تأتي هذه المقالة استكمالاً لما ورد في مقالتي السابقة عن النقد الأدبي الحديث ومقالتي الأسبق عن تاريخ النقد الأدبي.
ولا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ هذه المقالات لا تهدف إلى تقديم دراسة شافية وافية عن النقد الأدبي بقدر ما تسعى إلى التعريف العلمي الموجَز والدقيق- فيما أرجو- بهذا الحقل المعرفيّ المترامي الأطراف والمتعدّد المذاهب والتّيّارات التي قد تصل إلى درجة التعارض التّام في بعض الأحيان، وليس هذا الأمربالمستغرَب
في مجال الفنون والآداب وما يتعلّق بهما من نظريات أدبية ونقدية؛ ذلك أنّ هذه النظريات تختلف باختلاف الأسس والمنطلقات الفكرية والفنية التي تستند إليها.
إنّ النقد الأدبي هو علم وفنّ في الآن ذاته؛ أيّ أنّ الممارسة النقدية ترتبط ، في نهاية المطاف، بعلم الناقد وذوقه الشخصيّ أيضاً ، وهو ما يسمح بتعدّد القراءات للعمل الأدبي الواحد ، ولا ضير في ذلك، فيما أرى،
طالما خضع النقد للتحليل المنهجي والموضوعية والحُكم المعلَّل ؛ فذلك كلّه ممّا يُثري الأدب والنقد على السواء.
ذكرتُ في مقالتي السابقة أنّ النقد الأدبي المعاصر يدين في معظمه بأسسه ومناهجه ومصطلحاته إلى السيميائيات واللسانيات البنيويّة على وجه الخصوص.
إنّ صلة اللغة وعلومها بالنقد الأدبي لا تحتاج إلى تعليل ، كما أنّ هذه الصّلة موغلة في القِدَم قِدَمَ الأدب ذاته ، لكنّ الأمر قد أخذ مع النقد المعاصر بعداً نظرياً ومنهجيّاً جوهرياً
ويظهر ذلك بجلاء من خلال ثلاثة مذاهب نظرية ونقدية أُجمِلُ القول فيها في السطور التالية :
١- الشكلانيّة الروسيّة
ازدهرتْ هذه المدرسة النقديّة في روسيا في الثلُث الأوّل من القرن العشرين ، وكان من أقطابها المؤسسين كلّ من ( إيخنبوم) و( سكلوفسكي) . ويمكن إجمال الأسس النظرية التي قامت عليها بالمبادئ التالية:
آ- التأكيد على الطابع اللغويّ للعمل الأدبيّ.
ب- التأكيد على استقلالية" علم الأدب".
ج- التأكيد على استقلالية العمل الأدبي.
د- التأكيد على خصوصية اللغة الأدبية.
على أنّ ( الشكلانيين) المتأخرين قد أدخلوا بعض التعديلات النظرية والتطبيقية على مفهوم( الاستقلالية) المُشار إليه ، وذلك من خلال مقاربتهم الوظيفية والديناميكية للظاهرة الأدبية؛ حيث أكّدوا على العلاقة المتبادَلة بين كلٍّ من العمل الأدبي والسياق الاجتماعي- الثقافي لهذا العمل.
أمّا عن النزعة اللسانية البنيويّة للمدرسة الشكلانية فإنّها تتجلّى في النظر إلى العمل الأدبي بوصفه نظاماً متكاملاً يندرج في الإطار الكلّي للأدب باعتباره نظاماً للأنظمة.
٢- نظرية الأدب البنيويّة" الشعريّة البنيويّة"
نشأت هذه المدرسة وازدهرتْ في فرنسا في ستينيات القرن الماضي ولا تزال تحظى بالمؤيّدين والاتباع إلى يومنا هذا .
لقد تركّز نشاط منظّري هذا التيّار حول مفهوم القصّة الأدبية وبنيتها سعياً للكشف عن " الخصوصية الأدبية" ، وذلك من خلال تتبّع السِمات الأدبية التي تميّز الأعمال الأدبية المختلفة.
إنّ" الشعرية البنيوية" أيّ علم الأدب البنيوي كما يراه ( تودوروف) ، وهو أحد أقطاب هذا الاتّجاه، لا يرى في العمل الأدبي سوى حالة خاصّة من
" الخطاب الأدبي" الذي يهدف " علم الأدب" إلى الكشف عن خصائصه العامة التي تتكرّر مع كلّ أثر أدبي .
