المطّلع على تاريخ مصر يجد عدداً كبيراً من الأوبئة التي فتكت بعشرات الآلاف من سكان هذا البلد، من الطاعون، إلى الكوليرا والملاريا والجدري والتيفوس، إضافةً إلى الأمراض المستوطنة "Endemic" التي كانت تصيب أكثر من 90 في المئة من الشعب المصري مثل البلهارسيا والإنكلستوما وأمراض العيون والتدرّن الرئوي.
ومن الكتب المهمة التي رصدت هذه الظاهرة كتاب "الأوبئة والأمراض في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين 1902: 1947" لنسمة سيف الإسلام سعد، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسة "تاريخ المصريين".
يقع الكتاب في 350 صفحة من القطع الكبير ويضم خمسة فصول، الأول يحمل عنوان "البيئة المصرية وانتشار الأوبئة"، والثاني "الأمراض والأوبئة نوعيتها وأبعاد انتشارها"، والثالث "الإدارة والمشكلات الصحية"، والرابع "موقف الصحافة والبرلمان من المشكلات الصحية" والخامس "المشاركة المجتمعية في مكافحة الأوبئة والأمراض وتحسين الصحة العامة".
ويورد الكتاب أسباباً كثيرة تضافرت لتكون مصر عبر فترات عدّة من تاريخها بقعة لانتشار أمراض وأوبئة مختلفة، بداية من دور المناخ في نموّ البكتيريا والجراثيم، إضافةً إلى أثر الموقع الجغرافي الذي لعب دوراً في سهولة انتقال الأوبئة العالمية إليها، وكذلك العنصر البشري الذي أسهم بسبب إهماله أحياناً والجهل في أحيان أخرى في مواجهة الأوبئة والأمراض منذ بدايتها، ما أدّى إلى خسائر في الأرواح تفوق أضعاف خسائر الحروب.
وعلى سبيل المثال، لعبت البحيرات والمستنقعات حول القرى والمدن في انتشار عددٍ كبيرٍ من الأوبئة، منها الملاريا التي كانت تحصد سنوياً في مدينة الإسكندرية 4 في المئة من سكانها، وجائحة الجدري كانت تتسبّب في وفاة 50 ألف طفل سنوياً بمعدل 20 في المئة من المواليد البالغ عددهم 250 ألف طفل. وقد أشارت تقارير إلى أن هذا الوباء كان يضرب القطر المصري بشكل كبير كل 5 سنوات تقريباً، لأسباب عدّة، من ضمنها البدو الرحل الذين يحملون العدوى بشكل مستديم وينقلونها إلى المدن حين يطوفون بها وإهمال تطعيم الأطفال في القرى، كذلك الحجاج لدى عودتهم.
الموت الأسود
أما الطاعون "الموت الأسود" الذي عُرف في مصر بـ"الإثيوبي" أو "الأصفر" أو "الرهيب"، فكان يدوم من شهرين إلى أربعة أشهر في الفترة ما بين مارس (آذار) ومايو (أيار)، وكان تكرار ظهوره سنوياً يعضد الاعتقاد بأن مصر هي الموطن الأساسي له بسبب فيضان نهر النيل ورطوبة الأراضي.
أما ضحاياه، فكانت أعدادهم كارثية. عام 1625، قضى الطاعون على 300 ألف شخص، وعام 1642، أفنى نحو 330 قرية، وعام 1784، قضى على نحو سدس السكان، وعام 1801، راح ضحيته آلاف من المصريين ومن جنود الحملة الفرنسية، وضرب مصر كذلك عام 1822 وبعدها بعامين. وعام 1835، شهدت البلاد واحدة من أعنف موجات هذا الوباء، إذ أودت بحياة نحو نصف مليون مصري، فقد فقدت القاهرة والإسكندرية من 25 في المئة - 30 في المئة من سكانها، فيما تراوحت وفيات القرى بين 10 في المئة - 12 في المئة، واحتاجت مصر إلى 15 عاماً كي تعود إلى المعدلات الطبيعية لنموّها السكاني.
