إبراهيم محمود - ركلات فلسفية "8" حول كتاب الدكتور عبدالله الغذامي: مآلات الفلسفة

-8-

فضيحة الفلسفة أم فضيحة الواصف لها ؟

لا يدخر الغذامي جهداً في التأكيد على أن الفلسفة قضيت، وأصبحت في ذمة التاريخ، وهو تاريخ لا يُحسَد عليه، لمن يتناول الفلسفة نشأة ومفهوماً، وما يخص " مآلاتها " وبصيغة الجمع، تأكيداً على أنها أكثر من كونها متَّهمة، وأن رصيدها في البقاء ، ليس منتهياً فحسب، وإنما يستدعي إمعان النظر في حقيقته " الرصيد " أيضاً والتدقيق في ما إذا كان " مدسوساً " كما يظهر...!
من أين جاء الغذامي بعبارة " الفضيحة " وربطها بالفلسفة، هكذا " فضيحة الفلسفة الكبرى "؟
ثمة من وفَّر له ذلك، وهو الذي كان ينتظر هذه الوصفة التي فعَّلها عربياً في كتابه، أي الفيلسوف التحليلي الأمريكي جون سيرن " 1932 -..."، ودون أن يتروَّى ويتساءل عن خلفية القول: التهمة تحديداً، دون أن يطرح السؤال الذي لا بد منه، من أكاديمي ومفكر مثله: عن حقيقة ما قاله سيرل، وهو أبعد ما يكون عن الفلسفة في نوعية معينة، وليس الفلسفة، على وجه العموم، وإلا لكان هو نفسه مشمولاً بالفضيحة هذه، أي إن الفلسفة المعنية هي القارية: فرنسا وألمانيا، في الواجهة، وفي ذلك ترددَ كلامٌ كثير، وسجاله مع جاك دريدا، ربما يعتبر مفصلياً فيما تقدَّم .
الغذامي، كما هو مقروء في كتابه، لم يصدَّق فيما سمعه أو قرأه بلسان سيرل، كغيره، ممن رأى فيما يكتبونه من موقع الخصومة للفلسفة، مطلقاً هذه العبارة الآنفة الذكر،ليبني عليها ما يعتبرها الحركة الأخيرة أو النهائية لجسد الفلسفة، وقد تضعضع كلياً من الداخل. غير أن الذي يقوله سيرل مثل الذي قاله ويقوله سواه من موقع الخصومة، دون أن ينادي بوجوب التخلص من الفلسفة وقد استحالت " جثة " متفسخة، وضرورة رميها بعيداً، أو دفنها على وجه السرعة، لأن الذي يقال هنا لا ينفصل في المتن عما هو فلسفي، ويدعم الفلسفة بأسباب القوة والمقاومة، وتبصرة أوجه العجز في بنيتها، أو حقيقتها، أو جانب منها أو أكثر، أي حيث تنتمي الفضيحة، بمفهومها الفلسفي إلى ذاتية الفلسفة، تعبيراً عما يحصل فيها من خلل وكيفية إصلاح حالها، بينما في حالة الغذامي، فثمة ما هو مثير للاستهجان، وهو غير متنبه إلى هذه " السقطة " اللافلسفية، حيث أدخل المفردة " الفضيحة " في نصه الساخن، وهي بسيمائها الاجتماعية والأخلاقية .
لهذا سوف أتوقف عند هذه العبارة، وكيف وردت من قبل الغذامي وما يضيئها تاريخياً .



ما جاء من لدن الغذامي وما يأتي في سياقه
ينطلق الغذامي ممّا يسميه بـ" أسئلة الوجود " ومن ذلك (هل استقالت الفلسفة وتخلت عن أخطر وأهم أسئلتها؟! . ص 51 .) ، وما يكون توضيحاً لما يريد النظر فيه(ويستعين براسل في متابعة نظرية لابينتز متقبلاً بها على مستوى التصور الفلسفي. ص 62 .)
وسابقاً كان قد ذكر القضايا الكبرى في الفلسفة وهي لما تزل تحمل التحدي هي كما حددها كانط: الله/ الخلود: الإرادة الحرة..ص51...لهذا يستعين بجون سيرل " 1932- " الذي يستبقيه ومعه آخرون من فلاسفة وعلماء الغرب، إذ يورد ما جاء من طرف سيرل ساخراً في فقرة الإرادة الحرة : إن سؤال الإرادة الحرة يمثل فضيحة كبرى للفلسفة...ليعلق الغذامي : وعلى مدى قرن كامل لم يخرج الفلاسفة بجواب سوى أن يردّدوا الأجوبة نفسها. ص 70 . وثمة آخرون لتأكيد ذلك: روجر والش، الذي يقول عن أن الإرادة الحرة ، هي أعظم ألغاز الحياة، وهكذا دانييل دينيت الذي نبّه علماء الاعصاب بأن : توقفوا عن إبلاغ الناس أنهم بلا إرادة حرة . ص 71 .. ولهذا كان المأزق الذي وقعت فيه الفلسفة والعلوم الطبيعية ، وتبصرة ذلك من جون سيرل، وكيف أنه أدرك ذلك في تتبّعه لما توصل إليه آخرون في الفلسفة والبيولوجيا وعلماء الأعصاب وعلماء النفس، في كل الاتجاهات ، مؤمنهم وملحدهم، ليقول باستحالة الجواب على ذلك، وكيف أن الفلاسفة شغلوا أنفسهم بسؤال لا يستطيعون تفسيره ، وثمة كريستوف كوش بأنه لا بد أن نؤمن بالمصدر غير الجسدي لكي نقول بالإرادة الحرة .ص 77 ..
...إلخ
أكتفي بالاقتباسات هذه، لأنها، كما أرى، تضمن إمكانية متابعة ما يمكن قوله مناقشة أو توضيحاً، أو تذكيراً، بتلك الثغرات/ الصدوع الكبرى التي تملأ " نصه " وما يشكل تعرية لسوء فهمه لحقيقة الفضيحة، وكيف جرى استعمالها، وكيف جرت كتابتها عربياً، ولم تعد موصولة بالفلسفة.
كما هو الحديث عن العجز، أو الضعف، تكون الفلسفة، مثلما تكون الرواية، مثلما يكون النقد، ومثلما يكون العلم...إلخ، ثمة دائماً ما يشكل " إصابة " معينة، للنوع الفكري أو الأدبي، في الزمان والمكان، تستدعي يقظة من نوع خاص، للوقوف على حقيقة الخلل وتجاوزه .
أما من جهة الموسوم " فضيحة الفلسفة الكبرى " فهي من الفلسفة إلى الفلسفة، ناحية النوعية .
ولا بد أن هناك " نوبة " غضب تملَّكت سيرل، وهو يطلق العبارة هذه، ليس حرصاً على الفلسفة عموماً، وإنما شعوراً أنه جرِح في وعيه ومفاهيمه المفصلية، وإلا فإنه من غير المعقول أن أحدهم يدرج نفسه في عِداد ما تقدَّم، وإلا لاعتبر غير سوي بالتأكيد،لأن الذي ترتب على تلك العلاقة العابرة للبحار، وانشغل بما أثير بين فلسفة وأخرى، أو داخل نطاق الفلسفة في تنوعها، ليس تعبيراً عن الفضيحة، وإنما ما يثري الفلسفة بالذات، وهو ما لم يستطع الغذامي التقاطه، وهو ما لم يكن في حساب الغذامي التفكير فيه، لأنه لم يعش ما هو فلسفي يوماً. وهذه " فضيحة " تعنيه، بالمعنى الذي أراده، وما في ذلك من مكاشفة للأرضية الزلقة التي يسيّر عليها تصوراته.
إذ ليس سيرل هو من استحدث التسمية أو العبارة، إنما وجِدت قبله، ومن قبل من لا يرتاح إلى ذكر أسمائهم، أو هم من خصومه في نطاق الفلسفة القارية!
أشير إلى كانط وما قاله بصدد الفلسفة قبل أكثر من قرنين:
(قال كانط إن فضيحة الفلسفة الكبرى هي أنها لم تتمكن أبدًا من إثبات وجود العالم، وأنه ليس حلمًا بسيطًا، أو خيالًا.
يدعونا بولهان، بدقة ثاقبة ومرحة، عدو كل تحذلق، إلى النظر في بعض المفارقات التي لا تزال حداثتنا الأدبية تواجهها. في كل مكان، يحتفظ الحقيقي في موطنه بالطابع المزدوج للوضوح والغموض حيث يكون المرئي دائمًا مخفيًا من ناحية. وبعيدًا عن الرغبة في تسليط الضوء عليها،من ناحية أخرى، تذكرنا هذه الرسالة الصغيرة بأن اللغز لا يزال قائمًا.) "1 "
وما أشير إلى ذلك في مكان آخر:
(في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب نقد العقل الخالص، يشير كانط في حاشية سفلية إلى أن حقيقة "الاعتراف بوجود أشياء خارجية كاعتقاد" تمثل "دائمًا فضيحة للفلسفة وللحواس. المشتركة بشكل عام"، وبقدر ما يمكن للمثالي (المادي) أن يشك في هذا الوجود، فإن عبء الدليل الكافي يقع عندئذ على عاتق الفيلسوف. إذا كانت الفضيحة في اللاهوت مناسبة للخطيئة، فهي في الفلسفة مناسبة للخطأ، كما يتضح من جميع أشكال المثالية غير النقدية التي تهاجم هذا الاعتقاد. وبغضّ النظر عن محتوى الدليل الذي يرى كانط أنه وجده، فإننا سنحتفظ بشكل أساسي بقيمة شهادته التي لا تخفي الصعوبات، كما يشهد تاريخ الفلسفة الحديثة من خلال هذه المحاولات التي كانت بمثابة المثالية الإشكالية لديكارت التي جعلت وجود الأشياء المشكوك فيها أو المثالية العقائدية لبيركلي تجعل الفضاء والأشياء الخارجية محض خيال. إذا كان كانط يعتبر أن المثالية المتعالية هي نظام يترك الإيمان بوجود الأشياء المعطاة في التجربة سليمًا، فإن الأمر نفسه ينطبق على فيخته، باستثناء أن الفضيحة بالنسبة له ليست فضيحة. دون أن يكون من الممكن تقديم دليل نظري وضروري وكاف لوجود الأشياء خارجنا. وسيكون الأمر يتعلق برؤية كيف أن ما يعتبره كانط بمثابة نقص مؤقت يجب ملؤه، من خلال تطبيق مبادئ الفلسفة النقدية، سيظهر لفيخته عجز العقل النظري عن تلبية متطلبات حقيقة الذات؛ ولذلك نقترح هنا إعطاء بعض اللمحات من مثالية فيخته من خلال التعامل مع مشكلة موضوعية العالم، لأن الحد من الفضيحة يسير جنبا إلى جنب مع ما يسميه فيخته "استنتاج [...] تمثيلات العالم"، وهذا يعني استنتاج العالم نفسه من الذات.) " 2 "
ذلك يقدّم لنا تصوراً ذا صلة مباشرة بالفلسفة كمفهوم، وبالفضيحة التي تضيء هذا المفهوم، وما إذا كان هناك خلل معين، أو مأزق مفهومي، يستدعي النظر وتسميته، لتكون الفلسفة أقوى .
الفضيحة توجّهنا نحو سر ينبثق من داخل المعمول أو المكتوب فلسفياً، وهي تسمّي مستقبلاً لا يعوَّل عليه، نظراً لوجود ما يلجم حركة الفلسفة، ويحول بينها وبين عملها تفكيراً ودوام نظر، وبالتالي، فإنها تنحصر في دائرة معلومة بحدودها، كما أنها مأخوذة بعلامة فارقة لا يعلم بأمرها أو حقيقتها إلا ما أوتي علم تشخيص ذي علاقة بالجاري، وفكراً فلسفياً في مستوى المعاينة لها.

