د. أحمد الحطاب - فيما مضى، كنا نسمع و نقرأ عن بقرة حلوب واحدة، أما اليوم، ازدادت الثانية بعد صبر فاق صبر أيوب

بالفعل، فيما مضى، كنا نسمع ونقرأ عن بقرة حلوب واحدة. وكان كل ما نسمعه ونقرأه عبارةً عن كلام يُشَبِّه المغرب بهذه البقرة. والبقرة الحلوب هي تلك البقرة التي تُنتِج الحليب بغزارة. وإذا شُبِّهَ المغرب ببقرة حلوب (تشبيه لا يقتصر على المغرب)، فالمقصود من التشبيه هو أن المغرب يُنتج ثروات كثيرة (كغزارة الحليب)، لكن المستفيدين من هذه الثروات قليلون بالمقارنة مع عدد السواد الأعظم من المواطنين الذين غالبا ما لا يتم الاعتراف بمواطنتهم إلا حين يكونون مطالبين بتأدية الضرائب.

أما اليوم، فلا نَزال نسمعُ و نقرأُ عن البقرة الحلوب الأولى ولا نزال نسمع ونقرأ عن محدودية الاستفادة من حليبها. لكن ما لم يكن في الحسبان، هو أن المغرب أنجب بقرةً حلوبا ثانيةً. لكن بعد حَمْلٍ دام عشراتِ السنين. ولماذا دام الحملُ عشرات السنين؟ لأنه بكل بساطة، لم يرغب المغاربة في هذا الحمل ولا يرغبون في أن يُتوَّجَ بمولود جديد. وقد بدلوا كل ما استطاعوا من جهود واحتجوا فرادى وجماعات وناضلوا وأضربوا وكتبوا و"تَبَرْلَمَانُوا" وتحازبوا وتحالفوا و...لإجهاض الحمل، لكن كل ما استطاعوا أن يفعلوه هو تمديد مدة الحمل إلى أن خرج المولود إلى حيز الوجود رغم أنفهم.

والمولود هو البقرة الحلوب الثانية. والبقرة الحلوب الثانية هي المواطن المغربي وبالأخص، الموظف المغربي. أتعرفون لماذا رفض المغاربة الحملَ وسعوا إلى إجهاضه؟ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا نصيبَهم ولو بقدر ضئيل من البقرة الحلوب الأولى. لكنّهم اليوم يوجدون جنبا إلى جنب مع أخٍ لم يعترِفْ لهم بحق الأخوة بل يسعى بشتى الطرق إلى استنزافهم.

وهنا، لا بد من توضيح من الأهمية بمكان. فإذا كانت البقرة الحلوب الأولى تُذِرُّ حليبَها على فئة محصورة من المستفيدين وعلى رأسهم الأغنياء، فالحكومات المتعاقبة هي التي تستفيد مباشرةً من البقرة الحلوب الثانية ومن خلالها الأغنياء بصفة غير مباشرة. ولماذا لم يستفد المغاربة وخصوصا الموظفون (فما بالك عندما يتعلق الأمر بفئة ذات الدخل الضعيف) من حليب البقرة الأولى؟ لأن توزيع الثروات سيئ جدا، أو بعبارة أوضح، مقصوص على المقاس. وكيف تستفيد الدولة من البقرة الحلوب الثانية؟

