و أصابعي بلا بصمات
فقط حروف اسمكِ الخمسة
تبعثر نجماتي وتجمعها في آن
يا لدقة التصوير !! والقدرة الفائقة في رسم لوحة تكاد تكون محسوسة ، مجسدة مشاعر الحب في عبارات غاية في الفن التشكيلي من خلال التحليل و التركيب والبعثرة والجمع ، كأنما نحن أمام هالة من الضياء تعبر عن الاشراق الذاتي ورؤية الكون من زاوية جديدة
وفي موضع آخر نجد الشاعرة تصدح بكلمات في قصيدة حرفي منفاي الأعظم ..!!حيث تقول في مواجهة صريحة واعتراف بشجونها الداخلية وبأحاسيس الغربة ،والذي تحوله بقدراتها الفنية الى حالة من التصالح النفسي ، فتلجأ للحرف والقلم كمنفذ للخلاص من الضيق والكدر ، وكأني بها بصنيعها هذا إنما تنقل التجربة الوجودية من شيء فيه معاناة إلى شكل آخر يبصر ويدرك ،وهي لحظة متجاوزة تصل بها النفس إلى قلب الأشياء والرؤيا التي توضح وحدة المشاعر وروح الحقائق دون قناع
غريبةٌ أنا..!!
حرفي منفاي الأعظم
أسكنه نص
عندما تضيق
الأمكنة..
وتضج الروح ...
أسكبه على الورق
كما أشتهي
وحينما أمنحه عنوان
يبدأ توهاني
ويغادرني
ومعه اندهاش
ومن ثم تحلق بنا الشاعرة في فضاءات قصيدها الماتع المفعم بالأناقة اللغوية غير المطروقة كثيرا و خارجة عن المألوف لتحقق مغزى الابداع ، فنظمها نسيج وحدها يميزها بجلاء عن النظائر الأخرى في ذات المجال ، حيث نجد في قصيدة قبل اسدال الستار ، نلاحظ الثنائيات الضدية حيث تتجلى جماليات الثنائيات الضدية في الخطاب الأدبي، والتي عليها تقوم العملية التواصلية على وجود منظومة لغوية يحددها أطراف من بينها وجود مرسل ورسالة ومرسل اليه (المتلقي) فمن بين أهداف المرسل هو إحداث أثر على المتلقي ،وكلما زادت نسبة الضدية في الرسالة زادت حدة التأثير و التفاعل حيث تثير اجتماع الثنائيات المتضادة الدهشة و المفارقة المتولدة عن اجتماع الضدين في موقف واحد أو جملة واحدة ـأو بيت شعري واحد إذ يوفر الضد امكان الموازنة بينه وبين ضده ،وهذا ما يولد تصورا معرفيا عن الأشياء ليساعد المتلقي على استيلاء ثنائية من ثنائية، فثنائية (الصراخ/ والصمت)،( الشوق والشقاء) وغيرها مبثوثة في ثنايا الديوان ، فقبل اسدال الستار لا يعني النهاية بل هو ميلاد لحياة جديدة تنبض بالأمل ،و التشبث بالإرادة لبلوغ الاحلام والتطلعات ،وفي مواضع شتى من المجموعة الشعرية (منازل الوجد ) نجد الشاعرة ترفرف بأجنحة الخيال فوق محدودية اللغة وقدرتها على التوصيف ، تستمد القها مستعينة بالمرئيات المتحركة والإفادة من إمكانيات الفن التشكيلي
قبل إسدال الستار الأخير
وعلى خشبةِ مسرح القلب المتهالكة
ترقرقت مرارته من دون قصد
وعن سوءِ نيةٍ مبيتةٍ
في حنجرةِ الغصة...
انحناءة لم يستطعْ بعدها الاستقامة
فبدأ النص في التساقط حرفا حرف
كلمةً كلمه ...
وفي تصفحنا المتمعن نصل الى لوحة زاهية تحت عنوان صوت امرأة !!!مصحوبا بعلامة التعجب لغرض ما ربما اما للتمليح او للتنبيه او الدلالة على اثبات الوجود ، فنجد الشاعرة تحاول ابراز صورة المرأة القوية القادرة على الحدث
صوت امرأة ..!!
أنا صوتٌ يتفجر مِن عمق ذاتك
يجري في صحرائِك الموحشة
محملاً بأكاليل من زهرِ البيلسان
ينشر عطرَ المحبةِ تنتشي رو حك
مِن عذوبتِه ...ويغرد حلمك على. .رأسِ الصحو
يقظ فيك...بهجةَ الحبِ و جنونَ العشق لك أنا..!!
ما يثير الانتباه هو كثرة استعمال الشاعرة مركبات إضافية تحمل قدرا كبيرا من الابتكار والجِدة والخيال مثل: صوت امرأة ، بهجة الحب ، جنون العشق ، رأس الصحو ، اسدال الستار، مسرح القلب، سوء نية ،حنجرة الغصة …و هنا نلمس مهارة الشاعرة في بناء علاقة تماثلية بين الدال والمدلول وذلك بالتغلغل في أسرار اللغة والتمتع بالقدرة على معرفة الحمولات اللفظية والمعنوية التي تتمتع بها الأسماء وتمنح إمكانية للتأليف بين مفرداتها التي تبدو ظاهريا غير متجانسة . لكنها قدرة الشاعر البارع التي تصنع كيمياء لغوية بين الألفاظ المتباعدة وتجعلها متقاربة.