الفضيحة في المنحى المقابل والمفتوح
ثمة من مارس اقتفاءَ أثر للفضيحة مفهوماً اجتماعياً، وفي سياق العلاقات القائمة ، حيث يتبين ذلك الثراء البحثي في التفصيل المعلوماتي، وعمق الروابط المجتمعية المؤثرة في تلوينها واقعاً.
ثمة مقال طويل نسبياً، ولكن أهمية البحث، وقدرة المقال على تنويع أفكاره، وإضاءة مفهومه ذي الصلة بالفضيحة على أرضية اجتماعية، وإزاء إشكالية التسمية والاقتباس ثم تفعيل أثر الكلمة في سياق آخر، اجتماعي وأنثروبولوجي بالترافد، تحفّزني على إفراد مساحة كافية، كما أقدّر له، حيث المحتوى العائد إليه، يخل فوراً بالمقصود الذي انطلق منه الغذامي ويصيبه في مرماه، ويسيء إلى سيرل نفسه الذي تكلم فلسفياً وليس اجتماعياً كما الحال في " مآلات .." .
بغية نقل فكرة أكثر رحابة للفضيحة بالصورة المقدَّمة هنا، أورد التالي:
(لكل من يريد الابتعاد عن الرؤية الضيقة للعلوم السياسية، ويريد إنقاذ فكرة أن العلوم الاجتماعية تشكل مشروعاً شاملاً، فإن الأعمال الأنثروبولوجية المخصصة للفضيحة تحفز على القراءة. ومنها سنبدأ هنا. ومع ذلك، فإن تبنّي منظور أنثروبولوجي واسع له نتيجتان مهمتان، ينبغي تحذير القارئ منهما. الأولى هي أن تقودنا إلى الرهان، يا موسيان إن شئت، على أن الفضيحة، مثل الهبَة والهبة المضادة أو الصلاة ،الفضيحة ظاهرة معروفة في كل المجتمعات البشرية. الرهان على ذلك يمكن أن يقوله المرء استفزازي، حيث يبدو أن العلوم الاجتماعية اليوم تهيمن عليها عقيدة النسبية التاريخية. إنها رهان سنحافظ عليه هنا، ولو فقط بسبب فضائله الإرشادية.
المغزى الثاني هو أن النهج الأنثروبولوجي الواسع يجبرنا على الابتعاد عن المفهوم المرضي التلقائي للفضيحة. بمجرد أن ندرك، في الواقع، شكلاً من أشكال العالمية فيه، يصبح من المستحيل اعتبار الظاهرة الفاضحة "غير طبيعية" بالمعنى الاجتماعي الدقيق. وكما هو الحال مع الجريمة أو الانتحار، بحسب دوركهايم، ينبغي النظر إلى الفضيحة باعتبارها لحظة ليست تافهة بالتأكيد وعنيفة بشكل خاص في الحياة الاجتماعية، لكنها مع ذلك «طبيعية».

يبدو أن العديد من الباحثين الذين اهتموا بالفضائح يعتبرونها أقل موضوعًا للدراسة في حد ذاتها بقدر ما يعتبرونها طرقًا مميزة للوصول إلى الواقع الاجتماعي التاريخي الذي كانوا يعتزمون الوصول إليه من خلالهم. ومن هذا المنظور، غالبًا ما تُستخدم الفضيحة كمؤشر، بالمعنى الفوتوغرافي تقريبًا للمصطلح، لتوازن القوى أو البنى أو المساحات الموضعية أو المعايير التي كانت موجودة مسبقًا.
ومن ثم فقد تم الاعتراف به " الموضوع " لامتلاكه القدرة على أن يوضح بشكل مذهل للمراقب خطوط الانقسام وعلاقات الهيمنة التي عادة ما تمر عبر المجتمع، أو أجزاء معينة من نخبه، بطريقة أكثر غموضاً. وعند التعامل مع الفضيحة بهذه الطريقة، يمكن أن تشجعنا على تركيز اهتمامنا على مسارات الجهات الفاعلة التي تنطوي عليها، من أجل جعل المواقف التي يتبنونها والموارد التي يحاولون حشدها قابلة للتفسير. سيقودنا هذا النوع من النهج في نهاية المطاف إلى تحويل نظرة الفضيحة، التي تم تصورها آنذاك كنوع من الظاهرة العرضية، نحو البنى الاجتماعية والعقلية "العميقة" التي سيُعتبر أنها كشفت لنا.

مقال تم نسيانه الآن، اقترح إريك دي دامبيير تفسير هذا البعد التأسيسي للفضيحة.
واعتبر أن الفضيحة هي اختبار للقيم المنتهكة التي تسمح للمجتمع المعني بتحديد ما إذا كان قد أصبح غير مبال بها أم لا. ما الذي يؤسس لشيء ما: إما إعادة التأكيد الجماعي على القيم المنتهكة وبالتالي تعزيزها؛ أو على العكس من ذلك، الإظهار الجماعي لتقادمها. وفي نهاية هذا الاختبار، سيكون هناك شيء قد تغير. سيتم تأييد الأجهزة التنظيمية وطرق التصرف، أو على العكس من ذلك، "تثبيطها"، أو حتى نقلها وإعادة تنظيمها.
وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أن فكرة "الاختبار" يمكن أن تجعل هذا الشكل المحدد من الفضيحة المتمثلة في الاستفزاز العام واضحًا بالنسبة لنا، كما نجده في العمل، على سبيل المثال، في الفن الحديث، أو الإضرابات عن الطعام، أو الانتحار في الأماكن العامة، أو الإرهاب. : يهدف المحرض إلى اختبار مدى ارتباط المجتمع بالقيم؛ وهو يعتمد في ذلك على البعد المؤسسي للفضيحة لإنتاج شيء جديد في هذا المجتمع .
إن تصور الفضيحة باعتبارها محنة يعني قبل كل شيء تأكيد عدم التحديد الذي يؤثر على نتيجتها - هذا عدم التحديد الذي يميل إلى محو المقاربات المسببة مثل تلك التي تضع نفسها في نهاية القصة، وترغب في جعلها قصة خطية.

ما الذي تؤسسه الفضيحة: المنظور الذي افتتحه ماكس جلوكمان
في مقال نُشر عام 1963 والذي أصبح كلاسيكيًا ("النميمة والفضيحة Gossip and Scandal "، الأنثروبولوجيا الحالية،4 ، الصفحات 307-316)، قدم عالم الأنثروبولوجيا ماكس جلوكمان تحليلًا وظيفيًا لما تؤسسه ممارسة النميمة والفضيحة، أي ووفقاً له، فإن العضوية في المجموعة دفعة واحدة، وحدود هذه المجموعة وتسلسلاتها الهرمية الداخلية. وينطلق جلوكمان من الملاحظة التي أكدتها العديد من الشهادات الإثنوغرافية، وهي أن المجتمعات التقليدية تظهر ميلًا معينًا للنميمة والافتراء والفضائح. كيف نفسر ذلك؟ المفتاح الأول للتفسير هو عمليات التنظيم القانوني. ويشير جلوكمان إلى أن الإدانات في هذه المجتمعات تتعلق في أغلب الأحيان بإساءة استخدام قواعد الضيافة، أو الافتقار إلى الكرم، أو انتهاك قواعد الزواج الخارجي، أو حتى الممارسات السحرية غير المشروعة. إن الخروج من التزام التلقي أو الالتزام بإعطاء الإرادة، على سبيل المثال، عادة ما يكون موضوع استنكار فاضح في المجتمعات القائمة على تبادل الهبَات. ويمكن بعد ذلك تفسير الفضائح والنميمة على أنها أشكال من المنافسة الاجتماعية و"اختيار القيادة"، بقدر ما يسهم إعداد الأحكام على شرف الأشخاص إلى حد كبير في تصنيفهم على مقياس الهيبة. ويمكن تلخيص الوظيفة الثانية بأنها وظيفة "الرقابة الاجتماعية" (على الرغم من أن المؤلف لا يستخدم هذا المصطلح ).
تتمتع فرضية مساهمة الفضيحة في إنشاء المجموعة والحفاظ عليها بميزة تسليط الضوء على الطابع الممتع عمومًا للنميمة والفضائح (على الرغم من الاستنكار الذي يتلقونه، كما يشير جلوكمان). ونجد أثرًا لهذه العملية، بما في ذلك في المجتمعات الحضرية الكبيرة، حيث الروابط الاجتماعية مع ذلك أكثر مرونة، من خلال "القيل والقال" حول الشخصيات (النجوم، والرياضيين، وما إلى ذلك).

من الفضيحة إلى القضية
مصطلح "فضيحة" له أصل ديني يشير إلى فكرة وجود عقبة، حجر عثرة. ومن هذا المنطلق، يتم تعريفه على أنه تناقض أصبح علنيًا وظاهرًا للجميع: فهو حقيقة عامة، مزعجة ومتناقضة، تضع عائقًا أمام الاعتقاد الجماعي، وبالتالي تزرع الشقاق.
دعونا نؤكد أولاً أنه ربما لا يعود للباحث نفسه، إذا كان هدفه على الأقل هو الفضيحة، أن يشير إلى التناقض وينشره للعامة. بل إن الأمر متروك له لوصف التناقض منذ اللحظة التي لاحظها الممثلون أنفسهم وأدانوه علنًا.
هل يقدم الاختزال الاستراتيجي، من جانبه، إجابة مرْضية أكثر لمشكلة الحياد الأكسيولوجي للباحث؟ في الحقيقة، إن اختزال إدانة الأخطاء في استراتيجية لم يكن أبدًا موقفًا يمكن القول بأنه محايد، ويزداد الأمر سوءًا عندما ندرس القضايا أو الفضائح. لأن هذا الاختزال يؤدي، سواء شئنا أم أبينا، إلى إضفاء الطابع النسبي على محتوى الاتهام باسم المصالح الخفية للمتهم إلى حد ما. جميع الباحثين الذين يدرسون الخلافات أو الشئون أو الفضائح يعرفون أن هذا النوع من الكشف هو السلاح المفضل للممثلين أنفسهم في هذا النوع من المواقف.

