تمهيد:
إنّ موضوع "الصّورة" هو موضوع قديم متجدّد في آن، قديم من حيث أصوله ومنابعه، وهو متجدّد لأنّ الدّراسات بشأنه لا تزال متواصلة إلى اليوم، والصّورة التي نعنى بدراستها هي الصّورة الشّعريّة، والحديث عن الصّورة الشّعريّة هو في الحقيقة حديث عن ركيزة أساس من ركائز الشّعر، بل هو حديث عن لبّ الشّعر لأنّه موصول بالحديث عن قدرة الشّاعر على الخلق الفنّي. ومن هنا أمكننا الجزم بأنّ مبحث الصّورة الشّعريّة وثيق الارتباط بمبحث الشّعر ذاته وإنّ تحديد مفهوم – أو مفاهيم – الصّورة الشّعريّة هو قرين تحديد مفهوم – أو مفاهيم – الشّعر منذ انبثاقها مع اللّحظة اليونانيّة إلى أحدث النّظريّات الأدبيّة في عصرنا.
والنّظر في معاني الصّورة هو بحث في طرائق إنتاجها ومصادرها ووظائفها وعلاقتها بالخطاب الشّعري، وإذا كان هذا المبحث في ظاهره على صلة بالأدب فإنّه قبل كلّ ذلك مبحث فلسفيّ قديم متجدّد له أصول في الفلسفة اليونانيّة ومثيلتها العربيّة فضلا عن نظريّات النقد الأدبي وصولا إلى النّظريّات الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة في الجماليّة واللّسانيّات.
صورة الموت في الشعر العربي القديم:
إن الحديث عن الموت هو قرين الحديث عن الحياة، وما تذكّر الموت سوى شكل من أشكال التشبّع بملذات الحياة. وذكر الموت في الأشعار لم يقترن بشعراء الزهد أو الرّثاء وحسب، فأغلب الشعراء قد ذكروا الموت في أشعارهم كل من زاوية مختلفة، يقول ابن نباتة السعدي:
1.
أرى المرء فيما يبتغيه كأنما مداولة الأيام فيه مبارد
ويضطرم الجمعان والنقع ثائر فيسلم مقدام ويهلك خامد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فصبراً على ريب الزمان فإنما لكم خلقت أهواله والشــــــــــــــــــــــــدائد
ويقول المتنبي:
2.
إذَا غَامَـرْتَ فِي شَرَفٍ مَّرُومِ فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم
ويقول:
3. وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
ويقول:
4 نَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَمَا مِن مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَـرَّقُوا
...
فَالْمَوْتُ آتٍ وَالنُّفوسُ نَفَائِــــــــــــــــــــــــــــسٌ والْمَسْتَعـِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
والْمَـرْءُ يَأْمُلُ والْحَيَاةُ شَـــــــــــــــــــــــــــــــهِيَّةٌ وَالشَّيْــــــــبُ أَوْقَــــــــــــرُ والشَّبيـــــــــــــــــــــــــبةُ أنــــــــزَقُ
وإذا انتبهنا إلى الأمثلة السابقة فإنّنا نرى أنها قد جعلت من الموت محورا، إلاّ أنّ صورة الموت اختلفت من موضع إلى آخر، فالموت في المثال الأوّل يدلّ على القضاء والقدر. فالإنسان مآله الفناء بأي شكل من الأشكال، فلا مهرب من الموت فهو نهاية حتميّة، فبعضهم يموت عليلا وبعضهم يموت غريقا وبعضهم يموت قتيلا وبعضهم يموت وهو على فراش العافية، فأسباب الموت عدّة أمّا الموت فهو واحد.
أمّا صورة الموت في المثالين الثاني والثالث فهي تختلف عن صورته في المثال الأوّل، فإذا كان الموت واحد فإنّ أسبابه متعدّدة، وأشكاله مختلفة، فلا يستوي من مات في مسجد بمن مات في خمّارة، ولا يستوي من مات شريفا وهو يدافع عن شرف أو عرض أو أرض بمن مات ذليلا وهو يهمّ بالسرقة أو بالزنى أو بأيّ منكر، فالموت واحد لكن أشكاله عديدة.
