السياسة عالمٌ غريبٌ وعجيبٌ! لماذا؟ لأننا اعتدنا عندما نسمع أو نقرأ كلمةَ "مهارة"، نفكِّر تلقائيا في الأشياء الجميلة أو الأشياء الحسنة التي تجعلنا نحِسُّ بشيءٍ من الرضا والراحة والاطمئنان. لأن كلمة "مهارة" تكون دائما مُقترِنةً بالإتقان وبالبراعة والحذاقة في أداء الأشياء والأعمال.
فهاهو السياسي يتدخَّل ويجعل كلمةَ "مهارة" مقترنةً بالمكر والاحتيال والتَّضليل والخداع والكيد والكذب…
"المهارة"، اعتدنا على أن نصنِّفَها في خانة الصفات التي، من الواجب، أن يتحلَّى بها كل مَن أراد أن يخلصَ في عمله، فإذا بالسياسي يحوِّلها إلى صفة لكن صفة مضادة للأخلاق والإنسانية. ولهذا، فأمهر السياسيين ليس هو الذي يتفانى في خدمة الصالح العام والمواطنين، بل هو الشخص الذي باستطاعتِه أن يُسحِرَ عقولَ الناس بمعلومات مزخرفة ومعسولة وبعيدة عن الواقع. فما هي المعلومة؟
المعلومة هي نوعٌ من المعرفةَ المتداولة التي يمكن أن تكونَ مقروءة أو مسموعة والتي تتعدَّد مصادرُها. ومن بين أهمُّ هذه المصادر، هناك شبكات التواصل الاجتماعية و وسائل الإعلام المكتوبة، المسموعة والمرئية وكذلك كُتُب التَّعميم vulgarisation والكُتب العلمية والأدبية…
والفرق القائم بين المعلومة information والمعرفة connaissance، هو أن هذه الأخيرة لها مصادر إنتاجها التي هي الفكر والتفكير والمختَبَر والملاحظة observation والتجريب expérimentation ومقارنة الأشياء… علما أن إنتاجَ المعرفة يتم في ظروف زمان ومكان معيَّنين.
أما المعلومة، فإنها غالبا ما تكون ناتِجةً عن تحويل المعرفة من معرفة دقيقة إلى معلومة معمَّمة information vulgarisée. والتعميم vulgarisation، عندما يطال المعرفةَ الدقيقة، فإنه يجرِّد هذه الأخيرة من ظروف إنتاجها الزمانية والمكانية. وبالتالي، تصبح عبارةً عن معلومة محايدة neutre، بمعني منعزلة عن ظروف إنتاجِها وعن الواقع، هذا إن لم تُعتبر معلومة مطلقة absolue، أي صالحة لكل زمان ومكان.
في عالم السياسة، فإن السياسي يفضِّل التَّعاملَ مع المعلومة لأنها، بالنسبة له، صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالي، من السهل عليه أن يُظهِرَها للناس كحقيقة مُطلقة. لهذا، نرى السياسي يحاول دائما فرضَ آرائه وأفكاره على الآخرين. ولتمرير هذه الحقائق، تراه يلجأ إلى الصُّراخ والانفعال والتظاهر بالتأثًّر إلى غير ذلك من وسائل الإقناع، علما أن هدفه الأول والأخير هو زرعُ بل غَرْز أفكارِه في أدمغة المواطنين.
ولا داعي للقول أن هذا النوعَ من السياسيين ينجحون بكل سهولة في غرس أفكارهم لدى شريحة عريضة من المواطنين الذين، بحكم أميتهم وجهلهم لمكر هؤلاء السياسيين، ينساقون مع أفكارهم ويُؤمنون بها.
والسياسيُ الذي يعتبر نفسَه ماهرا هو الذي له القدرة على زخرفة المعلومة وأقلَمتِها مع انتظارات المواطنين. بل له القدرة على تعطيل العقول وجعلها تركِّز انتباهها فقط وحصريا على ما يُنقَل لها من معلومات ساحِرة تجعل الناسَ يظنون أن السياسيَ يمهِّد لهم الطريق للعيش في فردوس ما بعده فردوس.
أما السياسي الذي يخاطب الناسَ بلغة المعرفة الدقيقة النابعة من تفكير وبحث موثوقين، فلا أحدَ ينصتُ إليه، لأنه، بكل بساطة، يخاطبُهم بلغة العقل. بينما الناس، في مثل هذه الحالات، غير مستعدِّين لتشغيل عقولهم، ومستعدون فقط لسماع السياسي الذي يخاطب عواطفَهم قبل أدمغتِهم. ومشهدنا السياسي مليء بهذا النوع من السياسيين الماكرين، المُخادعين والمتلاعبين بسذاجة الناس.