إنّ" الخطاب الأدبي" ،وفق هذا المنظور ، إنّما هو بنية عامة مجرّدة يمثّل العمل الأدبي، أيّ عمل، أحد أشكاله أو تجلّياته الممكنة.
هذا..وقد قدّمتْ الشعرية الفرنسية عدداً كبيراً من الأعمال النظرية والتطبيقية التأسيسيّة التي شكّلت، ولا تزال، أساساً لاغنى عنه لكلّ مقاربة جادة للأعمال الأدبية، ويقف وراء هذه الأعمال عدد من العلماء والمنظّرين والنقّاد اللامعين ، نذكر منهم على سبيل المثال لاالحصر كلاًّ من ( رولاند بارت) و( جيرار جينيت) و( تودوروف)و( غريماس).
٣- نظريّة النصّ
أتتْ هذه النظرية بمثابة ردّ فعل على
" الشعرية البنيويّة" التي كانت تؤكّد على استقلالية العمل الأدبي وعلى طابعه اللغوي، ويعود الفضل الأوّل في تأصيل أسس هذه النظرية ووضع مناهجهاالتطبيقية
ومصطلحاتها العلمية إلى الباحثة والناقدة البلغارية الأصل والفرنسية الإقامة
( جوليا كريستيفا) حيث استلهمتْ في أبحاثها المبتكرَة الأعمال العلمية
الرائدة لعالِم الإنسانيات والناقد الروسيّ الفذّ( ميخائيل باختين) وبخاصة في فلسفة اللغة؛ حيث أكّد على الطابع الاجتماعي للعلامة اللغوية( الكلمة)، وكذلك دراساته لأنواع الخطاب ، وبخاصة الخطاب الروائي وما ينطوي عليه من خصائص تتمثّل أساساً في كلٍّ من
" التعدّدية اللغوية" و" البوليفونية"
و" الحوارية"، بالإضافة إلى تأثّرها الواضح ببعض المفاهيم الأساسية التي وضعها( باختين) مثل "الزمكانية" و" أيديولوجيم" و "الشكل المعرفي" .
على أنّ ذلك لا يُقلّل بالطبع من أهمية الإنجاز النظري والمنهجي لكريستيفا .
إنّ الفكرة الجوهرية التي تعتمدها
" نظرية النصّ" منطلقاً لها هي النظر إلى النصّ بوصفه" ممارسة سيميائية عبر لغوية" . إنّ هذا المفهوم يتضمّن العناصر الأساسية التالية:
١- النصّ عبارة عن" إنتاجية" وليس
منتوجاً جاهزاً.
٢- يرتبط مفهوم " الإنتاجية" بمفهوم " التّناص" ، والمقصود من ذلك النظر إلى النصّ بوصفه فضاءً تلتقي فيه وتتقاطع العديد من "الملفوظات" المأخوذة من نصوص أخرى.
٣- يتكوّن النصّ مِن وحدات أيديولوجية " أيديولوجيم"
وتجب الإشارة هنا إلى أنّ " النصّ"
وِفق هذا المنظور إنّما هو مجرّد مفهوم منهجيّ، وذلك خلافاً للعمل الأدبي الذي له وجود فعليّ متحقّق.
هذا وقد قام المفكّر والمنظّر والناقد اللامع
( رولاند بارت) بإغناء" نظرية النصّ" بدراساته التحليليّة النقدية القيّمة، وكذلك بعدد من المفاهيم المعرفية والمصطلحات الفنّية ، مثل" تعدّدية النصّ" و " قابليّة النصّ للقراءة أو للكتابة" و " التّحوّل الدائم للنصّ"
و " لذّة النصّ" .
وقد استمرّت الدراسات والأبحاث المتّصلة بالنصّ بالتّطور والاتّساع إلى أنْ استقلّت بعلم خاص
بها هو " علم النصّ" الذي يهتمّ بدراسة النصّ والبحث في خصائصه
ومقوّماته متوسّلاً إلى ذلك بمنهج مركّب يعتمد عدداً من العلوم اللغوية
وغير اللغوية كالبلاغة والسيميائية والتداولية والشعرية والمنطق...
ويُعَدّ( فان ديجك) أحد أهم الباحثين في هذا المجال في وقتنا الحاضر.
كانتْ تلك لمحة موجزة عن بعض أهم تيارات النقد الأدبي المعاصر تداخلتْ بالضرورة مع النظريات اللسانية والأدبية المولّدة لها والمتفاعلة معها.