أمّا صورة الموت في المثال الرابع فهي مختلفة عن صوره في الأمثلة السابقة، فالموت هنا قد اتّخذ شكلا آخر تمثّل في كونه نهاية كلّ كائن، وقد وردت الأبيات في شكل تذكير ونصح لذاك الإنسان العابث، ولذاك الذي يكنز الذهب والفضة دون أن يضع في حسبانه أنه هو وماله مآلُهما الزوال، بل نعت الشّاعرُ ذاك الذي يعتزّ بماله بالحمق لأنه لا يدري أنّ الموت حقيقة لا مهرب منها حتى وإن كان أشجع الشجعان وأشدّ الفرسان. وصورة الموت هذه هي الصورة الغالبة عند أغلب شعراء الزهد فهذا أبو العتاهية يقول مذكّرا الإنسان بمصيره الحتميّ:
يا أَيُّها الحَيُّ الَّذي هُوَ مَيِّتٌ أَفنَيتَ عُمرَكَ بِالتَعَلُّلِ وَالمُنى
أَمّا المَشيبُ فَقَد كَساكَ رِداؤُهُ وَاِبتَزَّ عَن كَفَّيكَ أَثوابَ الصِبا
خالِف هَواكَ إِذا دَعاكَ لِرَيبَةٍ فَلَرُبَّ خَيرٍ في مُخالَفَةِ الهَوى
عَلَمُ المَحَجَّةِ بَيِّنٌ لِمُريدِهِ وَأَرى القُلوبَ عَنِ المَحَجَّةِ في عَمى
وَلَقَد عَجِبتُ لِهالِكٍ وَنجاتُهُ مَوجودَةٌ وَلَقَد عَجِبتُ لِمَن نَجا
ويقول في موضع آخر:
لِمَن نَبني وَنَحنُ إِلى تُرابٍ نَصيرُ كَما خُلِقنا مِن تُرابِ
وَيا دُنيايَ ما لي لا أَراني أَسومُكِ مَنزِلاً إِلّا نَبا بي
وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو صُروفٍ وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو اِنقِلابِ
وَمَوعِدُ كُلِّ ذي عَمَلٍ وَسَعيٍ بِما أَسدى غَداً دارُ الثَوابِ
سَأَسأَلُ عَن أُمورٍ كُنتُ فيها فَما عُذري هُناكَ وَما جَوابي
ويقول أيضا:
أَيُّها الباني قُصوراً طِوالاً أَينَ تَبغي هَل تُريدُ السَحابا
إِنَّما أَنتَ بِوادي المَنايا إِن رَماكَ المَوتُ فيهِ أَصابا
أَيُّها الباني لِهَدمِ اللَيالي ابنِ ما شِئتَ سَتَلقى خَرابا
أَأَمِنتَ المَوتَ وَالمَوتُ يَأبى بِكَ وَالأَيّامُ إِلّا انقِلابا
هَل تَرى الدُنيا بِعَينَي بَصيرٍ إِنَّما الدُنــــــــــيا تُــــــــــحاكي السَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرابا
لذلك لا بدّ من أخذ العبرة بألاّ شيء يبقى وأنّ الكلّ آيل إلى الزوال. ومن حِكم الموت التي تجسد انقضاء العمر قول الشاعر أرطأة بن سهية وهو شاعر أموي:
رأيت المرء تأكله الليالي كأكل الأرض ساقطة الحديد
وأعلم أنـها ستكر حتى توفي نـــــــــــــــــــــــذرها حتــــــــــــــــــــــــــــــى الوليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
ومن الأمثلة التي تنبّه الإنسان إلى حتميّة الفناء والموت قول عمرو بن كلثوم:
وإنّا سوف تُدْرِكُنا المنايا مقـدَّرة لنـا ومقدّرينَا
وقول طرفة بن العبد في داليّته مشيرا إلى ضرورة الوعي بأن الحياة أمر عارض و آيل إلى زوال:
أرى الموت أعـداد النفـوس ولا أرى بعيــداً غداً، أبعد اليـــوم من غد
أرى الموت يـعتام الكرام ويـصطـفى عقيـلـة مــال الفاحـش المتشـدد
أرى العيش كنــزا ناقصا كل ليلــة وما تنقص الأيــام والـدهـر ينفـذ
فمثل هذه الصورة عن الموت مقترنة بصورة الحياة الفانية التي يتكالب عليها الناس وهم غافلون عن النهاية الحتميّة لكل كائن، وهذه الصورة الشعريّة عن الموت غالبا ما تراود الإنسان بعد طول شغف بالحياة وتمتع بكلّ ملذاتها إلى درجة المجون، حين يدرك الإنسان بعد أن جرّب كلّ الملذات أنّ كلّ لذّة في الحياة عمرها قصير وأنّ النهاية الحتميّة والحقيقة الوحيدة الواضحة هي حقيقة الموت فلا أحد عمّر أو بقي دون أن تطاله يد الموت، ألم يقل أبو نواس شاعر الخمرة:
و ليس عنّا بنازحْ الموتُ منّا قريبٌ ،
تصيحُ منه الصَّوائحْ في كلِّ يومٍ نعِيٌّ ،
موَلْوِلاتُ النَّوائحْ تَشْجى القلوبَ، وتبكي
في غَفْلة ٍ ، وتُمازِحْ ؟ حتى متى أنت تلهو
في زندِ عيشِكَ قادِحْ و الموتُ في كلِّ يومٍ
من شدّة ِ الهوْلِ كالِحْ فاعمَلْ ليومٍ عبوسٍ ،
نعيمها عنك نازحْ و لا يغُرَّنْكَ دنيا ،
و حُبّها لك فاضِحْ ! و بُغْضُها لك زَيْنٌ ،
وقال في موضع آخر وهو يتذكّر النهاية (الموت) بعد طول شغف بالبداية (الحياة):
اِنقَضَت شِرَّتي فَعِفتُ المَلاهي إِذ رَمى الشَيبُ مَفرِقي بِالدَواهي
وَنَهَتني النُهى فَمِلتُ إِلى العَد لِ وَأَشفَقتُ مِن مَقالَةِ ناهِ
أَيُّها الغافِلُ المُقيمُ عَلى السَهَ وِ وَلا عُذرَ في المُقامِ لِساهِ
لا بِأَعمالِنا نُطيقُ خَلاصاً يَومَ تَبدو السَماءُ فَوقَ الجِباهِ
غَيرَ أَنّي عَلى الإِساءَةِ وَالتَف ريـــــــــــــــطِ راجٍ لِحُســـــــــــــــــــــنِ عَفوِ اللَـــــــــــــــــــــــــــهِ
وقال وهو على فراش الموت:
يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا وجميل عفـــــــــــــــــــــــــوك.. ثم إنّي مســــــــــــــــــــلم
فالخوف من المجهول والخوف ممّا وراء الحياة يجعلان الإنسان في موضع تذلل قبل الموت، بل يُخيّل للمرء أنّ بداية الحياة الثانية ستكون مع الموت بحسب ما كانت الحياة الأولى فيهرع للتوبة قبل أن يطاله الموت ويفوت الأوان. ومثل هذه الصورة عن الموت نجد صدى لها في أغلب الديانات فهم يؤمنون بأن هناك حياة أخرى بعد الموت تعتمد على إيمان البشر أو أفعالهم فينالون العقاب في النار أو الثواب في الجنّة، فهذه الديانات جميعها جاءت لترسخ مبدأ الثواب والعقاب، الثواب لمن أطاع أوامر الله وانتهى عمّا نهى الله عنه، والعقاب لمن خالف ذلك وأصرّ على المعصية.