لا يزال علم الاجتماع في كثير من الأحيان في مرحلة الفضيحة في علاقته بالأشياء الفاضحة: فالباحث ساخط على ما يفعله أو يقوله بعض الممثلين الذين يدرسهم؛ يريد أن يظهر لهم أنهم مخطئون في أن يفضحوا أو يخطئوا، على العكس من ذلك، ألا يفعلوا ذلك. وفي رد الفعل على ذلك، وبسبب خوفهم من هذا الافتقار إلى التباعد التحليلي، يلجأ علماء الاجتماع الآخرون إلى السخرية، أي إضفاء الطابع النسبي على الفضيحة: ثم يرفض الباحث أن يأخذ على محمل الجد البعد المعياري للفعل. فهو يسارع إلى تحويل أي فضيحة إلى لعبة استراتيجية بسيطة وأي إدانة إلى "انقلاب" يهدف إلى المصلحة الذاتية.
ولكن دعونا نتوقف عن رؤية الأشياء فقط كما يراها الشخص الذي يكون حكمه هو الحكم المسيطر في الفضيحة أو القضية. في هذه الحالة، سنكون قادرين على تحليل عملية الفضيحة أو القضية بحد ذاتها، وفي نهاية هذا التحليل، الحكم من وجهة نظر أكثر رسوخًا.) " 3 "
الفضيحة الخاصة بشخص من قبل سواه، انطلاقاً من علاقة معينة، أو من طرف جماعي معين، أو هيئة، لجنة معينة، ترى في التشهير باعتباره إطلاق فضيحة تسمّي أحدهم أو طرفاً آخر، بغية النيل منه، أو انتفاماً، وما في ذلك من قابلية استمرارية، أو تهديد لتحقيق مطلوب ما ، وهذه التي تسمى بالفضيحة لها موقعها المجتمعي، إنما تكون مختلفة من مجتمع إلى آخر، ولا بد أن هناك عرفاً أو قانوناً يمكن النظر فيه، لمعرفة الموقف من موضوع مؤثّر سلباً في المجتمع، لأن إفضاح شخص ما، لا يتوقف على مجرد عقاب في الزمان والمكان، إنما قد يستمر الأثر طويلاً، تبعاً لنوعية الفضيحة الموجهة، وطابعها، والذين وراءها، ومن هم جار تلبيسهم بها، حيث إن الثقافة القائم لها دورها، والنظام السياسي لا يخفى موقعه وارتباطه بمثل هذه الحالات .
طبعاً، يمكن الحديث عن الفضائح السياسية، وطرق ترويحها، ومجالات عملها، والذين يتداولونها، ومن يعمل على تنشيطها، ومن يسعى إلى تنميتها، تبعاً للمواقع ومن فيها، وهي الأكثر إثارة للناس في مشاعرهم، أحاسيسهم، هواجسهم، وحتى مكبوتاتهم النفسية، وثمة الفضائح التي تنتمي إلى المجتمع علاقات وقيماً، وكذلك الثقافية، من نوع السرقات والتحويرات، وليست قائمة الفضائح التي تصل بالجنس، وفي المجتمعات التيتعرَف بالفساد والتخلف بقليلة وفي تبعاتها.
وما يصل الفضيحة بجوانب قيمية وشخصية وتوتير المجتمع بالذات:
حيث ( "يمكن القول إن الصمم الناتج عن الفضائح هو أحد أكبر التهديدات التي يواجهها العالم. الفضيحة هي ينبوع الشباب الذي تذهب إليه البشرية لتغسل دنس عاداتها، وهي المرآة التي يكتشف فيها المجتمع، والأسرة، والفرد الصورة العنيفة لحياتهم. فإذا غابت هذه التعاليم، اختنقت كل الأخلاق، ودخل العالم في حالة من النعاس والذهول. »
تأملات مارسيل إيمي المذهلة في نهاية الثلاثينيات
في نهاية عقد اتسم بسلسلة غير مسبوقة من الفضائح، كان أبرزها فضيحة ستافيسكي التي هزت المؤسسات الجمهورية. أليس من المقلق أقل ما يقال أن نحلل الفضيحة في مثل هذا السياق التاريخي باعتبارها "ينبوع الشباب"؟ الأفضل كشرط ضروري لصيانة الحياة الأخلاقية؟ توقع بعض التحليلات الأنثروبولوجية، والتي سيتم إضفاء الطابع الرسمي عليها بشكل خاص من قبل المدرسة الوظيفية.
ويجب أن تؤخذ هذه المفارقة على محمل الجد. فهو يقترح كيف تضع الفضيحة المجتمع حيث تندلع، في وضع يسمح له بتحويل اقتصاد ممارساته ومثله بشكل جماعي.) " 4 "
يعني ذلك أن الفضيحة تقوم على حالة انتقام جهوية، كما أنها تستهدف الأمن الاجتماعي، وكذلك سمعة شخص ما، وخاصة إذا كان له موقع اعتباري، والاتهام الموجه في غير محله، وما يقوم على ذلك من ابتزاز، بغية إسكات من يعرَف بأنه خطر على الجهة المطلقة للفضيحة، ومن ثم، لنجد أنفسنا إزاء تنوع فولكلوري للفضيحة، ولكل مجتمع قوائم معينة منها، ولها مقاصد وغيره.

على أرضية الفلسفة
الفلسفة، كما تقدَّم ليست واحدة، ومن هذا التنوع، الذي قد يسبب إرباكاً في اذهان الساعين إلى النظر في الموضوع من موقع الوحدة، ليكون في مقدورهم ترتيب أفكارهم وضبطها بسهولة أكثر طبعاً، إنما يكون لهذا الاختلاف ما يسر وما يضر، كما هو تاريخ كل فرع معرفي أو علمي، ومن خلال اختلاف المواقف والآراء والتوجهات والمعتقدات والأفكار وانتماءاتها .
ذلك يسمح للمعني بالموضوع، ألّا يمارس تعميماً في فكرته المرتبطة بموضوع ما وبعنوانه القائم وذي الدلالة حيث ينتظرنا معلوم لتسميته، ومعوج لتقويمه، بمقدار ما يكون التحرك بين فواصل الاختلافات وتخومها وحدودها مشجعاً على رؤية أكثر سوية لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف، وأن ليس من إطلاق في حكم، وتفضيل مطلق لجهة على أخرى هنا، حيث الفلسفة التي تعرَف باسمها، ولها مواصفات معينة، تحتفظ بذات الاسم المميّز لها.
حيث إنها، وكونها نبْتاً بشرياً، وفي مناخات أرض محكومة بتغيرات الزمان والمكان، وللوضع الاجتماعي والسياسي وتقلباتهما دور لا يمكن تجاهله، تكون لدينا نوبات أو أزمات، أو اختلالات دورية، متباينة من مجتمع إلى آخر، وما في ذلك من مراعات اختلافات المعنيين بها .
وليس من مجتمع له صلة بنيوية بما هو فلسفي، ومراعاة للاختلاف بين المواقف والآراء، إلا ويشهد مثل هذه الحالات والظواهر البنيوية المعتادة أو المباغتة جرّاء ما لم يحتسَب له: حروب، كوارث جوية أو طبيعية، انتشار أوبئة، وغيرها من تلك الانعطافات التاريخية .
كما الحال في المكتوب هنا:
(ومع نهاية هذا القرن، تعود الفلسفة الغربية إلى النماذج المفاهيمية التي تستعصي على البحث والمناقشات، والتي كانت مخاطرها كبيرة حتى وقت قريب. لا يتعلق الأمر هنا بتأييد عمل هذا أو ذاك من أنصار هذه الممارسات المهجورة، بل يتعلق بلفت الانتباه إلى الإمكانات المحدودة التي توفرها الخيارات المتبقية. وبوسعنا، إلى حد ما، أن نتتبع هذا التغير في العقلية الفلسفية حتى نهاية حرب الخليج: فقد كانت تقريبا اللحظة التي أكدت فيها الفلسفة الفرنسية رفضها العام للاتجاهات ما بعد الحداثية وما بعد البنيوية. وهو ما يوضحه بشكل جيد مفكرون مثل فوكو ودريدا ودولوز وليوتار وباتاي وبودريار والنسويات الفرنسيات. لقد عادت منذ ذلك الحين بتألق إلى المشاكل التي يغذيها اللاهوت، إلى نوع من الإنسانية المسيحية، إلى أشكال مختلفة من التفسير النصي والتاريخي، وهو ما يكشف تمامًا، إلى الاهتمام المتأخر إلى حد ما بإعادة الاتصال بالروابط مع الفلسفة التحليلية الأمريكية وفلسفتها. الممثلين البارزين، دبليو. كواين ودونالد ديفيدسون، اللذان أصبحا الآن في نهاية حياتهما المهنية، تم تجاهلهما إلى حد كبير في فرنسا عندما كانا في ذروتهما. أما الفلسفة الألمانية، فقد وضعت اليوم بشكل عام الأطروحات الهيغلية والماركسية جانبًا واستبدلتها بالأطروحات الكانطية: وهذا ما تظهره الدراسات الحديثة لمدرسة فرانكفورت النقدية، كما هو الحال مع يورغن هابرماس أو ملهمه، كارل أوتو أبيل، أو حتى عمل جيش من العلماء الذين يسعون أحيانًا إلى إعادة تفسير الكانطية بطريقة تجعلها مقبولة لمختلف أشكال البراغماتية الأمريكية التي ليست في حد ذاتها– هذا أقل ما يمكن قوله – بالكاد تاريخية، بل مقصودة في بعض الأحيان. لبناء الجسور بين التيارات التحليلية للفكر الألماني والأمريكي. علاوة على ذلك، مثل الفلسفة الفرنسية، تميل الفلسفة الألمانية أكثر فأكثر إلى الاكتفاء بمتابعة الدراسات التاريخية والنصية، بطريقتها الخاصة، والمشاكل التأويلية الإنسانية إلى حد ما. يحظى مارتن هيدغر باهتمام خاص هنا، لأنه يظهر اليوم كفيلسوف "فرنسي" أكثر من كونه فيلسوفًا ألمانيًا؛ علاوة على ذلك، فإن سمعته في الفلسفة الغربية ككل آخذة في التدهور، وعلى أي حال أعماله المبكرة وما كان جذريًا فيها.
إن الغرض من هذه النظرة الموجزة هو تقديم صورة موجزة للركود العميق الذي تمارسه الفلسفة الغربية مع اقترابها من نهاية القرن والألفية، وذلك على الرغم من مظهرها الذي تعطيه انشغالاً هائلاً ونشاطا إنتاجياً فائضاً.

