-10-
الحلقة الأخيرة
التحرير الكبير
بعد أن يجدد الغذامي موتَ الفلسفة، في " مستعمرة عقابه " من باب التوكيل النفسي، قبل كل شيء، أي من انطلاقاً ستيفن هوكينج في المقدمة، كما رأينا، لأنها لم تعد قادرة على الاستمرارية،وإمكان التعبير عن سلطتها الرمزية في تاكيد فعاليتها بالاتكاء على مفاهيمها، يصبح الطريق سالكاً إلى المعتبَر طرحَ النظرية بقيمتها، ليتوقف عندها، عارضاً إياها بوصفها الإمكان الوحيد لجعل الحياة ذات معنى، وحتى بالنسبة إلى الفلسفة نفسها،جهة إلحاقها بالعلم اليقيني؟
ينسى أو يتناسى الغذامي أنه في كل ما سعى إليه كان في مقام " طالب نجدة " من الآخرين، لكي يمنحوه ما من شأنه أن يكون صاحبَ لسان حال عن النظرية القادرة على إفراد ما يؤسس لحياة فاضلة، وأنه في إجرائه هذا لم يقدَّم شيئاً " أي شيء ". بالعكس، إنه حين يتظلل بما ينسَب إلى الآخرين ممن لا يتكلمون لغته " العربية " يوهم نفسه أن الذي يسمّيه أو يتهجّاه ويسطّره على الورق، ينتسب إليه وليس سواه، وما في هذا الزعم من التفاف على الموضوع، ونسيان موقعه جغرافياً وتاريخياً، والخلط بين الجهات، وفي الوقت نفسه، حيازة جهود الآخرين وربطها بنفسه .
ينسى الغذامي أنه، وهو يميت الفلسفة يعجز، وأي عجز عن دفنها( يذكّرنا: يذكّرني، بما قيل عن ملهمه الغزالي، وقد أوهم نفسه أنه بالفعل انتهى من الفلاسفة الذين عنَاهم إلى غير رجعة، وقد ظهروا أمامه في الحال، أكثر مضاءَ عزيمة من ذي قبل " بلعهم ولم يستطع أن يتقيأهم "..) وفي الوقت الذي أفصح عن سوء تفكير في خاصية الفلسفة بأنها خلاف ما هو تاريخاني، حيث إنها لا تستند إلى ما كان، ولمَا كان عبْر قيم متباينة، تبعاً للتراتبية الزمانية، إنما تظل ماضية بقواها، ولو بشكل متفاوت، وعما ليس له صلة بالفلسفة أي دون غزاليَه حديثاً في الفلسفة، ولم يخرج من نطاق الفلسفة في الآن عينه، ليظهر منظّراً سياسياً، ولكن بلسان " تفاوضي " غريب عنه.
ربما كان هذا الذي يستوقفنا في الجانب المتعلق بالفلسفة ومآلاتها، وميتافيزيقية هذا التعبير لحظة المكاشفة، هو انسداد أفق رؤية الكاتب، بسبب التعسف في التعامل مع المفاهيم عينها.
كما أشرتُ، حين يستعين بمن يدعمه لـ" تأديب الفلسفة " بوقفها عند حدّها وهو من موقع مغاير، لحظة التقابل بين ممثلي الفلسفة التحليلية ومعها الوضعية المنطقية والفلسفة القارية.
وثمة الكثير الذي يمكن قوله تنويراً للفكر الذي يتم طرحه وتنقيحه بعيداً عن تفهّم محتواه .
الفلسفة التي تخطىء وتتعلم من خطأها خلاف الغذامي
من الموت الموصوف والمحدَّد للفلسفة على يد من ليس له صلة مباشرة بالفلسفة، أي هوكينج، والذي لم يستطع من التخلص من لغتها، وهو يعيش هاجس موضوعه العلمي في " التصميم العظيم " مثلاً، إلى الشاهد على حقيقة معزَّزة من جهة رمز من رموزها، وهو دانييل دينيت" 1942-..."، حيث استهل مقدَّمة الكتاب بمثال يشير إليه، حين أجاب على سؤال فيزيائيين عما يجعله يقرأ كتباً لفلاسفة قدامى: نقرأهم كي نتجنب أخطاءهم، ولو لم نفعل لكررنا الأخطاء ذاتها "ص 5 " ويأتي على اسمه مختصراً تعبيراً عن شعوره أنه بذلك يضفي على حديثه ما يزيده قوة معرفة " ص 175 " دون أي مساءلة في الحالة هذه بالمقابل، إذ ما صلة الفيزيائي بمشتغل بالفلسفة، حيث التوجه في الاختصاص مختلف كلياً، وفي الوقت الذي ينسى أو يتناسى الغذامي بالمقابل، أن دينيت البراغماتيكي الأمريكي، لا يشكل شاهد عيان على " جُرْم مرتكب " في من يغايره فلسفياً، وفي الوقت الذي يكون دينيت قريباً من المشتغلين بفلسفة العلوم، وجِهة العقل بالذات( تحديداً: فلسفة العقل وفلسفة العلوم وفلسفة علم الأحياء، وخصوصًا المتعلقة بعلم الأحياء التطوري والعلوم المعرفية. ) ، واللافت أيضاً، هو أن دينيت هذا بعيد كل البعد عما يمضي إليه الغذامي بالمعتبَر : علمي اليقيني، بصفة دينيت علمانياً، أو ملحداً، على وجه كما هو معروف عنه. وهذا يرجعنا إلى ما أفصحنا عنه في الحديث عن هوكينج .
يكتب أحدهم فيه التالي:
("دانيال دينيت هو الشيطانc'est le Diable..." ربما يكون هذا التعجب الذي كتبه بيرتون فورهيس، أستاذ الرياضيات المحترم في جامعة أثاباسكا، مبالغًا فيه بعض الشيء. لكن بالنظر إلى التطرف الذي أظهره من يستهدفه، لا يستبعد أن يقدم نواة من الحقيقة... نشر "أحلام سعيدة" الذي يرد فيه دينيت على بعض الاعتراضات ويتعهد بتبديد الأحلام الفلسفية التي يعتبرها في جذورها، يوفر فرصة للعودة إلى فكر المؤلف المهم.
تتأثر المواقف الفلسفية لهذا المؤلف المثير للجدل بالنزعة الطبيعية لـ كواين، الذي يجادل بأن ما يمس "العقل" يمكن فهمه وتفسيره مثل أي ظاهرة طبيعية أخرى - "نحن جميعًا مخلوقون، وهو يكتب بإحساسه المعتاد بالاستفزاز، للروبوتات الخالية من الروح ولا أكثر" - ومن خلال فلسفة اللغة العادية والتي تقوده مع ذلك إلى الأخذ في الاعتبار الطريقة الخاصة التي نصوغ بها ونفسر ما يحدث فينا.
ومن المؤكد أن ما نسمّيه الوعي يبدو في حد ذاته غير قابل للوصف، "يُحتفل به على شكل لغز يتجاوز العلم، لا يمكن اختراقه من الخارج"، وهي تجربة داخلية وخاصة للغاية بحيث لا يمكن الوصول إليها إلا من قبل الشخص المعني.) " 1 "
وما يصل لديه بين ما هو علمي، سياسي وفلسفي كذلك:
(إن معرفة الأحياء، كما يقودنا التقليد الدارويني إلى التفكير فيها، تسهم في تحويل، إن لم يكن الإطاحة، بتصورنا للعالم. ولا يمكن للفلسفة، بما فيها الفلسفة السياسية، أن تظل غير مبالية بهذه التحولات. سيكون هدفنا هنا هو متابعة فكر دانييل دينيت بشكل عام.
ونحن نعتقد أن فلسفة دينيت تشكل نقطة ارتكاز متينة يمكن من خلالها التفكير في المغامرة الإنسانية التي تم تصورها كمنتج للتطور، وهي مغامرة تمتد اليوم إلى أبعاد لم تكن متوقعة من قبل. وبهذا المعنى، سنحاول أن نبين كيف يمكن نسج رابط بين فلسفته وفلسفة فوكو، رابط جوهري أكثر من تفاصيل يمكن أن يوضح الطريق الذي يمكن من خلاله أن نفكر في مستوى التكامل النظري الذي يوحد خطة الفلسفة. الكائن البسيط لتلك الحياة السياسية المتقنة للغاية.
دينيت هو المادي التطوري. باعتباره ماديًا، فإن تفكيره يلبي متطلبين. الأول يمكن أن يشكل قاعدة معرفية. وهو يتألف من الرفض منذ البداية لأي تفسير من شأنه أن ينطوي صراحة أو ضمناً على مناشدة اللغز أو المعجزة. وبالتالي، يجب أن يتجنب العرض التوضيحي اقتحام المساحة التي يمكن من خلالها تقديم إشارة إلى المعجزة. باختصار، نجد هنا دفاعًا عن الآلية أو السببية. ومن هنا فإن المذهب الطبيعي هو المطلب الثاني. بالنسبة لدينيت، كما هو الحال بالنسبة للعديد من فلاسفة العلم والإدراك، فإن المذهب الطبيعي هو “فكرة أن البحث الفلسفي لا يحتل مكانًا أعلى أو أولوية فيما يتعلق بالبحث الذي هو العلوم الطبيعية؛ على العكس من ذلك، فإنهما يتعاونان معًا في البحث عن الحقيقة، بحيث يكون العمل الذي هو عمل الفلاسفة بشكل صحيح هو توضيح وتوحيد وجهات النظر المتناقضة غالبًا في رؤية واحدة للكون “ ) " 2 "
هو فيلسوف، ولكنه المتموقع في مكان غير الذي يعرَف به من ينتمي إلى الفلسفة القارية !