لكنّ الموت في الشعر قد يتّخذ أشكالا أخرى من قبيل موت العاشق لفقد معشوقه من ذلك قول قيس بن الملوّح يتمنى الموت لبعد حبيبته ليلى عنه:
أحبـك يا ليلى مـحبة عاشـق عليه جـميع المصعبات تـهون
أحبـك حبا لو تـحبين مثلـه أصـابك من وجد علي جنـون
ألا فارحـمي صبا كئيبا معذبـا حريق الحشا مضنى الفـؤاد حزين
قتيـل من الأشـواق أما نـهاره فبـاك وأمـا ليلـه فـأنيــــــــــــــــــــــــــــــن
له عبرة تـهمي ونيـران قلبـه وأجفانـه تذري الدموع عيـون
فيا ليت أن المـوت يأتي معجـلا على أنّ عشـق الغانيات فتـون
فالعاشق يتمنى الموت ويرى فيه دواء من بلاء شديد أصابه، فيصبح الموت راحة من الحياة المرهقة. ولا تختلف صورة الموت عند ابن الملوّح عن صورة الموت عند جميل بثينة إذ يقول:
أتاركتي للموت أنت فميّت وعندكِ لي، لو تعلمين، شفاؤها
لقد أورَثَتْ قلبـي وكان مصحـحـا بثينـةُ صدغا يـوم طار رداؤهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
والموت عند جميل أيضا وسيلة لتعويض الفراغ تجلّى في قوله:
يا ليتني ألـقـى الـمنيــة بغتـة إن كــان يــوم لقـائكـم لم يقــدر
فالحبيبة داء ودواء، داء متى رحلت ودواء متى رضيت، موت متى جفت وحياة متى دنت، فصورة الموت عند العاشق مرتبطة بالمسافة الفاصلة بينه وبين معشوقه.
أمّا صورة الموت في شعر الرثاء فلها صيغ أخرى، فالموت في الرثاء غير الموت في الفخر وغير الموت في الغزل، فالموت في الرثاء متّهَم بأخذ الأحبّة وتغييب أجسادهم، لكنه مع ذلك هو عاجز عن أخذ أرواحهم وأطيافهم من حولهم، من ذلك قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي بكى فيها أبناءه الخمسة الذين اختطفهم الموت من بين يديه. يقول فيها:
أودى بَنيَّ وأعقبوني حسرةً بعد الرُّقاد وعبرة ما تُقْلعُ
سبقوا هَوِىَّ وأعنقوا لهواهم فتُخُرِّمُوا، ولكل جنب مصرَعُ
فبقيت بعدهُمُ بعيش ناصبٍ وإِخال أني لاحقٌ مستتبَعُ
ولقد حرصْتُ بأن أدافع عنهمُ وإِذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ
وإِذا المنية أنشبتْ أظفارها ألفيْت كلَّ تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حِدَاقَها سُمِلت بشوك فهي عُورٌ تدمع
حتى كأني للحوادث مروة بِصَفَا المشرَّق كل يوم تُقرع
ولئن بهم فَجَعَ الزمان ورَيْبُهُ إِني بأهل مودتي لمفجَّعُ
وهذه صيحات ألم وحسرات صادرة عن سويداء فؤاد ملتاعٍ بفقد أطفاله جميعًا وإِطباق الأسى والظلام على أقطار نفسه. فالشاعر كان له خمسة من الأبناء عرفوا بالنجدة والشجاعة والكفاية وكانوا نور عين والدهم فاستأذنوه للجهاد مع المسلمين حين اتجهوا لفتح مصر فأذن لهم فذهبوا وفتحوا مصر مع جيوش المسلمين ولكنهم في أثناء ذلك أصابهم الطاعون فقضوا جميعهم مرة واحدة، فصورة الموت قد اتخذت شكل الظالم المتوحّش الذي حرم أبا من أطفاله الخمسة.
لم يكن الموت في الشعر القديم هاجسا ذاتيّا يعايشه الشاعر بقدر ما كان تعبيرا عن موقف من حدث أصاب فردا ما أو قد يصيبه في أيّ وقت. وقد اتّخذ الموت في الشّعر القديم أشكالا متعدّدة، فبعض الشّعراء قد خصّ قصائد كاملة للحديث عن قصّة الموت (شعر الرّثاء) وبعضهم قد جرى الحديث عنده عن الموت في أبيات معدودات في شكل حكم ومواعظ، وبعضهم قد قرن الموت بالدّهر... والكلّ قد عبّر في شعره عن قلق وحيرة من الوجود أفسدت في أحيان كثيرة متعة الحياة عنده، بل جعلت من الحياة الدّنيا ممرّا لحياة أخرى، والشّاعر مثله مثل كلّ المبدعين قد انشغل بالموت خشية منه أو تذكيرا به أو لوما له أو تمنّيا إيّاه أو نقمة عليه... وأصبغ عليه جماليّة شعريّة حوّلت الحدث -حدث الموت باعتباره فاجعة- إلى صورة تجمع بين الطّرافة والجدّة، فكلّ المعاني من شجاعة وفروسيّة وكرم وإقدام وحِلم وهجاء وفخر ومجد وعظمة... كلّها تتكسّر أمام جبروت الموت سواء أكان موتا حسّيّا أم موتا معنويّا.