وفي هذا الصدد، لا أزال أتذكَّر أنه لما كنتُ مسئولاً وأستاذا بكلية علوم التَّربي بالرباط، بادر أحد الأساتذة بترشيح نفسه للانتخابات المحلية في دائرة حي الرياض. لكن الخطأَ الذي ارتكبه، هو أنه راح يخاطب الناسَ، في حملتِه الانتخابية، بلغة العلم والبحث والمختبرات. في نهاية المطاف، لم يحصل ولو على صوتٍ واحد، رغم أن ساكنةَ حي الرياض، جلُّهم من الطبقة المتعلِّمة والمثقَّفة.
وهنا، لا بدَّ من الإشارة أنه في بلدنا السعيد، عندما يصل أحد السياسيين إلى منصب من أعلى المناصب، تتنوَّع حقائقه المُطلقة وبقدرة قادر، يُصبح عارفاً في كل شيء، وبالتالي، تكثر معلوماتُه المُضلِّلة. والسياسي الحامل لمثل هذه الحقائق لا يعرف للتَّواضع سبيلا. بل إن توهُّمَه بكون معارفه حقائق مطلقة، يجعل منه شخصا يترفَّع على الآخرين ويصنِّف نفسَه في خانة سيد العارفين.
وهذا النوع من السياسيين، الحاملين للحقائق المُطلقة، من الصعب أن يقبلوا الحوارَ والنقاشَ وتبادلَ الأفكار. بل إنهم لا يرضون أن يستشيروا مع الآخرين لأن نرجِسِيتَهم تحول دون ذلك. ولهذا تراهم يثورون ويفقدون السيطرةَ على أعصابهم وسلوكهم كلما واجههم الغيرُ بمعارف وأفكار مضادة لتلك التي يعتبرونها مطلقة. وهنا، لا داعيَ للتَّذكير أن السياسة والأفكار التي تُروِّجها لا قيمة لها بدون حوارٍ ونقاشٍ وتناظر وتبادل للأفكار وأخذٍ وردٍّ.
وهذا النوع من السياسيين له حضور مكثَّف بالبرلمان حيث المعارف التي، من المفروض كان وراء إنتاجها أخصَّائيون، بل ربَّما قاموا بأبحاث علمية من أجل الوصول إليها، غالبا ما تتحوَّل إلى لغطٍ بين مُخاطِبٍ ومُخاطَبٍ، كل واحد منهما يريد أن يفرضَ معرفتَه على الطرَف الآخر أبى مَن أبى وكرِه مَن كرِه. في نهاية المطاف، يبقى الطرَفإن متشبِّثين بأفكارهما. هذا إن لم ينته التَّخاطبُ بتبادل الشتائم والسَّب والقذف…
وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن تحويلَ المعلومات إلى لَغَطٍ أصبح، عندنا، اختصاصا برلمانيا وحكوميا بامتياز. وهذا هو ما نلاحظه في غرفتي البرلمان، إلا مَن رحم ربي، عندما يتعلَّق الأمرُ بمراقبة العمل الحكومي من خلال الأسئلة الشفوية.
فهاهو السياسي يتدخَّل ويجعل كلمةَ "مهارة" مقترنةً بالمكر والاحتيال والتَّضليل والخداع والكيد والكذب…
"المهارة"، اعتدنا على أن نصنِّفَها في خانة الصفات التي، من الواجب، أن يتحلَّى بها كل مَن أراد أن يخلصَ في عمله، فإذا بالسياسي يحوِّلها إلى صفة لكن صفة مضادة للأخلاق والإنسانية. ولهذا، فأمهر السياسيين ليس هو الذي يتفانى في خدمة الصالح العام والمواطنين، بل هو الشخص الذي باستطاعتِه أن يُسحِرَ عقولَ الناس بمعلومات مزخرفة ومعسولة وبعيدة عن الواقع. فما هي المعلومة؟
المعلومة هي نوعٌ من المعرفةَ المتداولة التي يمكن أن تكونَ مقروءة أو مسموعة والتي تتعدَّد مصادرُها. ومن بين أهمُّ هذه المصادر، هناك شبكات التواصل الاجتماعية و وسائل الإعلام المكتوبة، المسموعة والمرئية وكذلك كُتُب التَّعميم vulgarisation والكُتب العلمية والأدبية…
والفرق القائم بين المعلومة information والمعرفة connaissance، هو أن هذه الأخيرة لها مصادر إنتاجها التي هي الفكر والتفكير والمختَبَر والملاحظة observation والتجريب expérimentation ومقارنة الأشياء… علما أن إنتاجَ المعرفة يتم في ظروف زمان ومكان معيَّنين.
أما المعلومة، فإنها غالبا ما تكون ناتِجةً عن تحويل المعرفة من معرفة دقيقة إلى معلومة معمَّمة information vulgarisée. والتعميم vulgarisation، عندما يطال المعرفةَ الدقيقة، فإنه يجرِّد هذه الأخيرة من ظروف إنتاجها الزمانية والمكانية. وبالتالي، تصبح عبارةً عن معلومة محايدة neutre، بمعني منعزلة عن ظروف إنتاجِها وعن الواقع، هذا إن لم تُعتبر معلومة مطلقة absolue، أي صالحة لكل زمان ومكان.