ليس هناك نهاية لقائمة الأسئلة من هذا النوع التي تتجاهلها أحدث نماذج التحليل. إن الأهمية الفلسفية للتاريخ، والطابع التكويني للثقافات، والبعد الاجتماعي والجماعي للعقل، والعلاقة بين التطبيق العملي والإمكانات المفاهيمية الطارئة والمتغيرة، كل هذه المشاكل اليوم لم تعد تثير أي اهتمام سوى الاهتمام "العرضي".
إن الفلاسفة الأكثر عصرية في العالم الغربي جميعهم منخرطون في سباق للتخلص، قدر الإمكان، من أدنى شوائب يمكن أن تبقى في أطروحات كوهن، والتي ليست سوى بقايا التقليد المتخصصة. والتي تنتقل من هيجل إلى ماركس، إلى نيتشه، إلى ديلتاي، إلى هيدغر (على الأقل لبعض أطروحاته المبكرة)، إلى هوركهايمر، إلى غادامير، وإلى فوكو على أقل تقدير.
إن ما فشل كانط في تحقيقه هو نفس الشيء الذي تجنبه هوسرل عمدا بعد قرنين من الزمان: لم يتمكن أي منهما من قبول فكرة الكفاءة المتغيرة، الجماعية، التاريخية، المشروطة بالروح الإنسانية.
ما أعنيه هو أننا استغرقنا قرنين من الزمن للعودة إلى إعادة تفسير جميع ألغاز الفلسفة الغربية وصولاً إلى العمل الكانطي الفذ على الضوء الجديد الذي بدأ ما بعد كانط في تسليطه. ذلك الفيض الاستثنائي من البصيرة الذي ميز الثورة الفرنسية قبل فترة طويلة من جفاف دمائها.) " 5 "
ذلك موقف بحثي، ولعله فكري مما يخص الفلسفة والذين يكتبون باسمها، أو يعنون بها، ولهم فيها مآرب ومرام بالمقابل، وهم لا يقعون في المسافة نفسها منها، إنما ثمة تفاوت في نسبة التفاعل مع الفلسفة وهمها، ومسئوليتها، وما يترتب على كل علاقة من تبعات للمسئولية هذه، في المجتمع، وعلى وجه التحديد، عندما نتحدث عن إمكانية ممارسة الفلسفة في مجتمع معاد ٍ لها، أو يتحفظ كلما جيء على ذكرها، وما يتراءى هذا المجتمع من الداخل جهة الانحرافات عما هو حياتي.
وفي السياق نفسه، وبالترادف مع المسار، ما يعلّمنا هذا القول هو أن الفلسفة وإن كتِبت في زمان ومكان معلومين، وبوضعية معينة نفساً وجسداً، فإنها، وكونها فلسفة، تتحرر في الحال من ربقة الاثنين، وتمتد في زمانها الخاص، معزَّزة بمفاهيمها التي تجيز لها هذه الاستمرارية، ومع يعنيه ذلك من انتفاء وجود " الماقبل والما بعد " انطلاقاً من طاقتها في البقاء وتجدد مأثورها..
وما يقال في الفلسفة في مجتمعات تحتفظ بتاريخ طويل خاص بها، هو الذي يعنينا هنا تحديداً، وبناء عليه يكون الحديث الضمني عن تلك المجتمعات التي تعرَف بالمستهلكة، لأن الفلسفة مقصية أو شبه مقصية، أو مختزلة تماماً، أو يشار إليها، دون إيلائها ما تستحقه من اهتمام، وما في كل اهتمام من رد فعل قاعدي: اعط تعْط، هكذا تكون العلاقة، فلا تكون الفلسفة جامدة، وما يمكن تلمسه في المجتمعات الفلسفية، إن جاز التعبير، هو الذي يعزّز هذا الموقف، وكيف أن اسم الفيلسوف يحتفظ بمكانته، بتاريخه، ولوغوه الخاص به. فلاسفة ما قبل سقراط وما بعده لم يموتوا لأن الذي بثوه فلسفياً، بذوراً في أرض مهيّأة لذلك نبت واستنبت ويتنامى جذمورياً " من شجرة إلى أشجار، بمفهوم دولوز، كما لو أن الزمن لا وجود له، إنما هو المدى الطويل لحضور الفلسفة هذه، وهي في تنوعها، وما لذلك من علاقة بنيوية بالحضورة وما هو إنساني معمق فيها.
ذلك يطرح سؤالاً عما يمكن قوله في الفلسفة وجدواها.
هناك تنوع في الموقف، لكنه تنوعٌ لا يلغي اعترافاً بحتمية وجودها ووجوب استمرارها في النهاية، أي حيث تشكل الفلسفة عامل إثراء ثقافي، نفسي، اجتماعي، فكري وإنساني .
هوذا الجواب المتشعب المرتبط بسؤال: هل للفلسفة من فائدة؟
( وبالنسبة للعديد من الأفراد، فإن ممارسة الفلسفة ليس لها أي مصلحة حقيقية وعملية، حتى أن الكاتب بول فاليري أعلن: "ما يمكن انتقاده بالنسبة للفلسفة هو أنها عديمة الفائدة. لكن أليس تصريح بول فاليري هذا قابلاً للنقاش؟! هل الفلسفة عديمة الفائدة، هل هي مجرد مجموع كلام فارغ عقيم، وإسهاب للاستمناء العقلي؟! أو على العكس من ذلك، أليست الفلسفة مفيدة فحسب، بل وحيوية للإنسان؟!

الجزء الأول: الفلسفة، في جوانب معينة، تبدو عديمة الفائدة.
الحجة الأولى: يبدو أن الفلسفة هي مجال عديم الفائدة لأنه في كثير من الأحيان في تاريخ الفلسفة، أعلن مؤلفون ومفكرون مختلفون عن مذاهب تتعارض مع بعضها بعضاً. هذا العيب في الفلسفة هو دستوري، متأصل فيها، لأن أفلاطون قال بالفعل في الحوار مع بروتاغوراس: "في كل شيء، يمكن للمرء أن يقدم تأكيدين متضادين تمامًا". وهكذا بالنسبة لهذا الفيلسوف نفسه، "أن تتفلسف يعني أن تتعلم كيف تموت". بينما بالنسبة لفيلسوف مثل سبينوزا، فإن التفلسف هو تعلم العيش. في هذه الحالة، قد يشعر القارئ بالارتباك لأنه سيتكون لديه انطباع بأن الفلسفة ليست بحثًا عن الحقيقة، بل هي تجميع لآراء غير متجانسة، بل إنها تذهب إلى حد مناقضتها. لأن المثال الذي ذكرناه للتو حول موضوع الموت، يمكن تطبيقه على جميع المجالات التي تتعامل معها الفلسفة تقريبًا. لذا، دعونا نأخذ مفهوم العاطفة. لدينا فيلسوف مثل هيجل يقول: "لم يتم تحقيق أي شيء عظيم في العالم دون العاطفة". لكن الفلاسفة القدماء مثل الرواقيين أعلنوا أن العواطف ضارة في الأساس، وأنه يجب التغلب عليها لتحقيق الطمأنينة (السلام التام للروح التي لم تعد تزعجها أي حركة مزاجية). ومن خلال اجتياز تاريخ الفلسفة، فإننا نجازف بالوقوع في نسبية القيم والغرق في الشك، لعدم وجود أي شيء أفضل.

في مواجهة هذا الجانب المضحك من الفلسفة، قال ويليم بيلديرجيك: “الفلسفة لا تؤدي إلا إلى دحض الفلسفة”. وبعبارة أخرى، الفلسفة في نهاية المطاف ليست أكثر من مجرد تمرين في الأسلوب لتزيين مختلف الآراء الممكنة والقابلة للتفكير حول هذا الموضوع أو ذاك.

الحجة الثانية: عندما نرى الكثير من الآراء المتناقضة تتزاحم في تاريخ الفكر (26 قرنا منذ ميلاد الفلسفة)، فإننا لا نرى حقا الفرق بين الفلسفة والسفسطة. نقول لأنفسنا أن الفلسفة هي قبل كل شيء مسألة مهارة بلاغية، إنها مجرد فن خطابي يختبئ خلف شاشات مرموقة مثل الحقيقة والحرية والعدالة والسعادة... بينما في الواقع، هذا مجرد "بيع للرأي". وهكذا يكتب ليشتنبرغ: "لقد كان يتاجر بالآراء، وكان أستاذاً للفلسفة".

الحجة الثالثة: ما يُظهر أيضًا عدم جدوى الفلسفة هو أنها تتطور بشكل عام فقط عند تلبية الاحتياجات الحيوية. عندها تظهر الفلسفة فقط كنوع من الترف الذي يمكن للمرء أن يتحمله عندما يكون لديه وقت فراغ.

الحجة الرابعة: تبدو الفلسفة بالتالي عاجزة إلى حد ما في مواجهة شرور هذا الوجود. قد يتيح لنا بعض العزاء، لكنه لا يسمح لنا بتغيير الواقع في حد ذاته. على سبيل المثال، تعلمنا الفلسفة أن جوهر الوجود ليس المال، لكنها لا تسمح لنا بشكل عام بالتعويض بشكل ملموس عن نقص المال.
الحجة الخامسة: لا يبدو أن الفلسفة تتمتع بقبضة ملموسة على الواقع في معظم الأوقات، بل ويبدو أنها تفضل التقاعس عن العمل من خلال ميلها إلى تقدير الشك.
الجزء الثالث: الفلسفة، بسبب مصلحتها، هي بالتالي نظام أبدي.

الحجة الأولى: الفلسفة ضرورية للغاية، لأن جميع الأسئلة لا تتعلق فقط بالعلم أو التكنولوجيا. وهكذا، على مستوى العلم والتكنولوجيا، تنحصر الأسئلة على مستوى كيف، بينما على المستوى الفلسفي، تكون الأسئلة لا نهائية، لأنها تتعلق بالسبب. تم تسليط الضوء على هذا التمييز المتعلق بالحدود الخاصة بالعلم والفلسفة من قبل أوغست كونت في خطابه عن الروح الإيجابية.

الفلسفة أبدية، وبالتالي ليس مقدرًا لها أن تموت مع تطور العلوم (كما اعتقد كونت في القرن التاسع عشر)؛ لأن العلم نفسه يجدد علاقتنا بالعالم والمادة وبالتالي يطرح مشاكل فلسفية جديدة.