وربما، من خلال ما تقدَّم يمكننا معرفة خلفية سؤال الفيزيائي لدينيت هذا، وخلفية جواب هذا التطوري المادي العلماني للآخر، أي بالتعلم من الفلسفة، لأن قيمة أي علم هي فيما يكتشفه من تلك الأخطاء التي تزيده وعياً علمياً ومعرفياً بموضوعه، وهكذا يكون شأن الفلسفة، وإلا فما الذي يدفع بالفيزيائي أن يطرح سؤالاً ذا علاقة بالفلسفة، دون وجود علاقة قرابة مهنية ما بينهما؟ .
وبالصيغة هذه، هل نكون قادرين على الفصل بين العلم والفلسفة، بين فلسفة وأخرى، كما رأينا، حيث المسافات الجغرافية الفاصلة لا يُعتَد بها لتسمية حالات عداوة بينهما، إلا حين يرى من لا يرى إلا فيما يريد أن يراه، في هذا التباين فرصة لتعكير المياه الجارية في " أرضهما " !
يكتب أحد الباحثين في هذا الشأن وتحت عنوان فرعي" نحو نظرية معرفية للفلسفة ":
( لقد رأينا أن أحد أسباب قلة ممارسة الفلسفة النظرية في العالم الأكاديمي يكمن في صعوبة الفهم الصحيح للحجج المجرَّدة التي تستخدمها، وهي صعوبة تتفاقم بسبب غياب نظرية معرفية شاملة للفلسفة. كيف يمكن للمرء أن يدعي بالفعل استنتاجات فلسفية، إذا كان المرء لا يعرف ما هو الاستنتاج الفلسفي بشكل عام، وما هي قواعد الاستدلال التي تنطوي عليها هذه الاستنتاجات؟ بالتأكيد، ليس من الضروري مطلقًا معرفة أساليب الفلسفة للتفلسف، تمامًا كما يستطيع الشخص الذي لم يدرس النحو مطلقًا أن يعبر عن نفسه بشكل صحيح تمامًا. ومع ذلك، يبدو أن الباحث الذي يعرف نظرية المعرفة في الفلسفة سيكون أكثر قدرة على تجنب بعض الأخطاء وإقامة البراهين الصحيحة، تماما كما أن الفرد الذي يعرف القواعد سوف يتقن اللغة بشكل أفضل.) "3"
متعة أن يكون أحدهم ذواقة فلسفة، تتطلب معرفة نوعية المتعة هذه، وتلك المصادقة الروحية مع هذه التي شغلت تاريخاً طويلاً وخصباً في المفاهيم وثراء تنوعها في شريط جغرافي متعرج، ومسار تاريخي متعرج أوربياً باقتدار، ولنسمع أو نقرأ من يتناول هذا الجاري فلسفياً، ليس من باب طلب الإمتاع والمؤانسة، وإنما تأكيد نزعة فلسفية لتمرير ما يسيء إلى الفلسفة في المتن.
الغذامي خارج الفلسفة، داخلها
يتحدث الغذامي عن الممكن القيام لإصلاح حال " الكونيّ " في العلاقات البشرية. إنه يوحي بترْك الفلسفة في الخلف، بينما هي أمامه، حيث التعابير تبقيه في نطاق الفلسفة السياسية .
إنما كيف تظهر صلته بما يمضي في التعبير عما يخص المجتمع البشري اليوم؟ كيف يكون تشخيصه لقائمة المشاكل التي تعيشها البشرية، والحلول المقدَّمة ؟ هل من جديد يشير إليه ؟
هناك عبارة لها حضورها العولمي الطابع، أو جرّاء تبعات العولمة سياسياً، قبل كل شيء، وهي " التفاوضية الثقافية " حيث تمثّلها كما تكوّنها " قيم لها ثلها قديماً وحديثاً "!
وثمة نقاط عدة:
( والتفاوضية الثقافية تقوم على أربعة أركان هي: الحرية والمساواة والعدالة والتعددية الثقافية، وهي مجتمعة ما يمكن أن تتسلح به النضالية الثقافية في مرحلة هي من مراحل الانتكاس لكل مقولات هذه التفاوضية.
وحول قيمة النظرية هي أنها عابرة للمفاهيم بمثل ما هي عابرة للتخصصات، فالعدالة والحرية يتصلان( تتصلان ) بالضرورة مع المساواة والثلاثة مجتمعة تفرض وجود التعددية الثقافية . ص 179 .
من هنا تأتي قيمة النظرية من حيث كونها تفاعلية تتجدد مع كل حالة تحد لها. ص 180 .
ومع التفاوضية: التفاوضية الثقافية هي من أجل مواجهة ما سمّاه جون ستيوارت مل بالاستبداد النير. حيث تحولت الليبرالية إلى خطاب في العنفـ حسب تعبير بول بيرمان، ولن تصل البشرية إلى معاش سوي وإنساني لا عبر صيانة المفاهيم وتخليصها من هيمنة الغرور العقلاني الذي يجرأ على عقلنة، ومن ثم إنتاج حضارة في التفكير الناقد الذي ينقد خطابه الخاص، بما أن نقد الخطاب الذاتي هو أعمق الصيغ النقدية وتحرير المفاهيم..ص 189 . ص 189 .
وهذا يعززالحاجة للتفاوضية الثقافية بأركانها الأربعة مجتمعة واجتماع الأركان الأربعة ( الحرية، والعدالة، والمساواة، والتعددية الثقافية ) هو وحده الضامن لمنع تأويل المفاهيم تأويلاً يعزز رغبات المهيمن ويقمع تطلعات المهمش. ص 190 .) .
الحديث المفصلي لكل ما تقدَّم يعرَف بطابعه السياسي وإن كانت الفلسفة نابضة داخله، لكن السؤال هو: ما هي صلة القرابة الفعلية بين الذي سطّر والغذامي في موقعه الاجتماعي؟ أي سلطة رمزية بحمولتها الفكرية تعرّف به، في مجتمعه، ليكون منظّراً، مفسّراً، ومفكَّراً مستقلاً ؟
على صعيد العولمة، في الأركان المسماة في نطاق التفاوضية الثقافية الجامع المانع " أي النطاق " لتلك الأركان: الحرية، العدالة، المساواة، والتعددية الثقافية " هل للغذامي موطىء قدم فيما أفاض في الحديث عنه، وعلى صعيد عملي، ليكون له اعتبار وهو يحاول تنوير " مجتمعه " ؟
طبعاً من ناحية الموضوع، ليس هناك أي إمكان للاستخفاف مما يخص هذا الجانب، إنما فيما يطرحه، اعتماداً على آخرين، وحيث إن قائمة الموضوعات هذه تسمّي مجتمعات مختلفة، مثلما تشير إلى أولئك الذين اجتهدوا، وقدَّموا ما يكون تعبيراً عما شاهدوه وعانوه بالمقابل.
في عالم اليوم ما أكثر ما يمكن قوله، بشكل مختلف عما يجري تأكيداً على انفجار الأحداث، في تفاوت أبعادها وتوجهاتها، والصلات فيما بينها، ومدى الخطر الذي يهدد الكون، كما نلاحظ في الجهات الأربع، ومن هم أولئك الذين يمارسون أدواراً ذات صبغة تدميرية وباعثة على الخوف هنا وهنا، وكيف يمكن حساب المخاطر، والذين يشكّلون ضحايا لها، وفي الوقت نفسه، ما هي نوعية القيم القائمة، قيم معولمة، ومتنقلة أو رحالة ويجري فرضها نشداناً لغايات متعددة، لكنها تلك الغايات التي ترتبط بالقوى الدولية العابرة للقارات، وهي مرهوبة الجانب، ومتغيّرة .
هذا من شأنه التغييرالدائم في القيم الموجودة، وليكون لمفهوم " التعددية الثقافية " طابع لا يكتنه جوهره سوى من يسبر غور العولمة وخاصيتها الغُولية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان " 4 " .
يظل تعريف الثقافة على أرض الواقع جهة التمثيل الإنساني أكثر من كونه ناقصاً، وحيث إن كاتبنا يترك فراغات تترى، هي عبارة عن صدوع قائمة في بنية تصوره الثقافي لما يجري في منطقتنا، ومن قبل القوى السياسية التي لا تدخر جهداً في ممارسة العنف شعوبها . وما يجعل مفهوم الثقافة عينه في وضعية مأساة ذاتية، واندحار ذاتي جرّاء التمثيل القهري فيها. وما يحفّز مثل هذا الجاري إلى مكاشفة أوجهه الخلل البنيوي في الدائر إقليمياً قبل سواه خارجاً.
