فى الفصل الذى عقده د. محمد غنيمى هلال فى كتابه: "الأدب المقارن" للكلام فى تاريخ نشأة الأدب المقارن، وهو الفصل الأول من الباب الأول من ذلك الكتاب، نراه يحصر نفسه فى الآداب الأوربية ولا يطرق البتة باب الأدب العربى للبحث عما قد يكون فيه من بذور لذلك النوع من البحث، وهو ما يَشِى، إن لم يكن يؤكد أنه لا يرى أية إمكانية لوجود مثل تلك البذور. أما د. الطاهر أحمد مكى فى الفصل الأول من كتابه: "الأدب المقارن- أصوله وتطوراته ومناهجه" فهو، وإن تطرق للحديث عن الأدب العربى القديم، قد قَصَر كلامه عما كان يسمَّى فى تراثنا النقدى بــ"الموازنات" و"النقائض" و"المعارضات" و"السرقات" و"التقليد" وما دار حولها من بحوث ودراسات، فلم يحاول هو أيضا استكشاف تراثنا النقدى والبلاغى ليرى أمن الممكن العثور هناك على أى شىء يمت بصلة لهذا الحقل الجديد من الدراسة الأدبية.
ومن بين ما تحدث به الأستاذ الدكتور عن السرقات كلامه عما اتُّهِم به كل من المازنى ومحمد مندور بالأخذ عن الكتاب الأوربيين، واضعا تحت عين القارئ قصيدة الشاعر الإنجليزى توماس هود (ت 1845م) التى قيل إن المازنى قد سطا عليها فى قصيدته: "فَتًى فى سباق الموت"، ومؤكدا أن مندور قد سرق كل كتابه: "نماذج بشرية" (ما عدا فصلا واحدا هو الفصل الخاص بشخصية "إبراهيم الكاتب" فى رواية المازنى المعنونة بنفس العنوان) من كتاب جان كالفيه عن النماذج العالمية فى الأدبين الفرنسى والأوربى، وهو ما أثبتُّ صحة جانب كبير منه بالوثائق التى لا تكذب ولا تتجمل فى كتابى "د. محمد مندور بين أوهام الادعاءات العريضة وحقائق الواقع الصلبة". وعودةً إلى ما كنا بصدده أقول إننى لا أدرى لم سكت الأستاذان الفاضلان فى كتابيهما هذين فلم يحاولا أن ينبشا فى تراثنا النقدى عَلّهما يجدان شيئا يمكن القول بأنه يمثل بذورا أو أجنّة لذلك الحقل الجديد المسمى بــ"الأدب المقارن"، وقد كانا جديرين بأن يقوما بهذه المهمة خير قيام لو أنهما لم يجريا فى إثر الكتاب الأوربيين الذين كتبوا فى موضوع "الأدب المقارن"، إذ المسألة أبسط من ذلك كثيرا لو كانا عقدا النية ولم يضعا أعينهما على خطوات الدارسين الغربيين الذين لا يشغلهم أدبنا فى شىء ويصيخا بكل سمعهما وانتباههما إلى وقع تلك الخطوات وكأنها المثال الأعلى، وإن كان من الممكن فى نظر البعض التماس العذر لهما، فنحن قد دخلنا ميدان هذا العلم على أيدى الغربيين، ومن ثم كان الرواد منا فى هذا المجال يحسون بوطأة هذه اليد ولا يفكرون أن يقاوموها، فكانوا يرددون ما يقوله الغربيون ولا يريدون أن يخرجوا عنه، على أساس أنهم أصحاب الفضل، وأنه ليس من المعقول إنكار فضلهم، إذ نحن لا نزيد على أن نكون مجرد تلامذة تابعين، ولا يليق أن يخرج التلميذ عن طوع أستاذه، رغم أن مثل هذه المحاولة التى كنا ننتظرها منهم لا تدخل فى باب التمرد ولا جحد اليد، بل بالأحرى فى باب التكامل والتعاون والاستدراك المُغْنِى لا الإنكار المجحف.
وإذا كنا نتفهم موقف الدكتور محمد غنيمى هلال لأنه جاء مبكرا فكان عليه أن يركز على نقل كل ما عند الغربيين حتى نكون على بينة منه، فإن الأمر يختلف مع الدكتور مكى، الذى أتى بعد أن استتبت الأمور كثيرا وخَفَّتْ تلك اللهفة التى تصيب من يريد متابعة شىء جديد، وأصبح هناك مقدار كبير من الدراسات والبحوث، وعُقِد كثير من الندوات والمؤتمرات، وتخرجت أجيال بعد أجيال من الطلاب الذين درسوا الأدب المقارن، وتغلغلت جذور ذلك التخصص فى تربتنا الثقافية ولم يعد ثمة إمكانية للتراجع. لقد كتب الدكتور هلال كتابه فى أوائل الخمسينات من القرن الفائت، على حين كتب الدكتور مكى كتابه فى النصف الثانى من ثمانينات ذلك القرن، أى أن هناك فاصلا بين الكتابين يقدَّر بعشرات السنين، وهى مدة ليست بالهينة. أقول هذا رغم شمول التغطية فى كتاب الأستاذ الدكتور وتوسُّعه فى عدد من القضايا وجاذبية عرضه وحلاوة أسلوبه ودفء قلمه، وإن لم تُعْمِنا تلك الفضائل عن عدم مبالاته بذكر مراجعه أوّلاً بأوّل فى أسفل كل صفحة إلا على سبيل الاستثناء رغم اتكائه كثيرا على الكتب المشهورة فى ذلك الميدان كما هو بين من قائمة الكتب الطويلة التى أثبتها فى آخر الكتاب، وكذلك عن بعض الهَنَات النحوية. والسؤال الآن هو: هل فى كتاباتنا النقدية القديمة ما يمكن أن يمثل بذورا لذلك اللون من الدراسة الأدبية؟ لقد خصص الدكتور مكى بعد ذلك فى كتابه: "فى الأدب المقارن- دراسات نظرية وتطبيقية" (دار المعارف/ 1408هـ- 1988م) فصلا ممتعا (هو فى الأصل مقال كان قد نشره قبلا فى إحدى المجلات) عنوانه: "الجاحظ والأدب المقارن" (7- 29) أورد فيه بعض النصوص الجاحظية التى تدور حول المقارنة بين بعض جوانب الأدب العربى وما يقابلها فى أدب هذه الأمة أو تلك، وهى نصوص مهمة ولا شك، ويُحْمَد للأستاذ الدكتور صنيعه هذا كثيرا، لكنى كنت أحب أن يضم كتابه الضخم الشامل: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه" فصلا كبيرا فى هذا الموضوع يجول فيه جولة أوسع فى التراث العربى يبحث عن نصوص أخرى مشابهة بأقلام كتاب آخرين، لكنه للأسف لم يفعل، وهو ما دفعنى هنا إلى محاولة القيام بالأمر بنفسى لأرى أكان الجاحظ بِدْعًا فى ذلك كما يُفْهَم من كلام الدكتور (ص 11) أم إن المسألة أوسع من هذا.
لقد طفتُ بخاطرى طوفة سريعة فى تراثنا النقدى والبلاغى فاستطعت أن أتذكر كثيرا من النقاط الآتية، إلى جانب ما عثرت به من نصوص فى غاية الأهمية أثناء كتابتى للفصل الحالى، مما يُعَدّ مع ذلك قطعا متناثرة لا سلسلة متصلة من المؤلفين وكتاباتهم: فمثلا نقرأ النص التالى فى "البيان والتبيين" عند الجاحظ، وهو عن كيفية تأثير اللسان الأم على نطق اللغة الجديدة التى يكتسبها الإنسان فى كبره حتى لو كان ماهرا بها مهارة نظرية، بل حتى لو كان نحويا بارعا أو شاعرا متقدما فيها، إذ إتقان القواعد شىء، والقدرة على تطبيقها فى الكلام الملفوظ، وبخاصة فى مجال الصوتيات، شىء آخر. يقول الجاحظ العجيب عن زياد الأعجم، وكان شاعرا قويا من شعراء العصر الأموى: "كان زيادٌ النَّبَطيّ أخو حسَّان النبطيّ، شديدَ اللُّكْنة، وكان نحويّا، قال: وكان بخيلا، ودعا غلامَه ثلاثا فلما أجابه قال: فَمِنْ لَدُنْ دأَوْتُك إلى أنْ قلتَ: "لَبَّيْكَ" ما كنت تَصْنأ؟ يريد: مِن لدُن دعَوتُك إلى أنْ أجبتني ما كنت تصنع؟ قال: وكانت أمُّ نوحٍ وبلالٍ ابنَيْ جرير أعجميّة، فقالا لها: لا تَكَلَّمِي إذا كان عندنا رجال، فقالت يوما: يا نُوح، جُرْدانٌ دخَل في عِجَان أمّك؟ وكان الجُرَذ أكل من عجينها. قال أبو الحسن: أُهدِيَ إلى فيلٍ مولى زياد حمارُ وحش، فقال لزياد: أَهْدَوْا لنا هِمارَ وهْش، قال: أيَّ شيء تقول، ويلك؟ قال: أهدوا إلينا أَيْرًا (يريد: عَيْرًا). قال زياد: الثّاني شرٌّ من الأوَّل. وقال يحيى بن نوفل:
إن يكُ زيدٌ فصيحَ اللسانِ = خطيبا فإنَّ استهُ تَلحنُ"
صحيح أن المقارنة هنا فى اللغة، لكن اللغة (كما هو معروف) هى الواسطة التعبيرية التى ينتقل بها الأدب من المبدع إلى متلقيه. وعلى كل حال فالنص دليل ساطع على أن الذهن العربى كان متنبها وبقوة إلى مبدإ المقارنة فى مجال اللغة والأدب والفكر.
ومن الشواهد التى استطاع الكتّاب العرب القدماء رصد تسربها إلى الشعر أحيانا ما جاء فى "العِقْد الفريد" من قول ابن عبد ربه: "وكان صُهَيْب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صُهيب سابق الروم. وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبَل زوج أُمه شِيرَوَيْه الأسواريّ. وكان زياد الأعجم، وهو رجل من بني عبد القيس، يَرْتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه:
فتى زاده السُّلتان في الحمد رغبةً * إذا غيَّر السُّلْتانُ كلَّ خَليل
يريد السلطان. وذلك أن بين التاء والطاء نسبا، لأن التاء من مخرج الطاء".