في عالم السياسة، فإن السياسي يفضِّل التَّعاملَ مع المعلومة لأنها، بالنسبة له، صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالي، من السهل عليه أن يُظهِرَها للناس كحقيقة مُطلقة. لهذا، نرى السياسي يحاول دائما فرضَ آرائه وأفكاره على الآخرين. ولتمرير هذه الحقائق، تراه يلجأ إلى الصُّراخ والانفعال والتظاهر بالتأثًّر إلى غير ذلك من وسائل الإقناع، علما أن هدفه الأول والأخير هو زرعُ بل غَرْز أفكارِه في أدمغة المواطنين.
ولا داعي للقول أن هذا النوعَ من السياسيين ينجحون بكل سهولة في غرس أفكارهم لدى شريحة عريضة من المواطنين الذين، بحكم أميتهم وجهلهم لمكر هؤلاء السياسيين، ينساقون مع أفكارهم ويُؤمنون بها.
والسياسيُ الذي يعتبر نفسَه ماهرا هو الذي له القدرة على زخرفة المعلومة وأقلَمتِها مع انتظارات المواطنين. بل له القدرة على تعطيل العقول وجعلها تركِّز انتباهها فقط وحصريا على ما يُنقَل لها من معلومات ساحِرة تجعل الناسَ يظنون أن السياسيَ يمهِّد لهم الطريق للعيش في فردوس ما بعده فردوس.
أما السياسي الذي يخاطب الناسَ بلغة المعرفة الدقيقة النابعة من تفكير وبحث موثوقين، فلا أحدَ ينصتُ إليه، لأنه، بكل بساطة، يخاطبُهم بلغة العقل. بينما الناس، في مثل هذه الحالات، غير مستعدِّين لتشغيل عقولهم، ومستعدون فقط لسماع السياسي الذي يخاطب عواطفَهم قبل أدمغتِهم. ومشهدنا السياسي مليء بهذا النوع من السياسيين الماكرين، المُخادعين والمتلاعبين بسذاجة الناس.
وفي هذا الصدد، لا أزال أتذكَّر أنه لما كنتُ مسئولاً وأستاذا بكلية علوم التَّربي بالرباط، بادر أحد الأساتذة بترشيح نفسه للانتخابات المحلية في دائرة حي الرياض. لكن الخطأَ الذي ارتكبه، هو أنه راح يخاطب الناسَ، في حملتِه الانتخابية، بلغة العلم والبحث والمختبرات. في نهاية المطاف، لم يحصل ولو على صوتٍ واحد، رغم أن ساكنةَ حي الرياض، جلُّهم من الطبقة المتعلِّمة والمثقَّفة.
وهنا، لا بدَّ من الإشارة أنه في بلدنا السعيد، عندما يصل أحد السياسيين إلى منصب من أعلى المناصب، تتنوَّع حقائقه المُطلقة وبقدرة قادر، يُصبح عارفاً في كل شيء، وبالتالي، تكثر معلوماتُه المُضلِّلة. والسياسي الحامل لمثل هذه الحقائق لا يعرف للتَّواضع سبيلا. بل إن توهُّمَه بكون معارفه حقائق مطلقة، يجعل منه شخصا يترفَّع على الآخرين ويصنِّف نفسَه في خانة سيد العارفين.
وهذا النوع من السياسيين، الحاملين للحقائق المُطلقة، من الصعب أن يقبلوا الحوارَ والنقاشَ وتبادلَ الأفكار. بل إنهم لا يرضون أن يستشيروا مع الآخرين لأن نرجِسِيتَهم تحول دون ذلك. ولهذا تراهم يثورون ويفقدون السيطرةَ على أعصابهم وسلوكهم كلما واجههم الغيرُ بمعارف وأفكار مضادة لتلك التي يعتبرونها مطلقة. وهنا، لا داعيَ للتَّذكير أن السياسة والأفكار التي تُروِّجها لا قيمة لها بدون حوارٍ ونقاشٍ وتناظر وتبادل للأفكار وأخذٍ وردٍّ.
وهذا النوع من السياسيين له حضور مكثَّف بالبرلمان حيث المعارف التي، من المفروض كان وراء إنتاجها أخصَّائيون، بل ربَّما قاموا بأبحاث علمية من أجل الوصول إليها، غالبا ما تتحوَّل إلى لغطٍ بين مُخاطِبٍ ومُخاطَبٍ، كل واحد منهما يريد أن يفرضَ معرفتَه على الطرَف الآخر أبى مَن أبى وكرِه مَن كرِه. في نهاية المطاف، يبقى الطرَفإن متشبِّثين بأفكارهما. هذا إن لم ينته التَّخاطبُ بتبادل الشتائم والسَّب والقذف…
وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن تحويلَ المعلومات إلى لَغَطٍ أصبح، عندنا، اختصاصا برلمانيا وحكوميا بامتياز. وهذا هو ما نلاحظه في غرفتي البرلمان، إلا مَن رحم ربي، عندما يتعلَّق الأمرُ بمراقبة العمل الحكومي من خلال الأسئلة الشفوية.