إن ما يورده أحد الباحثين حول الثقافة، وهو:
(إن الثقافة، وهي عنصر أساسي في الحياة الاجتماعية وفي تصرفات الإنسان، هي مفهوم معقد ومتعدد الأوجه وعابر. أحد أكثر التعريفات التي تم اقتراحها إبداعًا وأهمية هو تعريف إدوارد هيريوت: "الثقافة هي ما يبقى عندما يُنسى كل شيء". وهذا التعريف المتناقض ظاهريا يعبر عن إحدى أهم خصائص الثقافة، فهي قبل أن تكون محتوى، هي طريقة تفكير ووجود. علاوة على ذلك، فإن الفرد غير مدرك نسبياً لهذا الواقع وآثاره.
يمكن تعريف الثقافة بشكل أكثر دقة بأنها "مجموعة من المعاني والقيم والمعتقدات ذات الطبيعة الجماعية وتتمتع بمتانة معينة والتي تميز مجموعة من الأفراد على أساس قومي أو عرقي أو غيره وتوجه سلوكهم (فور وروبن) ..) " 5 "
يحيل القارىء لمدى سوية التعريف إلى مساءلة الأرضية التي انبنى عليها التعريف، وما إذا كان في مقدور تعريف كهذا أن يشكّل أطلساً ثقافياً قادراً على إظهار خفايا القائم في متنه وتوتراته.
ربما جرّاء ذلك يسهل علينا معاينة أوجه التباين والتنازع أو صراع المواقف عالمياً، وما يخص الانقسام الكوكبي المتعدد المواقع في ضوء هذا الاضطراب بأسبابه ومسبباته :
(على الرغم من أن غالبية الباحثين والمهنيين يدافعون عن وجهة النظر القائلة بأن التعددية الثقافية عامل مهم في المفاوضات الدولية، إلا أنهم يجمعون على القول بأن هناك أساليب تنافسية مختلفة ومجموعة واسعة من النماذج. والواقع أن الآراء ووجهات النظر تتراوح بين أقلية من المتشككين وأغلبية المؤيدين.) " 6 "
تُرى، هل الغذامي مثقَل بمثل هذه الهموم والهواجس التي تتعدى نطاق النظرية عملياً ؟
إلى الفضاء " الأكثر " مصداقية والرحب
كما نوَّهت، فإن جل الذي تفوَّه به الغذامي لا يخرجه عما يتميّز به من لا يسايرون هواه، وفي إطار ما كانوا يفصحون عنه، ويعيدون النظر فيه، على صعيد النظرية والممارسة، في مجتمع المتميز بالانفتاح على تلك المفاصل الحيوية داخله، وفي الخارج، رغم كل السلبيات التي يعيشها، إنما هو المجتمع الذي يستطيع أن يتبصر أخطاءه في مجالات مختلفة، ويتوقف عندها ويُسميها دون خوف طبعاً، مهما اتسعت حدودها، وتجلّت خطورة جهة التعبير عما هو قاعدي وسلطوي.
كما نقرأ في شهادة ساخنة ولا تخفي مرارتها:
(في هذه الأوقات العصيبة، يبدو أننا نفتقر إلى المعايير. هذه القيم، مثل المراجع، أصبحت شيطانية، إلى درجة أننا لم نعد نعرف أي قديس نكرس أنفسنا له. هل يمكن للفلسفة أن تكون علاجًا؟ هل يمكن لتأملات مفكري الأمس أن تساعدنا على فهم عالم اليوم بشكل أفضل والعيش فيه بشكل أفضل؟ فهل يتعين علينا، كما كتب فولتير في كانديد، أن "نزرع حديقتنا"، أو كما أوصى غاندي "أن نعيش كما لو كنا سنموت غداً، ونتعلم كما لو كنا سنعيش إلى الأبد"؟ هل يجب أن نتبع مارك أوريل عندما يؤكد أن "فن الحياة قريب من فن القتال"؟ ) " 7 "
ولعل الذي يتفوه به الفيلسوف الألماني هابرماس يعزز مثل هذه الإرادة المجتمعية أساساً:
(إن الشكوك حول معنى الفلسفة وشرعيتها جزء لا يتجزأ من الفلسفة نفسها؛ إنها تشكل البيئة الطبيعية لفكر متواصل وغير موجه. إن مسألة ما إذا كانت الفلسفة يمكن أن تصبح عملية هي مسألة قديمة قدم الفلسفة. ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في سياق المجال العام والسياسة والتعليم والثقافة؟
إن المجتمع الدولي، في طور تشكيله، لم يعد اليوم منخرطا في تسوية العلاقات الدولية فحسب؛ علاوة على ذلك، هناك حاجة لتحويل قانون الشعوب إلى قانون عالمي يمكن للناس الاعتماد عليه أيضًا في العلاقات داخل الدول ويمكنهم المطالبة به أمام حكوماتهم. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن حقوق الإنسان المقننة في مختلف الإعلانات تقدم نفسها. وعلى خلفية سياسة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، والتي ظلت نشطة منذ عام 1989، وفي ظل الانطباع الذي خلفته المبادرات واسعة النطاق للمنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم، أصبح النقاش حول التفسير الصحيح لحقوق الإنسان أكثر تطرفاً. منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تراجعت الاختلافات في المفاهيم بين الأنظمة الاجتماعية بكل تأكيد. ولكن بدلاً من ذلك، اندلعت معارضات بين الثقافات، ولا سيما بين الغرب العلماني والتيارات الأصولية الإسلامية، من ناحية، وبين التقاليد الغربية والآسيوية الفردية من ناحية أخرى. ) " 8 "
أنا أتحدث هنا عما يبقي الفلسفة حيث وجدت نفسها ذات قوة وذات مكانة وذات سلطة في سماع صوتها، وهي تميط اللثام عما هو بنيوي في الجسد المجتمعي: تاريخاً وثقافة وسياسة، مثلما يبقى فلاسفة اليونان أحياء وأكثر في الأفكار التي استنبتوها في شجرتهم الفكرية، وكذلك الحال مع الفلاسفة الذين جاؤوا من بعدهم، ونوعية الاعتراف الفعلي بجدّية تأملاتهم ومفاهيمهم، وليس ما شهدناه مع الغذامي وهو يزكّي الغزالي، وفي حيّز ضيق، وغير دقيق: الذوق، ليكون تمثيلاً كوكبياً لما يمكن اعتباره الحل الصائب لمعرفة كل الخرائب، كوكبياً، متجاهلاً زيفَه .
وليبقى الأمل مسنوداً فلسفياً :
(لقد حان الوقت للتوقف للحظة، للنظر إلى الواقع، والتأمل فيه، وإدراك وقبول ما هو جيد حقًا وصحيح لمعنى حياتنا. ليختار بعد ذلك الانخراط فيه، واتخاذ الأمل وسيلة. الأمل الذي يرشدنا إلى الطريق الذي سنسقط فيه بالتأكيد، ولكننا سنجد دائمًا القوة للنهوض مرة أخرى.) " 9 "
إنه الأمل الذي لم يشأ الغذامي أن يشير إليه، أو يتمنى أن يسمّيه ولو عرَضاً، وهو ينتقل من فقرة إلى أخرى، ساعياً إلى إحداث بلبلة في " أرض " الفلسفة، والشعور بمتعة ضمنية لذلك .
وحين أورد قولاً لأحدهم، وهم ينتمي إلى المجتمع الفلسفي في العمق، حيث يوسّع حدود تأمله الفكري، وهو بباعه الفلسفي الطويل، ورحابة مفهومه، ويستشرف بنا ما هو كارثي عالمياً، وما ينبغي النظر فيه بصيغ مغايرة للسائدة دون أن يفقدنا الأملَ، إنما دون أن يدعنا في حالة من الراحة والاستسلام لعوادي الزمن الاجتماعي، السياسي، والثقافي، وفي منحى تلمس فيه الغذامي ما يشغله نفسياً" التفاوضية الثقافية " ليكون الآتي مرحَّباً به بالقول والفعل:
(يبدو الآن أنه من الصعب إلى حد ما التأكيد على أن الإنسان لا يزال كائنًا عاقلًا أو أن نشاطه الإنتاجي، الذي يتجاوز باستمرار مجال التدمير والعبث، يجب أن يؤخذ كدليل على طبيعتها غير العقلانية من الناحية الوجودية، فهي مجرد "ذات قدمين بلا ريش"، وفقًا للتعريف الروحي لأفلاطون.
في مطلع الألفية الجديدة، أعادت البشرية اكتشاف بعض الحقائق القديمة، وتحت وطأة سيول المعلومات، أدركت مرة أخرى أن المعرفة المطلقة لا تؤدي بالضرورة إلى الحكمة. بدقة رياضية تقريبًا، يوسع مجال المعروف آفاق المجهول، مما يجعل مثقف اليوم قريبًا جدًا من الاعتراف المعروف: "أعلم أنني لا أعرف شيئًا".