وقد ورد ما قاله ابن عبد ربه هنا عن زياد الأعجم عند المبرد أيضا فى كتابه: "الكامل فى اللغة والأدب"، وإنْ صحبته شواهد أخرى غير التى أوردها صاحب "العِقْد"، مع بعض التوضيح لما سجله من انحراف لغوى عن المستوى المعيارى المعروف فى لغة الضاد. قال: "وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الأسواري. ويقال: إن عليا عليه السلام عاد زيادا في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوما لرجل كلّمه فظنّ به رأْي الخوارج: أَهَرُورِيٌّ منذ اليومِ؟ يريد: "أَحَرُورِيٌّ". وهذه "الهاء" تشترك في قَلْبها من "الحاء" أصنافٌ من العجم. وكان زيادٌ الأعجم، وهو رجلٌ من عبد القيس، يرتضخ لكنةً أعجمية يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم. وأنشد المهلَّبَ بن أبي صفرة في مدحه إياه:
فتى زاده السُّلْتانُ في المدح رغبةً * إذا غير السُّلْتانُ كلَّ خليلِ"
وفى ترجمة أمية بن أبى الصلت من كتاب: "طبقات الشعراء" لابن سلام يقابلنا النص التالى: "وكان أمية بن أبى الصلت كثير العجائب، يذكر فى شعره خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شام أهل الكتاب". فابن سلام يتنبه إلى ما يسمى فى الأدب المقارن بقضية التأثير والتأثر بين ثقافات الأمم المختلفة، إذ يرى ناقدنا أن أمية بن أبى الصلت قد خرج على اهتمامات الشعراء الجاهليين فأخذ يتكلم عن خلق السماء والأرض وعن الملائكة وما إلى هذا، ولم يبال بالوقوف على الأطلال ووصف البادية وحيوانها، وأن السبب فى ذلك هو مخالطته لأهل الكتاب، بخلاف شعراء الجاهلية الذين كانوا وثنيين ولا يهتمون بالتعرف إلى ثقافة غيرهم، ولهذا جاء شعرهم جميعا ماء واحدا بخلاف شعر أمية على ما وصفه ابن سلام. وقد مضى كل من ابن قتيبة فى "الشعر والشعراء" والأصفهانى فى "أغانيه" خطوة أبعد فى الكلام عن تلك السمات المميزة لشعر ابن أبى الصلت. جاء فى "الأغانى" أن أمية " كان يستعمل في شعره كلمات غريبة. أخبرني إبراهيم بن أيّوب قال: حدّثنا عبد الله بن مسلم قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عز وجل الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب، فمنها قوله: "قمرٌ وساهورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ". وسمّاه في موضع آخر: "التغرور"، فقال: "وأيّده التغرور". وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة". وقد شرح ابن قتيبة فى كتابه" "الشعر والشعراء" بعض هذه الألفاظ قائلا: "وقد كان قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله جل وعز... وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرةٍ لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب... ومنها قوله: قَمَرٌ وساهُورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ. والساهور، فيما يذكر أهل الكتاب، غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف. وقوله في الشمس:
لَيْسَتْ بطالِعَةٍ لَهُمْ في رِسْلِها * إِلاَّ مُعَذَّبَةً وإِلاَّ تُجْلَدُ
يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع وقالت: لا أَطْلُع على قومٍ يعبدونني من دون الله، حتى تُدْفَع وتُجْلَد فتَطْلُع! ويُسَمِّى السماء في شعره: "صاقورة وحاقورة وبرقع". ويقول في الله عز وجل: "هو السَّلْطيطُ فَوْقَ الأَرْضِ مُقْتَدرُ".. وهذه أشياء منكَرةٌ، وعلماؤنا لا يرون شعره حجةً في اللغة".
وثمة شعراء آخرون غير أمية استطاع النقاد العرب التقاط ما كانوا يستخدمونه من ألفاظ أعجمية فى غير الشعر الدينى نَصُّوا عليها، كما هو الحال فيما كتبه ابن قتيبة فى "الشعر والشعراء"، إذ قال مثلا عن أوس بن حجر الشاعر الجاهلى: "قالوا: وجمع ثلاثة ألفاظٍ أعجميةٍ في بيت واحد، فقال:
وقارَفَتْ، وهي لم تَجْرَبْ، وباعَ لها * منَ الفَصافِصِ بالنُّمِّىِّ سِفْسِيرُ
الفصافص: الرطبة، وهي بالفارسية إسبست، والنمى: الفلوس بالرومية، والسفسير: السمسار". وفى "معجم الأدباء" لياقوت الحموى نطالع نصًّا آخر فى ذات الموضوع، إذ جاء فى أثناء كلامه عن الشاعر القاضى أبى مرشد سليمان بن علي الذى كان يعاصر تسلط الصليبيين على معرة النعمان حيث كان يشتغل قبلها قاضيا فيها: "ومن شعره...:
ولما سألتُ القلب صبرا عن الهوى * وطالبتُه بالصدق وهو يروغُ
تيقنت منه أنه غير صابر * وأنّ سُلُوًّا عنه ليس يسوغُ
فإن قال: لا أسلوه، قلت: صَدَقْتَني * وإن قال: أسلو عنه، قلت: دروغُ
هذه كلمة أعجمية معناها: كذب".
وفى نفس الموضوع كذلك نقرأ ما سطرته يد التنوخى صاحب "نشوار المحاضرة" أثناء حكايته القصة الطريفة التالية لَدُنْ كلامه عن الشاعرة عائدة الجُهَنِيّة: "أنشدتني عائدة بنت محمد الجهنية لنفسها، وهذه امرأة فاضلة كاتبة كانت زوجة عم الوزير ابن شيرزاد، وخليفته على كتابة بجكم وسبكتكين في الديوان الذي كان لأبي جعفر، وجاءه ابن زُرَيْق فحُجِب، ثم دخل بحيلةٍ على ما أخبرنا. قال: فأنشدته هذه الأبيات، فلما وَلِيَ الوزارة نفعه واستخدمه. فلما قبض على الحسن بن علي المنجم، وحبس ابنته في دار أبي رضي الله عنه وَكَّلَ هذه المرأة بها، وهي إذ ذاك عجوز، فكانت تناشدنا الأشعار، وتنشدنا لنفسها كل شيء جيد. فأخبرتني أنها قالت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي لما وَلِيَ الوزارة، وتعيبه بقصر قامته وهزاله:
شاورني الكرخي لما دنـا الـنيرو * ز والسـنّ له ضاحكة
فقال: ما نُهْدِي لسلطاننا * من خيرِ ما الكفّ له مالكة؟
قلت له: كل الهدايا سوى * مشورتي ضائعة هالكة
أَهْدِ له نفسك حتى إذا * أشعل نارا كنتَ دوباركه
أنشدتْني ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة. الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للُعَبٍ على قدر الصبيان يخلونها أهل بغداد في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها، ويخرجونها في زيٍّ حَسَنٍ من فاخر الثياب والحليّ، ويحلّونها كما يُفْعَل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطُّبُول والزُّمُور، وتشعل النيران. فهَجَتْه هذه المرأة بما تحقق عندي أنها صادقة فيه لأنه يليق بكلام النساء. وقد كانت تنشدني لنفسها أفحل من هذا الكلام، وكتبتُ ذلك عنها، وهو ثابت في مواضع من كتبي، وما تعلق بحفظي لها غير هذه الأبيات". فهذه ملاحظة سديدة تحتل موضعها فى "الأدب المقارن" بكل استحقاق واقتدار، إذ تتعلق بتسرب الألفاظ الأجنبية فى نصوص الأدب القومى، وهو ما يتيح فرصة للدارس المقارن كى يتتبع المسار الذى اتخذته هذه الألفاظ إلى أن دخلت تلك النصوص، ويتعرف إلى العوامل التى كانت وراء ذلك، ويبين مدى تقبل الناس هذا الأمر أو إنكارهم إياه والدوافع التى كانت تسوقهم نحو هذا الموقف أو ذاك... إلى آخر ما يمكن أن يثيره مثل هذا الموضوع.
وفى "البيان والتبيين" يوضح الجاحظ السبب فى ذلك، إذ يرى أن اختلاط العرب بالأمم الأجنبية قد يترتب عليه أن يترك العربى الكلمة العربية الأصيلة ويلجأ، فى الاستعمال اليومى على الأقل، إلى اللفظة الأعجمية. قال: "ألا ترى أنّ أهلَ المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفُرْس في قديم الدّهر عَلِقُوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمُّون "البِطِّيخ": الخِرْبِز، ويسمُّون "السميط": الرَّزْدَق، ويسمُّون "المَصُوص": المَزُور، ويسمون "الشِّطرنج": الأشْترَنْج، في غير ذلك من الأسماء. وكذلك أهلُ الكوفة، فإنّهم يسمُّون "المِسْحَاة": بال، و"بَالْ" بالفارسيّة. ولو عَلِق ذلك لغةَ أهل البصرة إذْ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبَهَ، إذ كان أهلُ الكوفة قد نزلُوا بأدنى بلاد النَّبَط وأقصى بلاد العرب. ويسمي أهلُ الكوفة "الحَوْك": الباذَرُوج، و"الباذروج" بالفارسية، و"الحَوْك" كلمة عربيّة. وأهلُ البصرة إذ التقت أربعُ طرق يسمُّونَها: مُربَّعة، ويُسمّيها أهلُ الكوفة: الجهار سوك، و"الجهار سُوك" بالفارسيّة. ويسمّون "السُّوق والسُّوَيْقة": وازار، و"الوازار" بالفارسيّة، ويسمُّون "القِثَّاء": خِيَارًا، و"الخيار" بالفارسيّة، ويسمُّون "المجدوم": وَيذِي، بالفارسية، وقد يستخفُّ النَّاسُ ألفاظًا ويستعملونها، وغيرُها أحقُّ بذلك منها". ويقابلنا عند الجاحظ أيضا فى "البيان والتبيين" نص على درجة كبيرة من الأهمية يصف فيه ناقدنا وأديبنا القدير تعريفات البلاغة لدى الأمم المختلفة: "خبَّرني أبو الزُّبير كاتبُ محمَّدِ بن حَسَّان، وحدّثني محمد بن أبان، ولا أدري كاتِبَ مَن كان، قالا: قيل للفارسيّ: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفَصْل من الوصل، وقيل لليونانيّ: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكَلام، وقيل للروميّ: ما البلاغة؟ قال: حُسْن الاقتضاب عند البداهة، والغَزارة يَوْمَ الإطالة، وقيل للهنديّ: ما البلاغة؟ قال: وضُوح الدّلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة، وقال بعضُ أهل الهند: جِمَاع البلاغة البَصَر بالحُجّة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: ومن البصر بالحُجّة والمعرفِة بمواضع الفُرصة أن تدَعَ الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإفصاحُ أوعَرَ طريقةً، وربما كان الإضرابُ عنها صَفْحًا أبلَغَ في الدَّرَك وأحقَّ بالظَّفَر". ويلاحَظ أن كل تعريف من تلك التعاريف إنما ينظر إلى الأمر من زاوية خاصة بحيث نراها فى النهاية تتكامل ولا تتناقض، وهو ما يدل على أن البلاغة أكبر من أن تنحصر فى ذوق أمة واحدة من الأمم، بل كلٌّ يركز عليها من جانب واحد من جوانبها ليس إلا، وهو ما عبر العرب عنه بقولهم: "لكل مقام مقال". أى أن على السياق فى الكلام (وفى غير الكلام أيضا، وهو ما يعرف الآن بــ"نظرية السياق") مُعَوَّلا كبيرا. بيد أننا كنا نؤثر لو استطاع الجاحظ أن يورد لنا صاحب كل قول من هذه الأقوال وموقعه من ثقافة أمته وأدبها، لكنه للأسف لم يفعل! المهم أن النص الذى أمامنا الآن هو من نصوص الدراسة المقارنة المبكرة والهامة فى تراثنا النقدى.
