قبل الكتابة
غالبا ما يطرح السؤال حول القصة القصيرة جدا على الشكل التالي: ما الخصائص الفنية التي تميز ق ق ج؟ فينخرط الجميع في مناقشة الأمور التالية: التكثيف، الدهشة، القفلة، الإيجاز.... لكن في هذه الورقة لن أقف عند هذه التجليات الخارجية لأنني ببساطة سأركز على عملية ما قبل الإنتاج، أي عن الأهلية. وأقصد بالأهلية تلك القدرة الباطنية التي تؤهل المنتج لإنتاج نص ينتمي فعلا إلى ق ق جدا.
وبعبارة أخرى الأهلية هي القدرة على الانخراط في لعبة السرد.
في البداية، لابد من التذكير ببديهيتين اثنتين يغفل عنهما الكثير ممن يعتقدون أن إنتاج النصوص الأدبية بما فيها القصة القصيرة جدا عملية بسيطة في متناول كل من هب ودب من صانعي ضجيج الفضاء الأزرق.
البديهية الأولى تقول إن القصة القصيرة جدا تنتمي إلى حقل الأدب وهو حقل فني تعبيري، وأن كل شكل فني له أداة يعبر بواسطتها. فالرسم أداته الألوان والرقص أداته الجسد، والنحت الحجارة... بينما الأدب يتوكأ على اللغة كمادة يعيد تشكيلها وفق نظام ومعايير محددة. تتوخى اللغة في الأدب التأثير في المتلقي. يتحقق هذا التأثير بفضل شاعرية النص. فالشاعرية تمنح الكلام العادي صفته الأدبية/الجمالية، وتلك وظيفته التواصلية. نخلص إلى أن أول بديهيات كتابة ق ق ج هي توفر القدرة اللغوية على إنتاج جمل ذات وظيفة شاعرية. إن هذه القدرة لا تتأتى لهذا الكم الكثير ممن يكتبون تحت يافطة القصة القصيرة جدا. قد يعود ذلك لعجز ذاتي، أو لعدم تطوير هذه القدرة بالقراءة والدربة والممارسة والمران كما يقول القدماء.
البديهية الثانية تشير إلى أن ق ق ج تنتمي إلى الخطاب السردي، الذي يندرج ضمنه مجموعة من الأشكال الأدبية السردية مثل المسرحية والرواية والنوفيلا* والقصة القصيرة والقصيدة السردية وغيرها. داخل هذا التعدد يوجد قاسم مشترك يتحدد بالإجابة عن سؤال: ما الذي يمنح هذا التعدد صفته السردية؟
أجمع المهتمون بالخطاب السردي على مجموعة من العناصر التي لا يمكن الاستغناء عنها لإنتاج نص سردي، أو إنجاز التسريد. أبرزها التخييل، والمتواليات السردية والرؤية السردية.
إن الخطاب السردي خطاب تصويري، ومن أجل تحقق هذه الخاصية داخل ق ق ج يلجأ القاص إلى التخييل. من هنا يجب التمييز بين الخيال والتخييل بالرغم من أنهما ينطلقان من مصدر واحد مخيلة الإنسان. فإن الخيال يرتبط بالشعر بينما التخييل يلازم السرد. الخيال الشعري بناء لغوي يقوم على المشابهة والمقاربة والانزياح اللغوي، بينما التخييل نشاط إنساني يقوم على التمثيل؛ تمثيل لغوي لواقع تدور داخله أحداث يقوم بها أشخاص في أمكنة وأزمنة مختلفة. فالتخييل تمثيل لحياة قد يشجبها القاص أو يحلم بتحققها في الواقع. لهذا نلاحظ على بعض التعليقات حول القصص انتقالها من التعليق على التخييلي إلى التعليق على الواقعي فيتضامن ويشجب ويساند.. الخ. فعند التعليق على متن ق ق ج يقول:
"دست حبيبها في صورة شعرية بعيدة المنال .. تسرب دمعة حارة عند إنشاد القصيدة"
ينخرط المعلقون في مواساة مبدعة النص الحقيقية مع إغفال التعليق على جمالية التخييل في النص وعلى قوته التصويرية والتأثيرية على المتلقي. انتماء نص أدبي للخطاب السردي يلزم الكاتب ابتكار عالم متخيل كإطار عام يسيج كلمات النص ومن خلاله تبليغ ما يأمل أن يصل للمتلقي من أجل تحقيق تفاعل مشترك بينهما.
تختلف درجات التخييل عند المبدعين؛ فمنهم من يتوكأ على أمكنة وشخصيات واقعية من أجل خلق عالمه الحكائي {عبادة: أذن المؤذن... تثاقل المصلون، هرول المتسولون إلى المساجد..} ، ومنهم من يمزج بين مواد واقعية وأخرى ضاربة في الخيال، بينما الصنف الثالث يعمد إلى أن يخلق عالما حكائيا لا يمت أي عنصر منه للواقع، وقد يصل إلى درجة الغرابة والعجائبية.
