د. أحمد الحطاب - سياسات

اتفق معكم تمام الاتفاق أن العنوان غامض و غير مفهوم. لكن هذا الغموض وعدم الإدراك سيزولان عندما أقول لكم أن هناك من يمارس السياسة بقلبه وهناك من يمارسها بعقله وهناك من يمارسها من خلال و من أجل جيبه.
فما هي هذه السياسة التي تتفرع إلى أنواع؟ في الحقيقة، السياسة اصطلاحيا نوع واحد لا ثاني له. وهذا النوع الوحيد يُعَرَّفُ كما يلي : "الكيفية التي بواسطتها يتم قيادة وتسيير وتدبير الشؤون العامة لبلد ما". وعندما أقول "شؤون عامة لبلد" بأكمله، فهذا يعني شؤون تخص عامة الناس، أي عموم المواطنين.

وبعبارة أخرى، كل من أراد أن يدخل غمارَ السياسة، عليه بكل بساطة أن يترجم هذا التعريف على أرض الواقع. والترجمة على أرض الواقع تقتضي أن يكون قولُ وعملُ السياسي موجهين نحو خدمة الصالح العام. هذا هو مفهوم السياسة البسيط لغويا والمتعارف عليه كونيا. لكن، عند ممارسة السياسة، هل يبقى مفهوم السياسة كلا متكاملا لا يشوبه أي انحراف أو تغيير أو تحوير؟ هنا بيت القصيد.

للإجابة على هذا التساؤل، دعوني أقول إن كافة المواطنين يمارسون السياسة عن وعي أو غير وعي لأنهم يساهمون بكيفية أو أخرى، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، في تدبير الشأن العام. لكن ممارستَهم هذه للسياسة تختلف من شخص إلى آخر أو من فئة أفراد إلى أخرى. وهذا هو ما جعلني أقول أعلاه أن هناك من يمارس السياسة بقلبه وهناك من يمارسها بعقله وهناك من يمارسها من خلال جيبه أو من أجل جيبِه.

إن أي مواطن، بحكم وجوده في مجتمع ما مَعْنِيٌ بعدة أنواع من السياسة منها السياسات الاقتصادية، الاجتماعية، التعليمية، الصحية، الطاقية، الخ. فكلما اهتم أو انتقد أو استحسن نوعا من هذه الأنواع، فإنه يمارس السياسة أو حتى لو بقي محايدا، فإنه يتحمل انعكاساتها.
فعندما يحتاج مثلا المواطن إلى خبز وخضر ولحم وسمك وحليب، الخ.، فإنه يذهب إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه. وحينما تكون هذه الحاجات والبضائع متوفرة، فهذا بفضل السياسة. هذا هو ما يُعرَّف بالسياسات العمومية التي تُصاغ من أجل الاستجابة لحاجيات ومتطلبات المواطنين الضرورية للسير العادي للحياة اليومية.

غير أن وجودَ السياسات العمومية مرتبط ارتباطا وثيقا بما يُسمى السياسة العامة للبلاد، التي تكون وراء إعداد وتوجيه السياسات العمومية. والسياسة العامة هي التي تُخطّط وتُعِدُّ وتوجِّه كل ما من شأنه أن يصُبّ في تسيير وتدبير الشؤون العامة للبلاد. والسياسة العامة مرتبطة بوجود الأحزاب السياسية أي أن هذه الأحزاب هي التي تُناط بها مهمة تسيير وتدبير الشؤون العامة للبلاد بعد انتخابها من طرف الشعب.

وهذا يعني أن الأحزاب السياسية مطالبةٌ بأن تخدمَ الصالح العام. وخدمة الصالح العام تتطلب ممن يخدمه الاتِّصاف بنُكران الذات والصّدق والنزاهة والشفافية والاستقامة وقول الحقيقة والانصاف والعدل والإخلاص، الخ. هذه هي صفات وخصال من أراد أن يمارس السياسة بمعناها النبيل.