وفى موضع آخر من "البيان والتبيين" أيضا يسوق الجاحظ هذا النص الذى يتناول تأئر البلاغة العربية بما نُقِل من بلاغة الهند بشىء من التفصيل أكبر، إذ يورد نص صحيفة هندية تتعرض لتعريف البلاغة فى مجال الخطابة: "قال معمَّر أبو الأشعث: قلتُ لبَهلْة الهنديّ أيَّامَ اجتلَب يحيى بنُ خالدٍ أطبّاءَ الهند مثل مَنكْة وبازَيْكر وقِلبِرَقْل وسِنْدباذ وفُلان وفُلان: ما البلاغةُ عندَ الهند؟ قال بَهْلة: عندنا في ذلك صحيفةٌ مكتوبة، ولكنْ لا أُحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثِقَ من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيصِ لطائِفِ معانيها، قال أبو الأشعث: فلقيتُ بتلك الصحيفة التَّراجمةَ فإذا فيها: أوّل البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيبُ رابطَ الجأْش، ساكن الجوارح، قليلَ اللّحْظ، متخيَّر اللَّفْظ، لا يكلِّم سَيِّدَ الأمَة بكلام الأمَة ولا الملوكَ بكلام السُّوقة، ويكونَ في قُواه فضْلُ التصرُّف في كلِّ طبقة، ولا يدقِّق المعاني كلَّ التدقيق، ولا يُنقّحَ الألفاظ كل التنقيح، ولا يُصَفّيَها كلَّ التّصفية، ولا يهذّبَها غاية التهذيب، ولا يفعلَ ذلك حتى يصادِفَ حكيما أو فيلسوفا عليما، ومَن قد تعوَّد حذف فُضول الكلام، وإسقاطَ مشتركاتِ الألفاظ، وقد نَظَر في صناعة المنطق على جهة الصِّناعة والمبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفُّح، وعلى وجه الاستطراف والتظَرُّف". ويدور الكلام فى هذه السطور على مراعاة مبدإ مقتضى الحال، وهو ما كان العرب يقصدونه بقولهم: "لكل مقامٍ مقال" حسبما مر قبل قليل، وعلى أن يترك الأديب متنفَّسا كافيا للطبع فلا يسرف فى مراعاة أصول الصنعة حتى لا يتخشَّب الإبداع تخشُّبًا.
وللجاحظ كذلك مقارنات بين العرب وبعض الأمم الأخرى فى فَنَّىِ الخطابة والرسائل هى من صميم الدراسات الأدبية المقارنة، إذ عرض فى "البيان والتبيين" ما قالته الشعوبية من أن "الخطابة شيءٌ في جميع الأمم، وبكلِّ الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتَّى إنّ الزّنْج مع الغَثَارة، ومع فرط الغَباوة، ومع كلال الحَدّ وغِلَظ الحسّ وفساد المزاج، لَتُطيل الخُطَبَ، وتفوق في ذلك جميعَ العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظُها أخْطَلَ وأجهل. وقد علمْنا أنّ أخطبَ النَّاسِ الفُرْس، وأخطبَ الفرس أهل فارس، وأعذبَهم كلاما وأسهلهم مخرجا وأَحسنهم دَلاّ وأشدَّهم فيه تحكما أهلُ مرو، وأفصحَهم بالفارسية الدَّرِيَّةِ وباللغة الفَهْلَويّة أهلُ قصبة الأهواز. فأمّا نَغْمةُ الهَرابذة ولغةُ المَوَابذة فلصاحب تفسير الزَّمزمة. قالوا: ومَن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة ويعرفَ الغريب ويتبحَّرَ في اللغة فلْيقرأ كتاب كارْوَنْد، ومَن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة فلْينظُرْ في سِيَر الملوك. فهذه الفرسُ ورسائُلها وخطبها، وألفاظُها ومعانيها. وهذه يُونان ورسائلُها وخطبُها، وعِلَلُها وحِكَمُها، وهذه كتُبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماءُ بها تعرف السَّقَم من الصِّحّة، والخطأَ من الصَّواب. وهذه كتبُ الهندِ في حِكَمها وأسرارها، وسِيَرها وعللها. فمن قرأ هذه الكتبَ، وعرفَ غَوْرَ تلك العقول، وغرائبَ تلك الحِكَم، عرف أين البيانُ والبلاغة، وأين تكاملَتْ تلك الصِّناعة. فكيف سَقَط على جميع الأُمَم من المعروفين بتدقيق المعاني وتخيّر الألفاظ وتمييز الأمور أن يشيروا بالقَنا والعِصيّ، والقُضبان والقِسيّ؟ كلاّ، ولكنكم كنتم رعاةً بين الإبل والغنم، فحملتم القَنا في الحضَر بفضل عادتكم لحملها في السَّفَر، وحملتموها في المَدَر بفَضْل عادتكم لحملها في الوبَر، وحملتموها في السِّلم بفضْل عادتكم لحملها في الحرب. ولطُول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامُكم، وغلُظت مخارجُ أصواتكم، حتَّى كأنّكم إذا كلّمتم الجلساء إنّما تخاطِبون الصُّمَّان. وإنما كان جُلُّ قتالِكم بالعصيّ، ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال: لسنا نُقاتِل بالعصِيِّ ولا نُرامِي بالحجارة".
ثم كرّ الجاحظ على هذا الادعاء مفندا ما يحويه من شبهاتٍ شبهةً شبهةً: "وجملة القول أنَّا لا نعرف الخُطَبَ إلاّ للعرب والفُرْس، فأما الهندُ فإنما لهم معانٍ مدوَّنة، وكتُبٌ مخلّدة، لاتضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنّما هي كتبٌ متوارَثة، وآدابٌ على وجه الدَّهر سائرةٌ مذكورة.
ولليونانيِّين فلسفةٌ وصناعةُ منطق، وكان صاحبُ المنطقِ نفسُه بَكِيَّ اللسان، غيرَ موصوفٍ بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه. وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطَقَ الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة. وفي الفُرس خُطباء، إلاّ أنّ كلَّ كلامٍ للفُرس وكلَّ معنىً للعجم فإنّما هو عن طُولِ فكرة وعن اجتهاد رأي وطُول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طُول التفكُّر ودِراسة الكتُب، وحكايةِ الثاني علمَ الأول، وزيادةِ الثالث في علم الثاني، حتَّى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخِرِهم.
وكلُّ شيءٍ للعرب فإنّما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرفَ وَهْمَه إلى الكلام، وإلى رَجَزِ يومِ الخصام، أو حين يمتَح على رأس بئر، أو يحدُو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وَهْمَه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعِين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهرَ وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهَر، وكل واحدٍ في نفسه أنطَق، ومكانُه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أَوْجَد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، ويحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمن حفِظ علمَ غيرِه، واحتذى على كلام مَن كان قَبله، فلم يحفظوا إلاّ ما عَلِق بقُلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب، وإنّ شيئاً هذا الذي في أيدينا جزءٌ منه لَبِالمقدار الذي لا يعلمه إلاّ مَن أحاط بقَطْر السَّحابِ وعدد التُّراب، وهو اللَّه الذي يحيط بما كان، والعالِمُ بما سيكون.
ونحن، أبقاك اللَّه، إذا ادّعينا للعرب أصنافَ البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعَنا العلم أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الدِّيباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبْك والنَّحت، الذي لا يستطيع أشعَرُ الناس اليومَ ولا أرفعهُم في البيان أن يقول مثلَ ذلك إلاّ في اليسير والنَّبْذ القليل. ونحن لا نستطيع أن نَعلم أنّ الرسائل التي بأيدي الناس للفُرْس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمةٌ غير مولَّدة، إذْ كان مثل ابن المقفَّع وسهل بن هارون وأبي عُبَيد اللَّه وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولِّدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر. وأخرى: أنّك متى أخذتَ بيد الشُّعوبيّ فأدخلتَه بلادَ الأعراب الخُلَّص، ومعدِنَ الفصاحة التامّة، ووقَفْتَه على شاعرٍ مُفْلِق، أو خطيبٍ مِصْقَع، علم أنَّ الذي قلتَ هو الحقُّ، وأبصَرَ الشاهد عِيانا، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم".
وفى "الحيوان" للجاحظ أيضا نقرأ هذا التعليق الذى رد به على من يُثْبِت طول الخطب للزنوج: "وأما ما ذَكَرَ بهِ الزّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند نوائبهم، ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يُذْكَر". فهذه النصوص هى من صميم الدراسات الأدبية المقارنة، لأنها فى المقارنة بين المواهب العقلية والفنية لدى العرب وبين مواهب الفرس والهند والإغريق وانعكاس ذلك فى فنين من الفنون الأدبية هما الخطابة وكتابة الرسائل الديوانية وما يرتبط بهما من تقاليد فنية واجتماعية، وكذلك العوامل التى ساعدت على ظهور هذه المواهب والتقاليد، وأدت إلى نشوء تلك الفروق التى رأى الجاحظ أنها تميز كل أمة عن الأخرى.
وإذا كانت النصوص الجاحظية السابقة فى المقارنة بين العرب وغيرهم فى ميدانَىِ الخطب والرسائل فإن النص التالى، وهو كذلك من كتابه: "البيان والتبيين"، هو فى المقارنة الشعرية: "وقد ذكرنا أنَّ الأمم التي فيها الأخلاقُ والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم، وقال حُكَيم بنُ عيَّاش الكلبيُّ:
ألم يكُ مُلْكُ أرضِ اللَّه طُرّاً * لأربعةٍ له متميِّزينا
لحِمْيَرَ والنَّجاشِي وابنِ كِسرى * وقَيصَر غيرَ قولِ المُمْتَرينا
فما أدري بأيّ سببٍ وضع الحبشةَ بهذا المكان. وأما ذكرهُ لِحِمْيَر فإنْ كانَ إنّما ذهب إلى تُبَّعٍ نفسِه في الملوك فهذا له وجه، وأما النَّجاشيّ فليس هو عند الملوك في هذا المكان. ولو كان النجاشيُّ في نفسه فوق تُبَّع وكِسرى وقيصر لما كان أهلُ مملكته من الحبَش في هذا الموضع، وهو لم يفضِّل النجاشيَّ لمكانِ إسلامه. يدلُّ على ذلك تفضيلُه لكسرى وقيصر. وكان وَضَع كلامه على ذكر الممالك، ثم ترك الممالك وأخذ في ذكر الملوك، والدَّليل على أن العرب أنطقُ، وأن لغتَها أوسع، وأن لفظَها أدلُّ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثالَ التي ضُرِبت فيها أَجْوَد وأَسْيَر، والدَّليل على أن البديهة مقصورٌ عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصٌّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمِّيه الرُّوم والفرس: "شعرا"، وكيف صار النَّسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يُصاب في العرب إلاّ القليلَ اليسير، وكيف صارت العرب تقطّع الألحانَ الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونا على موزون، والعجمُ تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسُط حتّى تدخل في وزن اللحن فتضعَ موزونا على غير موزون". وبالمناسبة فهذه الملاحظات المقارنة تحتاج بدورها إلى من يدرسها دراسة مقارنة للتثبت من مدى صحتها أو تهويلها أو نُدُودها عن الصواب جملة وتفصيلا والأسباب التى أدت بالجاحظ إلى هذا أو ذاك فى حالة ما لو ثبت أنها ملا حظات غير سديدة... إلخ.
وفى هذا السياق من المقارنة بين الأدب العربى فى بعض خصائصه وبعض الآداب الأجنبية نورد هذا النص المهم من "المثل السائر" لابن الأثير فى مسألة طول القصائد وقِصَرها بين الشعر العربى ونظيره الفارسى، إذ كان ابن الأثير يوازن بين فَنَّىِ النثر والشعر ويرصد الفروق بينهما، إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير فقال إنه مما لا يحسن فى الذوق العربى أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعانى ويستوفى الكلام فيها مما هو أليق بالنثر. وهنا ينطلق فى موازنة بين العرب والفرس فى تلك النقطة قائلا إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتى بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير
منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يَفْضُلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنَّفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر".