اليوم، تختبئ صناعة الموت وراء ثقافة معينة من إنتاج "النفايات" - معايير تجارية رخيصة جاهزة للحياة والحب والموت. إن الاستبدال المكثف للحالات الوجودية العميقة بعلاماتها، يحول الإنسان إلى صندوق بسيط أو مظروف، قادر على حمل أجزاء من المعلومات التي يتم تلقيحها بشكل مصطنع هناك: يصبح الإنسان متغيرًا فرديًا داخل النظام الخوارزمي للوجود الاجتماعي.
من الأصعب أن نفترض أن تطبيق الفلسفة هو إنتاج لنشاط روحي لا تتحقق فيه السلامة الداخلية للإنسان فحسب، بل تتم استعادتها أيضًا. عندها فقط ستقدم الفلسفة نفسها كتحرير للإنسان من كل اكتئاب، مما يمكنه من لعب دوره الخاص في الكون، حيث يكون قادرًا على التعبير عن معنى حياته الروحية. تتوقع الفلسفة أن يتم التواصل على أساس الحدس الأول والأخير، وليس على أساس الدليل الوسيط للفكر الخطابي.
يبدو أن الفوضى الصامتة للمجهول يسيطر عليها "العقل" القادر على تحويلها إلى نظام المعلوم. في الوقت نفسه، حتى "الإخطار" للعالم بحتمية إنتروبيا العالم وموته، عندما يذوب الظهور المحتمل جدًا لـ "جزر التنظيم" في ضرورة التوازن والتشابه العالميين، وتختفي إمكانية التمايز.
إن الاغتراب النهائي بين المعرفة والقيم، والعلم والأخلاق، والمنفعة والجمال، يُنظر إليه باعتباره تهديدًا كبيرًا للثقافة والإنسانية، وحتى لوجود الحياة على الأرض. وهذا يحفز البحث النظري والعملي على حد سواء لإدارة هذه التمزقات باستخدام نفس وسائل الحوار: لم تخترع البشرية أي شيء آخر في تاريخها بأكمله.
إن جهود التفكير الفلسفي، التي تم دفعها باستمرار خلال القرن العشرين لتوجيه نفسها نحو أصالة الحياة (أو الحيوية الأصيلة؟) للإنسان في العالم، قد أعطت حتماً طابعًا إشكاليًا لظاهرة التفكير نفسها.) " 10 "
أين تراه الغذامي الآن بالنسبة لموقعه بحضوره الثقافي، وصنعة الفكر وجدواه، وبالمقابل، فيما يخص الفلسفة التي كانت في بنيتها خارج هذا التأطير الموجَّه: مآلات الفلسفة " وما يرد توصيفاً للعنوان، وما ينبري تشهيراً للمأهول بحمّى البحث عما هو فلسفي وهو ليس خلافه؟
أي ما يسمّي مفارقة كبرى إزاء المتحصّل في كتابه، حين يكون بعيداً عما هو فلسفي، ورافضاً له في تاريخه الرسمي، وها هو في وضع استفهامي يضع كتاباً باسم الفلسفة، لا بل ما يغيّبها كما هي في المعرَّف بها، ويعوّل على من يستبقيها، وإن انتقدها هنا وهناك، لأن أي نوع معرفي يظل ناقصاً، لا بل عسيراً على " الهضم " دون وجود الفلسفة التي عرِف بها الغرب، ثم من خلال ما استعاره غربياً، يولّفها ليحشر الغرب نفسه فيما اعتبره " موتها " المقصود...!!
إذا كان لي أن أقول ما يقرّبنا من الغذامي كشخصية ثقافية، فهو أنه فيما عُرِف به، كان باحثاً يهمه ما هو أدبي، وثقافي على وجه العموم، وليس فكرياً، وأما بالنسبة للفلسفة، فيا لمأساتها في مداها وصداها اللافتيين، وقد جرى " إفسادها " ليكون ذلك إضاءة لفساد ما جاء به وهو لم يشب بعد عن الطوق الفلسفي، أي عن بلوغ سن الرشد فلسفياً، حيث إن ذلك مقدَّر في حُكْم الغيب..!!!
مصادر وإشارات
1-Stéphane Legrand aniel Dennett : la conscience et ses illusions
ستيفان ليجراند: دانييل دينيت: الوعي وأوهامه
2- Mathieu Aury arwin révolutionnaire ? Une lecture politique de Dennett
ماتيو أوري: داروين الثوري؟" قراءة سياسية لدينيت"
3-Sylvain Panis: Philosophie, exégèse et histoire de la philosophie; Dans L’Enseignement philosophique 2010/2 (60e Année)
سيلفان بانيس: الفلسفة والتفسير وتاريخ الفلسفة
4-أنوّه هنا، إلى أن الدكتور عبدالله محمد الغذامي تعرض لنقاط كالتي تعرضنا لها آنفاً في كتاب له، صدر قبل عقد من السنين، وتحت عنوان:
الليبرالية الجديدة " أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية "، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2013 ، وثمة الكثير مما يذكّر بالفقرة المعنونة بالتفاوضية الثقافية ، مع فارق أن هذه العبارة جاءت توصيفاً لـ" الليبرالية الجديدة، ولا يخفي الكتاب تنظيره السياسي، ولغة من ينشغل بما هو ليبرالي، انطلاقاً مما هو متأزم في العلاقات الدولية،حيث إن الكتاب هذا " عبارة عن محاضرات ألقاها في جامعة الملك سعود " مثلما نقرأ بداية تقريباً:
أهم أنظمة العلاقات البشرية تدور حول أربعة مصطلحات هي: العدالة الحرية والمساواة والتعددية الثقافية . ص 6 .
و:نشترك كلنا في التوق البشري للعدالة والحرية والمساواة ومعها التعددية الثقافية . ص 8 .
تبنَّت العولمة مجازية اللاهوية. ص 18 .
و:إن للإنسانية تطلعاتها العليا التي لا يختلف عليها، وذلك على مستوى الضمير الكلي للثقافة . ص 200.
وكذلك: إن القيم الكبرى التي ينظر إليها الإنسان بوصفها مداخل لضبط علاقاته مع محيطه ومع ظرفه المعاشي والسياسي، هن " هي "ثلاث:
الحرية، العدالة، المساواة.. لقد جمعهن " جمعها " التعريف الفلسفي للعدالة بأنها تقوم على ركنين، هما: الحرية والمساواة، حسب تحديد رولز. ص 226 .
إن تحرير معنى الحرية من الارتباطات الموشومة هو الذي يجعلها طرفاً بوصفها ركناً دلالياً تتضافر مع المساواة لقيام معنى كلي هو العدالة . ص 227.
وما يشدنا إلى ما هو محلّي ووهم الدائر بمفهومه الإنساني " في مثال تركيا المعتبَرة حديثاً، طبعاً "، حيث يقول:
وفي ثقافتنا سنجد أن نظرية العدالة هي أصل ديني وأخلاقي ومعرفي، ومنها جاءت مقولة ( العدالة الاجتماعية ) وفيها تجارب حية منجزة في ماليزيا وتركيا الحديثة، وهذه هي التفاوضية الثقافية بوصفها مخرجاً يخفف من حركة القطار باتجاه الكتلة الحرجة ويعيد ترتيب نظام العلاقات البشرية، ويفتح باباً للحلم الثقافي من جديد . ص 230 .
وما يأتي في نهاية الليبرالية:
في التفاوضية الثقافية تقوم أسئلة العيش المشترك والتعددية الثقافية بكل وجوهها وهوامشها لتكون قيماً متبادلة في معاش تفاوضي ، يعطي مفهوم العدالة مجالها للتحقق الواقعي والتبادلي بين أطراف الظرف الواحد مع تعدد الوجوه . ص 230 ...
5-Guy-Olivier Faure:Approcher la dimension interculturelle en négociation international; Dans Revue française de gestion 2004/6 (no 153)
غي أوليفييه فور: الاقتراب من البعد الثقافي في المفاوضات الدولية
6-L Dorsaf Dellech, Mohsen Debabi: a négociation interculturelle : défi des approches concurrentes et diversité des paradigms; Dans Question(s) de management 2017/4 (n° 19)
درصاف دلش، محسن الدبابي: التفاوض بين الثقافات: تحدي النهج، المتنافسة وتنوع النماذج
7- Catherine Golliau:Et si la philosophie pouvait nous sauver ?
