د. أحمد الحطاب - مِن حِكَم اللهِ في قرآنه الكريم : عدم الدخول في تفاصيل الأشياء

إن قارئَ القرآن الكريم، بتمعُّنٍ وتبصُّرٍ مستحضراً عقلَه الذي حباه إياه اللهُ ليُدركَ، من خلاله، كنهَ الأشياء وليُميِّزَ بين ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني وبين ما هو منطقي وما هو غير منطقي، سيُدرك أن هذا القرآن لا يدخل في تفاصيل الأشياء، المادية منها والمعنوية. بمعنى أن الكثيرَ من الكلمات الواردة في آيات القرآن الكريم كلمات ذات معنى عام أو واسع يمكن أن تشملَ أشياء أخرى قد تختلف شكلا ومضمونا لكنها، في نهاية المطاف، تنتمي لجنسٍ واحدٍ le même genre. والقرآن الكريم، في الكثير من آياته، لا يُفصِّل هذه الكلمات ذات المعنى العام. بمعنى أنه لا يذكر الأشياء التي تنتمي إلى نفس الجنس والتي تشملها هذه الكلمات ذات المعنى العام.

مثلا، كلمة "رزق" واردة في القرآن الكريم في العديد من آياته. "رِزقٌ" كلمة ذات معنى عام علما أن الرزقَ هو كل ما يمنحُه اللهُ سبحانه وتعالى لعباده من خير. و على مستوى البشر، الرِّزق هو كل ما يتكرَّم شخصٌ بإعطائه أو منحه لشخص آخر. في هذه الحالة، الرزق يمكن أن يكونَ ماديا أو معنويا. وهذا يعني أن الرزقَ أنواعٌ. فكل آيات القرآن الكريم التي وردت فيها كلمةُ "رزق"، بدون تفصيل، فهذه الكلمةٌ لها معنى واسع، يمكن أن تشملَ جميع أنواع الأرزاق.

ما قلتُه عن الرزق ينطبق كذلك على العديد من الكلمات ذات المعنى العام أو الواسع الواردة في القرآن الكريم كالنحل والنَّخل والنَّمل والشجر والنبات والدابة والسماء والذنب والرمان والزيتون والفاكهة…

فالرزق يبقى رزقا والنَّحل يبقى نحلا والنخل يبقى نخلا والنَّمل يبقى نملا والشجر يبقى شجرا والنبات يبقى نباتا والدابة تبقى دابة والسماء تبقى سماءً والذنب يبقى ذنبا والرمان يبقى رمانا والزيتون يبقى زيتونا والفاكهة تبقى فاكهة… إلى أن يرثَ اللهُ الارضَ ومَن عليها مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام، 115). والمقصود ب"كَلِمَتُ"، في هذه الآية، هو القرآن الكريم الذي لا ولن يستطيع أحدٌ أن يُغيِّرَه أو أن يُغيِّرَ كلماته.

وحتى لما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة، الآية رقم 31 : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا…"، فإن المنطقَ يقول إن الله، سبحانه وتعالى، علَّم آدمَ كل الأسماء التي سيكون في حاجة إليها في زمان وظروف الوسط الذي كان يعيش فيه. إذ لا يُعقلُ أن اللهَ سبحانه وتعالى يكون قد علَّمَ آدمَ أسماءً لن يجدَ مسمَّياتٍ مقابلَها في حياته اليومية. وما يثير الانتباهَ، في هذه الآية، هي كلمة "الْأَسْمَاءَ" التي لم يتم تفصيلُها، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يقل ما هي هذه الأسماء بالتفصيل. وهنا، يأتي دورُ العقل البشري في تفسير كلام الله الوارد في القرآن الكريم. في هذه الآية، "الأسماء" كلمةٌ ذات معنى واسع أو عام، وهي جمعُ كلمة "اسم". وكل اسم يقابلُه مُسَمَّى ملموس أو غير ملموس في حياة البشر.

وكمثال آخر يبيِّن أن القرآنَ الكريمَ لا يدخل في تفاصيل الأشياء، ما جاء في الآية رقم 29 من سورة البقرة : "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران، 189). في هذه الآية الكريمة، الإسم ذو المعنى العام أو الواسع هو "السَّمَاوَاتِ" التي هي جمعُ سماء. وما أكثرَ الآيات التي وردت فيها كلمة "سماء" في صيغة الجمع. غير أن اللهَ لم يُشِرْ في أي من هذه الآيات إلى وصفٍ لهذه السموات لكنه قال إن عددَها سبعُ سموات مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة، 29).