الحجة الثانية: وهكذا يطرح العلم مشاكل أخلاقية جديدة (النووية، المعدل التراكمي)، ولكن الفلسفة أيضًا أبدية لأن زيادة المعرفة في العلوم تجدد علاقتنا بمسألة الله، وأصل الكون، والغرض منه.
ومع تطور العلم، تصبح الفلسفة أكثر ضرورة لأن الإنسانية قد وصلت إلى درجة معينة من التطور والنضج بحيث لم تعد "في طفولتها" مكتفية بالتفسيرات الأسطورية. ولهذا السبب لم يخطئ ب.فيرجلي في كتابه المعنون "منفعة الفلسفة" عندما قال إن "الفلسفة هي مستقبل الدين". الفلسفة، على وجه الخصوص، تجعل من الممكن فك رموز الأهمية الرمزية للعديد من النصوص الدينية.
وبالتالي فإن الفلسفة ليست عديمة الفائدة، بل إنها ضرورية، وليس مقدرًا لها أن تهلك في القرون القادمة. إذا كان لدينا عقل فلنستخدمه. إن عدم التفلسف سيتلخص في عدم التشكيك مطلقًا في معنى أفعال المرء. هكذا قال ديكارت في مبادئ الفلسفة: "من المناسب أن تكون مغمض العينين، دون أن تحاول فتحهما أبدًا، أن تعيش بدون فلسفة". سنكون مثل المكفوفين روحياً إذا لم نتفلسف. لا نبحث عن طريق، ونكون مشوشين، ونقود حياتنا إلى لقاءات وحقائق صدفة. الفلسفة، لماذا؟ يجب القيام به، بكل بساطة. ) " 6 "
تُرى، هل يحتاج الوارد آنفاً إلى مكاشفة محتوى، ومعاينة الأفكار التي شكلت مفاصل حيوية للنص المقروء فلسفياً، أو ما يخص الهم الفلسفي؟ اللافت هو أن حياة دون فلسفة ناقصة بامتياز!


في إهاب الفضيحة الفلسفية وحقيقة أمرها
ربما أمكن الحديث هنا عما يغْني هذه الفقرة حيث الموضوع برمته مدرج ليجري نسجه باسم العبارة السالفة " الفضيحة الفلسفية " وما يمكن تعلّمها من خلالها.
هناك طرفان أبعد من كونهما ثنائيا الثقافة الفلسفية، ولو أنهما يظهران متباعدين، حيث كل منهما يقف إزاء الآخر بالمرصاد، للوهلة الأولى، غير أن ما ينشغل به كل منهما لا يقصيه عما ينشغل به الآخر، إنما ما يجعله على دوام تواصل معه، والانشغال بما يتفكره ليكون محاوره أو مساجله.
الثاني المعتبَر هنا: جون سيرل وجاك دريدا، الأول ينتمي، كما تقدَّم إلى عالم أمريكي أنجلوسكسوني، حيث البراغماتيكية والفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية، والثاني ينتمي إلى الفلسفة القارية، وإن كان يحتفظ بموقع لا يحسَد هو نفسه عليه، جهة التحفظ عليه ونوعيته.
ثمة العديد من المقالات التي تفيدنا في مكاشفة جوانب مختلفة من عالم كل منهما وهما يتقابلان.
ما يكون في وزن القنبلة التي تخترق جدار الصوت القاري، والفعل من دريدا:
( أثارت ترجمة "توقيع، حدث سياق " في الولايات المتحدة (مقال يختتم به هوامش الفلسفة، مينوي، 1972) ردًا حادًا من البروفيسور الأمريكي. وردّ دريدا بدوره في مقالة طويلة تحمل عنوان هذا الكتاب. وعلى مدى السنوات الاثنتي عشرة التالية، سواء في الأوساط الفلسفية أو في الأوساط النظرية الأدبية، تضاعفت المناقشات والمجادلات والانحياز حول هذا التبادل الأول، مما أدى إلى تعقيده أو قاده إلى قضايا أخرى وإلى أماكن أخرى، سواء في الولايات المتحدة أو في الخارج. إنجلترا واليابان وألمانيا وإيطاليا. ولهذا السبب، خطط جيرالد غراف، المنظر الأمريكي للأدب والمؤسسات الأكاديمية، لجمع النصوص الأولى للمناظرة وتقديمها عن طريق طرح سلسلة من الأسئلة الجديدة على دريدا. الجواب على هذه الأسئلة هو التذييل الطويل، "نحو أخلاقيات المناقشة"، الذي يختتم العمل المعاد إنتاجه هنا، باختصار، المنقول في شكله وفي سياقه الأصلي، أي مع جذوره الأمريكية. لكن هل يغلق السياق أبدًا؟ هذا أحد الأسئلة التي تمت مناقشتها هنا - ومن المأمول أن يمتد نطاق هذا التبادل إلى ما هو أبعد من البيانات الأولية.
تتسم هذه المناقشة بالحيوية والعنف في بعض الأحيان، والجدية والمرح على حد سواء، والتي سلمها دريدا إلى نوع من السخرية التجريبية، وتتناول مشاكل عديدة ولكنها متشابكة: تفسير فكر أوستن وتقاليده، المؤلف الشهير لكتاب "كيف تفعل الأشياء بالكلمات" (1962) الذي افتتح نظرية فعل الكلام؛ وسوء الفهم أو التصالبات المتناقضة بين ما يسمى بالفكر القاري والفكر الأنجلوسكسوني؛ وما يسمى بـ«استقبال» «التفكيك» في الولايات المتحدة؛ العلاقة بين المكتوب والشفاهي؛ حالة التكرار والاقتباس؛ التعارضات بين اللغة الأدائية واللغة الخبرية...) " 7 "
دريدا القاري فلسفةً والذي وتّر بحر المانش بامتداده طولاً وعرضاً وعمقاً وصولاً إلى قلب كمبريدج في لندن، هو نفسه الذي وتَّر عالم ماوراء البحار في أمريكا، وأقلق من اعتبر كلمة السر بالنسبة للفلسفة التحليلية، كما هو لمقروء في المسطور عن علاقة كهذه، أي حيث إن دريدا الذي لم يستثن فرعاً معرفياً إلا وله " نصيب " في قراءته ونقده بطريقته التفكيكية، ليس من الغريب بمكان أن يلقى صداً وردّاً لا يخلوان من عنف تعبيراً عن شعور بالخطر، ومن فرد واحد، وهو يداهم بأفكاره غير المرغوب فيها، وهو يقرأ أفكاره أو يُسمعها من لا ينبغي عليهم سماعها في معقل الفلسفة التحليلية والبراغماتية. أقول ذلك ليس مديحاً في فكر دريدا وإنما محاولة إضاءة لما جرى ويجري بصدد كل فكر يضرب سوراً صينياً حول نفسه، وما ترتَّب على " توقيع، حدث، سياق " من لدن دريدا، كان بمثابة إخراج الثعلب أو الثعبان من وكره أو جحره أمام الملأ.
ومهما قيل في الذي أبداه جون سيرل ومعه معلمه أو أستاذه أوستن من ضروب الرد وحتى ذلك التهكم عليه والسخرية والاتهام باللامعرفة، وتجاوز حدوده، إلا أن الضربة كانت مدوغة، في حدها الأدنى، لأن ردود أوستن وسيرل، ومن سايروهما أو جاملوهما أو أيَّدوهما لم يخفوا التعاطف معهما فحسب، وإنما دعمهما ما أمكن، لأن دريدا لا يمتلك سجلاً " نظيفاً " هو محل تقدير من قبل كثيرين في نطاق الفلسفة القارية، لأنه تميّز باللاحدودية، باللامنهجية التي شكلت عنصر تهديد وبلبلة للثقافة المعرَّف بها بالأكاديمية في فرنسا وغيرها، وما لذلك من صدى لافت.
وما يؤكد دوي هذا الذي جرى ومن قبل دريدا وردود الأفعال التي أثارها في نقدها وفي عقر دار الفلسفة التحليلية أن مؤلفات كاملة وضِعت حول ذلك، أي ما كان يثير شهية المعنيية بذلك.
كما في هذا المثال الشيق والذي يتطلب تركيزاً وعيوياً يتناسب ولغة البحث:
(إن التشكيلات الفلسفية الخاصة بالتقليدين الفلسفيين اللذين جسدهما دريدا وسيرل تأتي لتسلط الضوء وتكشف الحجاب عن ثراء تقليدين متعارضين، وبالتالي تأتي لإثراء فهمنا للمفاهيم الراسخة في الفلسفة مثل تلك الخاصة بالقصدية والتواصل. ، موضوع المتكلم... الخ.
دعونا نتذكر بعض الحقائق الأساسية التي تجعل من الممكن فهم تسلسل هذا النزاع بشكل أفضل: يقدم دريدا إلى المؤتمر الدولي للجمعيات الفلسفية الناطقة بالفرنسية رسالة بعنوان "التوقيع، الحدث، السياق" والتي تسعى إلى التحليل، بعد هذا إن بادرة التفكيك التي قام بها بالفعل في نصوصه السابقة، هي المقدمات الميتافيزيقية لما تسميه النظرية الأنجلوسكسونية، من خلال نظريات جون أوستن، فعل الكلام (نظرية أفعال الكلام). سيرل، تلميذ أوستن ومواصلة عمله النظري، يشعر بالإهانة من هذا النص الذي يقوض المعلم، وينتقد جانبه المبهم والمربك. في نص جدلي بعنوان "تكرار الاختلافات"، يتولى سيرل انتقاد نص دريدا. يلي ذلك رد فعل ساخر واسع النطاق من دريدا، يختتم هذه المناقشة الأولى.

