لعل من البديهي القول- كما أرى- إن مسؤولية الروائي لا تتعدى حدود رواياته بما جاءت به من أفكار وتقنيات، وإن من يحاسبه على هذه المسؤولية هم النقاد وحدهم، وتقتصر المحاسبة على كشف ما في ثنايا أعمالهم من غموض واستعارات، وبيان ما يحاولون إخفاءه من رغبات وأفكار. وفي بعض الأحيان تتجاوز السلطة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية هؤلاء النقاد لتحاسب الروائي على ما جاءت به مخيلته، وربما تؤدي به هذه المحاسبة إلى السجن، أو التوبيخ، أو مصادرة ما كتب، أو منعه من الكتابة، وفي أسوأ الحالات تغتاله جسديًّا.
وفي معظم الأحيان تتراجع السلطات عن محاسبة الروائي كما حدث لغوستاف فلوبير عندما قدم للمحاكمة في فرنسا بسبب روايته "مدام بوفاري"، ثم برأته المحكمة وكانت سببًا في شهرته وروايته. والروائي الإنجليزي د. ه. لورانس وروايته "عشيق الليدي تشاترلي" التي منعت الرقابة نشرها في البداية، ثم سمحت بعد محاكمة طويلة لدار بنغوين بنشرها.
وربما يأتي موقف السلطة المتسامح متأخرًا، فتحس بالندم على موقفها العدائي من الروائي، وتحاول التكفير عنه، كما حدث للروائي غالب هلسا عندما منعت السلطة رواياته، ولم تفرج عنها إلا بعد وفاته بل ومنحته جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعماله.
إن أغرب المواقف في محاسبة الروائي ما حدث للروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) إذ أقدمت إدارة المتحف الفني في كييف على تغيير ما نُقش على اللوحة التكريمية له. فقد كان مكتوبًا عليها باللغة الروسية بأن بولغاكوف "كاتب روسي وسوفياتي". فأصبح بعد التغيير بأنه "من سكان كييف البارزين وطبيب وكاتب". ثم أقدم أحد المراهقين في نهاية شهر أيار 2023م على رش طلاء أحمر على اللوحة التذكارية دون أن تعترض إدارة المتحف على ذلك.
والمعروف أن هذا المتحف في الأصل منزل يعود إلى القرن التاسع عشر نشأ فيه بولغاكوف وأصبح متحفًا في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وازداد الكره للكاتب حين دعا الاتحاد الوطني للكتاب الأوكرانيين إلى إغلاق المتحف، واصفًا الكاتب الشهير بأنه "يكره أوكرانيا ذات السيادة".
والحقيقة أن هذه المواقف جاءت على إثر الحرب الروسية الأوكرانية، وتعبيرًا عن الاحتجاج على مهاجمة روسيا الأراضي الأوكرانية في شباط 2022م. مع أن بولغاكوف لم يعاصر هذه الحرب، ولم يظهر في رواياته العداء لأوكرانيا، وعمل قبل أن يتحول إلى الأدب طبيبًا في المستشفيات الميدانية على الجبهة الجنوبية الغربية في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك عمل طبيبًا في الأرياف كما جاء في كتابه "مذكرات طبيب شاب".
ولم يكن بولغاكوف على وفاق مع السلطة ومنعت أعماله في الاتحاد السوفيتي بين عامي 1927 و1985 وكان ضد البيروقراطية، ولم يكن مواليًا لأي فريق أو حزب. أما رواياته ومسرحياته ومقالاته فكانت شهادة فنية على المشاكل التي كانت تعاني منها روسيا في عشرينيات القرن الماضي، وبخاصة روايته المشهورة" المعلم ومرغريتا" التي كانت شهادة ملتزمة بالفن الأصيل والخلق الرفيع، وقدمت رؤية ساخرة للبيروقراطية، وكشفت انتهازية السياسيين.
لا شك أن المرء يتساءل: هل يعقل أن تهاجم السلطات الأوكرانية السياسية والثقافية والمجتمعية روائيًا بعد ما يزيد على ثمانين عامًا من وفاته، وأن تقف في وجه أدبه، وتحاول تشويه تاريخه لمجرد أنه ينتمي إلى أمة على عداء معها؟ إذا كان الأمر كذلك فإنه يحق للعرب أن يقفوا مثل هذا الموقف من الروائيين البريطانيين لأن بلدهم أصدر وعد بلفور الذي مكن الحركة الصهيونية من السيطرة على فلسطين. وكذلك يحق للعرب أيضًا أن يهاجموا الروائيين الأمريكيين لأن بلدهم دمرت العراق وما زالت تساعد إسرائيل على عدوانها على الأمة العربية، كما يحق لهم معاداة دوستويفسكي وتولستوي لأن روسيا من أوائل من اعترف بإسرائيل عام 1948م.
إن من العبث محاسبة روائي لأي سبب من الأسباب على ما جاء في أعماله من أفكار. إن محاسبة الروائي ليست مسؤولية أحد، وللناس الحق في أن يقرأوا أعماله أو يرفضوها، لكن ليس من حقهم سلب أحد حرية التعبير، أو الوقوف موقفًا عدائيًا من أدبه سواء كان حيًا أم ميتًا. لعل من الأفضل لأي سلطة سياسية أو غيرها ألا تقف أمام الروائي وتحاسبه على ما أبدع قلمه. إن محاولة منعه أو قتله تجعل لما يكتب قيمة كبيرة، ويساعد على شهرته وانتشاره فكل ممنوع مرغوب فيه- كما يقال. هذا ما حدث مع روايات سلمان رشدي وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر عندما حاولت السلطات المختلفة محاسبتهم، ومقاطعة أدبهم.