كاثرين جوليو : ماذا لو كانت الفلسفة قادرة على إنقاذنا؟
8- Jürgen Habermas: Sur le rapport de la théorie et de la pratique ,Dans Les Études philosophiques 2008/4 (n° 87)
يورغن هابرماس: حول العلاقة بين النظرية والتطبيق
9- LORIS SALVATORE MUSUMECI: De l’espoir à l’espérance
لوريس سلفاتوري موسوميسي: من الأمل إلى الأمل
10- Liubava Moreva: Réflexions sur les paradigmes de l'acte philosophique, Dans Diogène 2002/1 (n° 197)
ليوبافا موريفا: تأملات في نماذج الفعل الفلسفي
د. عبدالله الغذامي
الحلقة الأخيرة
التحرير الكبير
بعد أن يجدد الغذامي موتَ الفلسفة، في " مستعمرة عقابه " من باب التوكيل النفسي، قبل كل شيء، أي من انطلاقاً ستيفن هوكينج في المقدمة، كما رأينا، لأنها لم تعد قادرة على الاستمرارية،وإمكان التعبير عن سلطتها الرمزية في تاكيد فعاليتها بالاتكاء على مفاهيمها، يصبح الطريق سالكاً إلى المعتبَر طرحَ النظرية بقيمتها، ليتوقف عندها، عارضاً إياها بوصفها الإمكان الوحيد لجعل الحياة ذات معنى، وحتى بالنسبة إلى الفلسفة نفسها،جهة إلحاقها بالعلم اليقيني؟
ينسى أو يتناسى الغذامي أنه في كل ما سعى إليه كان في مقام " طالب نجدة " من الآخرين، لكي يمنحوه ما من شأنه أن يكون صاحبَ لسان حال عن النظرية القادرة على إفراد ما يؤسس لحياة فاضلة، وأنه في إجرائه هذا لم يقدَّم شيئاً " أي شيء ". بالعكس، إنه حين يتظلل بما ينسَب إلى الآخرين ممن لا يتكلمون لغته " العربية " يوهم نفسه أن الذي يسمّيه أو يتهجّاه ويسطّره على الورق، ينتسب إليه وليس سواه، وما في هذا الزعم من التفاف على الموضوع، ونسيان موقعه جغرافياً وتاريخياً، والخلط بين الجهات، وفي الوقت نفسه، حيازة جهود الآخرين وربطها بنفسه .
ينسى الغذامي أنه، وهو يميت الفلسفة يعجز، وأي عجز عن دفنها( يذكّرنا: يذكّرني، بما قيل عن ملهمه الغزالي، وقد أوهم نفسه أنه بالفعل انتهى من الفلاسفة الذين عنَاهم إلى غير رجعة، وقد ظهروا أمامه في الحال، أكثر مضاءَ عزيمة من ذي قبل " بلعهم ولم يستطع أن يتقيأهم "..) وفي الوقت الذي أفصح عن سوء تفكير في خاصية الفلسفة بأنها خلاف ما هو تاريخاني، حيث إنها لا تستند إلى ما كان، ولمَا كان عبْر قيم متباينة، تبعاً للتراتبية الزمانية، إنما تظل ماضية بقواها، ولو بشكل متفاوت، وعما ليس له صلة بالفلسفة أي دون غزاليَه حديثاً في الفلسفة، ولم يخرج من نطاق الفلسفة في الآن عينه، ليظهر منظّراً سياسياً، ولكن بلسان " تفاوضي " غريب عنه.
ربما كان هذا الذي يستوقفنا في الجانب المتعلق بالفلسفة ومآلاتها، وميتافيزيقية هذا التعبير لحظة المكاشفة، هو انسداد أفق رؤية الكاتب، بسبب التعسف في التعامل مع المفاهيم عينها.
كما أشرتُ، حين يستعين بمن يدعمه لـ" تأديب الفلسفة " بوقفها عند حدّها وهو من موقع مغاير، لحظة التقابل بين ممثلي الفلسفة التحليلية ومعها الوضعية المنطقية والفلسفة القارية.
وثمة الكثير الذي يمكن قوله تنويراً للفكر الذي يتم طرحه وتنقيحه بعيداً عن تفهّم محتواه .
الفلسفة التي تخطىء وتتعلم من خطأها خلاف الغذامي
من الموت الموصوف والمحدَّد للفلسفة على يد من ليس له صلة مباشرة بالفلسفة، أي هوكينج، والذي لم يستطع من التخلص من لغتها، وهو يعيش هاجس موضوعه العلمي في " التصميم العظيم " مثلاً، إلى الشاهد على حقيقة معزَّزة من جهة رمز من رموزها، وهو دانييل دينيت" 1942-..."، حيث استهل مقدَّمة الكتاب بمثال يشير إليه، حين أجاب على سؤال فيزيائيين عما يجعله يقرأ كتباً لفلاسفة قدامى: نقرأهم كي نتجنب أخطاءهم، ولو لم نفعل لكررنا الأخطاء ذاتها "ص 5 " ويأتي على اسمه مختصراً تعبيراً عن شعوره أنه بذلك يضفي على حديثه ما يزيده قوة معرفة " ص 175 " دون أي مساءلة في الحالة هذه بالمقابل، إذ ما صلة الفيزيائي بمشتغل بالفلسفة، حيث التوجه في الاختصاص مختلف كلياً، وفي الوقت الذي ينسى أو يتناسى الغذامي بالمقابل، أن دينيت البراغماتيكي الأمريكي، لا يشكل شاهد عيان على " جُرْم مرتكب " في من يغايره فلسفياً، وفي الوقت الذي يكون دينيت قريباً من المشتغلين بفلسفة العلوم، وجِهة العقل بالذات( تحديداً: فلسفة العقل وفلسفة العلوم وفلسفة علم الأحياء، وخصوصًا المتعلقة بعلم الأحياء التطوري والعلوم المعرفية. ) ، واللافت أيضاً، هو أن دينيت هذا بعيد كل البعد عما يمضي إليه الغذامي بالمعتبَر : علمي اليقيني، بصفة دينيت علمانياً، أو ملحداً، على وجه كما هو معروف عنه. وهذا يرجعنا إلى ما أفصحنا عنه في الحديث عن هوكينج .
يكتب أحدهم فيه التالي:
("دانيال دينيت هو الشيطانc'est le Diable..." ربما يكون هذا التعجب الذي كتبه بيرتون فورهيس، أستاذ الرياضيات المحترم في جامعة أثاباسكا، مبالغًا فيه بعض الشيء. لكن بالنظر إلى التطرف الذي أظهره من يستهدفه، لا يستبعد أن يقدم نواة من الحقيقة... نشر "أحلام سعيدة" الذي يرد فيه دينيت على بعض الاعتراضات ويتعهد بتبديد الأحلام الفلسفية التي يعتبرها في جذورها، يوفر فرصة للعودة إلى فكر المؤلف المهم.
تتأثر المواقف الفلسفية لهذا المؤلف المثير للجدل بالنزعة الطبيعية لـ كواين، الذي يجادل بأن ما يمس "العقل" يمكن فهمه وتفسيره مثل أي ظاهرة طبيعية أخرى - "نحن جميعًا مخلوقون، وهو يكتب بإحساسه المعتاد بالاستفزاز، للروبوتات الخالية من الروح ولا أكثر" - ومن خلال فلسفة اللغة العادية والتي تقوده مع ذلك إلى الأخذ في الاعتبار الطريقة الخاصة التي نصوغ بها ونفسر ما يحدث فينا.
ومن المؤكد أن ما نسمّيه الوعي يبدو في حد ذاته غير قابل للوصف، "يُحتفل به على شكل لغز يتجاوز العلم، لا يمكن اختراقه من الخارج"، وهي تجربة داخلية وخاصة للغاية بحيث لا يمكن الوصول إليها إلا من قبل الشخص المعني.) " 1 "
وما يصل لديه بين ما هو علمي، سياسي وفلسفي كذلك:
(إن معرفة الأحياء، كما يقودنا التقليد الدارويني إلى التفكير فيها، تسهم في تحويل، إن لم يكن الإطاحة، بتصورنا للعالم. ولا يمكن للفلسفة، بما فيها الفلسفة السياسية، أن تظل غير مبالية بهذه التحولات. سيكون هدفنا هنا هو متابعة فكر دانييل دينيت بشكل عام.
ونحن نعتقد أن فلسفة دينيت تشكل نقطة ارتكاز متينة يمكن من خلالها التفكير في المغامرة الإنسانية التي تم تصورها كمنتج للتطور، وهي مغامرة تمتد اليوم إلى أبعاد لم تكن متوقعة من قبل. وبهذا المعنى، سنحاول أن نبين كيف يمكن نسج رابط بين فلسفته وفلسفة فوكو، رابط جوهري أكثر من تفاصيل يمكن أن يوضح الطريق الذي يمكن من خلاله أن نفكر في مستوى التكامل النظري الذي يوحد خطة الفلسفة. الكائن البسيط لتلك الحياة السياسية المتقنة للغاية.
دينيت هو المادي التطوري. باعتباره ماديًا، فإن تفكيره يلبي متطلبين. الأول يمكن أن يشكل قاعدة معرفية. وهو يتألف من الرفض منذ البداية لأي تفسير من شأنه أن ينطوي صراحة أو ضمناً على مناشدة اللغز أو المعجزة. وبالتالي، يجب أن يتجنب العرض التوضيحي اقتحام المساحة التي يمكن من خلالها تقديم إشارة إلى المعجزة. باختصار، نجد هنا دفاعًا عن الآلية أو السببية. ومن هنا فإن المذهب الطبيعي هو المطلب الثاني. بالنسبة لدينيت، كما هو الحال بالنسبة للعديد من فلاسفة العلم والإدراك، فإن المذهب الطبيعي هو “فكرة أن البحث الفلسفي لا يحتل مكانًا أعلى أو أولوية فيما يتعلق بالبحث الذي هو العلوم الطبيعية؛ على العكس من ذلك، فإنهما يتعاونان معًا في البحث عن الحقيقة، بحيث يكون العمل الذي هو عمل الفلاسفة بشكل صحيح هو توضيح وتوحيد وجهات النظر المتناقضة غالبًا في رؤية واحدة للكون “ ) " 2 "
هو فيلسوف، ولكنه المتموقع في مكان غير الذي يعرَف به من ينتمي إلى الفلسفة القارية !