دكتور زياد العوف
ولا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ هذه المقالات لا تهدف إلى تقديم دراسة شافية وافية عن النقد الأدبي بقدر ما تسعى إلى التعريف العلمي الموجَز والدقيق- فيما أرجو- بهذا الحقل المعرفيّ المترامي الأطراف والمتعدّد المذاهب والتّيّارات التي قد تصل إلى درجة التعارض التّام في بعض الأحيان، وليس هذا الأمربالمستغرَب
في مجال الفنون والآداب وما يتعلّق بهما من نظريات أدبية ونقدية؛ ذلك أنّ هذه النظريات تختلف باختلاف الأسس والمنطلقات الفكرية والفنية التي تستند إليها.
إنّ النقد الأدبي هو علم وفنّ في الآن ذاته؛ أيّ أنّ الممارسة النقدية ترتبط ، في نهاية المطاف، بعلم الناقد وذوقه الشخصيّ أيضاً ، وهو ما يسمح بتعدّد القراءات للعمل الأدبي الواحد ، ولا ضير في ذلك، فيما أرى،
طالما خضع النقد للتحليل المنهجي والموضوعية والحُكم المعلَّل ؛ فذلك كلّه ممّا يُثري الأدب والنقد على السواء.
ذكرتُ في مقالتي السابقة أنّ النقد الأدبي المعاصر يدين في معظمه بأسسه ومناهجه ومصطلحاته إلى السيميائيات واللسانيات البنيويّة على وجه الخصوص.
إنّ صلة اللغة وعلومها بالنقد الأدبي لا تحتاج إلى تعليل ، كما أنّ هذه الصّلة موغلة في القِدَم قِدَمَ الأدب ذاته ، لكنّ الأمر قد أخذ مع النقد المعاصر بعداً نظرياً ومنهجيّاً جوهرياً
ويظهر ذلك بجلاء من خلال ثلاثة مذاهب نظرية ونقدية أُجمِلُ القول فيها في السطور التالية :
١- الشكلانيّة الروسيّة
ازدهرتْ هذه المدرسة النقديّة في روسيا في الثلُث الأوّل من القرن العشرين ، وكان من أقطابها المؤسسين كلّ من ( إيخنبوم) و( سكلوفسكي) . ويمكن إجمال الأسس النظرية التي قامت عليها بالمبادئ التالية:
آ- التأكيد على الطابع اللغويّ للعمل الأدبيّ.
ب- التأكيد على استقلالية" علم الأدب".
ج- التأكيد على استقلالية العمل الأدبي.
د- التأكيد على خصوصية اللغة الأدبية.
على أنّ ( الشكلانيين) المتأخرين قد أدخلوا بعض التعديلات النظرية والتطبيقية على مفهوم( الاستقلالية) المُشار إليه ، وذلك من خلال مقاربتهم الوظيفية والديناميكية للظاهرة الأدبية؛ حيث أكّدوا على العلاقة المتبادَلة بين كلٍّ من العمل الأدبي والسياق الاجتماعي- الثقافي لهذا العمل.
أمّا عن النزعة اللسانية البنيويّة للمدرسة الشكلانية فإنّها تتجلّى في النظر إلى العمل الأدبي بوصفه نظاماً متكاملاً يندرج في الإطار الكلّي للأدب باعتباره نظاماً للأنظمة.
٢- نظرية الأدب البنيويّة" الشعريّة البنيويّة"
نشأت هذه المدرسة وازدهرتْ في فرنسا في ستينيات القرن الماضي ولا تزال تحظى بالمؤيّدين والاتباع إلى يومنا هذا .
لقد تركّز نشاط منظّري هذا التيّار حول مفهوم القصّة الأدبية وبنيتها سعياً للكشف عن " الخصوصية الأدبية" ، وذلك من خلال تتبّع السِمات الأدبية التي تميّز الأعمال الأدبية المختلفة.
إنّ" الشعرية البنيوية" أيّ علم الأدب البنيوي كما يراه ( تودوروف) ، وهو أحد أقطاب هذا الاتّجاه، لا يرى في العمل الأدبي سوى حالة خاصّة من
" الخطاب الأدبي" الذي يهدف " علم الأدب" إلى الكشف عن خصائصه العامة التي تتكرّر مع كلّ أثر أدبي .
