د. محمد عبدالله القواسمة - الموت الفلسطيني د. محمد عبدالله القواسمة

يشبه الموت الفلسطيني موت غيره من البشر، فهو يموت موتًا طبيعيًّا، أو يموت وهو يقاتل في ساحات الوغى، أو يموت في حوادث العمل والطرق والسيارات، أو يموت في مجزرة أو حادثة في الطبيعة. يموت الفلسطيني مثل الآخرين في المنفى والسجون، كما قد يموت اغتيالًا على يد مجرم أو خائن. لكن ما يميز الموت الفلسطيني عن غيره هو ما يحيط به من طقوس، وبما يحمله من معان وأفكار.

ففي الموت الفلسطيني يكون الحزن عميقًا ويستمر أيامًا وربما شهورًا وربما سنين، وهو حزن لا ترافقه الدموع؛ فالفلسطيني يحاول أن يحبس دموعه؛ لأنه لا يريد أن يظهر ضعيفًا أمام مصائب الأيام، وتراه إذا كان الموت استشهادًا في سبيل وطنه فإنه يظهر متجلدًا صبورًا، ويتجاوز الحزن بإظهار سعادته بهذا الموت؛ فلا غرابة أن الأم تزغرد حين يستشهد ابنها، أو تشارك الرجال في حمل جثمانه إلى مثواه الأخير، وتعلن إصرارها على الإنجاب من أجل تزويد قومها بالرجال ليسدوا مسد الراحلين، وإذا كانت قد توقفت عن الإنجاب فإنها تحث جاراتها وقريباتها على ذلك.

إن مفهوم الموت لدى الإنسان الفلسطيني يعني البعث وولادة المقاومة، وإنتاج الذات الجماعية في الشعب الفلسطيني. وربما انحدرت فكرة البعث من الفكر السومري والكنعاني القديم، فقد جعل السومريون والكنعانيون طائر النار المسمى طائر الفينيق رمزاً للبعث والتجدد، فهو الذي يغالب الموت ويخرج حيًا من الرماد متجدد الحياة. هكذا كان الكنعانيون الذين انسل منهم الفلسطينيون يحتفلون في موعد الزراعة بعودة الإله تموز الذي يرمز إلى الخصوبة والتناسل والتجدد؛ وجعلوا البيض رمزًا لقيامة تمّوز، فكما يخرج الكتكوت أي الصوص من البيضة، يخرج الزرع من الأرض، وتنبعث الحياة من القبر.

وربما دفعت هذه الفكرة الشاعر محمود درويش ليقول في جداريته المشهورة:

أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية.

وفي موتي حياةٌ ما ..

أما في الفكر الصهيوني فموت الفلسطيني يعني نهايته ونهاية قضيته، وهذا الفهم هو الذي يوجه الآلة الحربية الصهيونية الاستعمارية ليحقق وجود الكيان الإسرائيلي في فلسطين؛ ومن هذا المنطلق تلاحق إسرائيل الفلسطيني حتى بعد الموت فتلجأ إلى حجز جثامين الشهداء في ثلاجات الأسر، أو معتقلات الموت التي تسمى مقابر الأرقام السرية. وعندما تسمح بتسليم الجثامين تمنع أهل الضحية من دفنها في النهار، وتحدد عدد الذين يشاركون في الدفن وهي تهدف من وراء ذلك إلى تقويض روح المقاومة والتعلق بالوطن، ومنع تحول جنازات الشهداء إلى تظاهرات تكرم الشهداء، وتشيد بالهجمات على الجيش الإسرائيلي، وتجعل من الشهداء أبطالًا قوميين.

من اللافت أن كثيرين من الباحثين والمفكرين تحدثوا عن الموت الفلسطيني مثل الدكتور إسماعيل ناشف في كتابه" صور موت الفلسطيني" 2015م ولكن أفضل من صوّر هذا الموت وتحدث عنه هم الروائيون العرب والفلسطينيون، فقد وردت في روايات كثيرة صور الموت الفلسطيني نابضة بالحياة، وعبقة بالعرق والألم، ومتشبثة بالصبر والصمود. ففي رواية "رجال في الشمس" 1963م يموت ثلاثة من الفلسطينيين في الخزان بعد أن دفعهم أبو الخيزران سائق السيارة إلى الدخول فيه ليجتازوا نقطة الحدود العراقية إلى البصرة في طريقهم إلى الكويت. ماتوا من شدة الحر، وانطلق قول أبي الخيزران وهو يلقيهم في مكب النفايات: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

هذا السؤال رأى فيه كثير من الدارسين تحريض الفلسطينيين على القتال والثورة والعودة إلى فلسطين بدلًا من تركها والبحث عن وطن غيرها. لكني أرى فيه دعوة إلى رفض الانقياد إلى إنسان مثل أبي الخيزران، فكان موت الثلاثة محققًا حتى لو دقوا جدران الخزان، وكذلك موت من يفعل فعلهم؛ فالأساس أنهم انقادوا لإنسان انتهازي فاقد الرجولة لا تهمه سوى مصلحته الخاصة.

وجاءت رواية "الطنطورية"2010م لتحكي جريمة الصهيونية في تدمير قرية الطنطورية الفلسطينية، وتفريق من نجا من سكانها في أنحاء الأرض. ومثلها رواية "الحب ينتهي في إيلات" التي وثقت المجازر التي قامت بها الحركة الصهيونية في فلسطين، مثل: دير ياسين، والدوايمة، وقبية وغيرها. إذ ظهر بطل الرواية وهو يقرأ في كتاب عن مذابح إسرائيل في فلسطين أثناء سفره في الحافلة من عمان إلى العقبة.

ومن أغرب صور الموت الفلسطيني ما ورد في رواية" الغياب" فالشخصية التي تدور حولها أحداث الرواية تدفن واقفة في القبر حسب ما أوصت به. في إشارة إلى ما يتصف به الفلسطيني من كبرياء وأنفة، ورفضه الذل والخنوع. وتذكرنا هذه الوصية بما يتردد كثيرًا في الواقع والروايات والمسرحيات الفلسطينية؛ فحين يقترب الفلسطيني من الرحيل يوصي أن تنقل رفاته لتدفن في مسقط رأسه، كما في رواية" أصوات في المخيم" إذ يوصي الأب أبناءه أن يدفنوه في قريته تل الصافي، وكذلك في المسرحية المونودرامية "سأموت في المنفى" تظهر وصية صابر غنام لأبنائه أن ينقلوا رفاته لتدفن في قريته كفر عانة التي أقيم على أرضها مطار بن غوريون، وكأنه يردد مع الشاعر:

أخت العروبة هيئي كفني أنا عائد لأموت في وطني

في النهاية نقول: لخصوصية الحياة التي يعايشها الإنسان الفلسطيني فإن الموت الفلسطيني بشقيه: الموت في عالم الواقع أم الموت في عالم التخييل الروائي يتحقق من أجل الحياة التي يحلم بها الفلسطيني له ولأبناء جلدته، إنه يجعل من الموت وسيلة من وسائل المحافظة على الحياة، إنه يموت ليحيا وليحيا الآخرون في وطنه في حرية وكرامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...