البشير عبيد - ابراهيم نصر الله.. رجل المهمات الشعرية الصعبة

هل يستطيع المتابع لآخر إفرازات الحركة الشعرية العربية المعاصرة أن يتغاضى
عن اسم كبير ظلت إسهاماته الأدبية تلقي بظلالها و تمنح الحرف قيمة عليا
نتيجة اشتغاله المكثف على اللغة وتقنيات الكتابة و أبعادها الجمالية.. هذا
الاسم اللامع و المحرك للسواكن و المشاكس للمشهد الثقافي العربي، و هو بلا
منازع الشاعر و الروائي و الفنان التشكيلي الأردني المولد و الفلسطيني
الوالدين إبراهيم نصر الله صاحب الرواية السداسية( ستة أجزاء) زمن الخيول
البيضاء. هذا الرجل الآتي من مأساة و ملهاة القدس و الذاهب كل صباح إلى
ينابيع التساؤلات الوجودية الكبرى، لم يستطع أن ينزوي عن الدنيا أو يكتب
نصا " شعريا " بعيدا عن صخب الحياة و مفارقاتها، وهذا المسار يعتبر أمرا
طبيعا و بديهيا، ذلك أن الكتابة التي تروم الوصول إلى عتبات الإبداع، لا
يمكن أن تتحقق بمجرد امتلاك مفردات اللغة و تقنياتها الدلالية و البلاغية
فقط، إنما تتحقق بتوفر الشروط السالفة الذكر و استحضار قضايا الراهن محليا و
عربيا و كونيا، و هذا ما خطته أصابع كبار الشعراء على مدار التاريخ
الإنساني القديم و الوسيط و الحديث. إبراهيم نصر الله الذي ليس له من شغل
منذ نعومة أضفاره سوى الكتابة، لم يجد من مسارات الحياة المتشعبة عدا مسار
مسك القلم و الريشة و الترحال بين القصيدة و الرواية و اللوحة. في المدة
الأخيرة، نشرت له إحدى الجرائد العربية الصادرة في لندن قصيدة مطولة، يزعم
كاتب هذه السطور أنها أرقى ما وصلت إليه المدونة الشعرية العربية الى حد
اللحظة الراهنة. حملت القصيدة عنوان" آخر الأرض ".. و لم ينسى هنا نصر الله
أن يشتغل بشكل مكثف و عميق على التراجيديا الدامية و المربكة التي يحياها
الإنسان العربي الفلسطيني و الإنسان " الكوني " بشكل عام:
" يتأمل غيم بلادا على حافة الهذيان
تتأمل عاشقة نافذة
لم تجد أفقا منذ عامين في عتمات المكان
يتأمل طفل أباه الذي لم يزل واقفا تحت شجرة توت منذ
سنين يراه يموت
كأن الزمان هنا واقف شبحا في الزمان
يتأمل حقل ذبول خطى النهر فجرا
وينشد مرثية الروح، صمتا، بلا شفة أو لسان
يتأمل زرع هبوب الخماسين
في أعين الناس و الحيوان
تتأمل هذي الدمى طفلة
فوق ذاك الرصيف تشير بجبهتها نحوها
و اليدان مقطعتان"
هكذا، و بلغة مكثفة دلاليا و بلاغيا، يأخذنا الشاعر العربي الكبير إبراهيم
نصر الله إلى ضفة الإبداع، ممتطيا صهوة اللغة المخاطبة للروح المنكسرة
الباحثة عن مستقر لأحلام مهدورة و أجساد معذبة و أقاليم أتعبتها ذاكرة
الحروب و تداعيات العزف و الحيف. إن اللافت في كل مقاطع القصيدة / النموذج
هو تركيز نصر الله بدقة بالغة على صور و أحاسيس و تفاصيل تحدث الرجة في
الجسد، ممعنا في سرد آهات الكائن الإنساني المراوح بين اليأس و الأمل،
العائد من طقوس الجنازات و الدموع و العويل و الصياح، الذاهب بأجنحة الخيال
الى حدائق النور و البهجة و الانتشاء.. و لعل النقطة المفصلية التي زادت
القصيدة أبعادا جمالية و فكرية دون السقوط في فخ المباشرة و الوضوح الفج،
هو المراوحة بين المكان و الزمان و تأثير الواحد على الآخر، مما أثرى
القصيدة بزخم كبير من الدلالات و المجازات الأمر الذي أعطى بشكل آلي النص
الشعري تأويلات شتى لا حدود لها، علما بأن قصيدة محبكة فنية كهذه، بإمكانها
أن تعطي دروسا لا تنسى لبعض " شعراء " هذه البلاد، الذين لاعمل لهم سوى
كتابة" نصوص " باهتة و التفكير في كل لحظة في بعض الامتيازات.. و الحال أن
الكثير منهم لازال متعثر في خطواته، ولا يعرف من أجواء الشعر و الأدب و
الفكر و الفن سوى السطح، أما العمق و التفاصيل و الاشتغال الفني و التقنيات
و الجماليات، فحدث و لا حرج.. فهؤلاء
" الفطاحلة " لا يعرفون هذه القواميس و من نظر لها شرقا و غربا، بل بإمكان
أحدهم أن يقدم لنا في إحدى الفضاءات الثقافية مداخلة " قيمة" عن الحداثة في
الخطاب الشعري العربي المعاصر ولكن بمنظور سطحي شريطة أن نحظر له مكافئة
رمزية تليق بمكانته الرفيعة في سماء الوهم!!. هل بإمكان هؤلاء " الشعراء "
المتسمرين في أماكنهم الفخمة و المسافرين إلى مدن و عواصم العالم للتحدث
باسم الشعر التونسي..أن يعطونا أجوبة ضافية وشافية عن أسئلة
حارقة تهم المدونة الشعرية التونسية و إضافاتها إلى المشهد الشعري العربي
الراهن؟
- كانت مهتم بقضايا التنمية و المواطنة و الفكر التنويري و إشكاليات النزاعات و الصراعات الإقليمية و الدولية....


- هذا المقال نشر قبل 13 سنة في الفايسبوك فقط ..لذلك انشره من جديد و في عديد المنابر الإعلامية العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...