وهكذا يتذكر راؤول موتي عنف رد سيرل: "الأخير (رد سيرل) لا يطمح بأي حال من الأحوال إلى فتح حوار مع خصم، بل يميل إلى السخرية منه. ويريد سيرل، الذي يدعي أنه "نسب لا جدال فيه لأوستن، للدفاع عن مُنظِّر أكسفورد والحفاظ على نظريته حول الرؤية المبتورة التي سيعطيها تحليل دريدا التفكيكي. ولذلك، فقد دخل التفكيك، من ناحية، خاصة في المدارس الأدبية الأمريكية، ومن ناحية أخرى، الفلسفة التحليلية الأنجلوسكسونية، معقل كليات الفلسفة في الولايات المتحدة. وبينما يسعى سيرل للحفاظ على النقاء المحكم لتقاليده، يسعى دريدا، على العكس من ذلك، إلى زعزعة الحدود المحكمية له من خلال بدء قراءة جديدة لفلسفة أوستن.
لكن ما هو أكثر من ذلك، أن هذا الجدل يسمح لدريدا بإعادة تأكيد (تكرار) بعض الفرضيات التي ألمح إليها في نقده للسيميولوجيا. فالعلامة، خلافاً لما تميل النظريات اللغوية إلى تثبيته والتي تراها حضوراً مملوءاً بالمعنى، يُنظر إليها على أنها أثر أو اختلاف عن الحضور.
إن إصرار دريدا على تكرارية العلامة، التي تعتبر وسيلة للخروج من تشبعها بالوعي المتعمد، يسمح له بوضع أولوية الكتابة على الصوت مرة أخرى في المركز.
راؤول مواتي، الذي ينخرط بحياد كبير في شرح هذا النقاش، يتذكر بوضوح أنه خلف الصراع المرئي "يخفي نقاشًا ذا ثراء مفاهيمي كبير ينفتح على مشاكل ستقرر نتيجتها بلا شك الوضع الذي يتوافق مع مفهوم الأداء في أوستن"

في الفصل الأول، يرسم راؤول موتي تقاربًا غير متوقع بين سيرل ودريدا في تفسيرهما لأوستن. كان كلاهما في الواقع يميلان إلى إزاحة النظرية الأوستنية، الموجهة بشكل أساسي نحو نظرية النطق، نحو نظرية التواصل التي لم يكن فيلسوف أكسفورد ليدعمها أبدًا.
ولذلك فإن دريدا، بحسب موتي، سوف يرتكب خطأً مهماً من الضروري أن نتذكره. عندما يشرح أوستن نظريته في الأفعال الأدائية، فإنه يتوقع بوضوح بعدين مهمين يهزان الوحدة الدلالية للتواصل (انتقال معنى ثابت من موضوع إلى آخر؛ حول هذه النقطة يظل دريدا وأوستن متفقين). التمييز الأول الذي يقترحه أوستن هو التمييز بين الفعل الأدائي والفعل الخبري. يهدف فعل الاكتشاف فقط إلى وصف العالم، في حين أن الفعل الأدائي ينجز الفعل.

بينما تم الحفاظ على الطبقات بين القوى في أوستن، ظل دريدا متمسكًا بمفهوم طبيعي وإرادي حصري للقوة، وبالتالي تخلى عن بعدها التقليدي.
إن المتلازمة التي يميل موتي إلى الكشف عنها في سياق هذا التحليل والتي لا تنصف إيماءة دريدا، هي المبالغة في الملامح والافتقار إلى الفروق الدقيقة في فهمه لعمل دريدا. بإخلاص، يتابع دريدا مشروعه المتمثل في تفكيك ميتافيزيقا الحضور التي مارسها سابقًا في كتاب هوسرل "التحقيقات المنطقية" (الصوت والظاهرة)، وينشر إيماءته بطريقة متهورة، حيث يبدو أن الفئات التي يبدو أنه يدركها في أوستن والتي يستوعب وظائفها تفكيك ببساطة لا وجود لها مع هذا المؤلف.
يستنكر موتي أيضًا خطأً صارخًا آخر، وهو جهل دريدا بخصوصية القوة الخطابية لدى أوستن. وهذا لا يمثل مدى كفاية النية المعرفية، بل مجموعة من القواعد والاتفاقيات.
نحن نعلم أن سيرل هو أيضًا مفسر أوستن، من مفهوم القصدية، من تقليد آخر، وهو تقليد التداولية عند بول جريس. إذا كان دريدا قد أعاد الكتابة بقسوة إلى مركز الجدل حول قصد الأداء، على أمل فصله عن النية الكاملة للمتحدث الواعي بذاته، فإن سيرل، من جانبه، يرى في نظرية أوستن أن النطاق القصدي للفعل الأدائي إن فعل الكلام لا يعوقه بأي حال من الأحوال الانفصال عن الحضور "إلى الحد الذي يستطيع فيه القارئ أن يفهم بدقة الاتفاقيات الدلالية التي حشدها ذات مرة مؤلف منفصل الآن عن الأفعال التي قام بها".

إن تفسير سيرل، الذي يبدو دائمًا حرفيًا جدًا، يدور بشكل أساسي حول الكتابة. إذا كانت الكتابة عند دريدا تتسم بغياب المتلقي (وهي قابلة للتكرار بشكل لا نهائي، ولا يمكن للمرء أبدًا فهم معناها بشكل كامل)، فإن سيرل يؤكد أن التواصل من خلال الكتابة يمكن أن يوجد في حضور المتلقي (عندما أمرر تذكرة إلى صديق في حفلة موسيقية). يبدو دريدا أكثر دقة هنا، لأنه يؤكد بشكل أساسي أنه إذا لم يتم استبعاد إمكانية غياب المتلقي كتابيًا، فإن الأخير يصبح مستقلاً ويمكنه التعامل بشكل جيد مع عدم وجود المتلقي أو المتلقي.

بالنسبة للفيلسوف الإنجليزي، فإن تكرارية الكتابة تسمح بانفصال الحضور الذي يكرس ديمومة النص المكتوب ومعناه. إن ما يزعج سيرل بشكل أساسي ويحثه على رفض مفهوم دريدا للكتابة هو فكرة تحررها من كل قصدية. على العكس من ذلك، تعتبر النية في نظر سيرل قيمة جوهرية للنص الذي كان من الممكن أن يختفي مرسله، بل إن مواتي يقول إنها مخزن لأفعال النية.

وهكذا، هنا، عندما يشير سيرل إلى ارتباكات دريدا، فإن مفهوم سيرل الكامل للقصدية هو الذي يصبح واضحًا. بالنسبة لسيرل، فإن النص، وخاصة الكتابة، محكوم بفكرة أن "كل ما يمكن قوله يمكن قوله"، وبالتالي فإن الغياب ليس ضرورياً، بل يمكن التغلب عليه بفضل "مبدأ قابلية التعبير".
في حين جعل دريدا من نفسه نصيرًا لموقف معارض جذريًا من خلال انتقاد كونديلاك (وسيرل أيضًا) لهوسه باستعادة استمرارية المعنى رغم الغياب.
هذا الجدل الغني، يحثنا موتي على فهمه على أنه صراع بين تقليدين غنيين، واللذين، إذا لم يكونا مثقلين بإطار ووجهة نظر جامدة للغاية، فمن المؤكد أنها كانت قادرة على إيجاد أسس مستقرة للمناقشة، والتي أثبت موتي وجودها. كل هذا بهدف إقامة حوار جديد (لا يبدو أنه يتشكل بالفعل) بين الفلسفة القارية والفلسفة الأنجلوسكسونية.) " 8 "
يمكن تبيّن العنف المرئي من خلال الكلمات المستعملة، وتبعاتها النفسية، وعلام تقوم في بنيتها، وكذلك خاصية الصراع القائم على رأسمال رمزي: يعرَف به معنوياً شخص ما أو أكثر، وما يوسّع دائرة العلاقة هذه على مستوى مجتمع، أو دولة أو قارة، من ناحية التقدير. بين ما تمثّله أفعلال الكلام في ظاهرها، ومقام النيّة في ذلك جهة إمكان تحديد الموقع، وما يستحيل تبين العلاقة مباشرة بين أفعال الكلام ومقام القائل وخاصية النية وصعوبة تسميتها من لدن دريدا.
حيث إن الأخير يراهن على محورية الكتابة التي قلّل من شأنها منذ عهد أفلاطون (الكتابة خطيرة ومقلقة لأنها استهلالية بالمعنى الفني لهذه الكلمة. إنها لا تعرف إلى أين تمضي، لا حكمة تحرسها من هذا الإسراع الجوهري نحو المعنى الذي تشكله، والذي هو مستقبلها بدءاً . بدءاً .
أن نقول أن القوة تمثّل مصدراً للظاهرة معناه دون ريب أنّا لا نقول شيئاً البتة، عندما تقال القوة فإنها تكون بُعد الاهرة.
الكتابة، ومن خلال تمثيل نيتشه للوادي، وما في الأسفل من هيبة، هي المخرج بوصفه نزول المعنى خارج ذاته في ذاته .) " 9 "
وفي كتاب آخر، تابعت متضمناته الكترونياً، وبرز مؤلفه أقرب إلى سيرل منه إلى دريدا، لكنه على وجه العموم، لا يخفي ما لدريدا من تأثير أخل بتوازن سيرل وأوستن، رغم الخلوص في المحصلة إلى رجحان كفة ممثل الفلسفة التحليلية، سوى أنه بدا مثخن الجراح ومكلوماً نفسياً، وإن كان الكاتب ساعياً إلى إبراز صاحب " أفعال الكلام : والرفع من شأنه، وتخطئة دريدا في أكثر من موقع، واعتبار الآخر أكثر ثباتاً في موقعه، وأكثر قدرة على رؤية هدفه، حيث لا ينبغي أن ننسى مقام الكاتب في الحالة هذه، ودلالة النية في التقابل، طالما أننا ننشغل بمفهوم " القصدية":
(في هذا المقال، أفحص وأدافع بشكل ما عن التمييز بين الاستخدامات العادية للغة والاستخدامات التي يمكن القول بأنها طفيلية عليها. تم هذا التمييز في فلسفة ج ل أوستن وفي فلسفة جون ر سيرل حيث هاجمه جاك دريدا. أنا أؤيد نقد دريدا للتمييز كما قدمه أوستن، لكنني أدافع عن استخدام سيرل للتمييز. وعلى وجه التحديد، أوضح أنه على الرغم من إمكانية الدفاع عن التمييز في كلتا الفلسفتين، إلا أنه في فلسفة سيرل فقط يمكن للمرء التمييز بين أفعال الكلام التي تكون إما طبيعية بشكل حصري أو طفيلية.

لقد أوضحت حتى الآن أن دريدا لا يخلط بين الاستشهادية والتطفل، وأنه ليس مخطئًا عندما يقول إن التطفل ينطوي على تعديل في الاستشهادية. وقد بينت أن إضفاء الطابع المثالي على مفهوم الوعد لدى سيرل هو إجراء يمكن الدفاع عنه ولا يمكن وصفه على الإطلاق بأنه تمرين في الخيال (المضاد). ومع ذلك، فقد قمت بتأجيل النظر في التكرار. كان موقف سيرل هو أن دريدا خلط بين الاستشهادية والتطفل والتكرارية.
ومن المؤكد أن الاستشهادية ليست طفيلية، وكذلك التكرارية. إذا لم يخلط دريدا بين الاستشهادية والتطفل، كما قلت للتو، فإنه لم يرتكب الخطأ الأكثر جوهرية وهو الخلط بين التكرارية والتطفل. ولم يخلط بين التكرارية والاقتباس أيضًا، على الرغم من عدم وجود اختلافات كبيرة بينهما. ومع ذلك، أحتاج إلى الإشارة إلى أن سيرل - وكما أوضحت بالفعل في الفقرة 1 ولكن بتركيز مختلف - يسيء فهم الكلمة القابلة للتكرار. وهو يعتقد أن ذلك يعني تكرار “الأشكال التقليدية”. لكن هذا ليس صحيحاَ.
لذا فإن دريدا لا يخلط بين الاستشهادية والتكرارية والتطفلية. لكن سيرل يخلط بين الاقتباس وقابلية الذكر لدى سيك Sec ، على الرغم من أنه لا يفعل ذلك في عمله، ولا يفهم قابلية التكرار. علاوة على ذلك، فإن انتقاده لوجهة نظر ديريدا القائلة بأن التطفل يشكل تعديلاً محدداً للاستشهادية ليس صحيحاً.
يقترح سيرل أن الكتابة تعتمد على الكلام وأن هذا الاعتماد ليس منطقيًا ولكنه مشروط. أولا، لا بد من الإشارة إلى أن دريدا يرفض هذا التبعية. علاوة على ذلك، فهو يرفض اقتراح سيرل بأن سيك كان قد افترض مثل هذه التبعية. أكد دريدا في ثانية أن الكتابة كانت تعتبر تاريخيًا طفيليًا للكلام.