يتولد عن التخييل ما يعرف بالرؤية السردية أو الفنية. ترتبط هذه الرؤية بما يعرف في سيميائيات السرد بالأهلية السردية. وهي قدرة المبدع على الانتقال من الاحتمال إلى التحيين والإنجاز. من البديهي أن الإنسان له القدرة على التقاط مواد قابلة للتحول إلى نص سردي، لكن عملية الانتقال من ملتقط لحدث عادي مطروح في الطريق إلى منجز لنص سردي لا تتأتى للجميع. من هنا وجب التذكير بوظائف التواصل، للتمييز بين الإخبار بحدث (الوظيفة الإخبارية) وقص حدث (الوظيفة الجمالية/الشعرية). في الوظيفة الإخبارية نقل لأحداث وقعت بالفعل وغايتها نقل معلومات. بينما الوظيفة التواصلية الجمالية هدفها إبداع صيغة فنية، تعتمد على معايير متعارف عليها أو مبتكرة تقودها رؤية فنية منبثقة من خزان ثقافي لا ينفصل عن رؤية المبدع الإيديولوجية للعالم. إن غياب هذه الرؤية السردية عند من يكتبون ق ق جدا بشكل خاص والأجناس الأخرى بشكل عام، تدفعهم إلى نشر التفاهة المختفية وراء غموض يعكر صفاء مياه الأدب.
إن الرؤية السردية المؤطرة داخل التخييل تؤمن بأن النص السردي تحكمه دينامية خاصة. تتحقق هذه الدينامية بفضل المتواليات السردية. إن قراءة حكاية (أو الاستماع إليها) لا تعني فقط الانتقال من كلمة إلى كلمة أخرى، ولكنها تعني أيضاً الانتقال من متوالية إلى متوالية أخرى. كل نص سردي يتكون من وحدات تركيبية بينها علاقة ترابط، يطلق على أصغر وحدة تركيبية المتوالية السردية. تختلف النصوص السردية في عدد المتواليات المتحكمة في بنائها. هناك نصوص تحتوي على عدد كبير من المتواليات السردية كالملحمة والرواية النهرية والمسرحيات التراجيدية وهناك نصوص توظف متواليات أقل كالقصة القصيرة والمسرحيات الهزلية. وأخرى تتسم بالقصر جدا لتوظيفها لأدنى عدد من المتواليات، كالطرفة والقصة القصيرة جدا. ففي أشهر ق ق جدا للأديب الهندوراسي أوغيستو مونتيزوشو توفي سنة 2003 نجدها تتكون من متواليتين فقط:
{عندما استيقظ} {كان الديناصور مازال هناك.}
تتحقق المتواليات السردية بواسطة أفعال السرد التي تتكفل بسرد مجموعة من الأحداث، وتعمل على توليد علاقات داخلية تجعل المتلقي يؤمن بأن المقروء ينتمي إلى الخطاب السردي. الفعل السردي عنصر لغوي يعمل على توجيه متوالية في الحدث، فيتطور الحكي أو يتوقف. يستمد اسلوب السرد الذي يتسم بالحركة، عكس أسلوب الوصف الذي يتسم بالسكون، ديناميته من أفعال السرد المتنوعة؛ فقد تكون فعلا نحويا او اسما أو حرفا. فالابتسامة تولد حدثا يندرج ضمن متوالية سردية، يترتب عنها ردود أفعال مختلفة، وحرف الجر على في قولنا:(دعوت عليه..) سيترتب عنه ردا عن الإساءة عكس (دعوت لك) إن ما تقوم عليه المتواليات يعتبر حسب كريماص الركيزة الأساسية لكل سيرورة ديناميكية مولدة للتركيب السردي.
إذا كان المنتج للقصة القصيرة جدا هو أول قارئ لها، فعليه أن يتساءل، قبل نشرها، عن مدى حضور المتواليات السردية في النص، وما هي الوضعيات الحكائية التي حققتها من البداية إلى النهاية. وعليه كذلك أن يتساءل عما يملك من ثقافة حول الكتابة السردية وروادها وتاريخها وأجناسها لأن إنتاج قصة قصيرة جدا تشبه قطرة ماء تلزم السباحة في بحر شاسع أمواجه اللغة بدروبها والفلسفة بمباحثها والعلوم الإنسانية بتفرعاتها والإنسان بكل أبعاده: الموت، الحياة وما بينهما من قيم .