عندما يتعلق الأمر بالموظق، فإنه مُثقلٌ بالضرائب أكثر من بعض الأشخاص المعنويين. الثقل الأول لا حول ولا قوة له فيه لأن الضرائب المُبالَغ فيها تُقْتَطَعُ من المنبع. أما الثقل الثاني، شأنه فيه شأن باقي المواطنين، يتمثل في ضرائب أخرى يؤديها كلما تحرك أو خطا خطوةً في الحياة اليومية. فكل خطوةٍ تُؤدَّبُ أو تُعاقبُ بما يسمى بالضريبة على القيمة المضافة TVA. فإذا أراد المواطن أن يأكلَ أو أن يضيءَ بيته أو أن يشربَ الماء أو أن يغتسلَ أو أن يلبسَ أو يُلبسَ أبناءه أو أن يُعلِّمهم أو أن يقتنيَ دواءً أو أن يبنيَ أو يقتنيَ سكنا أو أن يرفِّهَ عن نفسه أو أن يسافرَ أو أن يتنقَّلَ أو يركبَ سيارته أو أن يحصل على وثيقة إدارية أو...أو... وهذا يعني أن المواطن يؤدي ثمنَ حاجياته الضرورية، وفي نفس الوقت، عقوبةً ماليةً تساهم بطريقة أو أخرى في تسمين البقرة الحلوب الأولى وبالتالي، في اغتناء الأغنياء وإضعاف القدرة الشرائية للمواطنين.

إنه في الحقيقة وضع غريب. المواطنون يؤدون الضرائبَ بما يقتضيه الواجب الوطني ولكن، عوض أن يستفيدوا من وفائهم لهذا الواجب، فإن الدولة حوَّلتهم إلى بقرة حلوب ثانية تلجأ لها كلما أحست بضائقة مالية. فعوض أن تتجه لمن يستفيدون بكل وقاحة من البقرتين الحلوبتين، فإنها تُرْهِقُ كاهلَ المواطن بضرائب لا حصر لها. فعوض أن تتجه لمن لا يؤدون ضرائبهم ولمن يتملصون منها أو يلجئون لطرق غير مشروعة للإفلات منها أو الالتواء عليها للنقص من قيمتها الحقيقية، فإنها تزيد في أثمنة المواد الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها متجاهلةً عناءهم ومحنتهم. ومن يمتلك المعامل والمصانع والمرافق التي تُنتج هذه المواد الأساسية؟ هم بدون مفاجأة الأغنياء الذين يستفيدون من البقرتين الحلوبتين!

في نهاية المطاف، يبدو لي أن المغرب عبارةٌ عن مصنع ضخم يُسيِّرُهُ أغنياء هذا البلد، عُمَّالُهُ المواطنون المغاربة الذين يشتغلون به لاشعوريا مند عشرات السنين ودون أن يتلقَّوا أجورا مقابل عملهم هذا. وكل ما يقومون به من أعمال بالمجان يعود ناتِجُه بالنفع وزيادةِ الثراء الفاحش على هؤلاء الأغنياء وأصحاب الريع. فمتى سيصبح المغاربة مواطنين بما للكلمة من معنى سامي يتمتعون بحقوقهم كاملة كما حددها بوضوح دستور البلاد؟

لقد وصل السيل الزبى. ولقد تعِب المواطنون من التّضحيات ومن استغلال هذه التضحيات من طرف جهات جشعة وهلوعة لا يهمها إلا ملء الأجياب على حساب كرامة المواطنين. كفى ثم كفي ثم كفى! كفى أن يتحمَّلَ المواطنون فشلَ المنظومة التربوية وكفى أن تحمَّلوا إفلاس المنظومة الصحية وكفى سُخْطُهُمْ على الإدارة العمومية! فمتى سيكون للمواطنين المغاربة مكان مستحق في السياسات العمومية؟ فمتى ستكفُّون عن اعتبار المواطن المغربي مجردَ صوت يُلْقَى به في صناديق الاقتراع ليضيع في صحراء النسيان؟

فَخَزْياً للأحزاب السياسية التي أبانت عن جُبنٍ كبير لا يضاهيه إلا تجاهُلُها لحقوقه. وهذا ليس بشيءٍ غريبٍ لأن الشعب المغربي عبَّر عن طلاقه لهذه الأحزاب مند زمان طويل. وختاما، أقول : "إن أنجعَ و انفعَ وأفيدَ مقاطعةٍ، من المرغوب فيه أن يقومَ بها المغاربةُ مستقبلا، هي مقاطعة الأحزاب السياسية مقاطعةً نهائية".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...