وقد نقل الدكتور السعيد محمد جمال الدين هذا النص ووازن بينه وبين ما قاله الدكتور طه حسين من أن الشعر الفارسى يقوم على تقليد رصيفه العربى فى جوانب منه، ورأى أن ابن الأثير كان أكثر إنصافا من طه حسين، الذى قال إنه أرجع كل شىء فى الأدب الفارسى بكل ما يتميز به من عبقرية إلى الأدب العربى (د. السعيد محمد جمال الدين/ نقوش فارسية على لوحة عربية/ الدار الثقافية للنشر/ القاهرة/ 1420هـ- 2000م/ 86- 88). والحق أن طه حسين لم يقل هذا بالضبط، بل كل ما قاله هو أن الشعر الفارسى (لا أدب الفرس أجمع) يدين للأدب العربى "بناحية من أنحائه"، يقصد الأوزان الشعرية. وأنا أفهم محبة الأستاذ الدكتور للأدب الفارسى، على الأقل لأنه تخصصه، فضلا عن أنه يستطيع تذوقه أفضل من غيره ممن لا يتصلون به إلا عن طريق الترجمات، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بقراءة الشعر. لكن هذا شىء، والظن بأن طه حسين يرجع كل شىء فى آداب الفرس إلى احتذاء الأدب العربى ليس غير هو شىء آخر مختلف.
كذلك أحب أن أهدى إلى الأستاذ الدكتور النص التالى الذى عثرت به أثناء تجوالى فى تراثنا الأدبى والنقدى للحصول على أكبر قدر من النصوص المقارنة فيه، وهو يتعلق بـ"الشاهنامه"، التى حاول أن يجد فى كتب نقدنا القديم كل ما يتعلق بها فلم يعثر فيما يبدو لى إلا على نص ابن الأثير السالف. والنص موجود فى كتاب صلاح الدين الصفدى: "نصرة الثائر على المثل السائر"، الذى ألفه للرد على بعض ما جاء فى كتاب ابن الأثير كما هو واضح من عنوانه، وهو يجرى على النحو التالى: "قال (أى ابن الأثير) في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة. وهو مُجِيد في ذلك كله. وهذا لا نزاع فيه، لأننا رأيناه وقلناه.
وعلى هذا فإني وجدت العجم يَفْضُلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنَّفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف شاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم. وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة اليها كقطرة من بحر".أقول: قد ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال مَعْمَر بن المثنَّى ولا سهل بن هارون ولا ابن غَرْسِيَه في رسالته مثل هذا. وقد وُجِد في أهل اللسان العربي مَنْ نظَم الكثير أيضا. وإنْ عَدّ هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة، منهم من نَظَم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب كليلة ودمنة في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضا. وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي (عُرِف بـ"ابن الدجاجية") نظَم كتاب "المهذَّب" قصيدة علي رَوِيّ الراء سماها: "البديعة في أحكام الشريعة"، انتهى. قلت: والمهذب في أربع مجلدات.
وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدةٍ عِدّتها ثمانية عشر ألف بيت. ولابن الهبارية كتاب "الصادح والباغم" في ألفي بيت، كل بيت منها قصرٌ مَشِيد، ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها "لو" ولا "ليت". وأما من نَظَم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما "الشاطبية" وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:
جلا الرّعينيّ علينا ضحى * عروسه البكر ويا ما جلا
لو رامها مبتكرٌ غيره * قالت قوافيها له الكل: لا
وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم "الوجيز" و"منظومة الحنفية" وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم فكثير جدا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضَّل اللغة العربية. برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي وبندار وأبا حاتم والزمخشري وغير هؤلاء لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها، هاموا بها وكَلِفوا بمحاسنها، وأَفْنَوُا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أَقْيِستها وغرائب فنونها. ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأَفْنَوْا مدة العمر، وهي ما لا يُخْلَف، في شيء هو دون غيره، والأَوْلَى بهم وبكل عاقلٍ الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم. ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها "أفعل التفضيل" ما عرَّجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم. ومن الكَلِم النوابغ للزمخشري: "فَرْقك بين الرُّطَب والعجم فَرْقك بين العرب والعجم". ومنها: "العرب نَبْعٌ صلب المعاجم، والغَرَب مثلٌ للأعاجم". فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رُطَبا والعجم عجما، والعجم بتحريك الجيم هو النوى، وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صُلْب تُتَّخَذ منه القِسِيّ، وجعل العجم مثل شجر الغَرَب، وهو خَوّار. قال المتنبي:
فلا تَنَلْك الليالي، إنّ أيديها * إذا ضربْن كَسَرْن النبع بالغَرَبِ
فإن قلتَ: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلتُ: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم إنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها؟ ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك الملكة، كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها لاشتباك العلوم بعضها ببعض واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها. ولا يضع اللغة إلا حكيم. ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك؟ وهذا أمر غير خاف. وأما قوله إن "كتاب شاه نامه ستون ألف بيت كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب"، فإن هذه الدعوى لا تُسْمَع مجردةً عن البرهان الذي يؤيدها. ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه؟ هذا ليس في قُوَى البشر في لغة من اللغات.
سلّمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب. كما تقول: القمر أشد نورا من النجوم، والشمس أشد نورا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلا.
وكلٌّ له فضله، والحُجُو = ل يوم التفاضل دون الغررْ
فهل جيّد العجم مِثْل جيّد العرب، كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر؟ أو كجيّد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نُوَاس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي:
ألم تر أنّ السيف ينقص قيمةً * إذا قلت إنّ السيف أمضى من العصا؟
وإنما قلّ الجيّد في الشعر لأن البلغاء وعلماء الأدب انْتَقَوُا الجيّد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يُحْذَى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم، فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر. ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه، إلى غير ذلك من أنواع البديع، وهو ما يقارب المائة نوع؟ هيهات ما بينهما صيغة أفعل. وذكر الحصري في "زهر الآداب" أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: "الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمّه رجل منا". انتهى. وقد أنصف ابن خلف في قوله: "وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان".
وأما دعواه أن الشاعر لا يُحْسِن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية، وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مُخَلًّى ونفسه: إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروّجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وكيف، ولم يزل للشعر ماءٌ * يرفّ عليه ريحان القلوب؟
وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على "المثل السائر"، وقد سامحته في كثير سِقْطُه فيه ظاهر".
ولا ريب فى أن هذا النص يشهد للصفدى (وهذه ميزة فى معظم علمائنا القدامى) بسعة الاطلاع وحضور الشواهد على مَدّ ذراعه رغم أنه كان يعيش فى عصر لا يعرف المشباك (الإنترنت) ولا الفهارس. وبالمثل لا بد من التنبيه عنده إلى روح الحب الغلاب للعرب وكل ما يتصل بهم من لغة وأدب وفكر. لكنى لا أستطيع أن أشاركه الزعم بأن الآداب الأخرى تخلو من التشابيه والاستعارات والكنايات، وإن كان كلامه فى البديع لا ينطبق عليه هذا، إذ يبدو لى أن لساننا، فى عصور معينة منه على الأقل، قد استعمل المحسنات البديعية أكثر جدا مما فعل أى أدب آخر مما نعرف. وعلى كل حال فإن هذا النص هو من النصوص الكاشفة فى ميدان المقارنات الأدبية فى نقدنا القديم.
ومع ابن قتيبة فى النص التالى يلقانا جانب آخر من جوانب الدراسة الأدبية المقارنة، ألا وهو المقارنة بين موضوعات الشعر العربى ونظامه العروضى وما يقابل ذلك فى الأشعار الأعجمية، بالإضافة إلى الأشكال العروضية التى أخذها الشعر الفارسى قبل الإسلام من لغة الضاد. يقول: "وللعرب شعر لا يَشْرَكها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافى والتشبيه ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفَلَوات وسُرَى الليل والنجوم. وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم فى مُطْلَق من الكلام، ثم سمع بَعْدُ قومٌ منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك فى الفارسية وشبّهوه بالعربية". فابن قتيبة فى هذه السطور يتناول موضوعا من موضوعات الأدب المقارن، وهو موضوع تأثير أدب أمة من الأمم على أدب أمة أخرى، والتأثير هنا فى موضوعات الشعر وموسيقاه، وإن لم يفصّل عالمنا القديم القضية بما يضع النقط على الحروف كما نقول اليوم.
وتحت عنوان "في التنبيه على خطإ المعاني وصوابها..." يكتب أبو هلال العسكرى فى "كتاب الصناعتين" قائلا: "إن الكلام ألفاظٌ تشتمل على معان تدلّ عليها ويعبّر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، لأنَّ المدار بَعْدُ على إصابة المعنى، ولأنّ المعاني تحلّ من الكلام محلَّ الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسْوة، ومَرْتبة إحداهما على الأخرى معروفة. ومن عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيّأ له فيها من صنعة الكلام مثل ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي فحوَّلها إلى اللسان العربي؟ فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ". ففى هذا النص إشارة كاشفة إلى أحد المصادر التى امتاح منها بعض الكتاب العرب ذوى الباع الأوفى فى الكتابة الديوانية، وهو ما ينبهنا إلى أحد المسارات التى سلكتها صنعة الأسلوب الأدبى فى ذلك المجال الكتابى من الفرس إلى العرب فى أواخر العصر الأموى.
وثمة مسألة ذات أهمية شديدة فى ميداننا هذا، وهى البحث فى تمايز الأذواق والفُهُوم الأدبية بين لغة ولغة. وقد عثرت على هذا النص المهم وأنا بصدد تأليف الفصل الحالى، وهو عبارة عن حوار بين عمرو بن عبيد المعتزلي وأبي عمرو بن العلاء التميمي حول مدى التطابق أو الاختلاف بين استعمال إحدى الكلمات فى لغة ما واستعمالها هى ذاتها فى لغة مغايرة تبعا لتباين الأذواق فى الأمتين: "جاء عمرو بن عُبَيْد المعتزلي إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي فقال: يا أبا عمرو، يُخْلِف الله وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أَوعده الله على عمل عقابا، أيُخْلِف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: مِن العُجْمة أُتِيتَ يا أبا عثمان. إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تَعُدّ عارا ولا خُلْفا أن تَعِد شرًّا ثم لا تفعله، بل ترى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخُلف أن تَعِد خيرا ثم لا تفعله. قال: فأَوْجِدْني هذا في كلام العرب. قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول :
وإنّيَ، إن أَوْعَدْتُه أو وَعَدْتُه * لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوْعِدي؟"
ليس ذلك فقط، بل هناك النص المهم التالى، وهو فى النعى على من يفتتنون بالمصطلحات والمفاهيم الفلسفية والنقدية الإغريقية التى كان ابن قتيبة وأمثاله من المخلصين للثقافة العربية والإسلامية لا يَرْحُبون بها صدرا. قال ابن قتيبة فى مقدمة كتابه: "أدب الكاتب": "فإنِّي رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيِّرين، ولأهله كارهين: أما النَّاشئ منهم فراغب عن التعليم، والشَّادي تارك للازدياد، والمتأدِّب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين. فالعلماء مغمورون، وبكرَّة الجهل مقموعون حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البرّ، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارا علَى صاحبه، والفضل نقصا، وأموال الملوك وقفا علَى شهوات النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخَلَق، وآضت المروءات في زخارف النَّجد وتشييد البُنيان، ولذَّات النفوس في اصطفاق المزاهر ومعاطاة الندمان، ونُبِذت الصنائع، وجُهِل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزُهِد في لسان الصدق وعقد الملكوت، فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشِّعر أبياتا في مدح قَيْنَة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحَدِّ المنطق، ثمَّ يعترض علَى كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب وهو لا يدري من نقله. قد رضي عوضا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف، وفلان دقيق النظر. يذهب إلى أن لُطْف النظر قد أخرجه عن جملة النَّاس وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم: الرَّعاع والغُثَاء والغُثْر، وهو لَعَمْرُ الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق، لأنه جهل وظنَّ أنْ قد علم، فهاتان جهالتان، ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المُعْجَب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياهُ الله بنور الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنَصَبَ لذلك وعاداهُ، وانحرف عنه إلى علم قد سلَّمه ولأمثاله المسلمون، وقلَّ فيه المتناظرون، له ترجمةٌ تروق بلا معنى، واسمٌ يَهُول بلا جسم. فإذا سمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قوله: الكون والفساد، وسَمِع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع، وظن أن تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يَحْلَ منها بطائل، إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعَرَضُ لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة. ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي الأمر والاستخبار والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، والآنُ حدُّ الزمانين، مع هذيان كثير، والخبر ينقسم إلى تسعة آلاف وكذا وكذا مائة من الوجوه. فإذا أراد المتكلم أن يستعمل بعض تلك الوجوه في كلامه كانت وَبالا على لفظه، وقيدا للسانه، وعِيًّا في المحافل، وعُقْلَةً عند المتناظرين.