وقد تفوقت الشاعرة في توظيف المركبات الإضافية للدلالة على منان متنوعة ،وربما لا يكون بعض تلك المعاني و المحمولات من مكونات أحد اللفظين المتضايفين ،ومرجعية ذلك تستند على قدرة الكاتبة الإبداعية للربط بين الأشياء ،ويتبين ذكاؤها في اماطة اللثام لكشف تلك الوشائج التي ربما تكون مستعصية او خفية على البعض ،وبذلك يتكون الشاعرة قد انتجت دلالات جديدة من هذا المركب الإضافي وهو ما يطلق عليه في النقد الحديث مرحلة التوليد الدلالي والابداعي ، فهنيئا لشاعرتنا المجيدة التي أفلحت في تمثل ذلك من خلال استيلاد تراكيب إضافية متميزة.
كما أنها تمارس الرسم بالكلمات ، فتعطي للأشياء صورا متعددة وتبث فيها الحركة والروح والأنسنة ، وهكذا نرى شاعرتنا ترسم لوحة فنية تضج فيها ملامح الجمال ، فتستنطق الكائنات ويغوص في أعماقها ويتغلغل في تفاصيلها مستخدما قلم الشاعر وريشة الرسام وعدسة المصور بكل اقتدار وتمكن .
كما يحمد للشاعرة استخدامها لصيغ متنوعة موظفة تقنيات الفن الروائي كالمونولوج الداخلي والخطاب السردي الشفيف، والاستشراف واللغة السردية العارة والمكتنزة بشتى الوان البيان ،وتعدية الأصوات المتراوحة بين تنهدات واشواق الانثى وخطاب الضمائر ،وعلى ذات النمط تنتهج شاعرتنا في قصائده الأخرى مطبقة أنبل طقوس قصيدة النثر وجماليات شعر ما بعد الحداثة ، وإجمالا نجد شعرها يتسم بالذاتية والتدفق الوجداني لمجابهة أزمات الوجود وقلق الروح وتأرجحها الروح بين غابات الضياع والغربة .
في قصائد (منازل الوجد) لا تقدم الشاعرة إجابات جاهزة ،وإنما تحاول تفكيك القناعات الراسخة لخلق حالة وعي مستنيرة ، واثارة الاستفهامات الجدلية الوجودية في تسلسل متناغم ، كما يتجلى النفس الصوفي الشفيف من حيث الإحساس بروعة المشاهد والحالات الإنسانية والمشاعر الصافية ،وربما نلمس ذلك للوهلة الأولى من خلال عتبة عتبات الوجد ،وهذا النفس نجده متمددا في ثنايا الدفق الشعري الذي صاغتها الشاعرة ببراعة استثنائية ومحبة كاملة
مناجمٌ من بوحِ حرفي
ما ابتهلت كَ في صلاتي.
وقمة الابداع تتجلى بصورة وجدانية وروح إنسانية غاية في الوفاء والجمال لمبدعين غادرا عالمنا الى الضفة الأخرى دون وداع في نهاية مساوية ، ففي رثاء الشاعر لاتينوس الذي مضى في قوارب الموت بحثا عن ملاذا افضل وتقول الشاعرة :
يغمرني الشو ق لنقطةِ ضوء
آخذها مِن عينِ الشّمس
أُعلق ها في عنقِ يمامة
تلقيها في عرض البحر
في قلبِ ظلام الموت
تنير العتمة حولك يا لاتينوس
كلمات في غاية الوفاء ترسم فداحة الفجيعة ، وقد تفوقت الشاعرة في ترجمة مشاعرها معبرة عن حزنها وحزن كل الاحرار لمثل هكذا موت، ومن ثم تنقلنا الشاعرة الى جزئية في ذات السياق ترثي فيها شاعر وفنان آخر غيبه الموت بردا ومسغبة وزمهريرا في شوارع القاهرة قائلة في اسى ووجع :
شوقٌ يغمرني لحزمةِ الوان
أجلبها من قوسِ ق زح
أربطها بجناحِ حمامة
ت هديها بهنسَ في عمقِ اللألون
أسأله أن يرسِم حجرة و حِذاء
و دثاراً أزرق مِن لون سماء
أهدته ندف الثلج في ليلِ الغرباء
أن يرسِم قاهرةً مِن غير رصيف
يجمد أطراف الدهشةِ في عينيهِ
يسلب كل مواطن روحه يتر كه مصلوبا في وجهِ الريح
يا الله ...ما أروع الإحساس النبيل بمواجع الآخر!! تلك مشاعر الأنبياء وأولي النهى ، نعم ما أرخص الانسان في زمن الاستهلاك المادي والقسوة والتصحر الوجداني
وفي الختام يمكن القول أن الشاعرة في ديوانها الزاخر بالمفردات الانيقة ،في تقديري شاعرة متمردة و رافضة تنغمس في القصيد بولع استثنائي ، وتدلق شعورها حروفا وقصائد تمطر جمالا وخيالا ابداعيا فريدا ، تتجلى النزعة الإنسانية في شعرها ،وهي واضحة كالشمس لا تداهن ولا ترتضى بالخنوع بل تحمل مشروعها بكل ثبات مثل ديوجين لتنشر الاستصباح والتنوير في عتمات الحياة وتلك رسالة عظيمة وامانة كبيرة لإضفاء الحب والجمال والخير والسماح في ارجاء الكون المضطرب والمرتبك ، كما اننا في الختام لابد ان نشيد بمخزونها المعجمي الرفيع وقدرتها غير العادية في استيلاد المعاني والصور والاخيلة المدهشة مما يؤكد تنوع اساليبها وطريقة نظمها وسردها ، منغمسة في كون تصنعه بالإبداع والخيال
الديوان يحتوي على العديد من القصائد الجميلة ،ولعلنا اخترنا بعضا منها بغرض عدما الاطالة ، هذه كلمة موجزة ومختصرة عن الديوان الباذخ للشاعرة المتألقة "أريج محمد" ، وهو ديوان فخيم كتب بصدق وشفافية وحب، فالديوان حافل بالحقول الدلالية والمعرفية والوجدانية والجمالية ، لذا نشيد بهذه التحفة الأدبية الرائعة ، ومن هنا نوجه دعوة للنقاد لدراسة هذا السفر المضمخ بالصدق والعذوبة والصفاء و النقاء ،وفي تقديري أن الشاعرة أريج مدرسة متفردة نسيج وحدها ، بما تمتلكه من الأدوات والتصوير والتشكيل والموسيقى والخيال والرموز وغيرها من التقنيات الشعرية الحديثة .