وربما، من خلال ما تقدَّم يمكننا معرفة خلفية سؤال الفيزيائي لدينيت هذا، وخلفية جواب هذا التطوري المادي العلماني للآخر، أي بالتعلم من الفلسفة، لأن قيمة أي علم هي فيما يكتشفه من تلك الأخطاء التي تزيده وعياً علمياً ومعرفياً بموضوعه، وهكذا يكون شأن الفلسفة، وإلا فما الذي يدفع بالفيزيائي أن يطرح سؤالاً ذا علاقة بالفلسفة، دون وجود علاقة قرابة مهنية ما بينهما؟ .
وبالصيغة هذه، هل نكون قادرين على الفصل بين العلم والفلسفة، بين فلسفة وأخرى، كما رأينا، حيث المسافات الجغرافية الفاصلة لا يُعتَد بها لتسمية حالات عداوة بينهما، إلا حين يرى من لا يرى إلا فيما يريد أن يراه، في هذا التباين فرصة لتعكير المياه الجارية في " أرضهما " !
يكتب أحد الباحثين في هذا الشأن وتحت عنوان فرعي" نحو نظرية معرفية للفلسفة ":
( لقد رأينا أن أحد أسباب قلة ممارسة الفلسفة النظرية في العالم الأكاديمي يكمن في صعوبة الفهم الصحيح للحجج المجرَّدة التي تستخدمها، وهي صعوبة تتفاقم بسبب غياب نظرية معرفية شاملة للفلسفة. كيف يمكن للمرء أن يدعي بالفعل استنتاجات فلسفية، إذا كان المرء لا يعرف ما هو الاستنتاج الفلسفي بشكل عام، وما هي قواعد الاستدلال التي تنطوي عليها هذه الاستنتاجات؟ بالتأكيد، ليس من الضروري مطلقًا معرفة أساليب الفلسفة للتفلسف، تمامًا كما يستطيع الشخص الذي لم يدرس النحو مطلقًا أن يعبر عن نفسه بشكل صحيح تمامًا. ومع ذلك، يبدو أن الباحث الذي يعرف نظرية المعرفة في الفلسفة سيكون أكثر قدرة على تجنب بعض الأخطاء وإقامة البراهين الصحيحة، تماما كما أن الفرد الذي يعرف القواعد سوف يتقن اللغة بشكل أفضل.) "3"
متعة أن يكون أحدهم ذواقة فلسفة، تتطلب معرفة نوعية المتعة هذه، وتلك المصادقة الروحية مع هذه التي شغلت تاريخاً طويلاً وخصباً في المفاهيم وثراء تنوعها في شريط جغرافي متعرج، ومسار تاريخي متعرج أوربياً باقتدار، ولنسمع أو نقرأ من يتناول هذا الجاري فلسفياً، ليس من باب طلب الإمتاع والمؤانسة، وإنما تأكيد نزعة فلسفية لتمرير ما يسيء إلى الفلسفة في المتن.
الغذامي خارج الفلسفة، داخلها
يتحدث الغذامي عن الممكن القيام لإصلاح حال " الكونيّ " في العلاقات البشرية. إنه يوحي بترْك الفلسفة في الخلف، بينما هي أمامه، حيث التعابير تبقيه في نطاق الفلسفة السياسية .
إنما كيف تظهر صلته بما يمضي في التعبير عما يخص المجتمع البشري اليوم؟ كيف يكون تشخيصه لقائمة المشاكل التي تعيشها البشرية، والحلول المقدَّمة ؟ هل من جديد يشير إليه ؟
هناك عبارة لها حضورها العولمي الطابع، أو جرّاء تبعات العولمة سياسياً، قبل كل شيء، وهي " التفاوضية الثقافية " حيث تمثّلها كما تكوّنها " قيم لها ثلها قديماً وحديثاً "!
وثمة نقاط عدة:
( والتفاوضية الثقافية تقوم على أربعة أركان هي: الحرية والمساواة والعدالة والتعددية الثقافية، وهي مجتمعة ما يمكن أن تتسلح به النضالية الثقافية في مرحلة هي من مراحل الانتكاس لكل مقولات هذه التفاوضية.
وحول قيمة النظرية هي أنها عابرة للمفاهيم بمثل ما هي عابرة للتخصصات، فالعدالة والحرية يتصلان( تتصلان ) بالضرورة مع المساواة والثلاثة مجتمعة تفرض وجود التعددية الثقافية . ص 179 .
من هنا تأتي قيمة النظرية من حيث كونها تفاعلية تتجدد مع كل حالة تحد لها. ص 180 .
ومع التفاوضية: التفاوضية الثقافية هي من أجل مواجهة ما سمّاه جون ستيوارت مل بالاستبداد النير. حيث تحولت الليبرالية إلى خطاب في العنفـ حسب تعبير بول بيرمان، ولن تصل البشرية إلى معاش سوي وإنساني لا عبر صيانة المفاهيم وتخليصها من هيمنة الغرور العقلاني الذي يجرأ على عقلنة، ومن ثم إنتاج حضارة في التفكير الناقد الذي ينقد خطابه الخاص، بما أن نقد الخطاب الذاتي هو أعمق الصيغ النقدية وتحرير المفاهيم..ص 189 . ص 189 .
وهذا يعززالحاجة للتفاوضية الثقافية بأركانها الأربعة مجتمعة واجتماع الأركان الأربعة ( الحرية، والعدالة، والمساواة، والتعددية الثقافية ) هو وحده الضامن لمنع تأويل المفاهيم تأويلاً يعزز رغبات المهيمن ويقمع تطلعات المهمش. ص 190 .) .
الحديث المفصلي لكل ما تقدَّم يعرَف بطابعه السياسي وإن كانت الفلسفة نابضة داخله، لكن السؤال هو: ما هي صلة القرابة الفعلية بين الذي سطّر والغذامي في موقعه الاجتماعي؟ أي سلطة رمزية بحمولتها الفكرية تعرّف به، في مجتمعه، ليكون منظّراً، مفسّراً، ومفكَّراً مستقلاً ؟
على صعيد العولمة، في الأركان المسماة في نطاق التفاوضية الثقافية الجامع المانع " أي النطاق " لتلك الأركان: الحرية، العدالة، المساواة، والتعددية الثقافية " هل للغذامي موطىء قدم فيما أفاض في الحديث عنه، وعلى صعيد عملي، ليكون له اعتبار وهو يحاول تنوير " مجتمعه " ؟
طبعاً من ناحية الموضوع، ليس هناك أي إمكان للاستخفاف مما يخص هذا الجانب، إنما فيما يطرحه، اعتماداً على آخرين، وحيث إن قائمة الموضوعات هذه تسمّي مجتمعات مختلفة، مثلما تشير إلى أولئك الذين اجتهدوا، وقدَّموا ما يكون تعبيراً عما شاهدوه وعانوه بالمقابل.
في عالم اليوم ما أكثر ما يمكن قوله، بشكل مختلف عما يجري تأكيداً على انفجار الأحداث، في تفاوت أبعادها وتوجهاتها، والصلات فيما بينها، ومدى الخطر الذي يهدد الكون، كما نلاحظ في الجهات الأربع، ومن هم أولئك الذين يمارسون أدواراً ذات صبغة تدميرية وباعثة على الخوف هنا وهنا، وكيف يمكن حساب المخاطر، والذين يشكّلون ضحايا لها، وفي الوقت نفسه، ما هي نوعية القيم القائمة، قيم معولمة، ومتنقلة أو رحالة ويجري فرضها نشداناً لغايات متعددة، لكنها تلك الغايات التي ترتبط بالقوى الدولية العابرة للقارات، وهي مرهوبة الجانب، ومتغيّرة .
هذا من شأنه التغييرالدائم في القيم الموجودة، وليكون لمفهوم " التعددية الثقافية " طابع لا يكتنه جوهره سوى من يسبر غور العولمة وخاصيتها الغُولية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان " 4 " .
يظل تعريف الثقافة على أرض الواقع جهة التمثيل الإنساني أكثر من كونه ناقصاً، وحيث إن كاتبنا يترك فراغات تترى، هي عبارة عن صدوع قائمة في بنية تصوره الثقافي لما يجري في منطقتنا، ومن قبل القوى السياسية التي لا تدخر جهداً في ممارسة العنف شعوبها . وما يجعل مفهوم الثقافة عينه في وضعية مأساة ذاتية، واندحار ذاتي جرّاء التمثيل القهري فيها. وما يحفّز مثل هذا الجاري إلى مكاشفة أوجهه الخلل البنيوي في الدائر إقليمياً قبل سواه خارجاً.