ولقد بلغني أن قوما من أصحاب الكلام سألوا محمد بن الجَهْم البرمكيَّ أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق حسنة لطيفة، فقال لهم: ما معنى قول الحكيم: "أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة"؟ فسألوه التأويل، فقال لهم: مَثَلُ هذا رجلٌ قال: "إنِّي صانع لنفسي كِنًّا" فوقعت فكرته على السقف، ثمَّ انحدر فعلم أن السقف لا يكون إلا على حائط، وأن الحائط لا يقوم إلا على أُسّ، وأن الأُسَّ لا يقوم إلا على أصل، ثمَّ ابتدأ في العمل بالأصل، ثمَّ بالأسِّ، ثمَّ بالحائط، ثمَّ بالسقف؛ فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدء فكرته. فأية منفعةٍ في هذه المسألة؟ وهل يجهل أحد هذا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذه الألفاظ الهائلة. وهكذا جميع ما في هذا الكتاب. ولو أن مؤلف "حد المنطق" بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْمِ، أو يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمة وفَصْلَ الخطاب.
فالحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن، أيده الله، من هذه الرذيلة، وأبانه بالفضيلة، وحَبَاه بِخِيم السلف الصالح، وردَّاه رداء الإيمان، وغشَّاه بنوره، وجعله هُدًى من الضلالات، ومصباحا في الظلمات، وعرَّفه ما اختلف فيه المختلفون، على سَنَن الكتاب والسُنَّة، فقلوب الخيار له مُعْتَلِقةٌ، ونفوسهم إليه مائلة، وأيديهم إلى الله فيه مَظانَّ القبول ممتدَّةٌ، وألسنتهم بالدعاء له شافعة: يهجع ويستيقظون، ويغفُل ولا يغفُلون. وحُقَّ لمن قام لله مقامه، وصبر على الجهاد صَبْرَهُ، ونوَى فيه نِيَّته، أن يلبسه الله لباس الضمير، ويُرَدِّيه رداء العمل الصالح، ويَصُور إليه مختلفات القلوب، ويُسعده الصدق في الآخرين".
وهو نص يكشف لنا اختلاف الأذواق الأدبية والنقدية فى ذلك العصر الذى كانت تتجاذبه نزعتان: عربية إسلامية واضحة مستقيمة لا تعرف التكلف والتنطس، وأخرى أجنبية يغرم أصحابها بالمصطلحات الغريبة والطنطنات التى تروع بعض المثقفين والكتّاب وتستولى على عقولهم كما هو حادث الآن فى بيئة الكتاب والأدباء، إذ نجد من يردد المصطلحات الحديثة والأسماء الأوربية دون أن يكون على شىء من العلم بها، ويستعملها كثيرا فى كتاباته فى تخبط وتعتيم فيفسد غاية الإفساد، وهو يظن أنه قد أتى على نهاية العلم والمعرفة، على حين أنه لا يفقه مما يكتب كثيرا ولا قليلا.
كذلك هناك هذا النص الآخر فى المقارنة بين اللغة العربية وعلم المنطق اليونانى الذى كان كثير من العرب والمسلمين، فضلا عن النصارى بالذات، مفتونين به أشد الفتنة، ومدى استغناء لسان الضاد عنه أو احتياجه إليه. وفيه يورد كاتبه مناظرة طويلة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات عام 320 للهجرة النبوية بين أبى سعيد السيرافى اللغوى المعروف ومتى بن يونس المترجم الذى نقل عددا من كتب يونان فى العلوم الطبيعية والفلسفية على عهد العباسيين. والنص موجود فى ترجمة السيرافى من "معجم الأدباء" (ط2/ دار الفكر/ بيروت/ 1400هـ- 1980م/ 8/ 190- 227)، وسنكتفى منه بما يلى (ص 201- 206):
"قال أبو سعيد: ... أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تُدِلّ به، وتُبَاهِى بتفخيمه، وهو الواو، وما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟ فبُهِت متّى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإنْ مَرّ المنطقي باللفظ فبالعَرَض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعَرَض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى. قال أبو سعيد: أخطأتَ، لأن المنطق والنحو، واللفظ والإفصاح، والإعراب والبناء، والحديث والإخبار والاستخبار، والعَرْض والتمني، والحَضّ والدعاء، والنداء والطلب، كلها من وادٍ واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلا لو قال: نطق زيد بالحق ولكنْ ما تكلم بالحق، وتكلم بالفُحْش ولكنْ ما قال الفُحْش، وأعرب عن نفسه ولكنْ ما أفصح، وأبان المراد ولكنْ ما أوضح، أو فاهَ بحاجته ولكنْ ما لَفَظ، أو أخبر ولكنْ ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرّفا ومناقضا، وواضعا للكلام في غير حقه، ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره؟ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان، يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان، لأن مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تُزْهَى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتُعَار، ويُسَلَّم لك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلَّغ بهذا القدر إلى أغراضٍ قد هذّبَتْها لي يونان". فالكلام فى النص، كما هو واضح لا يحتاج إلى فضل بيان، هو عن المقارنة بين الثقافة العربية الإسلامية متمثلةً فى قواعدها النحوية والصرفية، وبين الثقافة الإغريقية متمثلةً فى المنطق اليونانى. وهذا باب من أبواب الأدب المقارن، على الأقل إذا فتحناه على آخره.
أما فى كتاب "الروض المعطار فى خبر الأقطار" لابن عبد المنعم الحِمْيَرى فنقرأ (فى مادة "النوشجان") هذه السطور المهمة التى تتعلق بتحديد مكان فى بلاد فارس زاره المتنبى ووصفه فى نونيته التى قالها مَقْصِدَه عضد الدولة البويهى ليمدحه: "النوشجان: من بلاد فارس، وفيها شِعْب بَوّان، فيه شجر الجوز والزيتون والكروم وغير ذلك من الفواكه، وهو أحد المواضع المشهورة بالحسن، وفيه يقول المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغاني * بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسانِ"
وهو ما يمكن دخوله، ولو بشىء من التوسع، فى باب صورة البلاد الأجنبية فى الأدب القومى وكيفية تشكُّل تلك الصورة ومدى مطابقتها للواقع أو نأيها عنه، وهذا من موضوعات الأدب المقارن كما هو معروف.
ومن هذه الموضوعات أيضا دراسة المادة الجغرافية والاجتماعية والإثنيّة والأنثروبولوجية التى تقدمها كتب الرحلات فى خلال حديثها عن الأمم الأجنبية والبلاد التى تقطنها، ومنه ما يجده القارئ فى كتاب "معجم البلدان" وأشباهه حين يعرض مؤلفوها لما قرأوه فى هذه الموضوعات لدى غيرهم من المصنفين. ففى مادة "إِرَم" مثلا عند ياقوت الحموى نقرأ الآتى: "... وروى آخرون أن إرم ذات العماد التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد: باليمن بين حضرموت وصنعاء من بناء شداد بن عاد. ورَوَوْا أن شداد بن عاد كان جبارا، ولما سمع بالجنة وما أعد الله فيها لأوليائه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار والغُرَف التي من فوقها غُرَفٌ قال لكبرائه: إني متخذ في الأرض مدينة على صِفَة الجنة. فوكّلَ بذلك مائة رجل من وكلائه وقهارمته، تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان، وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيها تُربةً. ومكّنهم من الأموال ومثّل لهم كيف يعملون، وكتب إلى عماله الثلاثة: غانم بن عُفوان والضحاك بن عُلوان والوليد بن الريان يأمرهم أن يكتبوا إلى عُمّالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب والفضة والدُّرّ والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فيوجِّهوا به إليه. ثم وجَّه إلى جميع المعادن فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة. ثم وجَّه عماله الثلاثة إلى الغواصين إلى البحار فاستخرجوا الجواهر فجمعوا منها أمثال الجبال، وحُمِلَ جميع ذلك إلى شداد. ثم وجَّهوا الحفارين إلى معادن الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر فاستخرجوا منها أمرا عظيما. فأمر بالذهب فضُرِب أمثال اللَّبِن، ثم بنى بذلك تلك المدينة وأمر بالدر والياقوت والجَزْع والزَّبَرْجَد والعقيق ففَضَّض به حيطانها وجعل لها غُرَفا من فوقها غُرفٌ وعَمَّد جميع ذلك بأساطين الزبرجد والجَزْع والياقوت. ثم أجرى تحت المدينة واديا ساقه إليها من تحت الأرض أربعين فرسخا كهيئة القناة العظيمة. ثم أمر فأُجْرِىَ من ذلك الوادي سَوَاقٍ في تلك السكك والشوارع والأزقّة تجري بالماء الصافي، وأمر بحافَتَيْ ذلك النهر وجميع السواقي فطُلِيَت بالذهب الأحمر وجُعِلَ حصاه أنواع الجواهر الأحمر والأصفر والأخضر فنصب على حافتَيِ النهر والسواقي أشجارا من الذهب مُثمرة، وجعل ثمرها من تلك اليواقيت والجواهر، وجعل طول المدينة اثني عشر فرسخا وعرضها مثل ذلك، وصيَّر سورها عاليا مشرفا، وبنى فيها ثلاثمائة ألف قصر مفضَّضًا بواطنُها وظواهرها بأصناف الجواهر. ثم بنى لنفسه في وسط المدينة على شاطىء ذلك النهر قصرا منيفا عاليا يشرف على تلك القصور كلها، وجعل بابه يُشْرَع إلى الوادي بمكان رحيب واسع ونصب عليه مِصرَاعَيْن من ذهب مُفَضَّضَيْن بأنواع اليواقيت، وأمر باتخاذ بنادق من مسك وزعفران فأُلْقِيَت في تلك الشوارع والطرقات، وجعل ارتفاع تلك البيوت في جميع المدينة ثلاثمائة ذراعٍ في الهواء، وجعل السور مرتفعا ثلاثمائة ذراع مفضَّضا خارجه وداخله بأنواع اليواقيت وظرائف الجواهر، ثم بنى خارج سور المدينة كما يدور ثلاثمائة ألف منظرة بِلَبِن