مع كل الحب والتقدير
د/صلاح الدين هداد
[HR][/HR]
[1] - حيرار جينيت: "عتبات" ترجمة محمد المعتصم ،دار تويقال ،المغرب،2001م، ص19
[2] - محمد بنيس: "الشعر العربي الحديث – بنياتع ودلالاته " دار توبقال ،ط1، المغرب، 2001م، ص188
[3] - جيرار جينيت :" المصدر السابق "ص189
الشاعرة الرقيقة المفعمة بالحيوية والنبل والصفاء والنظم الشفيف ،المبدعة أريح محمد أحمد شاعرة سودانية تتدفق قصائدها بحورا من العذوبة والجمال والجرأة وحسن التقاط الصور البهية من الواقع بكل تجلياته.. و هي في ديوانها الذي يعد باكورة ثمارها والموسوم بـ (منازل الوجد) تنقلنا إلى عوالم تفيض بالجمال والدهشة والأصالة و الجدة ،وتمنحك الإحساس انك تقرأ شيئا مختلفا شكلا ومحتوى ، وقد صدر الديوان في يناير
(2022)من دار لأديب المصرية للطبع والنشر والتوزيع بالقاهرة ،يقع الديوان في (101) صفحة (27) قصيدة
مقدمة
الكتابة عن الشاعرة المبدعة (أريج محمد أحمد) سياحة مبهرة في جماليات شعر الحداثة وما بعد الحداثة ، واستحضار راشد للنفس الإنسانية بكل شوقها وعشقها وعنفها وعنفوانها ،وقلقها المستمر ،وبحثها الدائم عن الحرية والانعتاق، و التحرر من أوضارها وأوزارها ورعوناتها من خلال توظيف المفردة الشعرية السابرة الذكية المنسوجة بدقة مبدع ذواق ولوحة بريشة فنان تشكيلي ملهم يلتقط الصور البهية من الفضاءات الممتدة عبر أدوات مغايرة لسقوف المألوف، ومتجاوزة للروتين المتكرر من البيان ،وكل ذلك ينساب سحرا وشعرا في عوالم تضج بالشعرية و الرقة والوجدانية والدهشة والعذوبة ...ومشاهد إنسانية خلابة يطرب لها القارئ المتمعن ، ويجد الناقد متعة في ولوج عوالمها الغرائبية المدهشة ،ودخول تفاصيلها الفياضة بالإبهار الذي يملك الألباب ويحبب فيك الشعر، هذا الفن الإنساني الجميل الذي يلامس الأرواح فينقيها من أدران الزمن المادي الجحود والنكوص والتنكر وأوجاع هذا الكون المكتظ بالغربة والظلم والظلمات والصدمات وتصارع الخير بالشر والجمال بالقبح في ثنائية متضادة ربما تفضي لجراح دائمة واو افراح دائمة وفقا للمعايير واليات المعالجة
في خضم ذلك تطل علينا حزم من الضياء والجمال والتوقعات النبيلة من حديقة الفرح والانشراح والتصالح الروحي والانسجام المعرفي من خلال الديوان الموسوم بـ (منازل الوجد) للكاتبة الفتية المبدعة أريج محمد ، وهو ديوان يجسد أصالة تجربة الشاعرة النابعة من فضاءات معرفية باذخة ،وقراءات سابرة عميقة للمنتوج المحلي والإقليمي لكوني ، مما اتاح لها أن تجترح نمطا شعريا متفردا هو صفوة للكثير من التجارب المستمرة لعمارة نص هندسي جديد يتخطى الاطر القديمة أي تلك المألوفة في رصيدنا الشعري ، وكذلك البناءات الجديدة فيما يعرف بالحداثة الشعرية ، وهكذا تتفرد شاعرتنا إلى تبني شكل آخر فريد شكلا وجوهرا ، وبكل ثقة يمكن أن نعد منجزها الرفيع بعد التأمل والسبر و الدارسة المتعمقة ضمن شعر ما بعد الحداثة لغة وتأويلا وتصويرا وتفكيكا للواقع بدرجة ترتقي إلى أفاق رحيبة تنسجم مع الذات الانسانية ،وتتناغم مع حيوات البشر مترنمة بأفراح الانسان ومنغصاته وأحلامه وأحزانه ، ومما لا شك فيه أن شاعرتنا بإبداعها في بناء القصيدة وطقوسها في الكتابة والتصوير والرسم بالمفردات وخلق الفضاءات المفعمة بالرموز والأخيلة الخصيبة والايماءات الانيقة وفي تقديري تعد أريج واحدة من رائدات هذا الضرب .
عتبات النص :
النص الأدبي بوصفه وثيقة إبداعية مدونة، هو رسالة تفاعلية مشفرة مرسلة من الكاتب إلى المتلقي القارئ عبر منظومة من العلامات والسمات والعلاقات والنصوص المصاحبة التي تحيط بمتن النص ،وتكشف أبعاده ،لتشكل خارطة طريق الى فضاء النص، والنص الموازي أو ما يسمى بالعتبات هو في الواقع بتية نصية متضمنة في النص ومحولاته ([1]) .