وأخيرًا نقول: إن محاسبة العوالم التخييلية للروائيين تحاكي محاسبة دونكيشوت لطواحين الهواء. فلماذا لا ندع الطيور تغرد كيفما شاءت وتطير أينما أرادت؟ لماذا لا ندع الأنهار تجري في مجاريها، والأشجار تنمو بحرية؟ ألا نحب أن تستمر الحياة في جمالها ورونقها؟[/B]
وفي معظم الأحيان تتراجع السلطات عن محاسبة الروائي كما حدث لغوستاف فلوبير عندما قدم للمحاكمة في فرنسا بسبب روايته "مدام بوفاري"، ثم برأته المحكمة وكانت سببًا في شهرته وروايته. والروائي الإنجليزي د. ه. لورانس وروايته "عشيق الليدي تشاترلي" التي منعت الرقابة نشرها في البداية، ثم سمحت بعد محاكمة طويلة لدار بنغوين بنشرها.
وربما يأتي موقف السلطة المتسامح متأخرًا، فتحس بالندم على موقفها العدائي من الروائي، وتحاول التكفير عنه، كما حدث للروائي غالب هلسا عندما منعت السلطة رواياته، ولم تفرج عنها إلا بعد وفاته بل ومنحته جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعماله.
إن أغرب المواقف في محاسبة الروائي ما حدث للروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) إذ أقدمت إدارة المتحف الفني في كييف على تغيير ما نُقش على اللوحة التكريمية له. فقد كان مكتوبًا عليها باللغة الروسية بأن بولغاكوف "كاتب روسي وسوفياتي". فأصبح بعد التغيير بأنه "من سكان كييف البارزين وطبيب وكاتب". ثم أقدم أحد المراهقين في نهاية شهر أيار 2023م على رش طلاء أحمر على اللوحة التذكارية دون أن تعترض إدارة المتحف على ذلك.
والمعروف أن هذا المتحف في الأصل منزل يعود إلى القرن التاسع عشر نشأ فيه بولغاكوف وأصبح متحفًا في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وازداد الكره للكاتب حين دعا الاتحاد الوطني للكتاب الأوكرانيين إلى إغلاق المتحف، واصفًا الكاتب الشهير بأنه "يكره أوكرانيا ذات السيادة".
والحقيقة أن هذه المواقف جاءت على إثر الحرب الروسية الأوكرانية، وتعبيرًا عن الاحتجاج على مهاجمة روسيا الأراضي الأوكرانية في شباط 2022م. مع أن بولغاكوف لم يعاصر هذه الحرب، ولم يظهر في رواياته العداء لأوكرانيا، وعمل قبل أن يتحول إلى الأدب طبيبًا في المستشفيات الميدانية على الجبهة الجنوبية الغربية في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك عمل طبيبًا في الأرياف كما جاء في كتابه "مذكرات طبيب شاب".
ولم يكن بولغاكوف على وفاق مع السلطة ومنعت أعماله في الاتحاد السوفيتي بين عامي 1927 و1985 وكان ضد البيروقراطية، ولم يكن مواليًا لأي فريق أو حزب. أما رواياته ومسرحياته ومقالاته فكانت شهادة فنية على المشاكل التي كانت تعاني منها روسيا في عشرينيات القرن الماضي، وبخاصة روايته المشهورة" المعلم ومرغريتا" التي كانت شهادة ملتزمة بالفن الأصيل والخلق الرفيع، وقدمت رؤية ساخرة للبيروقراطية، وكشفت انتهازية السياسيين.
لا شك أن المرء يتساءل: هل يعقل أن تهاجم السلطات الأوكرانية السياسية والثقافية والمجتمعية روائيًا بعد ما يزيد على ثمانين عامًا من وفاته، وأن تقف في وجه أدبه، وتحاول تشويه تاريخه لمجرد أنه ينتمي إلى أمة على عداء معها؟ إذا كان الأمر كذلك فإنه يحق للعرب أن يقفوا مثل هذا الموقف من الروائيين البريطانيين لأن بلدهم أصدر وعد بلفور الذي مكن الحركة الصهيونية من السيطرة على فلسطين. وكذلك يحق للعرب أيضًا أن يهاجموا الروائيين الأمريكيين لأن بلدهم دمرت العراق وما زالت تساعد إسرائيل على عدوانها على الأمة العربية، كما يحق لهم معاداة دوستويفسكي وتولستوي لأن روسيا من أوائل من اعترف بإسرائيل عام 1948م.
إن من العبث محاسبة روائي لأي سبب من الأسباب على ما جاء في أعماله من أفكار. إن محاسبة الروائي ليست مسؤولية أحد، وللناس الحق في أن يقرأوا أعماله أو يرفضوها، لكن ليس من حقهم سلب أحد حرية التعبير، أو الوقوف موقفًا عدائيًا من أدبه سواء كان حيًا أم ميتًا. لعل من الأفضل لأي سلطة سياسية أو غيرها ألا تقف أمام الروائي وتحاسبه على ما أبدع قلمه. إن محاولة منعه أو قتله تجعل لما يكتب قيمة كبيرة، ويساعد على شهرته وانتشاره فكل ممنوع مرغوب فيه- كما يقال. هذا ما حدث مع روايات سلمان رشدي وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر عندما حاولت السلطات المختلفة محاسبتهم، ومقاطعة أدبهم.
وأخيرًا نقول: إن محاسبة العوالم التخييلية للروائيين تحاكي محاسبة دونكيشوت لطواحين الهواء. فلماذا لا ندع الطيور تغرد كيفما شاءت وتطير أينما أرادت؟ لماذا لا ندع الأنهار تجري في مجاريها، والأشجار تنمو بحرية؟ ألا نحب أن تستمر الحياة في جمالها ورونقها؟[/B]