غير أننا اليوم أصبحنا نجد أنفسَنا، على الأقل، أمام ثلاثة أنواع من السياسة : السياسة التي تُمارس بالقلب، السياسة المُمارَسة بالعقل والسياسة المُمارسة بالجيب أو من خلاله.

وقبل أن أتناول بالتّحليل كل صنف من السياسة على حدة، أريد فقط أن أثيرَ الانتباهَ أن غالبية كبيرة من المغاربة لا ينتمون للأحزاب السياسية وخصوصا الطبقة الواعية والمثقفة (هذا موضوع آخر).

ممارسة السياسة بالقلب

كل من عزف عن السياسة، رفضها أو تفاعل معها أو تعاطف معها أو انتقدها، الخ.، فإنه يمارسها من قلبه دون أن يكون مُنتميا لحزب من الأحزاب السياسية.

إن هذه الفئة من الناس أو من المجتمع واعيةٌ بما يجري داخل الساحة السياسية لكنها لا تؤثر على المشهد السياسي ولا تُغيِّر فيه شيئا لأن كل ما يصدر عنها من مواقف يبقى على مستوى النوايا. وعدم انتماء هذه الفئة من المواطنين للأحزاب السياسية ليس صدفة، بل هو رد فعل إرادي ناتجٍ عن كون السياسة والأحزاب السياسية بالمغرب لم تبلغْ بعدُ مرحلةَ النضج وسن الرشد والحِكمة.

والمُحيِّر في الأمر هو أن هذه الشريحة من المواطنين تريد التغيير وتريد الخير للبلاد لكنها تجد نفسها أمام مأزق : لا تؤمن بالسياسة كما هي ممارسة ولا تريد الانخراط في الأحزاب السياسية. إما أن تتبنى شعار "ومن بعديَ الطوفان" أو أن تتألم باستمرارٍ لما يجري داخل البلاد من جراء انحراف وتحريف السياسة. وهذه الفئة من المواطنين ينطبق عليها الحديث النبوي الشريف الذي يقول : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه".

ممارسة السياسة بالعقل

أتباع هذا النوع من السياسة موجودون داخل الأحزاب وخارجها. لكنهم في كلتي الحالتين أقلية قليلة بالمقارنة مع ممارسي السياسة بالقلب. تتميز هذه الفئة بكونها لها إلمام بالسياسة وما لها وما عليها وتعرف الأحزاب السياسية وما تُخفي وما تُعلن لكن لا وزن لها داخل أو خارج هذه الأحزاب.

فهذه الفئة، إن كانت داخل الأحزاب، فغالبا ما تذهب ضحيةَ صِدقها واستقامتها وتُصبح مُعرّضة للتّهميش والمناورات حيث تجد أمامها سدا منيعا قوامه الفساد والإفساد. فغالبا ما يؤدي هذا الوضع إلى إنشاء أحزاب جديدة لا تُسمن ولا تُغني من جوع بل تُساهم في بلقنة المشهد السياسي بعيدا عن إرادة المجتمع وطموحاته.

أما إذا كانت الفئة خارج الأحزاب، فإنها لن تستطيع أن تُغير شيئا لا في المشهد السياسي ولا في هذه الأحزاب بحكم أن هذه الفئة هي مجموعة أفراد لا تربطهم أية صلة لا من الناحية الإديولوجية ولا من الناحية التَّكتُّلية. قد يصرخون ويحتجون ويستنكرون ويكتبون...قد لا يستطيعون الوصول إلى أي تغيير لكن، على الأقل، يقفون على مكامن الخطأ ويثيرون الانتباهَ إليها. غير أنهم قد يتألمون لما يجري في الساحة السياسية أكثر من ممارسي السياسة بالقلب.