ويشتمل على كل ما له علاقة بالنص من سياح وعتبات لغوية وبصرية تتمثل في مجموعة من السيمائيات اللسانية ،والايقونات البصرية المتموضعة خارج النص الواقعة بين دفتي الغلاف المشتملة على(اللون – الصوة – العنوان الرئيس – والعنوان الفرعي -اسم الكاتب -دار النشر – الاهداء المقدمة ) وتتصف هذا العتبات بأنها مراشد دلالية ، ومفاتيح نصية تساعد المتلقي على فك شفرات النص ومعرفة علاقاته البنائية مما يمكنه من التحكم بالخطوط الأساسية لقراءة النص وتأويله ([2]).
وقد أولى جيرار جينيت النص الموازي اهتماما خاصا في كتابه "عتبات "بغية توسيعه ليشمل كل النصوص المصاحبة ،على أساس أن لكل نص أدبي نصا موازيا ([3])
ومن هذا المنطلق في تقديري المتواضع أن العتبات بمفهومها النقدي الحديث تعتبر منصات ومحطات جوهرية لا ينبغي تجاوزها لأنها المدخل الطبيعي إليه والمرشد والدال للمتلقي الى طريق التواصل والتناغم معه ،والانفتاح على مستوياته وأساليبه وتراكيبه و أبعاده ،ما يعني أن النص الموازي يحمل في طياته وظيفة تأليفية لكشف اسرار الكتابة.
العتبات
1/عتبة الغلاف :سأحاول هنا أن استجلي بعض المعاني من خلال لوحة الغلاف ،وهي عتبة يتجاوزها بعض النقاد ولكن في تقديري أن تلكم العتبات كالعنوان ولوحة الغلاف والتصدير والمقدمة والاهداء عتبات جوهرية ينبغي الوقوف عندها وتأملها وقراءاتها بعمق للخروج بفكرة عامة تخدم النص ،يعد الغلاف بكل معطياته وعلاماته البصرية واللسانية مدخلا مضيئا الى فضاءات العمل الإبداعي ، نجد أن الخلفية(لوحة الغلاف) التي تتكئ عليها ، تتوزع بين اللون الرمادي والأبيض ،والعنوان أيضا يتوسد اللونين الأصفر والاحمر ،ولا تخفى علينا الدلالة السيكولوجية للألوان عامة ،وهنا نجد اللون الأحمر بتوهجه يعبر عن الاثارة والتحفيز والحيوية ،ويرمز لحرارة الحب والقوة والرغبة والتقبل ،أما اللون الأصفر فهو دائما ينشر البهجة والسعادة والود ويتضمن مشاعر الرضا مما يضفي على المكان إحساسا بالإلفة والراحة ،ويوقظ التوق والحنين في النفس والروح ، وتتصدر اللوحة صورة أنثى بهية الملامح تتناسل من جوفها الكثير الكائنات البشرية والحيوانية كأنما تشير أن الانثى هي رمز العطاء والتضحية ورمز الاصطبار والتحمل والإرادة ..فهي رغم المسؤوليات تقف شامخة مثل الشمس التي تزين اللوحة باللون الأصفر ،وجماع تلك الألوان والشخوص والشمس والخلفيات الوضيئة تشي بعدة أمور ولعل أهمها أن الانثى قادرة على صنع الجمال والحياة .
2/عتبة العنوان :
قبل أن نلج العالم الشعري للشاعرة (أريج ) في باكورة انتاجها الشعري ديوانه ، يسعدني الوقوف على عتبة العنوان المثير والرشيق ، عنوان يتميز بالإيجاز ليختزل في أحشائه العديد من المعاني والكثافة وتعدد الفضاءات والرموز والاشارات ، وفي ذات الوقت يبدو ان العنوان مستعار من نظرية التلقي حيث يفتح المداخل لكل التأويلات والتفسيرات والاحتمالات باعتبار أن العمل الأدبي نص واحد والقراءات متعددة ، مما يتيح السانحة لكي ينشط المتلقي ذهنه لملاحقة الشوارد من المعاني والايحاءات والاشارات وما استخفى بين السطور مما يشكل متعة نوعية تحرض القارئ للامساك بنبض اللحظة الشعرية فتتوهج في دواخله شعلة البحث والتقصي و التماهي والاندماج مع روح النص و والتأمل عميقا في ظاهر النص و باطنه ويبدو جليا أن الشاعرة لا تسكب علينا الدلالات والمضامين والانشغالات التي تضج في روحها وكلماتها و مفرداتها السحرية ، بل تعطينا فرصة التنقيب عن ذلك الجمال المنثور في ثنايا النص بجهد وانغماس وانهماك للفوز بتلك المعاني . كما أن الشاعرة تبتعد عن توصيف ديوانها كجنس أدبي ، بل تترك ذلك لذكاء القارئ ، و في الواقع أن تصنيف قصائد النثر يعتبر عملية معقدة أحيانا ، و يرجع ذلك للمصادر والمظان التي تستقي منها رؤاها ومعارفها ،فالشعر الحداثي هو نتاج توليفة من القراءات والحقول المعرفية مما يمكنه في دمج معظم الخطابات الأدبية في اطار واحد يطلق عليه قصيدة النثر .
ويعتبر من أهم عناصر النص الموازي وأقواها أثرا وتأثيرا في المتلقي، باعتباره منفذ الولوج الى حدائق النص وجماليات فضاءاته ، فهو يتميز بالحساسية العالية ،وما ينطوي عليه من تلميحات واشارات واغراءات تشعل نار الاثارة والفضول في ذهنية القارئ
فالعنوان يتكون من مركب إضافي (منازل الوجد) ، فلماذا اختارت الكاتبة الوجد ولم تختر الوجدان . وللكشف عن ذلك ينبغي تحليل وتفكيك المفردة ومحاولة تفسيرها ،يقول ابن منظور في لسان العرب عن "الوجد" يقال في الحب لا غير ،وأضاف: وجد الرجل في الحب وجدا أي (حزن) إذن الحزن والحب الشديد ،والغضب، والشكوى ...من روح جذر مادة(وجد)، والوجد ما يصادف القلب ،ويرد عليه بلا تكلف ،وقيل هو بروق تلمع ثم تخمد سريعا .