لقد أشرت إلى ما كان في نظرية سيرل مختلفًا بشكل كبير عن نظرية أوستن إلى درجة أن نظرية سيرل فقط هي التي يمكن الدفاع عنها، أي المعيار المتعمد للتطفل والتمييز بين نية التمثيل ونية التواصل. ما يجعل الكلام الخيالي غير جدي، على سبيل المثال، هو ببساطة نية المؤلف لتعليق القواعد المرجعية. هناك عدد من الطرق لتوصيل هذا للقراء. إن ما يجعل الألفاظ المجازية مجازية على وجه التحديد هو نية الكاتب في توظيف فعل الكلام للتعبير عن معاني تتجاوز المعاني الحرفية لفعل الكلام المعني. ولا يزال هناك عدد غير محدد من وسائل الإشارة إلى أن الكلام مجازي ومن مبادئ الاستعارة.

ومع ذلك، أشار سيرل إلى أن وسائل التعبير عن الحالة الطفيلية للعمل المعني قد لا تنجح؛ ربما لم يدرك القراء أن العمل الخيالي المعني كان على وجه التحديد خيالًا، أو أن الكلام المجازي، هو على وجه التحديد استعارة.
لقد أوضحت أن الكثير من عمل دريدا النقدي يعتمد على إثبات أن المنظر كان سيؤيد هذه النظرية. وافق سيرل جزئيًا فقط على هذا، حيث رأى أن الكتابة تعتمد على الكلام بطريقة عرضية بعد تطور القصة. لكنه نفى أن يكون هناك اعتماد منطقي، ولا تعتمد نظريته بشكل كبير على مثل هذا التمييز.

سيكون للنصوص، وفقا لدريدا، مدى محدد من التذبذب. إنها تدعم، بمعنى آخر، مجموعة من التفسيرات التي تكون جميعها تفسيرات حرفية للنص. لقد أظهر ذلك في حالة محاورة أفلاطون حيث أثبت أن النص له معانيَ معينة ربما لم يكن أفلاطون على علم بها. ليس من الواضح مما يمكن قراءته في هذا العمل كان يقصده أفلاطون. وهذا ما يظهره دريدا بشكل فعال حيث يشير إلى مدى صعوبة اكتشاف مثل هذه المعاني المحتملة في النص. من الصعب الوصول إليها بما يكفي لجعل من غير الواضح ما إذا كانت براعة القارئ هو الذي وجدها هناك على الرغم من حقيقة أن المؤلف لم يسمعها، أو إذا كان المؤلف يقصدها حقًا.
هذه هي طريقة قراءة النصوص التي يجسدها التفكيك. وهو ليس، كما يشير دريدا ضد سيرل وآخرين، موقفًا يرى المعاني غير محددة. بل تؤكد أن النصوص لها مجموعة من التفسيرات التي يمكن تحديدها في سياقات يمكن تحديدها بالمثل. والكاتب الذي يريد منها أن تقول شيئًا واحدًا لا لبس فيه سيصاب بالإحباط لأنه لا يستطيع التحكم في نشرها وربما لا يكون على علم بذلك.

النص قابل للتأويل في غياب القصد منه؛ بمعنى آخر، من الممكن أن يتم تفسير النص من قبل شخص ما دون المعنى الذي قصده الكاتب ليكون أحد التفسيرات المحتملة التي يكتشفها هذا الشخص فيه.
لقد أوضحت أن نظرية سيرل يمكن أن تستوعب مثل هذه النتائج التي توصل إليها دريدا. بالنسبة لسيرل، يمكن تفسير النص بعدة طرق مختلفة. يسمح بالغموض الحرفي للنصوص؛ وهو يعترف بأن المعنى الحرفي للكلام قد يختلف بمرور الوقت مع تغير ما يسميه "الشبكة" و"الخلفية". كما يسمح للكاتب بجعل النص يمثل عدة معانٍ أخرى تتجاوز معناه الحرفي (أو معانيه الحرفية). لقد استخدمت مثال تأكيد نابوكوف في افتتاحية Ada والذي من المفترض أيضًا أن يُقرأ في سياق رواية تولستوي آنا كارنينا باعتباره تناقضًا للموقف المتخذ هناك. وبالتالي فإن النطق يعمل في سياقين.) " 10 "
المقال، كما سماه كاتبه، وهو عمل كتاب، لا يترك شاردة أو واردة ذات علاقة بأفكار كل من سيرل وأوستن من جهة، ودريدا من جهة أخرى، ووضعهما بالتقابل، في أجزاء أو فقرات وممارسة التحليل البحثي والفكري، ومدى قدرة كل طرف على تأكيد مصداقية ما ينشغل به .
لكنه، ومن خلال عملية التدقيق والسبر المعلوماتي لأفكار الطرفين، يظهر مدى ضراوة الجاري، وكيف أن ما يجعل الحوار في منعطفات حادة منه، ينقلب سجالاً وشاهد خصومة وحتى عداوة مبيّتة تعبيراً عن شعور هذا أو ذاك أنه مهدد في موقعه وأمام الذين يشكل- ربما- قدوة لهم، وأحسب أن هذا الشعور يمكن تبيّنه لدى ممثل الفلسفة التحليلية أكثر من الآخر، لأن دريدا ظهر أو يقيّم فيما كتبه في موقع " الغازي " والمداهم، والناطق فيما يعتبَر خرقاً لـ" مِلكية " سواه، بينما دريدا، فهو أبعد من أن يحمل تقديراً مسبقاً لحسابات كهذه، لأن تفكيكه في الأساس يعمد إلى نزع اليقينيات التي تلزم أصحابها بالثبات في مواقعهم والاطمئنان على أفكارهم ما بقي دهرهم.
هناك ما استهل مقاله بما يقرّبنا من الفضيحة بالصيغة التي تعششت في واعية الغذامي، وما سعى الكاتب في إثره من من طرح تصورات عن العلاقات بين الطرفين، ونتائج العلاقات هذه:
( لم يعش جاك دريدا طويلاً بما يكفي "ليقرأ في الصحافة" تُهَم الاعتداء الجنسي الموجهة إلى جون ر سيرل في عام 2017، والتي كلفته خسارة مكانته كأستاذ فخري في جامعة بيركلي في عام 2019. إن القول بأن دريدا سيفعل ذلك لقد كان سعيدًا به وهو أمر مضلل، بقدر ما يصعب تخيل أنه يمكن أن يكون سعيدًا بمثل هذا الركود الأكاديمي، ولكن كان من الممكن أن يبتهج جدليًا لأنه كان من الممكن أن يخدم وجهة نظره ويغذي الجدل بين الفيلسوفين.
لقد سمعت بالفعل عن هذا الجدل. كوني تدربت على الفلسفة التحليلية في سياق فرنسي في المدرسة العليا للأساتذة بين عامي 2012 و2019، فكرت كثيرًا في الحوارات بين التقاليد والشكل المرغوب الذي يمكن أن تتخذه.

من الواضح أن موقف دريدا وموقف سيرل غير متوافقين، وهما يبذلان قصارى جهدهما في كل موضوع لإظهار هذا عدم التوافق. لكن الشيء المهم ليس أن نعرف أنه إذا كان أحدهما على حق، فإن الآخر على خطأ. نود أن نعرف ما إذا كان أحدهما على الأقل على حق.
الهدف هو أن يفهم القراء بشكل أفضل القضايا والبلاغة ومحتوى هذه المناقشة بعد قراءتها أكثر من ذي قبل.
يتذكر سيرل التعريف، وهذا التذكير مفيد، نظراً لسوء النية الواضح والارتباك الذي نادراً ما يصل إلى ملاحظات دريدا الجافة [هكذا]، عند تعليقه على أوستن. لكنه يستمر بعد ذلك في القول إن هذا التمييز التقني بسيط وأساسي ومفيد في كل شيء، وأنه لا يطرح أي مشكلة نظرية (نقلا عن سيرل نفسه 1975 "الوضع المنطقي للخطاب الخيالي" لأي تفسير). هذا أمر مثير للسخرية تمامًا: هذا التمييز، تنشأ مشاكل كثيرة في فلسفة اللغة، وفلسفة الخيال مليئة بالمشاكل الصعبة والمثيرة للاهتمام.
كان دريدا مروعًا في عرضه الأول لما يهمه بما يتجاوز التمييز بين الجدّي وغير الجدي، ولكن أيضًا في تكراراته المتواصلة حول هذا الموضوع. والأمثلة التي يقدمها معقدة بشكل غير ضروري وغير مفهومة تقريبًا.