إنّ" الخطاب الأدبي" ،وفق هذا المنظور ، إنّما هو بنية عامة مجرّدة يمثّل العمل الأدبي، أيّ عمل، أحد أشكاله أو تجلّياته الممكنة.
هذا..وقد قدّمتْ الشعرية الفرنسية عدداً كبيراً من الأعمال النظرية والتطبيقية التأسيسيّة التي شكّلت، ولا تزال، أساساً لاغنى عنه لكلّ مقاربة جادة للأعمال الأدبية، ويقف وراء هذه الأعمال عدد من العلماء والمنظّرين والنقّاد اللامعين ، نذكر منهم على سبيل المثال لاالحصر كلاًّ من ( رولاند بارت) و( جيرار جينيت) و( تودوروف)و( غريماس).
٣- نظريّة النصّ
أتتْ هذه النظرية بمثابة ردّ فعل على
" الشعرية البنيويّة" التي كانت تؤكّد على استقلالية العمل الأدبي وعلى طابعه اللغوي، ويعود الفضل الأوّل في تأصيل أسس هذه النظرية ووضع مناهجهاالتطبيقية
ومصطلحاتها العلمية إلى الباحثة والناقدة البلغارية الأصل والفرنسية الإقامة
( جوليا كريستيفا) حيث استلهمتْ في أبحاثها المبتكرَة الأعمال العلمية
الرائدة لعالِم الإنسانيات والناقد الروسيّ الفذّ( ميخائيل باختين) وبخاصة في فلسفة اللغة؛ حيث أكّد على الطابع الاجتماعي للعلامة اللغوية( الكلمة)، وكذلك دراساته لأنواع الخطاب ، وبخاصة الخطاب الروائي وما ينطوي عليه من خصائص تتمثّل أساساً في كلٍّ من
" التعدّدية اللغوية" و" البوليفونية"
و" الحوارية"، بالإضافة إلى تأثّرها الواضح ببعض المفاهيم الأساسية التي وضعها( باختين) مثل "الزمكانية" و" أيديولوجيم" و "الشكل المعرفي" .
على أنّ ذلك لا يُقلّل بالطبع من أهمية الإنجاز النظري والمنهجي لكريستيفا .
إنّ الفكرة الجوهرية التي تعتمدها
" نظرية النصّ" منطلقاً لها هي النظر إلى النصّ بوصفه" ممارسة سيميائية عبر لغوية" . إنّ هذا المفهوم يتضمّن العناصر الأساسية التالية:
١- النصّ عبارة عن" إنتاجية" وليس
منتوجاً جاهزاً.
٢- يرتبط مفهوم " الإنتاجية" بمفهوم " التّناص" ، والمقصود من ذلك النظر إلى النصّ بوصفه فضاءً تلتقي فيه وتتقاطع العديد من "الملفوظات" المأخوذة من نصوص أخرى.
٣- يتكوّن النصّ مِن وحدات أيديولوجية " أيديولوجيم"
وتجب الإشارة هنا إلى أنّ " النصّ"
وِفق هذا المنظور إنّما هو مجرّد مفهوم منهجيّ، وذلك خلافاً للعمل الأدبي الذي له وجود فعليّ متحقّق.
هذا وقد قام المفكّر والمنظّر والناقد اللامع
( رولاند بارت) بإغناء" نظرية النصّ" بدراساته التحليليّة النقدية القيّمة، وكذلك بعدد من المفاهيم المعرفية والمصطلحات الفنّية ، مثل" تعدّدية النصّ" و " قابليّة النصّ للقراءة أو للكتابة" و " التّحوّل الدائم للنصّ"
و " لذّة النصّ" .
وقد استمرّت الدراسات والأبحاث المتّصلة بالنصّ بالتّطور والاتّساع إلى أنْ استقلّت بعلم خاص
بها هو " علم النصّ" الذي يهتمّ بدراسة النصّ والبحث في خصائصه
ومقوّماته متوسّلاً إلى ذلك بمنهج مركّب يعتمد عدداً من العلوم اللغوية
وغير اللغوية كالبلاغة والسيميائية والتداولية والشعرية والمنطق...
ويُعَدّ( فان ديجك) أحد أهم الباحثين في هذا المجال في وقتنا الحاضر.
كانتْ تلك لمحة موجزة عن بعض أهم تيارات النقد الأدبي المعاصر تداخلتْ بالضرورة مع النظريات اللسانية والأدبية المولّدة لها والمتفاعلة معها.
دكتور زياد العوف