أما الوجدان كل إحساس أولي باللذة والألم ،وكل ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم ،والاجابة عن سر اختيار مفردة الوجد مرجعيته رؤية الشاعر ومنظوره الفلسفي ، وفي اصطلاح الصوفية مصادفة الباطن من الله تعالى واردا يورث حزنا أو سروا ،أو يغيره من هيئته ،ويغيبه عن أوصافه بشهود الحق ، وَالْوَجْدُ هُوَ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَارِدَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. وَ الْمَوَاجِيدُ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الْوَجْدِ. فَإِنَّ الْوَجْدَ مُصَادَفَةٌ. وَ الْمَوَاجِيدَ ثَمَرَاتُ الْأَوْرَادِ. وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَوْرَادُ قَوِيَتِ الْمَوَاجِيدُ. الْوَجْدُ مَعْنَاهُ: لَهَبٌ يَتَأَجَّجُ مِنْ شُهُودِ عَارِضِ الْقَلَقِ.وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْوَجْدُ الدَّرَجَةُ الْأُولَى وَجْدٌ عَارِضٌ يَسْتَفِيقُ لَهُ شَاهَدُ السَّمْعِ، الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَجْدٌ تَسْتَفِيقُ لَهُ الرُّوحُ بِلَمْعِ نُورٍ أَزَلِيٍّ ،والدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ وَجْدٌ يَخْطِفُ الْعَبْدَ مِنْ يَدِ الْكَوْنَيْنِ، وإن كنت أفضل كلمة (الوجدان) لان فيه من الحركة والديناميكية الشعورية ، وأما (المنازل) هي المساكن والمراتب والدرجات والمقامات ،وهي الموئل الذي تلوذ فيه الكائنات ،وبالتالي فالمنازل تتطلب شروطا ذاتية وموضوعية لتصل حالة الانسجام بين الظاهر و الباطن ،فكلما ارتقى الفرد درجة في المنازل يستفزه ويحرضه الشوق الى الوصول الى منزلة اعلى .
عتبة الاهداء:
وهنا تتجلى قمة الوشائج الإنسانية والعلاقة الحميمية التي تحيط بالكتابة لأناس لهم مكانة خاصة في القلب ،ومن ناحية يحمل دلالة صدقية الانتماء للأسرة ودفئها مما يشي بالتعافي الداخلي ، فالتحية للأبوين برا ووفاء، ثم الأسرة الصغيرة المحضن الدافئ الذي يخلق الطقس الملائم للإنتاج والابداع ، ثم مهدي نفوس تقديرا لدوره الهائل في نشر الثقافة والادب في منصة الأنطولوجيا السرد ،وأخيرا كان الاهداء لروح ...؟! ربما كان عزيزا مضى أو حلما تلاشى، أو مشروعا في طور المخاض ،عموما يعبر عن حالة إنسانية نبيلة تكشف عن رقة وشفافية روح المؤلفة ،وشغفها اللامحدود بالبيئة المحيطة بها
عتبة التصدير /المقدمة:
وحده القلم يعرف كل شيء..؟!
يعرف كل ما يكتبه ..
وما لم يكتبه
رئة ثالثة..!!
تنبض..بين دفتين من
فرح ..ووجع..!!
تذكرت للتو مقولة تنسب للكاتب والفنان والشاعر ،وليم شكسبير "مداد قلم الكاتب مقدس مثل دم الشهيد) ، والكتابة في تقديري حياة ومسؤولية تتدفق على لسان الكاتب منسابة من كنوز اللغة ، لذلك كانت الكاتبة صادقة ومتصالحة مع ذاتها حين صدرت ديوانها بكلمة وفاء وامتنان للقلم الذي هو رئة ثالثة بين متناقضين (فرح ووجع )، ولذلك استودعت اسرارها واشواقها ومناجاتها للقلم الذي لا يخون ولا يراوق ولا يداهن بل كالقنديل ينشر النور والحرية والحب والحياة ، ما بين القلم والإنسان علاقة حميمة، تبدأ باكراً ، فهو الأداة الموثوقة في ترجمة المشاعر والأفكار، و شبّه محمد بن عبدالملك بن صالح الهاشمي القلم
بالإنسان لأنه ينطق، وقال إن نطقه جواهر:
وأهيف طاوي الكشح أسمر ناطق...له جــولانٌ فــي بطــون المهارق...كـأنَّ اللآلئ والـزبـرجـدَ نـطقُـه
وهنا تطلق الكاتبة العنان لقلمها الرئة الثالثة لينطلق بعيد ا عن التابوهات و التدثر خلف اسوار مظلمة ، بحثا عن الحرية والانعتاق من ريقة الطين والسمو عاليا في سموات الصفاء والجمال والخير.