وصورة الموت كانت في اتجاه مواز لصورة الحياة في كلّ الأشعار تقريبا. فحياة العاشق مرتهنة بنظرة من المعشوق ورهين الهجر والقطيعة، وحياة الزّاهد مقترنة بفكرة الموت عنده، فهو يرى أنّ الحياة الدنيويّة هي مطيّة لحياة أخرى أفضل وأبقى. وموت الفارس والمحارب والمجاهد هو تمجيد لبطولاته وفروساته في الحياة، فلا حديث عن الموت إلاّ في علاقة مباشرة مع الحياة. فالموت موتان، موت بالحياة وموت بعد الحياة، وإذا كان العاشق يتحدّث عن موته هو، فإنّ الراثي يتحدّث عن موت أحد أحبابه والزّاهد يتحدّث عن موت الإنسان، وبين موت الفرد وموت الجماعة تتشكّل شعريّة الخطاب لتنسج صورا إبداعيّة جديدة للموت تقترب من صورة الموت الفلسفي أو الموت الصوفي أو الموت الرّمزي بما يمثّله الكلّ من مفهوم للفناء في علاقته بالوجود، فالشجاع يموت والبخيل يموت وذو الأخلاق الرّفيعة يموت وذو الأخلاق الوضيعة يموت... وبين موت هذا وموت ذاك بون شاسع، ربما تتعدّد الأسباب والموت واحد ولكن حتى الموت/العدم فيه درجات ومراتب مثل درجات الحياة ومراتبها، فدرجة الأموات تختلف بحسب كينوناتهم في الوجود، وبقدر ما كانت منزلتهم في الحياة تكون منزلتهم بعد موتهم.
فالشّعر تأسيس لوجود وبحث في الكائن وكشف للإمكان، أسئلته هي ذاتها أسئلة الوجود، ولأنّه لا شعر دون أسئلة ولا أسئلة دون وعي فإنّ كلّ حالة شعريّة شعوريّة هي بالضرورة حالة من حالات وعي الذات بماهيّة وجودها، فالإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الواعي بحتميّة الموت والفناء، وفي وعيه بذلك وجع نفسيّ وألم فكريّ يقضّان مضجعه، والشعر والأدب والفلسفة والطبّ والتاريخ والأديان... هي كلّها بحوث في ثنائيّة الحياة والموت، تبحث في مواقف الإنسان من الحياة من الوجود من الكون من الإنسان ذاته، سلاحها في ذلك كلّه اللغة: لغة العلم ولغة الأدب ولغة الفلسفة... فصورة الموت في الشعر -على بشاعتها- تغدو صورة ذات أبعاد جماليّة، فلم نعد نتحدّث عن شعر الموت بقدر ما صرنا نتحدّث عن شعريّة الموت وعن جمالية الموت في الشعر. وبين الشعر والشعريّة تتشكّل الصور الذهنية لتبتعد عن الصور الحسيّة الضيّقة لتصل إلى ما هو أبعد وأعمق.
خاتمة:
تعدّدت صور الموت في الشعر العربي القديم سواء في الشعر الجاهلي أو في غير الشعر الجاهلي، ولئن كان الموت واحد على حسب قول ابن نباتة السعديّ فإنه قد اتخذ أشكالا مختلفة بحسب نوع الموت: حسّي/مجرّد، وبحسب سببه: قضاء وقدر/حرب/قتل/غدر/شجاعة... والموت قد ذُكر في مختلف أغراض الشّعر العربي القديم مدحا وفخرا وهجاء ورثاء وغزلا، ولعلّ صورة الموت المتكرّرة في الأشعار إنما تجسّد حضور صورة الفناء في الذاكرة حتى وإن اقترنت بصورة الحياة في كثير من المواضع، فالموت قد بقي هاجسا في حياة الإنسان فهو لا يستثني أحدا ولا يستأذن أحدا ولا يفرّق بين أحد وأحد. والشاعر قد عمد في كثير من المواضع إلى شخصنة الموت فهو يحاوره تارة ويناجيه تارة ويلومه ويعاتبه ثالثة ويسخط عليه رابعة... فيستقيم الموت في الذاكرة طرفا ثانيا يلقي إليه الشاعر بثقله للتخفيف من وطأته عليه. ولقد "حاول الإنسان في كلّ زمان ومكان أن يقهر الزّمان ويصرع الشرّ ويسحق الموت ولكنّه لم يلبث أن تحقّق من أنّ صراعه البائس ضدّ هذا الثالوث المارد الجبّار إن هو إلاّ جهد ضائع لا بدّ من أن يبوء بالفشل والخيبة والدّمار" .
قائمة المصادر والمراجع
قائمة المصادر:
بثينة (جميل) ، الديوان، دار صادر، بيروت لبنان.
ابن العبد (طرفة) ، الدّيوان، دار المعرفة بيروت/لبنان، 2003.
أبو العتاهية، الديوان، دار بيروت للطباعة والنشر، 1986.
ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، ج 8، دار الفكر لطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 1995.
ابن كلثوم (عمرو)، الديوان، تحقيقي إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1991.
المتنبي، الديوان، دار بيروت للطباعة والنشر، 1983.
ابن الملوّح (قيس) ، الديوان، تحقيق يسري عبد الغني، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، ط1، 1999.
أبو نواس، الديوان، دار صادر، بيروت، (د ت).
قائمة المراجع باللغة العربيّة:
إبراهيم (زكريّا) ، مشكلة الإنسان، القاهرة، مكتبة مصر، (د.ت).
الشملان (نورة)، أبو ذؤيب الهذلي حياته وشعره، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض، المملكة العربية السعودية.
