د. زياد العوف - من تاريخ النقد الأدبيّ

يأتي هذا المقال عن نشوء ومراحل تطوّر النقد الأدبيّ في إطار سعي كاتب هذه السطور لتقديم صورة شاملة ودقيقة- وإنْ كانت مبسّطة- عن الأدب ونقده والنظريات المتعلّقة بهما على مرّ العصور.
إنّ تذوّق الأدب والانفعال والتأثّر بعناصر الجمال الكامنة فيه قديم قِدَم الأدب نفسه، وهذا يعني أنّ نشأة النقد الأدبيّ تكاد تكون ملازمة لنشأة الأدب ذاته، إلا أنّ النقد الأوليّ القديم كانت تغلب عليه السِّمة التأثّريةُ دون سواها، في حين تأخّر ظهور النقد المنهجيّ القائم على أسس وقواعد موضوعية محدّدة حتّى وقت متأخّر، وهذا أمر مفهوم؛ إذ إنّ نشوء فعّاليّة فكريّة جماليّة منظّمة ، كالنقد الأدبي المنهجيّ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنموّ ملَكَة التفكير والتقنين والتقعيد لدى الإنسان.
لقد مرّ النقد الأدبيّ بوصفه نشاطاً فكرياً جمالياً مشتملاً على التحليل والتفسير والتقويم بمراحل عديدة قادتْه من الذاتية إلى الموضوعية، ومن الملاحظات الجزئية إلى التحليل الكلّي، ومن التأثّر إلى الحكم المعلَّل ، ويمكن ربط المراحل المُشار إليها بالمناهج التالية:
أ- المنهَج التأثُّريّ
بيّنا فيما سبق أنّ النقد في بداياته الأولى قد غلب عليه الطابع التأثّريّ، بيْدَ أنّ التأثّر بالعمل الأدبي والانفعال بعناصر الجمال فيه يمثّل مقدّمة ضروريّة لا بُدّ منها لأيّ نشاط نقديّ؛ طالما أنّ نقد العمل الأدبيّ يبدأ بقراءته والتفاعل الوجدانيّ معه.
على أنّ النقد التأثّريّ المستند إلى الذوق الشخصيّ كان مدعوّاً إلى مواكبة التطور العام، والتطور في الفكر الجماليّ على وجه الخصوص، فكان أنْ نشأ لدينا ما يمكن أنْ ندعوه( المنهج التأثُّريّ)، وهو منهج وفيٌّ لتقاليد النقد القائم على تأثّر الناقد وتذوّقه الشخصيّ للأدب مع محاولة إضفاء بعض السمات الموضوعية والمنهجيّة المستندة إلى عدد من المعايير الفكرية والجمالية العامة. هذا..ومالبث النقد التأثّري أنْ تحوّل تدريجيّاً ليغدو بمثابة مرحلة أوّليّة لا بدّ منها للعمليّة النقديّة، وإنْ كانت غير كافية وحدها لنقد العمل الأدبي.
بناءً على ما تقدّم فإنّنا عندما نتحدّث اليوم عن المنهج التأثّري فنحن نشير إلى هذا المنهج النقديّ الذي يمنح الأولويّة للتأثّر والتذوّق الشخصيّ للناقد ، لكنْ دون إغفال العناصر الموضوعيّة الضرورية التي تمكّن الناقد من إصدار حكم منهجيّ معلَّل على العمل الأدبيّ.
ب- المنهج الاعتقاديّ
يدين هذا المنهج في نشأته الأولى إلى الكاتب المسرحيّ اليونانيّ(أريستوفان) الذي ضمّن مسرحيته الهجائية الساخرة( الضفادع) معظم آرائه النقديّة. لقد تمّ تقديم هذه المسرحية على المسرح سنة(٤٠٥ ق.م) وتشتمل على موازنة نقدية بين اثنين من أهم شعراء المسرح عند اليونان، هما( ايسخيلوس) و(يوربيدس) ، وقد اعتمد أريستوفان في أحكامه النقديّة على معيارين أساسيين، هما القيم الدينية والأخلاقية، من جهة، والبعد عن المبالغة والتّصنّع الأدبي ، من جهة أخرى؛ حيث يقوم بإصدار حكمه القطعيّ على لسان الإله الإغريقيّ (ديونيسيوس) بتفضيل ايسخيلوس على يوربيدس.