الذهب والفضة عالية مرتفعة في السماء مُحْدِقة بسور المدينة لينزلها جنودُه، ومكث في بنائها خمسمائة عام. وإن الله تعالى أحب أن يتخذ الحُجّة عليه وعلى جنوده بالرسالة والدُعاء إلى التوبة والإنابة فانتَجَب لرسالته إليه هودا عليه السلام، وكان من صميم قومه وأشرافهم. وهو في رواية بعض أهل الأثر: هود بن خالد بن الخُلُود بن العاص بن عمليق بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وقال أبو المنذر: هو هود بن الخلود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وقيل غير ذلك، ولسنا بصَدَدَه. ثم إن هودا عليه السلام أتاه فدَعَاه إلى الله تعالى وأمره بالإيمان والإقرار برُبُوبية الله عز وجل ووحدانيته، فَتَمادَى في الكفر والطُغيان، وذلك حين تم لمُلْكه سبعمائة سنة، فأنذره هود بالعذاب وحَذّرَه وخوّفه زوال ملكه، فلم يرتدع عما كان عليه ولم يجب هودا إلى ما دعاه إليه. ووافاه الموكَّلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها، فعزم على الخروج إليها في جنوده، فخرج في ثلاثمائة ألف من حَرَسَهِ وشاكريته ومواليه وسار نحوها، وخلّف على ملكه بحضرموت وسائر أرض العرب ابنه مرثَد بن شَداد، وكان مرثد، فيما يقال، مُؤمنا بهُود عليه السلام. فلما قرب شداد من المدينة وانتهى إلى مرحلة منها جاءت صَيْحَة من السماء فمات هو وأصحابه أجمعون حتى لم يبق منهم مخبر. ومات جميع من كان بالمدينة من الفَعَلَة والصناع والوكلاء والقهارمة، وبقيتْ خلاءً لا أنيسَ بها، وساخت المدينة في الأرض فلم يدخلها بعد ذلك أحد إلا رجل واحد في أيام معاوية يقال له: عبد الله بن قِلابة، فإنه ذكر في قصة طويلة تلخيصها أنه خرج من صنعاء في بِغَاء إبِلٍ له ضلّت فأفَضَى به السيرُ إلى مدينة صِفَتُها كما ذكرنا وأخذ منها شيئا من بنادق المسك والكافور وشيئا من الياقوت، وقصد إلى معاوية بالشام وأخبره بذلك وأراه الجواهر والبنادق، وكان قد اصفرّ وغيرته الأزمنة، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار وسأله عن ذلك، فقال: هذه إرَمُ ذات العماد التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، بناها شداد بن عاد، وقيل: شداد بن عمليق بن عُوَيج بن عامر بن إرم، وقيل في نسبه غير ذلك، ولا سبيل إلى دخولها، ولا يدخلها إلا رجل واحد صِفَتُه كذا، وَوَصَفَ صِفَةَ عبد الله بن قلابة. فقال معاوية: يا عبد الله، أما أنت فقد أحسنتَ في نُصحنا، ولكن ما لا سبيل إليه لا حِيلَةَ فيه. وأمر له بجائزة فانصرف. ويقال إنهم وقعوا على حفيرة شداد بحضرموت، فإذا بيت في الجبل منقور مائة ذراع في أربعين ذراعا، وفي صدره سريران عظيمان من ذهب على أحدهما رجل عظيم الجسم، وعند رأسه لوح مكتوب فيه:
اعتبر يا أيهـا المغـرور بالعمر المـديدِ
أنـا شــداد بــن عـــــــاد * صاحب الحضن المَشِيدِ
وأخو الـقـوة والـبـــــــأ * ســاء والملك الحـشـيــدِ
دَان أهـلُ الأرض طُرًّا * لِيَ من خـــَوف وعيـدي
فأتـــــى هودٌ وكـنــــــا * في ضـلالٍ قبـــــل هـودِ
فدعانا لـو أَجـبـنــــــــا * ه إلى الأمر الـرشـيــــدِ
فَعَـصـينَـاه ونــادَانـــــا: * ما لكم؟ هلَ من مَحِيـدِ؟
فأتتـنَـا صـيحة تـهـوي * من الأفق البعيــــــــــــــدِ
قلت: هذه القصة مما قدَّمْنا البراءَة من صحَتها وظننّا أنها من أخبار القُصّاص المنمَّقة وأوضاعها المزوَّقة". فها هنا نرى الحموى يسوق الحكاية أولا ثم لا يكتفى بذلك بل يدلى برأيه فيها ويراها من عمل القُصّاص وخيالاتهم الفسيحة التى يراد بها التسلية، وإن لوحظ أنه لم يبسط القول فى الحيثيات التى بنى عليها رأيه هذا.
ومثله ما أورده ياقوت أيضا فى مادة "الإسكندرية" فى معجمه المارّ ذكره مما رواه الحكاؤون عن تلك المدينة، إذ قال عما اشتهرت به من بياض مبانيها: "ولأهل مصر بَعْدُ إفراط في وصف الاسكندرية، وقد أثبتتها علماؤهم ودونوها في الكتب فيها وهم. ومنها ما ذكره الحسن بن إبراهيم المصري، قال: كانت الإسكندرية لشدة بياضها لا يكاد يبين دخول الليل فيها إلا بعد وقت. فكان الناس يمشون فيها وفي أيديهم خِرَق سُود خوفا على أبصارهم، وعليهم مثل لبس الرهبان السواد، وكان الخياط يُدْخِل الخيط في الإبرة بالليل. وأقامت الاسكندرية سبعين سنة ما يُسْرَجُ فيها ولا يُعْرَف مدينة على عَرْضها وطولها. وهي شطرنجيةٌ ثمانية شوارع في ثمانية. قلت: أما صفة بياضها فهو إلى الآن موجود، فإن ظاهر حيطانهم شاهدناها مبيَّضة جميعها إلا اليسير النادر لقوم من الصعاليك، وهي مع ذلك مُظْلِمة نحو جميع البلدان. وقد شاهدنا كثيرا من البلاد التي تنزل بها الثلوج في المنازل والصحارى ومساعدة النجوم بإشراقها عليها، إذا أظلم الليل أظلمت كما تُظْلِم جميع البلاد، لا فرق بينهما. فكيف يجوز لعاقل أن يصدّق هذا ويقول به؟". فكما ترى فإن ياقوتا لا تفارقه عينه النقدية ولا يورد شيئا لا يطمئن إليه قلبه وعقله إلا نبّه على ما فيه من أوهام ومبالغات.
وفى "زهر الأَكَم فى الأمثال والحِكَم" يعرض اليوسى لما قاله بعض النقاد العرب القدماء من أن الحِكَم التى اشتهر بها أبو الطيب المتنبى إنما أخذها عن أرسطو، وليس له فيها من فضل: "وقال (أى المتنبى):
وأَظْلَم أهل الظلم من بات حاسدا * لمن بات في نَعْمائه يتقلبُ
قال صاحب "الرسالة الحكيمة": وهو قول أرسطوطاليس: "أقبح الظلم حَسَدك لعبدك ومن تُنْعِم عليه". قلت: وهو غلط. إن كانت رواية هذه الحكمة هكذا فإنَ أبا الطيب إنّما أراد عكسها، وهو أنَّ أقبح الظلم أنْ يحسدك من تُنْعِم عليه وتُحْسِن إليه بدليل سياق كلامه. وقال:
وقد يترك النفس التي لا تهابه * و يحترم النفس التي تتهيب
وقال أيضا:
لا بد للإنسان من ضجعة * لا تقلب المُضْجَع عن جَنْبِهِ
ينسى بها ما مر من عُجْبه * وما أذاق الموت من رَكْبِهِ
نحن بنو الموتى، فما بالنا * نعاف ما لا بد من شُرْبِهِ؟
تبخل أيدينا بأرواحنا * على زمنٍ هي من كَسْبِهِ
فهذه الأرواح من جَوِّهِ * وهذه الأجسام من تُرْبِهِ
لو فكر العاشق في منتهى * حسن الذي يَسْبِيه لم يَسْبِهِ
وهو معنى قول أرسطوطاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهّد في حقائقها، والعشق عَمَى النفس عن دَرْك رؤية المعشوق. والذي قبله هو معنى قوله أيضا: اللطائف سماوية، والكثائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول. وقال:
يموت راعي الضأن في جهلهِ * موتة جالينوسَ في طبّهِ
... و قال:
وغاية المُفْرِط في سِلْمِهِ * كغاية المفرط في حَرْبِهِ
وهو قريب من قول أرسطوطاليس: آخر إفراط التوقّي أوّل موارد الحذر". وهذا، كما نرى، نوع من المقارنة بين بعض النصوص الأدبية فى لغة الضاد ونظائرها فى الأدب أو الفكر الإغريقى، مما لا يحتاج إلى أى مسوغ آخر لتبوئه مكانا مُسْتَحَقًّا فى الأدب المقارن.
ويجرى فى نفس المجرى ما كتبه النويرى عن ذات المسألة فى كتابه: "نهاية الأرب فى فنون الأدب"، إذ قال: "وقد جُمِع من شعر أبي الطيب في ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس في الحكمة، فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة. قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كِبَارًا * تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكَيّ والفَصْد اللذين يُفْسِدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبي إلى شعره فقال:
تموت مع المرء حاجاته * وتبقى له حاجةٌ ما بَقِي
وقال المتنبي:
ذِكْرُ الفتى عمرُه الثاني، وحاجته * ما قاتَه، وفضول العيش أشغالُ
وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبي إلى شعره فقال:
لعل عَتْبك محمودٌ عواقبه * فربما صَحَّت الأجسادُ بالعِلَلِ
وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما علة دينية خوف معاد، أو علة سياسية خوف سيف. قال المتنبي:
والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد * ذا عِفَّةٍ فلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ"
والواقع أن مرجع كل كلام فى هذه المسألة هو الكتاب الذى وضعه فى هذا الموضوع محمد بن الحسن الحاتمي بعنوان "الرسالة الحاتمية في سرقات المتنبي من أرسططاليس"، وما عقّبنا به على النص السابق هو نفسه ما نعقّب به هنا.
وقد كانت العرب تدرس هذه المسائل فى باب "السرقات" فى كتب البلاغة والنقد، إلا أن العبرة (كما هو معلوم) بالمضمون لا بالشكل والمصطلح. فالسرقة فى داخل الأدب القومى ليست كالسرقة إذا تمت بالسطو على أدب أمة أخرى، وهذا النوع الأخير يدخل فى باب "الأدب المقارن"، وهذا هو الاصطلاح الذى قبلناه، وأدخلنا معه ذلك التخصص فى مقررات جامعاتنا وتبنيناه فى دراساتنا وبحوثنا ورسائلنا العلمية. وقد يكون قريبًا من هذا الوادى، وإن خلا الكلام هنا من الاتهام، قول بهاء الدين العاملى فى كتابه: "الكشكول" إن جلال الدين الرومى صاحب "الَمْثَنِوى" (الذى يلقّبه بــ"العرّاف" لتصوفه) قد رد بقول بعض الصوفية على من سأله: "مالك إذا تكلمت بكى كل من يسمعك ولا يبكي من كلام واعظ البلد أحد؟" قائلاً إن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجَرة، وإن لم يُورِد للأسف كلام الرومى.