الوباء الأصفر
"الوباء الأصفر" أو "الشوطة" أو الكوليرا أو "الكريرة" أو "الهيضة"، تتعدد الأسماء والفعل واحد، لذلك الوباء الذي ضرب مصر في القرن التاسع عشر فقط 9 مرات، وكان الحج من أهم مصادر دخول هذه الجائحة إلى القطر المصري، ففي الفترة ما بين 1831 و1902، انتشرت الكوليرا في الحجاز 21 مرة. وقضى هذا الوباء عام 1865 على 6 في المئة من تعداد الشعب المصري. أما وباء 1883، فبلغ عدد ضحاياه ما بين 80 إلى 100 ألف نسمة، وعام 1902 قضى على نحو 40 ألف نسمة، وعام 1947، آخر وباء ضرب مصر قبل تصنيف منظمة الصحة العالمية لكورونا كوباء عالمي، وراح ضحيته نحو 10 آلاف نسمة فقط! وهو ما اعتُبر وقتها إنجازاً مقارنة بعدد الوفيات من قبل.
في أوقات الأوبئة، كانت تتعامل الحكومة والسلطات الصحية بمنتهى القسوة، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية أسهمت في حدّة انتشار الجائحات، فقد كانت المؤسسات الصحية في مصر في بداية القرن التاسع عشر تابعة لوزارة الداخلية، وفي وباء الطاعون عام 1834، كانت السلطات الصحية تطلق الرصاص الحي على أهالي الأسر الذين لم يُبلغوا عن موت أفراد منهم بالطاعون، كما أن السلطات كانت ترسل المرضى بشكل مهين إلى الحجر الصحي وكان ذلك بمثابة نذير شؤم، فمن يذهبون إلى الحجر لا يعودون، إذ يُلقون في مستشفيات قذرة على أطراف المدن، كما أن السلطات كانت تشرّح الجثث أحياناً أمام أهالي المتوفي بشكل وحشي وتحرق ملابسه أمامهم، وأحياناً تطردهم من منازلهم وتحرقها، ما كان يدفع الأهالي إلى التكتّم بشأن أي حالة وفاة بالوباء خوفاً من المصير المنتظر.
وكان لعودة الحجاج دور كبير في دخول الأوبئة إلى الأراضي المصرية ولعل أوضح مثال على ذلك وباء الكوليرا عام 1902، فقد وصل ماء زمزم في هذا العام يحتوي على جرثومة "الكريرة"، وتوفي بسببه الآلاف. وكان من بين العائدين من الحج عمدة قرية "موشا" في أسيوط الذي حمل معه 10 صفائح مملوءة بماء زمزم، ولم يلاحظ أطباء المحجر الصحي في سيناء خطورة هذه الصفائح. ولمّا وصل إلى قريته، وزّع المياه على أهله ومحبيه وأفرغ ما تبقّى منها في آبار القرية، فما هي إلّا أيام وظهرت بينهم الكوليرا وحصدت في أرواحهم حصداً، ومن هذه القرية تفشّى الوباء في مصر كلها.
الطب الشعبي
ويورد الكتاب عدداً كبيراً من العادات الشعبية التي مارسها الشعب المصري لمواجهة الأوبئة وقد أسهمت في انتشارها على مدى واسع، منها عندما انتشر وباء الملاريا 1942- 1945، كان أهل المريض يأخذونه قبيل المغرب بوقت قليل ويلقون به في ماء الترعة أو النهر البارد لمدة ثلاثة أيام متتالية، معتقدين أن هذا سيذهب عنه الوباء. وحين انتشرت جائحة الكوليرا عام 1947، كان أهالي الريف يخرجون إلى الشوارع بالمقصّات الخشبية الكبيرة ويقصّون الهواء لاعتقادهم أن هذا سيؤدي إلى ابتعاد الأرواح الشريرة التي تتسبّب في انتشار الموت، وذلك إضافةً إلى دور الحلاقين والدايات والسحرة المشعوذين بوصفاتهم الشعبية في زيادة عدد الوفيات وزيادة نسبة العمى في مصر التي كانت الأعلى في العالم في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فمن تلك المعالجات، ما يُطلق عليه "اللحَّاسة"، إذ كانت تقوم امرأة، عادة متقدمة في السن بلحس عينَيْ المريض عن طريق فتح جفنيهما بأصابعها، ثم تضع طرف لسانها داخل العين وتمرّره بحركة دائرية لتلتقط ما فيها من شوائب أو مواد غريبة وتبصق في طرف لسانها في يد المريض. وهناك طريقة أخرى لعلاج التهاب العيون أكثر قسوة وهو تسخين روث الحمير ثم وضعه في قطعة من القماش، تُترك على العين، ويُنصح المريض بتكرار ذلك، كلما برد الروث. هذه الأمور أسهمت في ارتفاع نسبة العمى في مصر بصورة يفوق تصوّرها.