في رحاب المتن (النص):
ثم ندلف الى حديقة الورد والجمال (منازل الوجد) بعد التطواف اللازم حول النص الموازي اوما يسمى العتبات لنقتحم الريتاج ونرتاح في حضن الربيع والبهاء ، ولنستنشق عبير و أريج الكلمات والرؤى المبثوثة في ثنايا المتن، حيث نجد أن نصوصه صدى لعنوانه ، كما لو أن شاعرتنا لخصت في عنوانها كل مشاعرها و مكابداتها وهواجسها وأشواقها ، ثم ذهبت تنسجها قصيدةً قصيدة ً ، مما يؤكد الوحدة الموضوعية للديوان، وانت تقرأ تجد نفسك كمجذوب مستغرق في يم الاصطلام والدهشة ذاهل ثمل لفرط العذوبة ...أول ما تطالعنا به الشاعرة في الديوان قصيدة ” كسريان الليل في أوردة المدينة كمدخل للديوان الذي يضج بالحركة والديناميكية والعواطف الجياشة والصدق الفني الاثيري الذي يخترق كافة المنصات وصولا الى الشغاف ،حيث تقول في المعزوفة الأولى :
كسريان الليل في أوردة المدينة
ونخر المارة على ظهر الرصيف
وكما تصحو المدينة
فزعة من قبلة الشمس الأولى
هكذا أنت..
تجتاحني
بصخب العشق
تمرد الرغبة
يتخللان مواطن أماني ...
في القلب أنت نبضة”
حيث تدهشنا بكثافة الصور الشعرية والرموز المبتكرة ، وتوظيف مفاتيح الابداع البلاغي من الاستعارات و التشبيهات والمجازات والكنايات ، فالمدينة مكان له تصور ما في الذهن ،ولكن الشاعرة بذكاء نفخت الروح في المدينة وشبهتها بالإنسان بقرينة الشرايين ،والليل بصمته يسري فيها ، ثم تتشكل الحيوية من خلال نخر المارة ،والنخر لغة هو يأتي بمعنى الثقب والاتلاف، فوقع اقدام المارة على ظهر الرصيف يدل على الحياة ، ثم تستيقظ المدينة فزعة من قبلة الشمس ، هناك ثمة حلم تتطلع الى تحققه في الواقع ،ولذلك جاء الوصف مليئا بالقوة يجتاح الجوانح والروح عشقا ورغبة ،وليستقر في القلب كنبضة تنبئ بالحياة ، فتنداح المشاعر بين الاجتياح والفزع والحزن، وما بين ذلك يبرز من يقطع ذلك ويحول دون التواصل الوجداني بين لغتين ،ولما كان سلاح الانثى الدموع فهي تعلن الصمود والتحدي مواجهة الصدمات ، فتسدل الستار على مشهديات مليئة بالزخم والمجابهة والحيوية وتتدفق الكلمات
الصمت في لغتي
من ملح العيون
كم بتَّ بعيدا
عن مرمى عطري
وعن همسة شفاهي
بمقدار محيط ونسيان
أحتاج جسراً من تنهداتي
لأهديك نص
يا لروعة هذا الرسم الجميل ،وهذه المناجاة الراقية لردم الهوة بين العطر وهمسة الشفاه لتختلق جسرا من الخيال لكتابة نص يليق بشرف وسمو المثال الذي تشرئب اليه الاعناق و تتوق إليه القلوب لتعلن الحب
ولعلنا في بعثرة روح ...!!نتكئ على مساحة أخرى من مساحات الابداع والقدرة على استنساخ معاني متفردة ، فخيال الشاعر دوما فيتحد معه ويجسده في صورة جمالية وبيانية ونفسية ،وتلك ميكانيزمات يوظفها الشاعر لإعادة صياغة المرئيات في تجربة ثرية بالانفعال و التفاعل ، وعندما نتأمل تجربة أريج نلحظ هذا التدفق الرائع بين المعاني والدلالات الباذخة ،إذ نجدها تأسس لمشروع ما حيث يتوحد الشاعر مع انفعاله الشعري وانفاسه وخياله الجامح مثل الخيول الاصيلة حيث تتلقى المادة بالروح تمازحا وإندغاما ،أي أن بأسلوبه الشعري يقنعنا بضرورة أن يتحرر الانفعال بالأشياء من نفسه وحين يستقبله الخيال ،لحظة ذاك يمنحه شكلا روحيا ومتنفسا يتنسم خلاله عبير الذات المركبة فيجليها من الكدر والطين فتصفو وتبدو نضيرة بهية ،فالخيال الشعري في التجربة الشعرية للمبدعة( أريح)، نوع أصيل ومختلف وفريد يتلاقح مع الفكر وفي ذات الوقت لا ينفصل عن الفؤاد ومشاعره ،وهو نوع من الذكاء الباطني الذي يحيل الشعور السلبي إلى نوع جديد ومستمر من التفكير الإيجابي ،وهذا ما نلحظه في الابيات الاتية:
ما بين ذلك المسفوح على قارعةِ القلب
وبسخاءٍ غبي..
وعيناكِ إسفنجة عالية الامتصاص
أجد نفسي آلة ممرغةً في التكرار
انتج لكِ في الليلةِ الواحدةِ
خمسا وستين نجمة..
وحينما تشرِ ق النّهارات من بينِ عينيكِ
تنفرط نجماتي انكفئ
الملمها و أصابعي بلا بصمات
فقط حروف اسمكِ الخمسة
تبعثر نجماتي وتجمعها في آن
يا لدقة التصوير !! والقدرة الفائقة في رسم لوحة تكاد تكون محسوسة ، مجسدة مشاعر الحب في عبارات غاية في الفن التشكيلي من خلال التحليل و التركيب والبعثرة والجمع ، كأنما نحن أمام هالة من الضياء تعبر عن الاشراق الذاتي ورؤية الكون من زاوية جديدة
وفي موضع آخر نجد الشاعرة تصدح بكلمات في قصيدة حرفي منفاي الأعظم ..!!حيث تقول في مواجهة صريحة واعتراف بشجونها الداخلية وبأحاسيس الغربة ،والذي تحوله بقدراتها الفنية الى حالة من التصالح النفسي ، فتلجأ للحرف والقلم كمنفذ للخلاص من الضيق والكدر ، وكأني بها بصنيعها هذا إنما تنقل التجربة الوجودية من شيء فيه معاناة إلى شكل آخر يبصر ويدرك ،وهي لحظة متجاوزة تصل بها النفس إلى قلب الأشياء والرؤيا التي توضح وحدة المشاعر وروح الحقائق دون قناع
غريبةٌ أنا..!!