وفى مواضع متعددة من كتابه نراه يشير إلى الرجل إعجابا بشعره، ومن ذلك قوله فى أبيات جميلة له يذكر أنها من سوانح سفر الحجاز، وهى أبيات خمرية يطلب فيها من نديمه المبادرة بملء الأقداح وطرح لوم اللوام والتمسك بالرجاء فى عفو الله وغفرانه، ثم يضيف قائلا:
يا مُغَنِّي، إن عندي كلّ غَمّ ججج * قُمْ وأَلْقِ الناي فيها بالنغمْ
غنِّ لي دورًا، فقد دار القدحْ * والصَّبا قد فاح، والقُمْرِي صَدَحْ
واذكرنْ عندي أحاديث الحبيب ججج * إن عيشي من سواها لا يطيب
واحذرنْ ذكرى أحاديث الفراقْ جج * إن ذكر البعد مما لا يطاقْ
روِّحَنْ روحي بأشعار العربْ * كي يتم الحظ فينا والطرب
وافتتح منها بنظمٍ مستطابْ * قلته في بعض أيام الشبابْ:
قد صرفنا العمر في قيلٍ وقالْ * يا نديمي، قم فقد ضاق المجالْ
ثم أطربْني بأشعار العَجَمْ * واطردنْ همًّا على قلبي هجمْ
وابتدىء منها ببيت المثنوي * للحكيم المولويّ المعنوي
قم وخاطبني بكل الألسنة * عَلَّ قلبي ينتبهْ من ذي السِّنَة
إنه في غفلة عن حالهِ * خابطٌ في قيله معْ قالهِ
كل آن فهو في قيد جديد ج * قائلاً من جهله: هل من مزيد؟
وهو ما يعنى أن الرومى كان مقروءا بين العرب على هذا النطاق الواسع.
ومثل هذه الإشارة نجدها عنده أيضا إلى خسرو وشيرين، إذ بعد أن أورد فى "الكشكول" أبياتا رقيقة فى الغزل لعفيف الدين التلمسانى المعروف بــ"الشاب الظريف" عقّب قائلا إن البيت الأخير منها يحوم حول ما قاله النظامى فى "خسرو وشيرين". وهذا هو النص المقصود، وفيه أولا أبيات العفيف التلمسانى، ثم تعليق العاملى عليها:
تحرَّشَ الطَّرْفُ بين الجِدّ واللعبِ * أفنى المدامعَ بين الحزن والطربِ
كم ذا أردّد في أرض الحمى قدمي * تردُّدَ الشك بين الصدق والكذبِ
كأنني لم أعرِّسْ في مضاربها * ولم أَحُطَّ بها رحلي ولا قَتَبي
ولم أغازل فتاة الحي مائسةً * في روضـــها بين دُرّ الحَلْي والذهبِ
تبدي النِّفار دلالاً وهي آنسةٌ * يا حُسْن معنى الرضا في صورة الغضبِ
البيت الأخير من هذه الأبيات يحوم حول قول العارف السامي الشيخ نظامي في كتاب "خسرو وشيرين"...".
وإذا كان العاملى قد اكتفى بتلك الإشارة السريعة فإن القزوينى فى كتابه: "آثار البلاد وأخبار العباد" قد أمدنا بنبذة صالحة عن النظامى وأعماله والظروف التى أبدعها فيها. قال عند حديثه عن مدينة جنزة الفارسية: "يُنْسَب إليها أبو محمد النظامي. كان شاعرا مُفْلِقا عارفا حكيما. له ديوانٌ حَسَنٌ، وأكثر شعره إلهيات ومواعظ وحِكَم ورموز العارفين وكناياتهم. وله "داستان خسرو وشيرين"، وله "داستان ليلى ومجنون"، وله "مخزن الأسرار وهفت بيكر". ولما نظم فخري الجرجاني "داستان ويس ورامين" للسلطان طغرلبك السلجوقي (وإنه في غاية الحسن، شعره كالماء الجاري كأنه يتكلم بلا تعسف وتكلف) أراد النظامي "داستان خسرو وشيرين" على ذلك المنوال، وأكثر فيه من الإلهيات والحكم والمواعظ والأمثال والحكايات الطيبة، وجعله للسلطان طغرل بن أرسلان السلجوقي، وكان السلطان مائلاً إلى الشعر والشعراء، فوقع عنده موقعا عظيما، واشتهر بين الناس وكثرت نسخه. وأما "داستان ليلى ومجنون" فطلب منه صاحب شروان نظمه له، وكان في فنه عديم النظير. تُوُفِّيَ بقرب تسعين وخمسمائة".
أما حاجى خليفة فقد كتب فى "كشف الظنون" فى التعريف بهذا الأثر الأدبى وأشباهه فى الفارسية والتركية قائلا إن "خسرو وشيرين" واحدة "من المثنويات الفارسية والتركية التي نُظِمت في قصة عاشق ومعشوق: أما الفارسية فللشيخ نظامي الكنجي المتوفى سنة ست وتسعين وخمسمائة نظمها في بحر الهزج، وهو من خمسته المشهورة أوله: "خداواندا در توفيق بكشاي". وفي جوابه مثنويات منها نظم مير خسرو الدهلوي المتوفى سنة خمس وعشرين وسبعمائة أوله: "خداوند دلم را جشم بكشاي". أتمه في رجب سنة ست وتسعين وستمائة. ونظم مولانا الوحشي أوله: "إلهي سينه ده آتش أفروز". ونظم آصف خان أوله: "خداوندا دلي ده شاد أزاندوه". ونظم عبد الله الهاتفي أوله: "خداوندا بعشقم زندكي ده". وأما التركية فلمولانا شيخي الكرمياني ابتدأ فيه بأمر من السلطان مراد الغازي، ولم يكمله، وكمله أخوه الجمالي، وهو نظم سليس مقبول عند الشعراء. ومنها نظم مولانا آهي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة. ونظم جليلي أوله: "نه ديوان كه آكه الله أوله عنوان". ونظم خليفة، ونظم معيد زاده". وهذه كلها معلومات على قدر كبير من الأهمية لكل من الباحث المقارِن والناقد وكاتب السيرة ومؤرخ الأدب على السواء.
وفى "الفهرست" لابن النديم صفحات كثيرة خصصها للنَّقَلة الذين تَوَلَّوْا ترجمة الآثار الأجنبية فى ميدان الفكر أو الأدب مما لدى الهنود والإغريق والفرس، والجهود التى بذلوها فى هذا السبيل، وأسماء بعض الكتب التى نهضوا بعبء نقلها إلى اللسان العربى... وهكذا. ومما التقطته من كلامه فى هذه الموضوعات إشارة هامة إلى بعض شعراء اليونان القدماء كهوميروس مثلا، الذى جاء فى مقال للدكتور عبد البديع عبد الله على المشباك عنوانه: "الترجمات القديمة والحديثة لكِتَاب الشعر وأثرها على الفكر الأدبي العربي" أن العرب كانوا يعرفونه معرفة غامضة، إذ جاء فى "طبقات الأطبّاء" لابن أبى أُصَيْبِعَة ما نصه: "واعتلّ إسحاق بن الخصيّ علىّ فأتيته عائدا، فإني لفي منـزله إذ بَصُرْتُ بإنسان له شعرة قد جَلَّلَتْه، وقد ستر وجهه عني ببعضها، وهو يتردد وينشد شعرا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم، فشبهتُ نغمته بنغمة حُنَيْن، وكان العهد بُحَنْين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين. فقلت لإسحاق بن الخصي: هذا حُنَيْن؟ فأنكر ذلك إنكارا يشبه الإقرار فهتفت بُحَنْين، فاستجاب لي"، وهذا أيضا من النصوص المهمة فى مجال "الأدب المقارن".
على أن معرفة العرب بهوميروس هى فى الواقع أوسع من هذا، إذ كتب أبو حيان التوحيدى فى الليلة العاشرة من "الإمتاع والمؤانسة" عن أعمار الكلاب إن "ذكور الكلاب السَّلُوقيّة تعيش عشر سنين، وإناثها اثنتي عشرة سنة، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة، وإناثها كلها أطول أعمارا من الذكور. قال أوميروس الشاعر: إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة"، وكتب أيضا: "قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تُؤْثِر علم شيء إذا عُيِّرْتَ به غضبت، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك". وقال أسامة بن منقذ فى "لباب الآداب": "وكتب أرسطاطاليس إلى الاسكندر: إن الذي يتعجب منه الناس فيك الجزالة وكبر الهمة، والذي يحبونك عليه التواضع ولين الجانب. فاجمع الأمرين يجتمع لك محبة الناس لك وتعجبُّهم منك. وقال أوميروس: لِنْ تَنَلْ، واحْلُمْ تَنْبُلْ، ولا تكن معجَبًا فتُمْتَهَن".
وفى "مختصر تاريخ الدول" لابن العبرى: "وخَرِبَتْ مدينة إليون الخراب الذي هو من أعظم الرزايا عند قدماء اليونانيين، وقد رثاها أوميروس الشاعر في كتابين نقلهما من اليوناني إلى السرياني ثاوفيل المنجم الرهاوي، وهو كبير منجمي المهدي". كما يروي القفطى الحكاية التالية عنه فى كتابه: "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" فيقول: "وكان هذا الرجل من رجال يونان الذين عَانَوُا الصناعة الشعرية من أنواع المنطق وأجادها. وجاءه أنابو الماجن فقال: اهْجُنِي لأفتخر بهجائك إذ لم أكن أهلا لمديحك. فقال له: لستُ فاعلا ذلك أبدا. قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونانيين فأُشْعِرهم بنُكُولك. قال أوميروس مرتجلا: بلغنـا أن كلبا حاول قتل أسد فامتنع عليه أنفةً منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأُشْعِر السباع بضعفك. قال له الأسد : لأَنْ تعيِّرني السباع بالنُّكُول عن مبارزتك أحبّ إليّ من أن ألوّث شاربي بدمك".
وبحثا عن هوميروس نمضى متصفحين كتاب "الملل والنحل" للشهرستانى فنجد الآتى: "وهو من الكبار القدماء، الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب. ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة، ومتانة الحكمة، وجودة الرأي، وجزالة اللفظ. فمن ذلك قوله: لا خير في كثرة الرؤساء. وهذه كلمة وجيزة تحتها معانٍ شريفة، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال، ويستدل بها أيضا في التوحيد لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكرّ على حقيقة الإلهية بالإفساد. وفي الحكمة: لو كان أهل بلدٍ كلهم رؤساء لما كان رئيسٌ البتَّة، ولو كان أهل بلدٍ كلهم رعية لما كانت رعيةٌ البتَّة. ومن حكمه قال: إني لأعجب من الناس، إذ كان يمكنهم الاقتداء بالله تعالى فيدَعون ذلك إلى الاقتداء بالبهائم! قال له تلميذه: لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رَأَوْا أنهم يموتون كما تموت البهائم. فقال له: بهذا السبب يكثر تعجبي منهم، مِنْ قِبَل أنهم يحسّون بأنهم لابسون بدنا ميتا، ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفسا غير ميتة. وقال: من يعلم أن الحياة لنا مستعبِدة، والموت مُعْتِق مُطْلِق... آثر الموت على الحياة. وقال: العقل نحوان: طبيعي وتجريبي، وهما مثل الماء والأرض، وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلِّصه وتمكّن من العمل فيه، كذلك العقل يذيب الأمور ويخلِّصها ويفصلها ويُعِدّها للعمل. ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر. وقال: إن الإنسان الخيِّر أفضل من جميع ما على الأرض، والإنسان الشرير أخسّ وأوضع من جميع ما على الأرض. وقال: لِنْ تَنَلْ، واحْلُمْ تَعِزّ، ولا تكن معجَبا فتُمْتَهن، واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته. وقال: الدنيا دار تجارة، والويل لمن تزوّد عنها الخسارة".