ولم تكن الأمراض المستوطنة أقل خطراً على المصريين من الأوبئة التي عصفت بهم، بيد أنها كانت تقتلهم ببطء والمقصود بها الأمراض المستقرة في بلد ما، وتصيب غالبية سكانه ومن أهمها البلهارسيا والإنكلستوما والتدرن الرئوي وأمراض العيون وكانت تصيب نحو 70 في المئة من الشعب المصري. فعام 1924، كانت نسبة المصابين بالبلهارسيا 70 في المئة، والإنكلستوما من 70- 80 في المئة. وعام 1942، كانت نسبة المصابين بالبلهارسيا 75 في المئة، وكانت أهم مضاعفاتها التهابات المثانة وسرطان المثانة وتليّف الكبد وتضخّم الطحال والاستسقاء. ونتج من هذه الأمراض تراجع صحة الفلاح المصري الجسمانية والعقلية وقلة استيعابه وبلاهته وقلة إنتاجه. فعلى سبيل المثال، وصلت نسبة غير الصالح من الشباب المتعلمين المتقدمين إلى الجندية إلى الثلث في بداية القرن العشرين.
وعموماً، فإن هذا الكتاب يقدم بشكل سلس صورة لما عاناه المصريون من جراء الأمراض والأوبئة التي ضربت البنيان الاجتماعي، اعتماداً على الصحافة التي نقلت أخبار هذه الأوبئة ومضابط مجلس النواب (البرلمان) والأعمال الأدبية التي سلّطت الضوء على حال الفلاح المصري، ما أعطى صورة لمجتمع عانى بشدة، إلّا أنّه ظلّ صامداً في وجه الموت.
ومن الكتب المهمة التي رصدت هذه الظاهرة كتاب "الأوبئة والأمراض في المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين 1902: 1947" لنسمة سيف الإسلام سعد، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسة "تاريخ المصريين".
يقع الكتاب في 350 صفحة من القطع الكبير ويضم خمسة فصول، الأول يحمل عنوان "البيئة المصرية وانتشار الأوبئة"، والثاني "الأمراض والأوبئة نوعيتها وأبعاد انتشارها"، والثالث "الإدارة والمشكلات الصحية"، والرابع "موقف الصحافة والبرلمان من المشكلات الصحية" والخامس "المشاركة المجتمعية في مكافحة الأوبئة والأمراض وتحسين الصحة العامة".
ويورد الكتاب أسباباً كثيرة تضافرت لتكون مصر عبر فترات عدّة من تاريخها بقعة لانتشار أمراض وأوبئة مختلفة، بداية من دور المناخ في نموّ البكتيريا والجراثيم، إضافةً إلى أثر الموقع الجغرافي الذي لعب دوراً في سهولة انتقال الأوبئة العالمية إليها، وكذلك العنصر البشري الذي أسهم بسبب إهماله أحياناً والجهل في أحيان أخرى في مواجهة الأوبئة والأمراض منذ بدايتها، ما أدّى إلى خسائر في الأرواح تفوق أضعاف خسائر الحروب.
وعلى سبيل المثال، لعبت البحيرات والمستنقعات حول القرى والمدن في انتشار عددٍ كبيرٍ من الأوبئة، منها الملاريا التي كانت تحصد سنوياً في مدينة الإسكندرية 4 في المئة من سكانها، وجائحة الجدري كانت تتسبّب في وفاة 50 ألف طفل سنوياً بمعدل 20 في المئة من المواليد البالغ عددهم 250 ألف طفل. وقد أشارت تقارير إلى أن هذا الوباء كان يضرب القطر المصري بشكل كبير كل 5 سنوات تقريباً، لأسباب عدّة، من ضمنها البدو الرحل الذين يحملون العدوى بشكل مستديم وينقلونها إلى المدن حين يطوفون بها وإهمال تطعيم الأطفال في القرى، كذلك الحجاج لدى عودتهم.