دراسة اعدتها الاستاذة هالة مهدي/ جامعة صفاقس
إنّ موضوع "الصّورة" هو موضوع قديم متجدّد في آن، قديم من حيث أصوله ومنابعه، وهو متجدّد لأنّ الدّراسات بشأنه لا تزال متواصلة إلى اليوم، والصّورة التي نعنى بدراستها هي الصّورة الشّعريّة، والحديث عن الصّورة الشّعريّة هو في الحقيقة حديث عن ركيزة أساس من ركائز الشّعر، بل هو حديث عن لبّ الشّعر لأنّه موصول بالحديث عن قدرة الشّاعر على الخلق الفنّي. ومن هنا أمكننا الجزم بأنّ مبحث الصّورة الشّعريّة وثيق الارتباط بمبحث الشّعر ذاته وإنّ تحديد مفهوم – أو مفاهيم – الصّورة الشّعريّة هو قرين تحديد مفهوم – أو مفاهيم – الشّعر منذ انبثاقها مع اللّحظة اليونانيّة إلى أحدث النّظريّات الأدبيّة في عصرنا.
والنّظر في معاني الصّورة هو بحث في طرائق إنتاجها ومصادرها ووظائفها وعلاقتها بالخطاب الشّعري، وإذا كان هذا المبحث في ظاهره على صلة بالأدب فإنّه قبل كلّ ذلك مبحث فلسفيّ قديم متجدّد له أصول في الفلسفة اليونانيّة ومثيلتها العربيّة فضلا عن نظريّات النقد الأدبي وصولا إلى النّظريّات الفلسفيّة الحديثة والمعاصرة في الجماليّة واللّسانيّات.
صورة الموت في الشعر العربي القديم:
إن الحديث عن الموت هو قرين الحديث عن الحياة، وما تذكّر الموت سوى شكل من أشكال التشبّع بملذات الحياة. وذكر الموت في الأشعار لم يقترن بشعراء الزهد أو الرّثاء وحسب، فأغلب الشعراء قد ذكروا الموت في أشعارهم كل من زاوية مختلفة، يقول ابن نباتة السعدي:
1.
أرى المرء فيما يبتغيه كأنما مداولة الأيام فيه مبارد
ويضطرم الجمعان والنقع ثائر فيسلم مقدام ويهلك خامد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فصبراً على ريب الزمان فإنما لكم خلقت أهواله والشــــــــــــــــــــــــدائد
ويقول المتنبي:
2.
إذَا غَامَـرْتَ فِي شَرَفٍ مَّرُومِ فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم
ويقول:
3. وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
ويقول:
4 نَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَمَا مِن مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَـرَّقُوا
...
فَالْمَوْتُ آتٍ وَالنُّفوسُ نَفَائِــــــــــــــــــــــــــــسٌ والْمَسْتَعـِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ
والْمَـرْءُ يَأْمُلُ والْحَيَاةُ شَـــــــــــــــــــــــــــــــهِيَّةٌ وَالشَّيْــــــــبُ أَوْقَــــــــــــرُ والشَّبيـــــــــــــــــــــــــبةُ أنــــــــزَقُ
وإذا انتبهنا إلى الأمثلة السابقة فإنّنا نرى أنها قد جعلت من الموت محورا، إلاّ أنّ صورة الموت اختلفت من موضع إلى آخر، فالموت في المثال الأوّل يدلّ على القضاء والقدر. فالإنسان مآله الفناء بأي شكل من الأشكال، فلا مهرب من الموت فهو نهاية حتميّة، فبعضهم يموت عليلا وبعضهم يموت غريقا وبعضهم يموت قتيلا وبعضهم يموت وهو على فراش العافية، فأسباب الموت عدّة أمّا الموت فهو واحد.
أمّا صورة الموت في المثالين الثاني والثالث فهي تختلف عن صورته في المثال الأوّل، فإذا كان الموت واحد فإنّ أسبابه متعدّدة، وأشكاله مختلفة، فلا يستوي من مات في مسجد بمن مات في خمّارة، ولا يستوي من مات شريفا وهو يدافع عن شرف أو عرض أو أرض بمن مات ذليلا وهو يهمّ بالسرقة أو بالزنى أو بأيّ منكر، فالموت واحد لكن أشكاله عديدة.