ممارسة السياسة من أجل الجيب أو من خلاله

أخطر نوع من السياسة هو الذي يُمارَسُ من أجل الجيب أو من خلاله. وهذا يعني أن فئةً عريضةً من الأشخاص (لا أقول المواطنين-حاشا أن يكونوا مواطنين) وجدوا في تحريفهم للسياسة مطيةُ لتحقيق مآرب لم يستطيعوا ولن يستطيعوا بلوغَها بطرق مشروعة.
وعندما أقول "من أجل الجيب أو من خلاله"، فالمقصود هو أن هؤلاء الأشخاص، قبل أن يدخلوا غِمار السياسة، يكِنُّون نيّات سيئة للوصول إلى مآربهم بأي ثمن. فهم مستعدون للقيام بكل ما من شأنه أن يضمن نجاحَ خططِهم من تزوير وإرشاء وكذب وتغيير الحقائق واستعمال المال الحرام لشراء الأصوات وشراء السكوت وشراء الذِّمم وشراء السلطة وشراء ضعف الناس والتلاعب بفقرهم وعوزهم ودوس كرامتهم وإغرائهم بالوعود الكاذبة...همهم الوحيد هو ملء جيوبهم واسترداد ما أنفقوه في الانتخابات مضاعفاً وأكثر.

والخطير في الأمر أن هذا النوع من السياسة فتح البابَ على مصراعيه للأميين والجَهلة الذين لا يفقهون في السياسة إلا تحريفَها ولا يهمُّهم في تسيير وتدبير الشأن العام إلا ما ينفخُ جيوبَهم. إنها لكارثة عظمي أُبْتُلِيَ بها المغرب باسم الديمقراطية. وكارثة عظمى أن يُسْنَدَ مصيرُ بلدة أو جماعة بأكملها لأدمغة خاوية وأيادي وسخة وبطون ملهوفة.

وأخطر من هذا و ذاك أن هذه الفئة من المتسلِّطين على السياسة لا تقتصر على الجهلة والأميين. بل يرتادها كذلك المثقّفون وليس أي مثقّفين. مثقَّفون أحيانا من عيار ثقيل كان من المفروض أن ينئوا عنها ويقومون بتوعية الناس بخطورتها عليهم وعلى مصالحهم ومصالح جماعاتهم.

مثقفون باعوا ويبيعون ضمائرهم من أجل الجلوس على كرسي أرجلُه تدوس كرامة الناس جانين منه ثمنا مَهْما كبُر وعظُم يبقى بخسا وخسيسا في أعين شرفاء المواطنين. وما قد تشمئز له الأنفس هو أن هؤلاء المثقفين لا يساوون شيئا أمام عجرفة مال الجهلة والأميين. ففوق بيعهم لضمائرهم، يبيعون شرفَهم وكرامتَهم و عزَّةَ أنفسِهم. أيُعقلُ أن يكون مثقفٌ مرؤوساً من طرف جاهل؟ أيُعقل أن يمحُوَ مثقفٌ سنواتِ تعليمه وتثقيفه وتنويره بين عشية وضُحاها بمجرد ما يسيل لعابُه أمام غنيمة انتخابية لا تساوي شيئا أمام سمو علمه و معرفته؟

لكن فئة المنتمين لسياسة الجيب تبلغ أوجها حينما يدخلها أصحاب الريع (صحاب الشكاير) وما أدراك ما أصحاب الريع. إنهم كالجرافات، لا يعترفون لا بالجهلة ولا بالمثقفين. يعترفون فقط بقوة المال. به، يشترون كل شيء. به، يسيطرون على كل شيء و به، يفتحون جميع الأبواب.