حرفي منفاي الأعظم
أسكنه نص
عندما تضيق
الأمكنة..
وتضج الروح ...
أسكبه على الورق
كما أشتهي
وحينما أمنحه عنوان
يبدأ توهاني
ويغادرني
ومعه اندهاش
ومن ثم تحلق بنا الشاعرة في فضاءات قصيدها الماتع المفعم بالأناقة اللغوية غير المطروقة كثيرا و خارجة عن المألوف لتحقق مغزى الابداع ، فنظمها نسيج وحدها يميزها بجلاء عن النظائر الأخرى في ذات المجال ، حيث نجد في قصيدة قبل اسدال الستار ، نلاحظ الثنائيات الضدية حيث تتجلى جماليات الثنائيات الضدية في الخطاب الأدبي، والتي عليها تقوم العملية التواصلية على وجود منظومة لغوية يحددها أطراف من بينها وجود مرسل ورسالة ومرسل اليه (المتلقي) فمن بين أهداف المرسل هو إحداث أثر على المتلقي ،وكلما زادت نسبة الضدية في الرسالة زادت حدة التأثير و التفاعل حيث تثير اجتماع الثنائيات المتضادة الدهشة و المفارقة المتولدة عن اجتماع الضدين في موقف واحد أو جملة واحدة ـأو بيت شعري واحد إذ يوفر الضد امكان الموازنة بينه وبين ضده ،وهذا ما يولد تصورا معرفيا عن الأشياء ليساعد المتلقي على استيلاء ثنائية من ثنائية، فثنائية (الصراخ/ والصمت)،( الشوق والشقاء) وغيرها مبثوثة في ثنايا الديوان ، فقبل اسدال الستار لا يعني النهاية بل هو ميلاد لحياة جديدة تنبض بالأمل ،و التشبث بالإرادة لبلوغ الاحلام والتطلعات ،وفي مواضع شتى من المجموعة الشعرية (منازل الوجد ) نجد الشاعرة ترفرف بأجنحة الخيال فوق محدودية اللغة وقدرتها على التوصيف ، تستمد القها مستعينة بالمرئيات المتحركة والإفادة من إمكانيات الفن التشكيلي
قبل إسدال الستار الأخير
وعلى خشبةِ مسرح القلب المتهالكة
ترقرقت مرارته من دون قصد
وعن سوءِ نيةٍ مبيتةٍ
في حنجرةِ الغصة...
انحناءة لم يستطعْ بعدها الاستقامة
فبدأ النص في التساقط حرفا حرف
كلمةً كلمه ...
وفي تصفحنا المتمعن نصل الى لوحة زاهية تحت عنوان صوت امرأة !!!مصحوبا بعلامة التعجب لغرض ما ربما اما للتمليح او للتنبيه او الدلالة على اثبات الوجود ، فنجد الشاعرة تحاول ابراز صورة المرأة القوية القادرة على الحدث
صوت امرأة ..!!
أنا صوتٌ يتفجر مِن عمق ذاتك
يجري في صحرائِك الموحشة
محملاً بأكاليل من زهرِ البيلسان
ينشر عطرَ المحبةِ تنتشي رو حك
مِن عذوبتِه ...ويغرد حلمك على. .رأسِ الصحو
يقظ فيك...بهجةَ الحبِ و جنونَ العشق لك أنا..!!
ما يثير الانتباه هو كثرة استعمال الشاعرة مركبات إضافية تحمل قدرا كبيرا من الابتكار والجِدة والخيال مثل: صوت امرأة ، بهجة الحب ، جنون العشق ، رأس الصحو ، اسدال الستار، مسرح القلب، سوء نية ،حنجرة الغصة …و هنا نلمس مهارة الشاعرة في بناء علاقة تماثلية بين الدال والمدلول وذلك بالتغلغل في أسرار اللغة والتمتع بالقدرة على معرفة الحمولات اللفظية والمعنوية التي تتمتع بها الأسماء وتمنح إمكانية للتأليف بين مفرداتها التي تبدو ظاهريا غير متجانسة . لكنها قدرة الشاعر البارع التي تصنع كيمياء لغوية بين الألفاظ المتباعدة وتجعلها متقاربة.
وقد تفوقت الشاعرة في توظيف المركبات الإضافية للدلالة على منان متنوعة ،وربما لا يكون بعض تلك المعاني و المحمولات من مكونات أحد اللفظين المتضايفين ،ومرجعية ذلك تستند على قدرة الكاتبة الإبداعية للربط بين الأشياء ،ويتبين ذكاؤها في اماطة اللثام لكشف تلك الوشائج التي ربما تكون مستعصية او خفية على البعض ،وبذلك يتكون الشاعرة قد انتجت دلالات جديدة من هذا المركب الإضافي وهو ما يطلق عليه في النقد الحديث مرحلة التوليد الدلالي والابداعي ، فهنيئا لشاعرتنا المجيدة التي أفلحت في تمثل ذلك من خلال استيلاد تراكيب إضافية متميزة.
كما أنها تمارس الرسم بالكلمات ، فتعطي للأشياء صورا متعددة وتبث فيها الحركة والروح والأنسنة ، وهكذا نرى شاعرتنا ترسم لوحة فنية تضج فيها ملامح الجمال ، فتستنطق الكائنات ويغوص في أعماقها ويتغلغل في تفاصيلها مستخدما قلم الشاعر وريشة الرسام وعدسة المصور بكل اقتدار وتمكن .