أمّا صورة الموت في المثال الرابع فهي مختلفة عن صوره في الأمثلة السابقة، فالموت هنا قد اتّخذ شكلا آخر تمثّل في كونه نهاية كلّ كائن، وقد وردت الأبيات في شكل تذكير ونصح لذاك الإنسان العابث، ولذاك الذي يكنز الذهب والفضة دون أن يضع في حسبانه أنه هو وماله مآلُهما الزوال، بل نعت الشّاعرُ ذاك الذي يعتزّ بماله بالحمق لأنه لا يدري أنّ الموت حقيقة لا مهرب منها حتى وإن كان أشجع الشجعان وأشدّ الفرسان. وصورة الموت هذه هي الصورة الغالبة عند أغلب شعراء الزهد فهذا أبو العتاهية يقول مذكّرا الإنسان بمصيره الحتميّ:
يا أَيُّها الحَيُّ الَّذي هُوَ مَيِّتٌ أَفنَيتَ عُمرَكَ بِالتَعَلُّلِ وَالمُنى
أَمّا المَشيبُ فَقَد كَساكَ رِداؤُهُ وَاِبتَزَّ عَن كَفَّيكَ أَثوابَ الصِبا
خالِف هَواكَ إِذا دَعاكَ لِرَيبَةٍ فَلَرُبَّ خَيرٍ في مُخالَفَةِ الهَوى
عَلَمُ المَحَجَّةِ بَيِّنٌ لِمُريدِهِ وَأَرى القُلوبَ عَنِ المَحَجَّةِ في عَمى
وَلَقَد عَجِبتُ لِهالِكٍ وَنجاتُهُ مَوجودَةٌ وَلَقَد عَجِبتُ لِمَن نَجا
ويقول في موضع آخر:
لِمَن نَبني وَنَحنُ إِلى تُرابٍ نَصيرُ كَما خُلِقنا مِن تُرابِ
وَيا دُنيايَ ما لي لا أَراني أَسومُكِ مَنزِلاً إِلّا نَبا بي
وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو صُروفٍ وَإِنَّكَ يا زَمانُ لَذو اِنقِلابِ
وَمَوعِدُ كُلِّ ذي عَمَلٍ وَسَعيٍ بِما أَسدى غَداً دارُ الثَوابِ
سَأَسأَلُ عَن أُمورٍ كُنتُ فيها فَما عُذري هُناكَ وَما جَوابي
ويقول أيضا:
أَيُّها الباني قُصوراً طِوالاً أَينَ تَبغي هَل تُريدُ السَحابا
إِنَّما أَنتَ بِوادي المَنايا إِن رَماكَ المَوتُ فيهِ أَصابا
أَيُّها الباني لِهَدمِ اللَيالي ابنِ ما شِئتَ سَتَلقى خَرابا
أَأَمِنتَ المَوتَ وَالمَوتُ يَأبى بِكَ وَالأَيّامُ إِلّا انقِلابا
هَل تَرى الدُنيا بِعَينَي بَصيرٍ إِنَّما الدُنــــــــــيا تُــــــــــحاكي السَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرابا
لذلك لا بدّ من أخذ العبرة بألاّ شيء يبقى وأنّ الكلّ آيل إلى الزوال. ومن حِكم الموت التي تجسد انقضاء العمر قول الشاعر أرطأة بن سهية وهو شاعر أموي:
رأيت المرء تأكله الليالي كأكل الأرض ساقطة الحديد
وأعلم أنـها ستكر حتى توفي نـــــــــــــــــــــــذرها حتــــــــــــــــــــــــــــــى الوليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
ومن الأمثلة التي تنبّه الإنسان إلى حتميّة الفناء والموت قول عمرو بن كلثوم:
وإنّا سوف تُدْرِكُنا المنايا مقـدَّرة لنـا ومقدّرينَا
وقول طرفة بن العبد في داليّته مشيرا إلى ضرورة الوعي بأن الحياة أمر عارض و آيل إلى زوال:
أرى الموت أعـداد النفـوس ولا أرى بعيــداً غداً، أبعد اليـــوم من غد
أرى الموت يـعتام الكرام ويـصطـفى عقيـلـة مــال الفاحـش المتشـدد
أرى العيش كنــزا ناقصا كل ليلــة وما تنقص الأيــام والـدهـر ينفـذ
فمثل هذه الصورة عن الموت مقترنة بصورة الحياة الفانية التي يتكالب عليها الناس وهم غافلون عن النهاية الحتميّة لكل كائن، وهذه الصورة الشعريّة عن الموت غالبا ما تراود الإنسان بعد طول شغف بالحياة وتمتع بكلّ ملذاتها إلى درجة المجون، حين يدرك الإنسان بعد أن جرّب كلّ الملذات أنّ كلّ لذّة في الحياة عمرها قصير وأنّ النهاية الحتميّة والحقيقة الوحيدة الواضحة هي حقيقة الموت فلا أحد عمّر أو بقي دون أن تطاله يد الموت، ألم يقل أبو نواس شاعر الخمرة:
و ليس عنّا بنازحْ الموتُ منّا قريبٌ ،
تصيحُ منه الصَّوائحْ في كلِّ يومٍ نعِيٌّ ،
موَلْوِلاتُ النَّوائحْ تَشْجى القلوبَ، وتبكي
في غَفْلة ٍ ، وتُمازِحْ ؟ حتى متى أنت تلهو
في زندِ عيشِكَ قادِحْ و الموتُ في كلِّ يومٍ
من شدّة ِ الهوْلِ كالِحْ فاعمَلْ ليومٍ عبوسٍ ،
نعيمها عنك نازحْ و لا يغُرَّنْكَ دنيا ،
و حُبّها لك فاضِحْ ! و بُغْضُها لك زَيْنٌ ،
وقال في موضع آخر وهو يتذكّر النهاية (الموت) بعد طول شغف بالبداية (الحياة):
اِنقَضَت شِرَّتي فَعِفتُ المَلاهي إِذ رَمى الشَيبُ مَفرِقي بِالدَواهي
وَنَهَتني النُهى فَمِلتُ إِلى العَد لِ وَأَشفَقتُ مِن مَقالَةِ ناهِ
أَيُّها الغافِلُ المُقيمُ عَلى السَهَ وِ وَلا عُذرَ في المُقامِ لِساهِ
لا بِأَعمالِنا نُطيقُ خَلاصاً يَومَ تَبدو السَماءُ فَوقَ الجِباهِ
غَيرَ أَنّي عَلى الإِساءَةِ وَالتَف ريـــــــــــــــطِ راجٍ لِحُســـــــــــــــــــــنِ عَفوِ اللَـــــــــــــــــــــــــــهِ
وقال وهو على فراش الموت:
يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا وجميل عفـــــــــــــــــــــــــوك.. ثم إنّي مســــــــــــــــــــلم
فالخوف من المجهول والخوف ممّا وراء الحياة يجعلان الإنسان في موضع تذلل قبل الموت، بل يُخيّل للمرء أنّ بداية الحياة الثانية ستكون مع الموت بحسب ما كانت الحياة الأولى فيهرع للتوبة قبل أن يطاله الموت ويفوت الأوان. ومثل هذه الصورة عن الموت نجد صدى لها في أغلب الديانات فهم يؤمنون بأن هناك حياة أخرى بعد الموت تعتمد على إيمان البشر أو أفعالهم فينالون العقاب في النار أو الثواب في الجنّة، فهذه الديانات جميعها جاءت لترسخ مبدأ الثواب والعقاب، الثواب لمن أطاع أوامر الله وانتهى عمّا نهى الله عنه، والعقاب لمن خالف ذلك وأصرّ على المعصية.