المعجم:
- النوفيلا: الرواية القصيرة
آيت أورير 04 شتنبر 2023
موسى مليح - المغرب
غالبا ما يطرح السؤال حول القصة القصيرة جدا على الشكل التالي: ما الخصائص الفنية التي تميز ق ق ج؟ فينخرط الجميع في مناقشة الأمور التالية: التكثيف، الدهشة، القفلة، الإيجاز.... لكن في هذه الورقة لن أقف عند هذه التجليات الخارجية لأنني ببساطة سأركز على عملية ما قبل الإنتاج، أي عن الأهلية. وأقصد بالأهلية تلك القدرة الباطنية التي تؤهل المنتج لإنتاج نص ينتمي فعلا إلى ق ق جدا.
وبعبارة أخرى الأهلية هي القدرة على الانخراط في لعبة السرد.
في البداية، لابد من التذكير ببديهيتين اثنتين يغفل عنهما الكثير ممن يعتقدون أن إنتاج النصوص الأدبية بما فيها القصة القصيرة جدا عملية بسيطة في متناول كل من هب ودب من صانعي ضجيج الفضاء الأزرق.
البديهية الأولى تقول إن القصة القصيرة جدا تنتمي إلى حقل الأدب وهو حقل فني تعبيري، وأن كل شكل فني له أداة يعبر بواسطتها. فالرسم أداته الألوان والرقص أداته الجسد، والنحت الحجارة... بينما الأدب يتوكأ على اللغة كمادة يعيد تشكيلها وفق نظام ومعايير محددة. تتوخى اللغة في الأدب التأثير في المتلقي. يتحقق هذا التأثير بفضل شاعرية النص. فالشاعرية تمنح الكلام العادي صفته الأدبية/الجمالية، وتلك وظيفته التواصلية. نخلص إلى أن أول بديهيات كتابة ق ق ج هي توفر القدرة اللغوية على إنتاج جمل ذات وظيفة شاعرية. إن هذه القدرة لا تتأتى لهذا الكم الكثير ممن يكتبون تحت يافطة القصة القصيرة جدا. قد يعود ذلك لعجز ذاتي، أو لعدم تطوير هذه القدرة بالقراءة والدربة والممارسة والمران كما يقول القدماء.
البديهية الثانية تشير إلى أن ق ق ج تنتمي إلى الخطاب السردي، الذي يندرج ضمنه مجموعة من الأشكال الأدبية السردية مثل المسرحية والرواية والنوفيلا* والقصة القصيرة والقصيدة السردية وغيرها. داخل هذا التعدد يوجد قاسم مشترك يتحدد بالإجابة عن سؤال: ما الذي يمنح هذا التعدد صفته السردية؟
أجمع المهتمون بالخطاب السردي على مجموعة من العناصر التي لا يمكن الاستغناء عنها لإنتاج نص سردي، أو إنجاز التسريد. أبرزها التخييل، والمتواليات السردية والرؤية السردية.
إن الخطاب السردي خطاب تصويري، ومن أجل تحقق هذه الخاصية داخل ق ق ج يلجأ القاص إلى التخييل. من هنا يجب التمييز بين الخيال والتخييل بالرغم من أنهما ينطلقان من مصدر واحد مخيلة الإنسان. فإن الخيال يرتبط بالشعر بينما التخييل يلازم السرد. الخيال الشعري بناء لغوي يقوم على المشابهة والمقاربة والانزياح اللغوي، بينما التخييل نشاط إنساني يقوم على التمثيل؛ تمثيل لغوي لواقع تدور داخله أحداث يقوم بها أشخاص في أمكنة وأزمنة مختلفة. فالتخييل تمثيل لحياة قد يشجبها القاص أو يحلم بتحققها في الواقع. لهذا نلاحظ على بعض التعليقات حول القصص انتقالها من التعليق على التخييلي إلى التعليق على الواقعي فيتضامن ويشجب ويساند.. الخ. فعند التعليق على متن ق ق ج يقول:
"دست حبيبها في صورة شعرية بعيدة المنال .. تسرب دمعة حارة عند إنشاد القصيدة"
ينخرط المعلقون في مواساة مبدعة النص الحقيقية مع إغفال التعليق على جمالية التخييل في النص وعلى قوته التصويرية والتأثيرية على المتلقي. انتماء نص أدبي للخطاب السردي يلزم الكاتب ابتكار عالم متخيل كإطار عام يسيج كلمات النص ومن خلاله تبليغ ما يأمل أن يصل للمتلقي من أجل تحقيق تفاعل مشترك بينهما.
تختلف درجات التخييل عند المبدعين؛ فمنهم من يتوكأ على أمكنة وشخصيات واقعية من أجل خلق عالمه الحكائي {عبادة: أذن المؤذن... تثاقل المصلون، هرول المتسولون إلى المساجد..} ، ومنهم من يمزج بين مواد واقعية وأخرى ضاربة في الخيال، بينما الصنف الثالث يعمد إلى أن يخلق عالما حكائيا لا يمت أي عنصر منه للواقع، وقد يصل إلى درجة الغرابة والعجائبية.
