هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
يسير العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الشعوب العربية ، والمغرب منها، تحت وطأة الاستعمار الذي لم يكن التعايش معه سلميا ، وإنما هي حرب لم تترك لنا سوى الأعطاب والحكايات.
ما زلنا – حتى الآن- نحيا قصص وويلات الفترة الاستعمارية، وزادتها حروب متلاحقة، نرتبط بها وجدانيا وفعليا، حرب 67 ثم 73 من القرن الماضي، وما سيقع لاحقا في لبنان وليبيا والعراق علنا، وسرا في باقي الأطراف، حتى باتت لدينا ألفة تتَبُّع الحروب، وما بين الأيام والليالي من حروب معلنة على العيش والطمأنينة والأمل، على الذات والروح، على الأفكار والقيم ، فلم يُنتج الأدب المغربي أدب حرب ولكنه أنتج أدبا عن عنف الواقع أو ما يمكن أن أسميه بأدب الثأر، في ما يُكتب شعرا وسرد ومقالة وتعبيرات فنية.
لا يمكن أن يمجد الحرب أي إنسان أو يدعو لها ، والسلم مُتاح كما وسائل الصراع كثيرة ممكنة. وجهة نظري في الحرب، لا تختلف عن تلك أسلوب الحياة الذي نختاره في حياتنا اليومية العادية ، أو في لحظات الصراع أو في لغة التعبير الأدبي.
أما في شأن ما يجري، على أرض أوكرانيا، فهي فقط جولة من جولات الصراع على النفوذ الاقتصادي والعسكري. وفي العموم، الحرب أسوأ كابوس يمكن أن تحياه البشرية، ففيها تسقط الأشجار وتحترق الغابات والبيوت والشوارع والمتاحف.. وهي أشياء كلها يمكن ان تُعوض ، لكن موت الأطفال وتشرد العائلات والأسر والأصدقاء وسقوط كل الأعراف والقوانين والمبادئ لا يمكن إلا ان تنتج عطبا غائرا يوقف الزمن ويخلخل الذاكرة ويخنق الأمل والحلم.
الحرب ، ربما في رأي الجندي، حل أول أو ثاني، ولكنها في النهاية موت أخير لكل شيء جميل قبل القبيح.
الحرب تُعاش بالفعل ، حقيقة وتخيلا ، في اليقظة والنوم . بدوري أعيشها ولو أن فصولها تجري بعيدة عنا، لكنني ، مثل غيري، أشم رائحة البارود والعفن والصراخ ونحيب الثكلى وأنّات الفارين ، أحسها ، كما أشعر بثقلها كما لو أن ظلالها الساخنة والتكتيكات والخدع القاسية في كل الطرق التي أمر بها يوميا.
هل يمكن أن تغضي عما حولك ، وعن خراب يُسمع في كل العالم. ليس بوسعي تجاهلها أبدا، فأنا أتابعها بطريقتين وأعيشها بأكثر من صيغة، محاولا إيجاد مساحة سلام وطمأنينة وسط كل القلق الذي تسببه. لا يمكن تجاهلها وأنا أبحث يوميا في الصباح الباكر، في مختلف القنوات، التي تسرد الأحداث وتقدم التحليلات الموضوعية، بحثا عن أمل للتسوية وانتهاء الكابوس. ولا يمكنني تجاهلها ، لأن صخبها الدموي العنيف يصل إلى أقصى نقطة في هذا العالم ويضرب حياتنا في كل أبعادها الاقتصادية والثقافية.
لا يمكن الاعتزال والزهد في عالم متصل ومترابط ، فالحرب تطبع حياتنا بقوة وتضرب في مقتل لترك في الناجين جروحا لا تبرأ ولا تمحي آثارها، لذلك فإنها تنعكس في ما نكتب ، ليس بشكل مباشر، وإنما في لبوس جمالية تتشبث بكل ما يوحي بنقيض الحرب، نحتفي بالحياة وتفاصيلها كأننا رواة بإذن رباني موكول لنا تسجيل التفاصيل الحارة والخيالات الهاربة قبل القيامة، حتى تكون شفيعا للدنيا بذكر شيء لم تدمره الحروب.
إن الحرب تقيّد الفكر وتحُدُّ من أي انطلاق، تُرْبك العلاقات الإنسانية وتحوّل الزمن العادي إلى أزمنة شذرية متنافرة.. وهو ما ينعكس سلبا على علاقتنا بأنفسنا، وعلاقاتنا بالأشياء التي تربينا معها وفي كتفها وبالآخرين ، وبالقيم وبتلك الطمآنينة التي راكمتها النخب والعامة في كل العصور والمجتمعات.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 29/04/2022
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
يسير العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الشعوب العربية ، والمغرب منها، تحت وطأة الاستعمار الذي لم يكن التعايش معه سلميا ، وإنما هي حرب لم تترك لنا سوى الأعطاب والحكايات.