لكنّ الموت في الشعر قد يتّخذ أشكالا أخرى من قبيل موت العاشق لفقد معشوقه من ذلك قول قيس بن الملوّح يتمنى الموت لبعد حبيبته ليلى عنه:
أحبـك يا ليلى مـحبة عاشـق عليه جـميع المصعبات تـهون
أحبـك حبا لو تـحبين مثلـه أصـابك من وجد علي جنـون
ألا فارحـمي صبا كئيبا معذبـا حريق الحشا مضنى الفـؤاد حزين
قتيـل من الأشـواق أما نـهاره فبـاك وأمـا ليلـه فـأنيــــــــــــــــــــــــــــــن
له عبرة تـهمي ونيـران قلبـه وأجفانـه تذري الدموع عيـون
فيا ليت أن المـوت يأتي معجـلا على أنّ عشـق الغانيات فتـون
فالعاشق يتمنى الموت ويرى فيه دواء من بلاء شديد أصابه، فيصبح الموت راحة من الحياة المرهقة. ولا تختلف صورة الموت عند ابن الملوّح عن صورة الموت عند جميل بثينة إذ يقول:
أتاركتي للموت أنت فميّت وعندكِ لي، لو تعلمين، شفاؤها
لقد أورَثَتْ قلبـي وكان مصحـحـا بثينـةُ صدغا يـوم طار رداؤهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
والموت عند جميل أيضا وسيلة لتعويض الفراغ تجلّى في قوله:
يا ليتني ألـقـى الـمنيــة بغتـة إن كــان يــوم لقـائكـم لم يقــدر
فالحبيبة داء ودواء، داء متى رحلت ودواء متى رضيت، موت متى جفت وحياة متى دنت، فصورة الموت عند العاشق مرتبطة بالمسافة الفاصلة بينه وبين معشوقه.
أمّا صورة الموت في شعر الرثاء فلها صيغ أخرى، فالموت في الرثاء غير الموت في الفخر وغير الموت في الغزل، فالموت في الرثاء متّهَم بأخذ الأحبّة وتغييب أجسادهم، لكنه مع ذلك هو عاجز عن أخذ أرواحهم وأطيافهم من حولهم، من ذلك قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي بكى فيها أبناءه الخمسة الذين اختطفهم الموت من بين يديه. يقول فيها:
أودى بَنيَّ وأعقبوني حسرةً بعد الرُّقاد وعبرة ما تُقْلعُ
سبقوا هَوِىَّ وأعنقوا لهواهم فتُخُرِّمُوا، ولكل جنب مصرَعُ
فبقيت بعدهُمُ بعيش ناصبٍ وإِخال أني لاحقٌ مستتبَعُ
ولقد حرصْتُ بأن أدافع عنهمُ وإِذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ
وإِذا المنية أنشبتْ أظفارها ألفيْت كلَّ تميمة لا تنفع
فالعين بعدهم كأن حِدَاقَها سُمِلت بشوك فهي عُورٌ تدمع
حتى كأني للحوادث مروة بِصَفَا المشرَّق كل يوم تُقرع
ولئن بهم فَجَعَ الزمان ورَيْبُهُ إِني بأهل مودتي لمفجَّعُ
وهذه صيحات ألم وحسرات صادرة عن سويداء فؤاد ملتاعٍ بفقد أطفاله جميعًا وإِطباق الأسى والظلام على أقطار نفسه. فالشاعر كان له خمسة من الأبناء عرفوا بالنجدة والشجاعة والكفاية وكانوا نور عين والدهم فاستأذنوه للجهاد مع المسلمين حين اتجهوا لفتح مصر فأذن لهم فذهبوا وفتحوا مصر مع جيوش المسلمين ولكنهم في أثناء ذلك أصابهم الطاعون فقضوا جميعهم مرة واحدة، فصورة الموت قد اتخذت شكل الظالم المتوحّش الذي حرم أبا من أطفاله الخمسة.
لم يكن الموت في الشعر القديم هاجسا ذاتيّا يعايشه الشاعر بقدر ما كان تعبيرا عن موقف من حدث أصاب فردا ما أو قد يصيبه في أيّ وقت. وقد اتّخذ الموت في الشّعر القديم أشكالا متعدّدة، فبعض الشّعراء قد خصّ قصائد كاملة للحديث عن قصّة الموت (شعر الرّثاء) وبعضهم قد جرى الحديث عنده عن الموت في أبيات معدودات في شكل حكم ومواعظ، وبعضهم قد قرن الموت بالدّهر... والكلّ قد عبّر في شعره عن قلق وحيرة من الوجود أفسدت في أحيان كثيرة متعة الحياة عنده، بل جعلت من الحياة الدّنيا ممرّا لحياة أخرى، والشّاعر مثله مثل كلّ المبدعين قد انشغل بالموت خشية منه أو تذكيرا به أو لوما له أو تمنّيا إيّاه أو نقمة عليه... وأصبغ عليه جماليّة شعريّة حوّلت الحدث -حدث الموت باعتباره فاجعة- إلى صورة تجمع بين الطّرافة والجدّة، فكلّ المعاني من شجاعة وفروسيّة وكرم وإقدام وحِلم وهجاء وفخر ومجد وعظمة... كلّها تتكسّر أمام جبروت الموت سواء أكان موتا حسّيّا أم موتا معنويّا.