يتولد عن التخييل ما يعرف بالرؤية السردية أو الفنية. ترتبط هذه الرؤية بما يعرف في سيميائيات السرد بالأهلية السردية. وهي قدرة المبدع على الانتقال من الاحتمال إلى التحيين والإنجاز. من البديهي أن الإنسان له القدرة على التقاط مواد قابلة للتحول إلى نص سردي، لكن عملية الانتقال من ملتقط لحدث عادي مطروح في الطريق إلى منجز لنص سردي لا تتأتى للجميع. من هنا وجب التذكير بوظائف التواصل، للتمييز بين الإخبار بحدث (الوظيفة الإخبارية) وقص حدث (الوظيفة الجمالية/الشعرية). في الوظيفة الإخبارية نقل لأحداث وقعت بالفعل وغايتها نقل معلومات. بينما الوظيفة التواصلية الجمالية هدفها إبداع صيغة فنية، تعتمد على معايير متعارف عليها أو مبتكرة تقودها رؤية فنية منبثقة من خزان ثقافي لا ينفصل عن رؤية المبدع الإيديولوجية للعالم. إن غياب هذه الرؤية السردية عند من يكتبون ق ق جدا بشكل خاص والأجناس الأخرى بشكل عام، تدفعهم إلى نشر التفاهة المختفية وراء غموض يعكر صفاء مياه الأدب.
إن الرؤية السردية المؤطرة داخل التخييل تؤمن بأن النص السردي تحكمه دينامية خاصة. تتحقق هذه الدينامية بفضل المتواليات السردية. إن قراءة حكاية (أو الاستماع إليها) لا تعني فقط الانتقال من كلمة إلى كلمة أخرى، ولكنها تعني أيضاً الانتقال من متوالية إلى متوالية أخرى. كل نص سردي يتكون من وحدات تركيبية بينها علاقة ترابط، يطلق على أصغر وحدة تركيبية المتوالية السردية. تختلف النصوص السردية في عدد المتواليات المتحكمة في بنائها. هناك نصوص تحتوي على عدد كبير من المتواليات السردية كالملحمة والرواية النهرية والمسرحيات التراجيدية وهناك نصوص توظف متواليات أقل كالقصة القصيرة والمسرحيات الهزلية. وأخرى تتسم بالقصر جدا لتوظيفها لأدنى عدد من المتواليات، كالطرفة والقصة القصيرة جدا. ففي أشهر ق ق جدا للأديب الهندوراسي أوغيستو مونتيزوشو توفي سنة 2003 نجدها تتكون من متواليتين فقط:
{عندما استيقظ} {كان الديناصور مازال هناك.}
تتحقق المتواليات السردية بواسطة أفعال السرد التي تتكفل بسرد مجموعة من الأحداث، وتعمل على توليد علاقات داخلية تجعل المتلقي يؤمن بأن المقروء ينتمي إلى الخطاب السردي. الفعل السردي عنصر لغوي يعمل على توجيه متوالية في الحدث، فيتطور الحكي أو يتوقف. يستمد اسلوب السرد الذي يتسم بالحركة، عكس أسلوب الوصف الذي يتسم بالسكون، ديناميته من أفعال السرد المتنوعة؛ فقد تكون فعلا نحويا او اسما أو حرفا. فالابتسامة تولد حدثا يندرج ضمن متوالية سردية، يترتب عنها ردود أفعال مختلفة، وحرف الجر على في قولنا:(دعوت عليه..) سيترتب عنه ردا عن الإساءة عكس (دعوت لك) إن ما تقوم عليه المتواليات يعتبر حسب كريماص الركيزة الأساسية لكل سيرورة ديناميكية مولدة للتركيب السردي.
إذا كان المنتج للقصة القصيرة جدا هو أول قارئ لها، فعليه أن يتساءل، قبل نشرها، عن مدى حضور المتواليات السردية في النص، وما هي الوضعيات الحكائية التي حققتها من البداية إلى النهاية. وعليه كذلك أن يتساءل عما يملك من ثقافة حول الكتابة السردية وروادها وتاريخها وأجناسها لأن إنتاج قصة قصيرة جدا تشبه قطرة ماء تلزم السباحة في بحر شاسع أمواجه اللغة بدروبها والفلسفة بمباحثها والعلوم الإنسانية بتفرعاتها والإنسان بكل أبعاده: الموت، الحياة وما بينهما من قيم .
المعجم:
- النوفيلا: الرواية القصيرة
آيت أورير 04 شتنبر 2023
موسى مليح - المغرب