فإذا الْتَقَتْ الأصناف الثلاثة في المجالس المحلية و خصوصا منها القروية، لم يبْقَ للمواطنين سوى صلاة الجنازة على الصالح العام. وهو ما حصل ويحصل في العديد من المجالس المحلية التي أقبرت هذا الأخير وأصبح شغلُها الشاغل هو التطاحن والتواطؤ والتسابق من أجل اقتسام الكعكات المعجونة والمُمُلَّحَة بضرائب المواطنين.
العبث السياسي أصبح أمرا واقعا
إننا فعلا نعيش في زمن أصبح فيه العبث السياسي هو سيد الموقف. عبث سياسي جعل من الديمقراطية مُبرِّرا يركبه الفاسدُ ليعث فسادا. حتى أصبح المواطن يشم ويستنشق رائحة هذا الفساد أينما حلّ وارتحل. فبمجرد ما يضع المواطن قدمَه خارج بيته، عليه أن يتسلح بصبر أيوب لأنه لن يرى إلا الفساد بجميع أشكاله، الأخلاقي، الاجتماعي، الثقافي، النّاتج عن العبث السياسي وفي كل مكان : في الطريق، في الشوارع، في الأزقة، في الأماكن العمومية، في الإدارة، في المستشفيات، فوق الأرصفة، في الحافلات، في الشواطئ، في المحطات الطرقية، في المدارس، في الجامعات، في المرافق العمومية، في دُور الشباب، في الرياضة، في الفن، وحتى في المسائل الدينية...هذا إن لم يتسرَّب الفساد إلى البيوت.

إلى أين هذا الوضع الكارثي الذي أصبحت تتخبط فيه البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؟ أنحن في دولة الحق والقانون أم نحن في غاب أفرزه العبثُ السياسي؟ لقد أوشكنا أن نصبح بلدا يقطنه أفراد وليس جماعات بشرية قوامها التعايش والتساكن والتضامن والتكافل. كل هذا بسبب سياسة عابثة وراءها أناس لا يستحقون ثقة المواطنين، بل يستحقون سخطَهم وغضبَهم ولعنتَهم. أناس يجب أن يُحاكموا وأن يُرموا في مزبلة التاريخ ليكونوا عبرة لمن ستسوِّل لهم أنفسهم أن يعبثوا بعقول المواطنين والتلاعب بمصالحهم.

كفى من العبث. كفى من تحريف السياسة. فليذهب السياسيون المنحرفون إلى الجحيم. لقد سئم الناس من تصرفاتهم ومن أخلاقهم الدنيئة ومن نواياهم الدفينة ومن مكرِهم المقيت. لعنةُ الله عليهم وعلى مَن يزكيهم و يسير في نهجهم.

لو كان الأمر بيدي، لأصدرتُ قانونا يُجَرِّمُ الانخراط في الأحزاب السياسية لمدة 40 سنة. ريثما تنقرض هذه الشرذمة من البشر الفاسدة والمفسدة وفي نفس الوقت، القيام بتغيير جذري للمناهج التعليمية التي ستصبح فيها التربية على المواطنة وحب الوطن أمرا أفقيا إلزاميا يطال كل المواد الدراسية.

لأن المدرسة أصبحت تساهم مباشرة أو بطريقة غير مباشرة في بث الفساد لكونها انحرفت عن أسمى وأغلى القيم التي هي سر وجودها ألا وهي قيمة "تكافؤ الفرص". إن أخطر مؤسسة اجتماعية تُكرِّس الفوارق التعليمية والاجتماعية هي المدرسة. وحينما تُكرَّس الفوارقُ بالنقط المنفوخة، فإن المدرسة تصنع الفساد في عُقرها وترمي به في الحياة العامة ليستشري مفعوله بين الناس.

أتحدى أيا كان أن يُرِيني تلميذا نجح في البكالوريا بنقطة 19، 18، 17 و 16 و له إلمام بالقيم السامية من مواطنة وحب الوطن وتساكن وتعايش وحسن التعامل واستقامة ونزاهة وصدق وفكر نقدي...إلا النزر القليل. جل هؤلاء الناجحين همهم الوحيد هو الوصول إلى تحقيق أهدافهم المادية وفي أقرب وقت ممكن (منصب عالي، راتب مهم، سيارة، فيلا...). لك الله يا وطني!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...