وصورة الموت كانت في اتجاه مواز لصورة الحياة في كلّ الأشعار تقريبا. فحياة العاشق مرتهنة بنظرة من المعشوق ورهين الهجر والقطيعة، وحياة الزّاهد مقترنة بفكرة الموت عنده، فهو يرى أنّ الحياة الدنيويّة هي مطيّة لحياة أخرى أفضل وأبقى. وموت الفارس والمحارب والمجاهد هو تمجيد لبطولاته وفروساته في الحياة، فلا حديث عن الموت إلاّ في علاقة مباشرة مع الحياة. فالموت موتان، موت بالحياة وموت بعد الحياة، وإذا كان العاشق يتحدّث عن موته هو، فإنّ الراثي يتحدّث عن موت أحد أحبابه والزّاهد يتحدّث عن موت الإنسان، وبين موت الفرد وموت الجماعة تتشكّل شعريّة الخطاب لتنسج صورا إبداعيّة جديدة للموت تقترب من صورة الموت الفلسفي أو الموت الصوفي أو الموت الرّمزي بما يمثّله الكلّ من مفهوم للفناء في علاقته بالوجود، فالشجاع يموت والبخيل يموت وذو الأخلاق الرّفيعة يموت وذو الأخلاق الوضيعة يموت... وبين موت هذا وموت ذاك بون شاسع، ربما تتعدّد الأسباب والموت واحد ولكن حتى الموت/العدم فيه درجات ومراتب مثل درجات الحياة ومراتبها، فدرجة الأموات تختلف بحسب كينوناتهم في الوجود، وبقدر ما كانت منزلتهم في الحياة تكون منزلتهم بعد موتهم.
فالشّعر تأسيس لوجود وبحث في الكائن وكشف للإمكان، أسئلته هي ذاتها أسئلة الوجود، ولأنّه لا شعر دون أسئلة ولا أسئلة دون وعي فإنّ كلّ حالة شعريّة شعوريّة هي بالضرورة حالة من حالات وعي الذات بماهيّة وجودها، فالإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الواعي بحتميّة الموت والفناء، وفي وعيه بذلك وجع نفسيّ وألم فكريّ يقضّان مضجعه، والشعر والأدب والفلسفة والطبّ والتاريخ والأديان... هي كلّها بحوث في ثنائيّة الحياة والموت، تبحث في مواقف الإنسان من الحياة من الوجود من الكون من الإنسان ذاته، سلاحها في ذلك كلّه اللغة: لغة العلم ولغة الأدب ولغة الفلسفة... فصورة الموت في الشعر -على بشاعتها- تغدو صورة ذات أبعاد جماليّة، فلم نعد نتحدّث عن شعر الموت بقدر ما صرنا نتحدّث عن شعريّة الموت وعن جمالية الموت في الشعر. وبين الشعر والشعريّة تتشكّل الصور الذهنية لتبتعد عن الصور الحسيّة الضيّقة لتصل إلى ما هو أبعد وأعمق.
خاتمة:
تعدّدت صور الموت في الشعر العربي القديم سواء في الشعر الجاهلي أو في غير الشعر الجاهلي، ولئن كان الموت واحد على حسب قول ابن نباتة السعديّ فإنه قد اتخذ أشكالا مختلفة بحسب نوع الموت: حسّي/مجرّد، وبحسب سببه: قضاء وقدر/حرب/قتل/غدر/شجاعة... والموت قد ذُكر في مختلف أغراض الشّعر العربي القديم مدحا وفخرا وهجاء ورثاء وغزلا، ولعلّ صورة الموت المتكرّرة في الأشعار إنما تجسّد حضور صورة الفناء في الذاكرة حتى وإن اقترنت بصورة الحياة في كثير من المواضع، فالموت قد بقي هاجسا في حياة الإنسان فهو لا يستثني أحدا ولا يستأذن أحدا ولا يفرّق بين أحد وأحد. والشاعر قد عمد في كثير من المواضع إلى شخصنة الموت فهو يحاوره تارة ويناجيه تارة ويلومه ويعاتبه ثالثة ويسخط عليه رابعة... فيستقيم الموت في الذاكرة طرفا ثانيا يلقي إليه الشاعر بثقله للتخفيف من وطأته عليه. ولقد "حاول الإنسان في كلّ زمان ومكان أن يقهر الزّمان ويصرع الشرّ ويسحق الموت ولكنّه لم يلبث أن تحقّق من أنّ صراعه البائس ضدّ هذا الثالوث المارد الجبّار إن هو إلاّ جهد ضائع لا بدّ من أن يبوء بالفشل والخيبة والدّمار" .
قائمة المصادر والمراجع
قائمة المصادر:
بثينة (جميل) ، الديوان، دار صادر، بيروت لبنان.
ابن العبد (طرفة) ، الدّيوان، دار المعرفة بيروت/لبنان، 2003.
أبو العتاهية، الديوان، دار بيروت للطباعة والنشر، 1986.
ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، ج 8، دار الفكر لطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 1995.
ابن كلثوم (عمرو)، الديوان، تحقيقي إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1991.
المتنبي، الديوان، دار بيروت للطباعة والنشر، 1983.
ابن الملوّح (قيس) ، الديوان، تحقيق يسري عبد الغني، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، ط1، 1999.
أبو نواس، الديوان، دار صادر، بيروت، (د ت).
قائمة المراجع باللغة العربيّة:
إبراهيم (زكريّا) ، مشكلة الإنسان، القاهرة، مكتبة مصر، (د.ت).
الشملان (نورة)، أبو ذؤيب الهذلي حياته وشعره، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض، المملكة العربية السعودية.
دراسة اعدتها الاستاذة هالة مهدي/ جامعة صفاقس