إن ما يورده أحد الباحثين حول الثقافة، وهو:
(إن الثقافة، وهي عنصر أساسي في الحياة الاجتماعية وفي تصرفات الإنسان، هي مفهوم معقد ومتعدد الأوجه وعابر. أحد أكثر التعريفات التي تم اقتراحها إبداعًا وأهمية هو تعريف إدوارد هيريوت: "الثقافة هي ما يبقى عندما يُنسى كل شيء". وهذا التعريف المتناقض ظاهريا يعبر عن إحدى أهم خصائص الثقافة، فهي قبل أن تكون محتوى، هي طريقة تفكير ووجود. علاوة على ذلك، فإن الفرد غير مدرك نسبياً لهذا الواقع وآثاره.
يمكن تعريف الثقافة بشكل أكثر دقة بأنها "مجموعة من المعاني والقيم والمعتقدات ذات الطبيعة الجماعية وتتمتع بمتانة معينة والتي تميز مجموعة من الأفراد على أساس قومي أو عرقي أو غيره وتوجه سلوكهم (فور وروبن) ..) " 5 "
يحيل القارىء لمدى سوية التعريف إلى مساءلة الأرضية التي انبنى عليها التعريف، وما إذا كان في مقدور تعريف كهذا أن يشكّل أطلساً ثقافياً قادراً على إظهار خفايا القائم في متنه وتوتراته.
ربما جرّاء ذلك يسهل علينا معاينة أوجه التباين والتنازع أو صراع المواقف عالمياً، وما يخص الانقسام الكوكبي المتعدد المواقع في ضوء هذا الاضطراب بأسبابه ومسبباته :
(على الرغم من أن غالبية الباحثين والمهنيين يدافعون عن وجهة النظر القائلة بأن التعددية الثقافية عامل مهم في المفاوضات الدولية، إلا أنهم يجمعون على القول بأن هناك أساليب تنافسية مختلفة ومجموعة واسعة من النماذج. والواقع أن الآراء ووجهات النظر تتراوح بين أقلية من المتشككين وأغلبية المؤيدين.) " 6 "
تُرى، هل الغذامي مثقَل بمثل هذه الهموم والهواجس التي تتعدى نطاق النظرية عملياً ؟
إلى الفضاء " الأكثر " مصداقية والرحب
كما نوَّهت، فإن جل الذي تفوَّه به الغذامي لا يخرجه عما يتميّز به من لا يسايرون هواه، وفي إطار ما كانوا يفصحون عنه، ويعيدون النظر فيه، على صعيد النظرية والممارسة، في مجتمع المتميز بالانفتاح على تلك المفاصل الحيوية داخله، وفي الخارج، رغم كل السلبيات التي يعيشها، إنما هو المجتمع الذي يستطيع أن يتبصر أخطاءه في مجالات مختلفة، ويتوقف عندها ويُسميها دون خوف طبعاً، مهما اتسعت حدودها، وتجلّت خطورة جهة التعبير عما هو قاعدي وسلطوي.
كما نقرأ في شهادة ساخنة ولا تخفي مرارتها:
(في هذه الأوقات العصيبة، يبدو أننا نفتقر إلى المعايير. هذه القيم، مثل المراجع، أصبحت شيطانية، إلى درجة أننا لم نعد نعرف أي قديس نكرس أنفسنا له. هل يمكن للفلسفة أن تكون علاجًا؟ هل يمكن لتأملات مفكري الأمس أن تساعدنا على فهم عالم اليوم بشكل أفضل والعيش فيه بشكل أفضل؟ فهل يتعين علينا، كما كتب فولتير في كانديد، أن "نزرع حديقتنا"، أو كما أوصى غاندي "أن نعيش كما لو كنا سنموت غداً، ونتعلم كما لو كنا سنعيش إلى الأبد"؟ هل يجب أن نتبع مارك أوريل عندما يؤكد أن "فن الحياة قريب من فن القتال"؟ ) " 7 "
ولعل الذي يتفوه به الفيلسوف الألماني هابرماس يعزز مثل هذه الإرادة المجتمعية أساساً:
(إن الشكوك حول معنى الفلسفة وشرعيتها جزء لا يتجزأ من الفلسفة نفسها؛ إنها تشكل البيئة الطبيعية لفكر متواصل وغير موجه. إن مسألة ما إذا كانت الفلسفة يمكن أن تصبح عملية هي مسألة قديمة قدم الفلسفة. ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه في سياق المجال العام والسياسة والتعليم والثقافة؟
إن المجتمع الدولي، في طور تشكيله، لم يعد اليوم منخرطا في تسوية العلاقات الدولية فحسب؛ علاوة على ذلك، هناك حاجة لتحويل قانون الشعوب إلى قانون عالمي يمكن للناس الاعتماد عليه أيضًا في العلاقات داخل الدول ويمكنهم المطالبة به أمام حكوماتهم. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن حقوق الإنسان المقننة في مختلف الإعلانات تقدم نفسها. وعلى خلفية سياسة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، والتي ظلت نشطة منذ عام 1989، وفي ظل الانطباع الذي خلفته المبادرات واسعة النطاق للمنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم، أصبح النقاش حول التفسير الصحيح لحقوق الإنسان أكثر تطرفاً. منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تراجعت الاختلافات في المفاهيم بين الأنظمة الاجتماعية بكل تأكيد. ولكن بدلاً من ذلك، اندلعت معارضات بين الثقافات، ولا سيما بين الغرب العلماني والتيارات الأصولية الإسلامية، من ناحية، وبين التقاليد الغربية والآسيوية الفردية من ناحية أخرى. ) " 8 "
أنا أتحدث هنا عما يبقي الفلسفة حيث وجدت نفسها ذات قوة وذات مكانة وذات سلطة في سماع صوتها، وهي تميط اللثام عما هو بنيوي في الجسد المجتمعي: تاريخاً وثقافة وسياسة، مثلما يبقى فلاسفة اليونان أحياء وأكثر في الأفكار التي استنبتوها في شجرتهم الفكرية، وكذلك الحال مع الفلاسفة الذين جاؤوا من بعدهم، ونوعية الاعتراف الفعلي بجدّية تأملاتهم ومفاهيمهم، وليس ما شهدناه مع الغذامي وهو يزكّي الغزالي، وفي حيّز ضيق، وغير دقيق: الذوق، ليكون تمثيلاً كوكبياً لما يمكن اعتباره الحل الصائب لمعرفة كل الخرائب، كوكبياً، متجاهلاً زيفَه .
وليبقى الأمل مسنوداً فلسفياً :
(لقد حان الوقت للتوقف للحظة، للنظر إلى الواقع، والتأمل فيه، وإدراك وقبول ما هو جيد حقًا وصحيح لمعنى حياتنا. ليختار بعد ذلك الانخراط فيه، واتخاذ الأمل وسيلة. الأمل الذي يرشدنا إلى الطريق الذي سنسقط فيه بالتأكيد، ولكننا سنجد دائمًا القوة للنهوض مرة أخرى.) " 9 "
إنه الأمل الذي لم يشأ الغذامي أن يشير إليه، أو يتمنى أن يسمّيه ولو عرَضاً، وهو ينتقل من فقرة إلى أخرى، ساعياً إلى إحداث بلبلة في " أرض " الفلسفة، والشعور بمتعة ضمنية لذلك .
وحين أورد قولاً لأحدهم، وهم ينتمي إلى المجتمع الفلسفي في العمق، حيث يوسّع حدود تأمله الفكري، وهو بباعه الفلسفي الطويل، ورحابة مفهومه، ويستشرف بنا ما هو كارثي عالمياً، وما ينبغي النظر فيه بصيغ مغايرة للسائدة دون أن يفقدنا الأملَ، إنما دون أن يدعنا في حالة من الراحة والاستسلام لعوادي الزمن الاجتماعي، السياسي، والثقافي، وفي منحى تلمس فيه الغذامي ما يشغله نفسياً" التفاوضية الثقافية " ليكون الآتي مرحَّباً به بالقول والفعل:
(يبدو الآن أنه من الصعب إلى حد ما التأكيد على أن الإنسان لا يزال كائنًا عاقلًا أو أن نشاطه الإنتاجي، الذي يتجاوز باستمرار مجال التدمير والعبث، يجب أن يؤخذ كدليل على طبيعتها غير العقلانية من الناحية الوجودية، فهي مجرد "ذات قدمين بلا ريش"، وفقًا للتعريف الروحي لأفلاطون.
في مطلع الألفية الجديدة، أعادت البشرية اكتشاف بعض الحقائق القديمة، وتحت وطأة سيول المعلومات، أدركت مرة أخرى أن المعرفة المطلقة لا تؤدي بالضرورة إلى الحكمة. بدقة رياضية تقريبًا، يوسع مجال المعروف آفاق المجهول، مما يجعل مثقف اليوم قريبًا جدًا من الاعتراف المعروف: "أعلم أنني لا أعرف شيئًا".