هذا، وقد استمرّ النقد الاعتقادي عبر العصور بصيغ ودرجات تتناسب والأزمنة والأمكنة المختلفة.
ويجب أنْ نلاحظ هنا أنّ هذا النوع من النقد يظلّ مشروعاً طالما حرص الناقد على تقديم صورة أمينة للعمل الأدبي بعيدة عن تشويهه أو المساس بعناصره الفكرية والجمالية، ثمّ إنّ الناقد حرّ بعد ذلك في إبداء رأيه في العمل الأدبي وِفقاً لمعتقداته
وتوجّهاته الفكرية والجمالية.
ج- المنهج الموضوعيّ
نقصد بالمنهج الموضوعي هنا ذلك المنهج الذي يستند إلى نظريّة عامة للفنون الأدبية تتضمّن أسساً ومقاييس موضوعية لنقد العمل الأدبي والحكم عليه.
يُعتبر( أرسطو) مؤسّس هذا المنهج، ويتّضح ذلك بجلاء ممّا ورد في كتابيه( الخَطابة) و( الشعر) اللذين يُمثّلان معلَمَين بارزين للنقد الموضوعي، ويمكن أنْ نشير هنا إلى نظريّته في محاكاة الفنون للطبيعة؛ حيث قسم المحاكاة إلى ثلاثة أنواع:
محاكاة للواقع، ومحاكاة لما يمكن أن يكون، ومحاكاة للمثال؛ أي لما يجب أن يكون. ثمّ قسّم الفنون تبعاً للوسائل التي تستخدمها في محاكاة
الطبيعة إلى أجناس أدبية.
استمرّت تعاليم أرسطو وأتباعه في الهيمنة على النقد الأدبي حتّى القرن الثامنَ عشرَ ، حيث بدأتْ تظهر دعوات ونظريات جديدة تعارض الأسس والمعايير التي اعتمدها هذا الفيلسوف والناقد اليوناني.
حيث ظهرت( الرومانتيكية) التي شنّتْ هجوماً عنيفاً على مبدأ المحاكاة، انطلاقاً من أنّ الأدب هو خلْق وإلهام هدفه التعبير عن ذات الإنسان.
إلّا أنّ المنهج الموضوعي استمرّ في تأثيره في النقد الأدبي، وإنْ كان بِصيغ أخرى، إذ إنّ الفنون والآداب لا تحيا وتزدهر دون أصول وقواعد ترتكز إليها؛ فالموهبة والإلهام لا يكفيان وحدهما لإنشاء الفنون والآداب.
وهكذا، فقد ظهر في القرن التاسعَ عشرَ الناقد الفرنسي البارز ( تين ) الذي ركّز على التفسير والتعليل في النقد الأدبي ، وبيّن أنّ خصائص الأدباء ومؤلّفاتهم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعناصرَ ثلاثةٍ هي:
١- العِرق أو الجنس الذي ينتمي إليه الأديب.
٢- عصر الأديب.
٣- بيئة الأديب.
كما ظهر في القرن نفسه كلٌّ من الناقد( برونتيير)
الذي اعتمد نظريّة ( داروين) في التطوّر وطبّقها على فنون الأدب.
ولا نستطيع أن نغفل هنا ذكر واحد من أعظم النقّاد في عصره ، وهو الناقد الفرنسي( سانت بيف ) الذي أعطى اهتماماً كبيراً لحياة الأدباء وتفصيلاتها الدقيقة وتأثير ذلك في انتاجهم الأدبي.
د- المنهج العلميّ الأكاديميّ
ورِث القرن العشرين إرثاً نقديّاً ضخماً تداخل وتفاعل وولّد اتّجاهات ومذاهب نقدية عديدة يكاد يصعب حصرها. ولعلّ المنهج العلميّ الأكاديميّ هو الأهمّ بينها؛ إذ هو يستفيد من معظم المذاهب الأساسية ويوازن بينها ويأخذ من كلّ منها ما يلائمه، بعد تهذيبه وتشذيبه.
هذا..وسأتابع في مقال تالٍ الحديث عن أهم المناهج النقدية المعاصرة بما يسمح به المقام.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...