ما زلنا – حتى الآن- نحيا قصص وويلات الفترة الاستعمارية، وزادتها حروب متلاحقة، نرتبط بها وجدانيا وفعليا، حرب 67 ثم 73 من القرن الماضي، وما سيقع لاحقا في لبنان وليبيا والعراق علنا، وسرا في باقي الأطراف، حتى باتت لدينا ألفة تتَبُّع الحروب، وما بين الأيام والليالي من حروب معلنة على العيش والطمأنينة والأمل، على الذات والروح، على الأفكار والقيم ، فلم يُنتج الأدب المغربي أدب حرب ولكنه أنتج أدبا عن عنف الواقع أو ما يمكن أن أسميه بأدب الثأر، في ما يُكتب شعرا وسرد ومقالة وتعبيرات فنية.
لا يمكن أن يمجد الحرب أي إنسان أو يدعو لها ، والسلم مُتاح كما وسائل الصراع كثيرة ممكنة. وجهة نظري في الحرب، لا تختلف عن تلك أسلوب الحياة الذي نختاره في حياتنا اليومية العادية ، أو في لحظات الصراع أو في لغة التعبير الأدبي.
أما في شأن ما يجري، على أرض أوكرانيا، فهي فقط جولة من جولات الصراع على النفوذ الاقتصادي والعسكري. وفي العموم، الحرب أسوأ كابوس يمكن أن تحياه البشرية، ففيها تسقط الأشجار وتحترق الغابات والبيوت والشوارع والمتاحف.. وهي أشياء كلها يمكن ان تُعوض ، لكن موت الأطفال وتشرد العائلات والأسر والأصدقاء وسقوط كل الأعراف والقوانين والمبادئ لا يمكن إلا ان تنتج عطبا غائرا يوقف الزمن ويخلخل الذاكرة ويخنق الأمل والحلم.
الحرب ، ربما في رأي الجندي، حل أول أو ثاني، ولكنها في النهاية موت أخير لكل شيء جميل قبل القبيح.
الحرب تُعاش بالفعل ، حقيقة وتخيلا ، في اليقظة والنوم . بدوري أعيشها ولو أن فصولها تجري بعيدة عنا، لكنني ، مثل غيري، أشم رائحة البارود والعفن والصراخ ونحيب الثكلى وأنّات الفارين ، أحسها ، كما أشعر بثقلها كما لو أن ظلالها الساخنة والتكتيكات والخدع القاسية في كل الطرق التي أمر بها يوميا.
هل يمكن أن تغضي عما حولك ، وعن خراب يُسمع في كل العالم. ليس بوسعي تجاهلها أبدا، فأنا أتابعها بطريقتين وأعيشها بأكثر من صيغة، محاولا إيجاد مساحة سلام وطمأنينة وسط كل القلق الذي تسببه. لا يمكن تجاهلها وأنا أبحث يوميا في الصباح الباكر، في مختلف القنوات، التي تسرد الأحداث وتقدم التحليلات الموضوعية، بحثا عن أمل للتسوية وانتهاء الكابوس. ولا يمكنني تجاهلها ، لأن صخبها الدموي العنيف يصل إلى أقصى نقطة في هذا العالم ويضرب حياتنا في كل أبعادها الاقتصادية والثقافية.
لا يمكن الاعتزال والزهد في عالم متصل ومترابط ، فالحرب تطبع حياتنا بقوة وتضرب في مقتل لترك في الناجين جروحا لا تبرأ ولا تمحي آثارها، لذلك فإنها تنعكس في ما نكتب ، ليس بشكل مباشر، وإنما في لبوس جمالية تتشبث بكل ما يوحي بنقيض الحرب، نحتفي بالحياة وتفاصيلها كأننا رواة بإذن رباني موكول لنا تسجيل التفاصيل الحارة والخيالات الهاربة قبل القيامة، حتى تكون شفيعا للدنيا بذكر شيء لم تدمره الحروب.
إن الحرب تقيّد الفكر وتحُدُّ من أي انطلاق، تُرْبك العلاقات الإنسانية وتحوّل الزمن العادي إلى أزمنة شذرية متنافرة.. وهو ما ينعكس سلبا على علاقتنا بأنفسنا، وعلاقاتنا بالأشياء التي تربينا معها وفي كتفها وبالآخرين ، وبالقيم وبتلك الطمآنينة التي راكمتها النخب والعامة في كل العصور والمجتمعات.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 29/04/2022