انطلاقا من هذه الاعتبارات وطِبقا لما جاء في عنوان هذه المقالة، يبقى السؤالُ الذي يفرض نفسَه على قارئٍ القرآن الكريم بتمعُّن وتبصُّر، هو الآتي : "ما هي الحِكلمة من عدم دخول القرآن الكريم في تفاصيل الأشياء؟"

قبل الجواب على هذا السؤال، أثير الانتباهَ إلى أن الكلمات ذات المعنى العام، المستعملة في آيات القرآن الكريم، لها معنى ثابت، أي لا يتغيَّر بفعل الزمان والمكان. وحتى إن تغيَّرَ، فالتغيير يحدث على المستوى البشري وليس على المستوى القرآني. وهذا يعني أن الكلمات ذات المعنى العام لها معاني مطلقة بينما تفسير هذه الكلمات يبقى نسبيا لأنه صادر عن البشر. فأين تكمن الحِكمةُ؟

الحِكمة تكمن في كون كلام الله، ومن ضمنه الكلمات ذات المعنى العام، كلام مطلق، أي لا يتأثَّر بالزمان والمكان. وما دام هو كلامٌ مطلقٌ، فهو صالح لكل زمان ومكان، أي صالحٌ لما مضى من الزمان وللحاضر من هذا الزمان ولِما سيأتي منه. ولكل جيل من البشر أن يفسِّرَ كلامَ الله، نسبيا، انطلاقا من ما يفرضه عليه زمانُه ومكانُه.

وقد تكون هناك حِكمةٌ أخرى متمثِّلة، والله أعلم، في تَرْكِ معرفة ما هو دنيوِي لعقلِ الإنسان وفكره مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق، 5). وهذه الآية مهمَّةٌ للغاية. اولا، لأن اللهَ سبحانه وتعالى لم يقُل، في هذه الآية، علَّمَ المسلمَ أو المسيحي أو اليهودي أو أي متديِّن بدين آخر. بل قالَ "عَلَّمَ الْإِنسَانَ"، أي بني آدمَ أو البشرَ. والبشرُ، متدينون أو غير متديِّنين، قادرون على التَّعلُّم ما داموا يتمتَّعون بعقل سليم في جسم سليم.

قد يقول قائل إن فعل "علَّمَ" في هذه الآية جاء بصيغة الماضي، وبالتالي، يُفهَم منه أن اللهَ علَّم الإنسان في الماضي وتوقَّف عن تعليمه حاضرا ومستقبلا.َ لا أبدا! كثيرة هي الأفعال المستعملة في آيات القرآن الكريم بصيغة الماضي، لكنها تدل على استمرارية ما تنص عليه هذه الآيات حاضرا ومستقبلا. وما يُؤكِّد ذلك، هو أن فعلَ "يعلم"، في آخِرِ الآية، مستعملٌ بصيغة المضارع. والفعل المضارع يدل على حدثٍ يقع في الحاضر والمستقبل. وكل يوم يعيشُه البشر، فهو حاضر. وكل غدٍ، فهو مستقبلٌ. ولما أُضِيفَ حرف نفيٍ "لم" للفعلِ المضارع "يعلم"، فهذا معناه نفيُ التَّعلُّم في الماضي والحاضر. وبما أن فعلَ "عَلَّمَ"، في أول الآية، يضمن استمرارية حدثَ التَّعلُّم، فما لم يتعلَّمه الإنسانُ في الماضى والحاضر، سيتعلَّمُه في المستقبل. والمستقبل سرعان ما يتحوّل إلى ماضٍ. وهذا هو ما نلاحظه في حياتنا اليومية إذ تتهاطل علينا كمياتٌ هائلة جديدة من المعارف.

وعِبارة "عَلَّمَ الْإِنسَانَ" لا تعني إطلاقا التَّعليمَ كما هو متعارف عليه على المستوى البشري. بل تعني أن اللهَ حبا الإنسانَ عقلا، وهذا العقل هو الذى يمكِّن الإنسانَ من الخضوع للتَّعليم ومن السعي إلى التَّعلُّم. والتَّعليم ليس هو التَّعلُّم. التَّّعليم تتكلَّف به المدرسةُ من خلال المدرسين بينما التَّعلُّم ينطلق من الذي يريد أن يتعلَّمَ. وكي يتعلَّم، يجب عليه الاستعانة بمَلَكاته الفكرية، أي أن يستعملَ عقلَه. والعقل هِبةٌ من الله للبشر. بفضله، يتعلَّمون من المهد إلى اللحد. والإنسان يتعلَّم ما تُتيحُه له ظروف الوسط الذي يعيش فيه، وخصوصا الظروف الاجتماعية والثقافية. وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يتعلَّمَ إلا ما هو موجود.

فإذا لم يدخل القرآن الكريم في تفاصيل الأشياء، فهذا معناه أن البابَ مفتوحٌ على مصراعيه للبشر ليستعملوا عقولَهم ليتعرَّفوا على ما أوجده اللهُ لهم في هذا الكون، وكذلك لاختراع وابتكار ما هم في حاجة إليه لضمان حياة اجتماعية، اقتصادية وثقافية سليمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...