الموت الأسود
أما الطاعون "الموت الأسود" الذي عُرف في مصر بـ"الإثيوبي" أو "الأصفر" أو "الرهيب"، فكان يدوم من شهرين إلى أربعة أشهر في الفترة ما بين مارس (آذار) ومايو (أيار)، وكان تكرار ظهوره سنوياً يعضد الاعتقاد بأن مصر هي الموطن الأساسي له بسبب فيضان نهر النيل ورطوبة الأراضي.
أما ضحاياه، فكانت أعدادهم كارثية. عام 1625، قضى الطاعون على 300 ألف شخص، وعام 1642، أفنى نحو 330 قرية، وعام 1784، قضى على نحو سدس السكان، وعام 1801، راح ضحيته آلاف من المصريين ومن جنود الحملة الفرنسية، وضرب مصر كذلك عام 1822 وبعدها بعامين. وعام 1835، شهدت البلاد واحدة من أعنف موجات هذا الوباء، إذ أودت بحياة نحو نصف مليون مصري، فقد فقدت القاهرة والإسكندرية من 25 في المئة - 30 في المئة من سكانها، فيما تراوحت وفيات القرى بين 10 في المئة - 12 في المئة، واحتاجت مصر إلى 15 عاماً كي تعود إلى المعدلات الطبيعية لنموّها السكاني.
الوباء الأصفر
"الوباء الأصفر" أو "الشوطة" أو الكوليرا أو "الكريرة" أو "الهيضة"، تتعدد الأسماء والفعل واحد، لذلك الوباء الذي ضرب مصر في القرن التاسع عشر فقط 9 مرات، وكان الحج من أهم مصادر دخول هذه الجائحة إلى القطر المصري، ففي الفترة ما بين 1831 و1902، انتشرت الكوليرا في الحجاز 21 مرة. وقضى هذا الوباء عام 1865 على 6 في المئة من تعداد الشعب المصري. أما وباء 1883، فبلغ عدد ضحاياه ما بين 80 إلى 100 ألف نسمة، وعام 1902 قضى على نحو 40 ألف نسمة، وعام 1947، آخر وباء ضرب مصر قبل تصنيف منظمة الصحة العالمية لكورونا كوباء عالمي، وراح ضحيته نحو 10 آلاف نسمة فقط! وهو ما اعتُبر وقتها إنجازاً مقارنة بعدد الوفيات من قبل.
في أوقات الأوبئة، كانت تتعامل الحكومة والسلطات الصحية بمنتهى القسوة، الأمر الذي أدى إلى نتائج عكسية أسهمت في حدّة انتشار الجائحات، فقد كانت المؤسسات الصحية في مصر في بداية القرن التاسع عشر تابعة لوزارة الداخلية، وفي وباء الطاعون عام 1834، كانت السلطات الصحية تطلق الرصاص الحي على أهالي الأسر الذين لم يُبلغوا عن موت أفراد منهم بالطاعون، كما أن السلطات كانت ترسل المرضى بشكل مهين إلى الحجر الصحي وكان ذلك بمثابة نذير شؤم، فمن يذهبون إلى الحجر لا يعودون، إذ يُلقون في مستشفيات قذرة على أطراف المدن، كما أن السلطات كانت تشرّح الجثث أحياناً أمام أهالي المتوفي بشكل وحشي وتحرق ملابسه أمامهم، وأحياناً تطردهم من منازلهم وتحرقها، ما كان يدفع الأهالي إلى التكتّم بشأن أي حالة وفاة بالوباء خوفاً من المصير المنتظر.