كما يحمد للشاعرة استخدامها لصيغ متنوعة موظفة تقنيات الفن الروائي كالمونولوج الداخلي والخطاب السردي الشفيف، والاستشراف واللغة السردية العارة والمكتنزة بشتى الوان البيان ،وتعدية الأصوات المتراوحة بين تنهدات واشواق الانثى وخطاب الضمائر ،وعلى ذات النمط تنتهج شاعرتنا في قصائده الأخرى مطبقة أنبل طقوس قصيدة النثر وجماليات شعر ما بعد الحداثة ، وإجمالا نجد شعرها يتسم بالذاتية والتدفق الوجداني لمجابهة أزمات الوجود وقلق الروح وتأرجحها الروح بين غابات الضياع والغربة .
في قصائد (منازل الوجد) لا تقدم الشاعرة إجابات جاهزة ،وإنما تحاول تفكيك القناعات الراسخة لخلق حالة وعي مستنيرة ، واثارة الاستفهامات الجدلية الوجودية في تسلسل متناغم ، كما يتجلى النفس الصوفي الشفيف من حيث الإحساس بروعة المشاهد والحالات الإنسانية والمشاعر الصافية ،وربما نلمس ذلك للوهلة الأولى من خلال عتبة عتبات الوجد ،وهذا النفس نجده متمددا في ثنايا الدفق الشعري الذي صاغتها الشاعرة ببراعة استثنائية ومحبة كاملة
مناجمٌ من بوحِ حرفي
ما ابتهلت كَ في صلاتي.
وقمة الابداع تتجلى بصورة وجدانية وروح إنسانية غاية في الوفاء والجمال لمبدعين غادرا عالمنا الى الضفة الأخرى دون وداع في نهاية مساوية ، ففي رثاء الشاعر لاتينوس الذي مضى في قوارب الموت بحثا عن ملاذا افضل وتقول الشاعرة :
يغمرني الشو ق لنقطةِ ضوء
آخذها مِن عينِ الشّمس
أُعلق ها في عنقِ يمامة
تلقيها في عرض البحر
في قلبِ ظلام الموت
تنير العتمة حولك يا لاتينوس
كلمات في غاية الوفاء ترسم فداحة الفجيعة ، وقد تفوقت الشاعرة في ترجمة مشاعرها معبرة عن حزنها وحزن كل الاحرار لمثل هكذا موت، ومن ثم تنقلنا الشاعرة الى جزئية في ذات السياق ترثي فيها شاعر وفنان آخر غيبه الموت بردا ومسغبة وزمهريرا في شوارع القاهرة قائلة في اسى ووجع :
شوقٌ يغمرني لحزمةِ الوان
أجلبها من قوسِ ق زح
أربطها بجناحِ حمامة
ت هديها بهنسَ في عمقِ اللألون
أسأله أن يرسِم حجرة و حِذاء
و دثاراً أزرق مِن لون سماء
أهدته ندف الثلج في ليلِ الغرباء
أن يرسِم قاهرةً مِن غير رصيف
يجمد أطراف الدهشةِ في عينيهِ
يسلب كل مواطن روحه يتر كه مصلوبا في وجهِ الريح
يا الله ...ما أروع الإحساس النبيل بمواجع الآخر!! تلك مشاعر الأنبياء وأولي النهى ، نعم ما أرخص الانسان في زمن الاستهلاك المادي والقسوة والتصحر الوجداني
وفي الختام يمكن القول أن الشاعرة في ديوانها الزاخر بالمفردات الانيقة ،في تقديري شاعرة متمردة و رافضة تنغمس في القصيد بولع استثنائي ، وتدلق شعورها حروفا وقصائد تمطر جمالا وخيالا ابداعيا فريدا ، تتجلى النزعة الإنسانية في شعرها ،وهي واضحة كالشمس لا تداهن ولا ترتضى بالخنوع بل تحمل مشروعها بكل ثبات مثل ديوجين لتنشر الاستصباح والتنوير في عتمات الحياة وتلك رسالة عظيمة وامانة كبيرة لإضفاء الحب والجمال والخير والسماح في ارجاء الكون المضطرب والمرتبك ، كما اننا في الختام لابد ان نشيد بمخزونها المعجمي الرفيع وقدرتها غير العادية في استيلاد المعاني والصور والاخيلة المدهشة مما يؤكد تنوع اساليبها وطريقة نظمها وسردها ، منغمسة في كون تصنعه بالإبداع والخيال
الديوان يحتوي على العديد من القصائد الجميلة ،ولعلنا اخترنا بعضا منها بغرض عدما الاطالة ، هذه كلمة موجزة ومختصرة عن الديوان الباذخ للشاعرة المتألقة "أريج محمد" ، وهو ديوان فخيم كتب بصدق وشفافية وحب، فالديوان حافل بالحقول الدلالية والمعرفية والوجدانية والجمالية ، لذا نشيد بهذه التحفة الأدبية الرائعة ، ومن هنا نوجه دعوة للنقاد لدراسة هذا السفر المضمخ بالصدق والعذوبة والصفاء و النقاء ،وفي تقديري أن الشاعرة أريج مدرسة متفردة نسيج وحدها ، بما تمتلكه من الأدوات والتصوير والتشكيل والموسيقى والخيال والرموز وغيرها من التقنيات الشعرية الحديثة .
مع كل الحب والتقدير
د/صلاح الدين هداد
[HR][/HR]
[1] - حيرار جينيت: "عتبات" ترجمة محمد المعتصم ،دار تويقال ،المغرب،2001م، ص19
[2] - محمد بنيس: "الشعر العربي الحديث – بنياتع ودلالاته " دار توبقال ،ط1، المغرب، 2001م، ص188
[3] - جيرار جينيت :" المصدر السابق "ص189