باختصار: إن نية دريدا مثيرة للاهتمام، ولكن تم التعبير عنها بشكل سيء للغاية إلى درجة أن المرء يتساءل عما إذا كانت متعمدة!
عندما يلفت الغريب انتباه ثياتيتوس إلى عبارة "ثيتيتوس يطير في الهواء" من خلال مطالبته بتقييم الكلام، يبدو أنه يحرر نفسه من التمييز بين الجدي وغير الجدي.
لماذا يهتم دريدا بتصريحات مثل تلك التي قالها الغريب؟ الجواب: يهتم دريدا بهذه الحالات ليس لأنها هامشية (على عكس ما يؤكده سيرل)، ولكن لأنها فوق فلسفية.
في الواقع (من النص الأول)، يتساءل دريدا عن معنى ممارسة الفلسفة. سؤال لا يقع على الإطلاق في أفق نظرية أفعال الكلام عند سيرل. يتساءل دريدا: ماذا يفعل فلاسفة اللغة باللغة؟ ولذلك فإن الأمر يتعلق بأخذ الاستخدام الانعكاسي للغة كموضوع، وهذا التأمل هو ما يهم الفيلسوف الفرنسي.
باختصار: سيرل محق في التذكير بالتمييز الجاد/غير الجاد، لكن عليه أن يحرص على عدم جعله صنمًا، على وجه التحديد، أو تطبيقًا غبيًا وخبيثًا.
المرحلة الثانية من الصاروخ: التمييز الخطير/غير الخطير يصبح هدفاً لهجوم جديد لدريدا بعد ذلك. يشعر دريدا بالإهانة من المجال المعجمي المستخدم:"خطير"و"طفيلي" على وجه الخصوص لهما دلالة أخلاقية قوية جدًا، وهي كلمات ذات دلالة منطقية قليلة. يؤكد سيرل مجددًا مرارًا وتكرارًا أن هذه مصطلحات فنية، وبالتالي فإن الدلالة تهدف إلى إزالتها من خلال لفتة التعريف. عند وصوله إلى هذه النقطة، يعتقد دريدا أنه يستطيع القراءة في اللاوعي العلمي لسيرل الذي تتمثل رغبته العميقة في تخليص فلسفة اللغة واللسانيات من جميع الطفيليات وإعادة القليل من الجدية إلى لغة المنظرين الأدبيين.
في عام 1995، نشر سيرل كتاب البناء الاجتماعي للواقع، والذي أصبح عملاً مرجعيًا في علم الوجود الاجتماعي. [تعتمد نظرية سيرل على أعماله السابقة، أي نظرية أفعال الكلام. إن استراتيجية سيرل الجدلية ذكية: فهي مسألة إظهار أنه يمكن تحليل المؤسسات بشكل عام باعتبارها عملية ترسيب للغة، وبشكل أكثر دقة، لأفعال الكلام.
لقد شرح سيرل بالتفصيل شروط نعمة الوعد في كتابه "فعل الكلام"، وبذلك يكون فعليًا في أعقاب أوستن. يحدد الوعد نوعًا مهمًا جدًا من الأفعال التلفظية في أوستن، والتي تسمى "الوعود" (الوعد، التعهد، الضمان، الرهان، القسم على...).

لكن ما يشير إليه دريدا (والذي لا يمكن إلا أن يعرفه سيرل)، هو أن تحليل الوعود يلعب أيضًا دورًا مركزيًا في الفلسفة الأخلاقية، ولا سيما منذ نشر كتاب جينالوجيا الأخلاق في عام 1887.

أود أن أضيف في هذه النقطة أن نظرية فعل الكلام ليست النظرية الوحيدة في التقليد التحليلي التي تتناول مسألة الأمر. تأخذ نظرية أفعال الكلام على محمل الجد فكرة أن الأمر هو حالة مزاجية بالمعنى النحوي للمصطلح، بحيث يكون هناك شكل لفظي يعطي قوة محددة لهذا النوع من العبارات. الحتميات هي الحالات النموذجية لما يسمى بالأفعال الإدارية "التوجيهية"، وليس لها شروط الحقيقة، ولكن شروط السعادة، مثل جميع الأفعال الإدارية غير المؤكدة.
تقريبا للتذكير
إن رد الفعل هذا على النقاش بين دريدا وسيرل هو، على وجه التحديد، رد فعل. لقد تمكنت من الهروب من هذا الشيء وها أنا قد تجاوزت الأحداث، إذا كنت أجرؤ على القول. أعتقد أنني أثبت بما فيه الكفاية من خلال طول هذا النص وشكله ومحتواه أنني كنت مدربًا بالكامل (بكل معنى الكلمة) للرد. ويبقى سؤال واحد: لماذا الرد بهذه الطريقة، أي بالكتابة؟ لأننا لا نقوم بشكل منهجي بما تدربنا عليه، على أقل تقدير.
لقد فشل النقاش بين دريدا وسيرل، سواء من حيث الشكل أو المضمون. هذا هو رأيي المعقول. لكنه يظل مفيداً، وهو ما حاولت إظهاره. لذا كتبت هذا كما يكتب المرء تذكيرًا: حتى لا ننسى كل الأسباب التي جعلت، بشكل نهائي، لا دريدا ولا سيرل. آمل أن ينسجم هذا مع مشاعر بعض الأشخاص الآخرين الذين يشاركونني وضعي بشكل أو بآخر. وخاصة في الجيل الجديد: لا تنخدعوا بهذا النوع من المعارضة السطحية، لأنها إذا كانت مثمرة في الماضي (وهو ما يمكن أن نشك فيه)، فمن الواضح أنها عقيمة اليوم.
أما بالنسبة للكتابة والنشر هنا، فهذا أولاً وقبل كل شيء لأنه سهل ومستدام. ويرجع ذلك أيضًا إلى أن التعليم الوطني هو مستودع لهذا النوع من النقاش، مع تأخر زمني ومؤسسي فيما يتعلق بالنزاعات الأكاديمية. علاوة على ذلك، ربما، إذا تم إيداعه هنا وكان لدى الأساتذة الوقت الذي يضيعونه في الاهتمام بتفاصيل تاريخ المؤسسة الفلسفية الفرنسية، في يوم من الأيام سيتمكن شخص ما من فهم الرابط بين هذا الجدل الفاشل بين دريدا وسيرل، والتعاون الناجح إلى حد ما بين بوفريس ودريدا...
أعتقد أن تأثير دريدا في تاريخ الفلسفة هو من الترتيب نفسه، وهو ما يفسر سخط أولئك الذين يعتبرون أننا أحرزنا تقدماً في أنواع الحجج والتمييزات المتاحة في مجال الفلسفة.) "11 "
ذلك يصل بنا إلى طريق أوسع من ذي قبل، لا بل أكثر من طريق للفلسفة، طريق معبد، وليس من نهاية له، لأن الذي أثيرَ، مخصب للفكر، ويعزز مكانة الفلسفة بصورة أجمل من ذي قبل.
والسؤال الذي يطرح نفسه في المعتبَر مختتِماً لما تقدَّم: أين يمكن تصنيف مفهوم " الفضيحة "؟ باعتبارها دالة تشهير اجتماعية، أم علامة سقطة ثقافية ، أم حالة تسفيه لهذا أو ذاك ثقافياً؟
وأين انتهت به حدود " الإرادة الحرّة " التي أخرجها من سياقها الزمكاني وأقصاها إلى اللامرئي بجعلها في وضعية المرئي عبره، أي ما يصلها بالخالق الموسوم لديه وتبعاً لحساباته الإيمانية، أي ما يثبت عجزاً على الفلسفة هنا، وما يشكّل تهمة تاريخية يدفع بالفلاسفة الذين لا يسايرونه في هواه إلى هاوية العدم، مستبقياً من أمكنهم إنقاذ أنفسهم بالطريقة التي رسمها لهم ذوقياً، كما لو أن الفلاسفة في تاريخهم الطويل لم يتعرضوا لخاصية الإرادة الحرة، وما يصل الإرادة بالحرية وبالعكس، وما يصل بينهما انطلاقاً من الإنسان وما يرفع من شأنه بوصفه العاجز، ومن عجزه، يكون إيمانه، ومن إيمانه يكون اعتقاده المتعالي بالخالق، وما في المسألة هذه من تدوير، وعجز من نوع آخر، ليس هو العجز الذي تعجرفه الفلسفة، وإنما عجز من يجد نفسه إزاء الفلسفة في حيرة من أمره، لأنه غير قادر على الانفتاح عليه، وتشغيل فكره بالطريقة التي تعزز ثقته بنفسه، وقابليته لأن يمد بتفكيره إلى الجهات كافة، ويأتي التواصل مع ما هو سام جرّاء عقل مرفق بإرادة حرة لا تقلّل من مقام الخالق، بالعكس، تجعل في مكانة سمو أكثر، لأن العجز المسمى لدى الغذامي يدفع به إلى ذلك الاعتراف بالخالق بإيمان محرَّر من خارج العقل، وهي حيلة من يخاف من نفسه وخالقه، فأي وعي بالكون وصانع الكون وما في الكون، حيث يخرج الغذامي إلى ما يعجز عن وصفه بنفسه؟
ربما الذي فكَّر فيه الغذامي، ومن خلال مجتمعه الذي ينتمي إليه، وثقافته التي يعتمدها وهي تخرجه عن نطاق الأكاديمية وما ينبغي أن تعرَف به ثقافة، وإدارة علاقات وطبيعة تعامل بينيّ، هو الذي يقرّبنا منه، أما الذي تنبني عليه " الفضيحة " بمفهوم سيرل، ومن تحدث قبله " كانط " وغيره، فليس من رابط، أي رابط طبعاً ذي النسَب الفلسفي، لا الدريدي طبعاً، ولا حتى السيرلي، بين الذي أشهرَه الغذامي وما استعان به، وهو يقصينا عنه كثيراً كثيراً جداً!
" يتبع "


مصادر وإشارات
1-Jean Paulhan:Le grand scandale de la philosophie, 2006
جون بولهان:فضيحة الفلسفة الكبرى
2- LE « SCANDALE » DE LA PHILOSOPHIE: LA QUESTION DE
L’OBJECTIVITÉ DU MONDE ET L’IDÉALISME FICHTÉEN
“فضيحة" الفلسفة: مسألة الموضوعية العالمية والمثالية الفيتشية
3- Damien de Blic, Cyril Lemieux:Le scandale comme épreuve : Éléments de sociologie pragmatique, Dans Politix 2005/3 (n° 71 )
داميان دي بليك، سيريل ليميو:الفضيحة كاختبار" عناصر علم الاجتماع العملي “
4- À l’épreuve du scandale, Dans Politix 2005/3 (n° 71 )
دليل فضيحة
5-Joseph MargolisÊL’indifférence croissante de la philosophie à l’égard de l’histoire et de la culture
جوزيف مارجوليس:- اللامبالاة المتزايدة للفلسفة تجاه التاريخ والثقافة
6-LA PHILOSOPHIE A T – ELLE UNE QUELCONQUE UTILITÉ , 26 janvier 2017?
هل للفلسفة أي فائدة؟
7-Elisabeth Weber: La controverse Derrida/Searle autour de la théorie des actes de langage
إليزابيت فيبر :"جدل دريدا/سيرل حول نظرية أفعال الكلام"
8- Emanuel LANDOLTÊDerrida/Searle : réitération d'une controvers
إيمانويل لاندولت: دريدا/سيرل: تكرار الجدل
9-جاك دريدا: فصول منتزعة، تحرير: ناجي العونلي، ترجمة: عبدالعزيز العيّادي، ناجي العونلي، معزّ المديوي، منشورات دار الجمل، بيروت- بغداد، ط1، 2015 .ص 74-102-170.
10- La Déconstruction et la Théorie des Actes de Langage
التفكيك ونظرية قانون الكلام
11-Louis Rouillé: Ni Derrida, ni Searle
لويس رويلّيه: لا دريدا ولا سيرل





د. عبدالله الغذامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...