وكان لعودة الحجاج دور كبير في دخول الأوبئة إلى الأراضي المصرية ولعل أوضح مثال على ذلك وباء الكوليرا عام 1902، فقد وصل ماء زمزم في هذا العام يحتوي على جرثومة "الكريرة"، وتوفي بسببه الآلاف. وكان من بين العائدين من الحج عمدة قرية "موشا" في أسيوط الذي حمل معه 10 صفائح مملوءة بماء زمزم، ولم يلاحظ أطباء المحجر الصحي في سيناء خطورة هذه الصفائح. ولمّا وصل إلى قريته، وزّع المياه على أهله ومحبيه وأفرغ ما تبقّى منها في آبار القرية، فما هي إلّا أيام وظهرت بينهم الكوليرا وحصدت في أرواحهم حصداً، ومن هذه القرية تفشّى الوباء في مصر كلها.
الطب الشعبي
ويورد الكتاب عدداً كبيراً من العادات الشعبية التي مارسها الشعب المصري لمواجهة الأوبئة وقد أسهمت في انتشارها على مدى واسع، منها عندما انتشر وباء الملاريا 1942- 1945، كان أهل المريض يأخذونه قبيل المغرب بوقت قليل ويلقون به في ماء الترعة أو النهر البارد لمدة ثلاثة أيام متتالية، معتقدين أن هذا سيذهب عنه الوباء. وحين انتشرت جائحة الكوليرا عام 1947، كان أهالي الريف يخرجون إلى الشوارع بالمقصّات الخشبية الكبيرة ويقصّون الهواء لاعتقادهم أن هذا سيؤدي إلى ابتعاد الأرواح الشريرة التي تتسبّب في انتشار الموت، وذلك إضافةً إلى دور الحلاقين والدايات والسحرة المشعوذين بوصفاتهم الشعبية في زيادة عدد الوفيات وزيادة نسبة العمى في مصر التي كانت الأعلى في العالم في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فمن تلك المعالجات، ما يُطلق عليه "اللحَّاسة"، إذ كانت تقوم امرأة، عادة متقدمة في السن بلحس عينَيْ المريض عن طريق فتح جفنيهما بأصابعها، ثم تضع طرف لسانها داخل العين وتمرّره بحركة دائرية لتلتقط ما فيها من شوائب أو مواد غريبة وتبصق في طرف لسانها في يد المريض. وهناك طريقة أخرى لعلاج التهاب العيون أكثر قسوة وهو تسخين روث الحمير ثم وضعه في قطعة من القماش، تُترك على العين، ويُنصح المريض بتكرار ذلك، كلما برد الروث. هذه الأمور أسهمت في ارتفاع نسبة العمى في مصر بصورة يفوق تصوّرها.
ولم تكن الأمراض المستوطنة أقل خطراً على المصريين من الأوبئة التي عصفت بهم، بيد أنها كانت تقتلهم ببطء والمقصود بها الأمراض المستقرة في بلد ما، وتصيب غالبية سكانه ومن أهمها البلهارسيا والإنكلستوما والتدرن الرئوي وأمراض العيون وكانت تصيب نحو 70 في المئة من الشعب المصري. فعام 1924، كانت نسبة المصابين بالبلهارسيا 70 في المئة، والإنكلستوما من 70- 80 في المئة. وعام 1942، كانت نسبة المصابين بالبلهارسيا 75 في المئة، وكانت أهم مضاعفاتها التهابات المثانة وسرطان المثانة وتليّف الكبد وتضخّم الطحال والاستسقاء. ونتج من هذه الأمراض تراجع صحة الفلاح المصري الجسمانية والعقلية وقلة استيعابه وبلاهته وقلة إنتاجه. فعلى سبيل المثال، وصلت نسبة غير الصالح من الشباب المتعلمين المتقدمين إلى الجندية إلى الثلث في بداية القرن العشرين.
وعموماً، فإن هذا الكتاب يقدم بشكل سلس صورة لما عاناه المصريون من جراء الأمراض والأوبئة التي ضربت البنيان الاجتماعي، اعتماداً على الصحافة التي نقلت أخبار هذه الأوبئة ومضابط مجلس النواب (البرلمان) والأعمال الأدبية التي سلّطت الضوء على حال الفلاح المصري، ما أعطى صورة لمجتمع عانى بشدة، إلّا أنّه ظلّ صامداً في وجه الموت.