اليوم، تختبئ صناعة الموت وراء ثقافة معينة من إنتاج "النفايات" - معايير تجارية رخيصة جاهزة للحياة والحب والموت. إن الاستبدال المكثف للحالات الوجودية العميقة بعلاماتها، يحول الإنسان إلى صندوق بسيط أو مظروف، قادر على حمل أجزاء من المعلومات التي يتم تلقيحها بشكل مصطنع هناك: يصبح الإنسان متغيرًا فرديًا داخل النظام الخوارزمي للوجود الاجتماعي.
من الأصعب أن نفترض أن تطبيق الفلسفة هو إنتاج لنشاط روحي لا تتحقق فيه السلامة الداخلية للإنسان فحسب، بل تتم استعادتها أيضًا. عندها فقط ستقدم الفلسفة نفسها كتحرير للإنسان من كل اكتئاب، مما يمكنه من لعب دوره الخاص في الكون، حيث يكون قادرًا على التعبير عن معنى حياته الروحية. تتوقع الفلسفة أن يتم التواصل على أساس الحدس الأول والأخير، وليس على أساس الدليل الوسيط للفكر الخطابي.
يبدو أن الفوضى الصامتة للمجهول يسيطر عليها "العقل" القادر على تحويلها إلى نظام المعلوم. في الوقت نفسه، حتى "الإخطار" للعالم بحتمية إنتروبيا العالم وموته، عندما يذوب الظهور المحتمل جدًا لـ "جزر التنظيم" في ضرورة التوازن والتشابه العالميين، وتختفي إمكانية التمايز.
إن الاغتراب النهائي بين المعرفة والقيم، والعلم والأخلاق، والمنفعة والجمال، يُنظر إليه باعتباره تهديدًا كبيرًا للثقافة والإنسانية، وحتى لوجود الحياة على الأرض. وهذا يحفز البحث النظري والعملي على حد سواء لإدارة هذه التمزقات باستخدام نفس وسائل الحوار: لم تخترع البشرية أي شيء آخر في تاريخها بأكمله.
إن جهود التفكير الفلسفي، التي تم دفعها باستمرار خلال القرن العشرين لتوجيه نفسها نحو أصالة الحياة (أو الحيوية الأصيلة؟) للإنسان في العالم، قد أعطت حتماً طابعًا إشكاليًا لظاهرة التفكير نفسها.) " 10 "
أين تراه الغذامي الآن بالنسبة لموقعه بحضوره الثقافي، وصنعة الفكر وجدواه، وبالمقابل، فيما يخص الفلسفة التي كانت في بنيتها خارج هذا التأطير الموجَّه: مآلات الفلسفة " وما يرد توصيفاً للعنوان، وما ينبري تشهيراً للمأهول بحمّى البحث عما هو فلسفي وهو ليس خلافه؟
أي ما يسمّي مفارقة كبرى إزاء المتحصّل في كتابه، حين يكون بعيداً عما هو فلسفي، ورافضاً له في تاريخه الرسمي، وها هو في وضع استفهامي يضع كتاباً باسم الفلسفة، لا بل ما يغيّبها كما هي في المعرَّف بها، ويعوّل على من يستبقيها، وإن انتقدها هنا وهناك، لأن أي نوع معرفي يظل ناقصاً، لا بل عسيراً على " الهضم " دون وجود الفلسفة التي عرِف بها الغرب، ثم من خلال ما استعاره غربياً، يولّفها ليحشر الغرب نفسه فيما اعتبره " موتها " المقصود...!!
إذا كان لي أن أقول ما يقرّبنا من الغذامي كشخصية ثقافية، فهو أنه فيما عُرِف به، كان باحثاً يهمه ما هو أدبي، وثقافي على وجه العموم، وليس فكرياً، وأما بالنسبة للفلسفة، فيا لمأساتها في مداها وصداها اللافتيين، وقد جرى " إفسادها " ليكون ذلك إضاءة لفساد ما جاء به وهو لم يشب بعد عن الطوق الفلسفي، أي عن بلوغ سن الرشد فلسفياً، حيث إن ذلك مقدَّر في حُكْم الغيب..!!!
مصادر وإشارات
1-Stéphane Legrand
ستيفان ليجراند: دانييل دينيت: الوعي وأوهامه
2- Mathieu Aury
ماتيو أوري: داروين الثوري؟" قراءة سياسية لدينيت"
3-Sylvain Panis: Philosophie, exégèse et histoire de la philosophie; Dans L’Enseignement philosophique 2010/2 (60e Année)
سيلفان بانيس: الفلسفة والتفسير وتاريخ الفلسفة
4-أنوّه هنا، إلى أن الدكتور عبدالله محمد الغذامي تعرض لنقاط كالتي تعرضنا لها آنفاً في كتاب له، صدر قبل عقد من السنين، وتحت عنوان:
الليبرالية الجديدة " أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية "، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2013 ، وثمة الكثير مما يذكّر بالفقرة المعنونة بالتفاوضية الثقافية ، مع فارق أن هذه العبارة جاءت توصيفاً لـ" الليبرالية الجديدة، ولا يخفي الكتاب تنظيره السياسي، ولغة من ينشغل بما هو ليبرالي، انطلاقاً مما هو متأزم في العلاقات الدولية،حيث إن الكتاب هذا " عبارة عن محاضرات ألقاها في جامعة الملك سعود " مثلما نقرأ بداية تقريباً:
أهم أنظمة العلاقات البشرية تدور حول أربعة مصطلحات هي: العدالة الحرية والمساواة والتعددية الثقافية . ص 6 .
و:نشترك كلنا في التوق البشري للعدالة والحرية والمساواة ومعها التعددية الثقافية . ص 8 .
تبنَّت العولمة مجازية اللاهوية. ص 18 .
و:إن للإنسانية تطلعاتها العليا التي لا يختلف عليها، وذلك على مستوى الضمير الكلي للثقافة . ص 200.
وكذلك: إن القيم الكبرى التي ينظر إليها الإنسان بوصفها مداخل لضبط علاقاته مع محيطه ومع ظرفه المعاشي والسياسي، هن " هي "ثلاث:
الحرية، العدالة، المساواة.. لقد جمعهن " جمعها " التعريف الفلسفي للعدالة بأنها تقوم على ركنين، هما: الحرية والمساواة، حسب تحديد رولز. ص 226 .
إن تحرير معنى الحرية من الارتباطات الموشومة هو الذي يجعلها طرفاً بوصفها ركناً دلالياً تتضافر مع المساواة لقيام معنى كلي هو العدالة . ص 227.
وما يشدنا إلى ما هو محلّي ووهم الدائر بمفهومه الإنساني " في مثال تركيا المعتبَرة حديثاً، طبعاً "، حيث يقول:
وفي ثقافتنا سنجد أن نظرية العدالة هي أصل ديني وأخلاقي ومعرفي، ومنها جاءت مقولة ( العدالة الاجتماعية ) وفيها تجارب حية منجزة في ماليزيا وتركيا الحديثة، وهذه هي التفاوضية الثقافية بوصفها مخرجاً يخفف من حركة القطار باتجاه الكتلة الحرجة ويعيد ترتيب نظام العلاقات البشرية، ويفتح باباً للحلم الثقافي من جديد . ص 230 .
وما يأتي في نهاية الليبرالية:
في التفاوضية الثقافية تقوم أسئلة العيش المشترك والتعددية الثقافية بكل وجوهها وهوامشها لتكون قيماً متبادلة في معاش تفاوضي ، يعطي مفهوم العدالة مجالها للتحقق الواقعي والتبادلي بين أطراف الظرف الواحد مع تعدد الوجوه . ص 230 ...
5-Guy-Olivier Faure:Approcher la dimension interculturelle en négociation international; Dans Revue française de gestion 2004/6 (no 153)
غي أوليفييه فور: الاقتراب من البعد الثقافي في المفاوضات الدولية
6-L Dorsaf Dellech, Mohsen Debabi: a négociation interculturelle : défi des approches concurrentes et diversité des paradigms; Dans Question(s) de management 2017/4 (n° 19)
درصاف دلش، محسن الدبابي: التفاوض بين الثقافات: تحدي النهج، المتنافسة وتنوع النماذج
7- Catherine Golliau:Et si la philosophie pouvait nous sauver ?
كاثرين جوليو : ماذا لو كانت الفلسفة قادرة على إنقاذنا؟
8- Jürgen Habermas: Sur le rapport de la théorie et de la pratique ,Dans Les Études philosophiques 2008/4 (n° 87)
يورغن هابرماس: حول العلاقة بين النظرية والتطبيق
9- LORIS SALVATORE MUSUMECI: De l’espoir à l’espérance
لوريس سلفاتوري موسوميسي: من الأمل إلى الأمل
10- Liubava Moreva: Réflexions sur les paradigmes de l'acte philosophique, Dans Diogène 2002/1 (n° 197)
ليوبافا موريفا: تأملات في نماذج الفعل الفلسفي
د. عبدالله الغذامي