أما فى "مقدمة ابن خلدون" فينص صاحبها على أن أرسطو قد ذكر هوميروس فى كتاب "المنطق": "اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية. وقد كان في الفرس شعراء، وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب "المنطق" أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حِمْيَر أيضا شعراء متقدمون"... وهلم جرا.
وفى المقالة الثامنة من "الفهرست" لابن النديم، وتحت عنوان "الفن الأول في أخبار المسامرين والمخرّفين وأسماء الكتب المصنَّفة في الأسمار"، تطالعنا هذه الوثيقة المهمة التى يتطلع لمثلها الدارس المقارن لما تقدّمه له من عون كبير فى موضوع تتبع المسارات التى اتخذتها الأشكال والأجناس الأدبية فى انتقالها من ثقافة أمة إلى ثقافة أمة أخرى: "أول من صنَّف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفُرْس الأُوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب الى اللغة العربية وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عُمِل في هذا المعنى كتاب "هزار أفسان"، ومعناه: ألف خرافة.
وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها: شهرزاد. فلما حصلت معه ابتدأت تخرّفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل المَلِك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى ان أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها، إلى أن رُزِقت منه ولدا فأظهرتْه وأوقفتْه على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها. وكان للملك قهرمانة يقال لها: دنيازاد، فكانت موافقة لها على ذلك. وقد قيل إن هذا الكتاب أُلِّف لحمانى ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا... والصحيح إن شاء الله أن أول من سَمَر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يُضْحِكونه ويخرّفونه لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس. واستعمل لذلك بعده الملوكُ كتابَ "هزار أفسان"، ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سَمَر لأن السَّمَر ربما حُدِّث به في عدة ليال. وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غَثٌّ بارد الحديث...
(و)ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب "الوزراء" بتأليف كتابٍ اختار فيه ألف سَمَر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يَعْلَق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه. وكان فاضلا، فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سَمَرٌ تامٌّ يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر. ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر. ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي. وكان قبل ذلك يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعةٌ منهم عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون وعلي بن داود كاتب زُبَيْدة وغيرهم. وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنّفوه في مواضعه من الكتاب. فأما كتاب "كليلة ودمنة" فقد اختُلِف في أمره فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب. وقيل: عملته ملوك الإسكانية ونَحَلَتْه الهندَ. وقيل: عملته الفرس ونحلته الهند. وقال قوم إن الذي عمله بُزُرْجِمَهْر الحكيم أجزاءً، والله أعلم بذلك. كتاب "سندباد الحكيم"، وهو نسختان: كبيرة وصغيرة، والخُلْف فيه أيضا مثل الخُلْف في "كليلة ودمنة". والغالب والأقرب إلى الحق أن يكون الهند صنَّفته...
كتاب "كليلة ودمنة"، وهو سبعة عشر بابا، وقيل: ثمانية عشر بابا. فَسَّره عبد الله بن المقفع وغيره، وقد نُقِل هذا الكتاب إلى الشعر. نقله أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي، ونقله علي بن داود إلى الشعر، ونقله بشر بن المعتمد. والذي خرج بعضه، ورأيت أنا في نسخةٍ زيادة بابين. وقد عملت شعراء العجم هذا الكتاب شعرا ونُقِل إلى اللغة الفارسية فالعربية. ولهذا الكتاب جوامع وانتزاعات عملها جماعة منهم ابن المقفع وسهل بن هارون وسَلْم صاحب بيت الحكمة والمريد الأسود الذي استدعاه المتوكل في أيامه من فارس... إلخ".
وكتاب ابن النديم مملوء بمثل هذه الوثائق القيمة، بل الغنائم الباردة التى كانت وستظل مثارا لجهود الدارسين المحدثين فى مجال الدراسات الأدبية واجتهاداتهم، ولولا هى وأمثالها ما استطاعوا الوصول إلى شىء. وهى من الأدب المقارن فى الصلب والصميم كما نرى. ويلقى ابن أبى أصيبعة مزيدا من الضوء على أصل كتاب "كليلة ودمنة"، إذ يقول فى ترجمة الطبيب الهندى برزويه: "قيل إنه كان عالما بصناعة الطب موسوما بها، متميزا في زمانه، فاضلا في علوم الفرس والهند، وإنه هو الذي جلب كتاب كليلة ودمنة من الهند إلى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرس، وترجمه له من اللغة الهندية إلى الفارسية، ثم ترجمه في الإسلام عبد اللّه بن المقفع الخطيب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية".
ويُوسِع ابنُ المقفع فى مقدمة الكتاب الأَمْرَ إيضاحا فيقول: "ثم إن بَيْدَبَا جمع تلاميذه وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم، وقد جمعتكم لهذا الأمر. ثم وصف لهم ما سأل الملك من أمر الكتاب، والغرض الذي قصد فيه، فلم يقع لهم الفكر فيه. فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمرٌ إنما يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر. وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين لأنهم يعدلونها، وإنما تسلك اللُّجّة بمدبرها الذي تفرّد بإمْرتها. ومتى شُحِنت بالرُّكّاب الكثيرين وكثر ملاحوها لم يُؤْمَن عليها من الغرق. ولم يزل يفكر فيما يعمله في باب الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه مع رجلٍ من تلاميذه كان يثق به، فخلا به منفردا معه بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه الهند شيئا، ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك المدة، وجلسا في مقصورةٍ، وردا عليهما الباب ثم بدأ في نظم الكتاب وتصنيفه. ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب، ويرجع هو فيه حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه أربعة عشر بابا، كل بابٍ منها قائم بنفسه، وفي كل باب مسألةٌ والجواب عنها ليكون لمن نظر فيه حظٌ من الهداية. وضمّن تلك الأبواب كتابا واحدا وسماه كتاب "كليلة ودمنة". ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهوا للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة. وضمّنه أيضا ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته، وجميع ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، وآخرته وأولاه، ويحضّه على حسن طاعته للملوك، ويجنّبه ما تكون مجانبته خيرا له. ثم جعله باطنا وظاهرا كرسم سائر الكتب التي برسم الحكمة: فصار الحيوان لهوا، وما ينطق به حكمةً وأدبًا. فلما ابتدأ بَيْدَبَا بذلك جعل أول الكتاب وَصْف الصديق، وكيف يكون الصديقان، وكيف تُقْطَع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذي النميمة. وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بَيْدَبا مثل ما كان الملك شَرَطَه في أنْ جعله لهوًا وحكمةً. فذكر بَيْدَبا أن الحكمة متى دخلها كلام النَّقَلة أفسدها وجُهِلت حكمتها. فلم يزل هو وتلميذه يُعْمِلان الفكر فيما سأله الملك حتى فَتَق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين، فوقع لهما موضع اللهو والهزل بكلام البهائم، وكانت الحكمة ما نطقا به. فأصغت الحكماء إلى حِكَمه وتركوا البهائم واللهو، وعلموا أنها السبب في الذي وُضِع لهم، ومالت إليه الجهّال عجبًا من محاورة بهيمتين، ولم يشكّوا في ذلك، واتخذوه لهوا، وتركوا معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وُضِع له لأن الفيلسوف إنما كان غرضه في الباب الأول أن يخبر عن تواصل الإخوان كيف تتأكد المودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية، والتحرز ممن يوقع العداوة بين المتحابين، ليجرّ بذلك نفعا إلى نفسه. فلم يزل بَيْدَبا وتلميذه في المقصورة حتى استتمّا عمل الكتاب في مدة سنةٍ.
فلما تم الحَوْل أنفذ إليه الملك أنْ قد جاء الوعد، فماذا صنعت؟ فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدتُ الملك، فلْيأمرني بحمله بعد أن يجمع أهل المملكة لتكون قراءتي هذا الكتاب بحضرتهم. فلما رجع الرسول إلى الملك سُرَّ بذلك، ووعده يوما يجمع فيه أهل المملكة. ثم نادى في أقاصي بلاد الهند ليَحْضُروا قراءة الكتاب. فلما كان ذلك اليوم أمر الملك أن يُنْصَب لبيدبا سريرٌ مثل سريره، وكراسيّ لأبناء الملوك والعلماء، وأنفذ فأحضره. فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب التي كان يلبسها إذا دخل على الملوك وهي المُسُوح السُّود، وحمل الكتاب تلميذه. فلما دخل على الملك وثب الخلائق بأجمعهم، وقام الملك شاكرا. فلما قرب من الملك كفر له وسجد، ولم يرفع رأسه. فقال له الملك: يا بيدبا، ارفع رأسك، فإن هذا يوم هناءةٍ وفرحٍ وسرورٍ. وأمره أن يجلس. فحين جلس لقراءة الكتاب سأله عن معنى كل باب من أبوابه، وإلى أي شيءٍ قصد فيه. فأخبره بغرضه فيه وفي كل باب، فازداد الملك منه تعجبا وسرورا، فقال له: يا بيدبا، ما عَدَوْتَ الذي في نفسي، وهذا الذي كنت أطلب، فاطلب ما شئت وتَحَكَّمْ. فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجَدّ. وقال: أيها الملك، أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار على لباسي ذا شيئا. ولستُ أُخْلِي الملك من حاجةٍ. قال الملك: يا بيدبا، ما حاجتك؟ فكل حاجةٍ لك قِبَلَنا مقضيّةٌ. قال: يأمر الملك أن يدوَّن كتابي هذا كما دون آباؤه وأجداده كتبهم، ويأمر بالمحافظة عليه، فإنى أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به، فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان، وكان مستأثرا بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل وقع له خبر الكتاب، فلم يَقَرّ قرارُه حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس".
وما دمنا فى سياق الحديث عن "ألف ليلة وليلة" وأشباهها من القصص فلعل من المستحسن والمفيد أن نورد هنا ما قاله المسعودى عنها فى كتابه الشهير: "مروج الذهب"، وهذا نص كلامه: "وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خُرَافات مصنوعة، نظمها مَنْ تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب "هزار أفسانه"، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية: ألف خُرَافة، والخرافة بالفارسية يُقال لها: "أفسانه". والناس يسمون هذا الكتاب: "ألف ليلة وليلة"، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما شيرزاد ودنيازاد، ومثل كتاب "فرزة وسيماس" وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب "السندباد"، وغيرها من الكتب في هذا المعنى".
وإذا كنا قد نقلنا قبل قليلٍ شيئًا من النصوص المتعلقة بترجمة بعض الآثار الأدبية من اللغات الأخرى إلى لسان يَعْرُب، فها نحن الآن أمام نص من نوع آخر، نص يتعلق بكتبٍ ألفها كاتب أعجمى بعضها بالعربية، وبعضها الآخر بالفارسية. والنص مأخوذ من "معجم الأدباء" لياقوت الحموى من الترجمة الخاصة بإبراهيم بن محمد بن حيدر بن على أبى إسحاق المولود في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. قال ياقوت: "له من التصانيف: كتاب "ديوان الأنبياء"، كتاب "شرح كليلة بالفارسية"، كتاب "الوسائل إلى الرسائل" من نثره، كتاب ديوان شعره بالفارسية، كتاب "الخطب في دعوات ختم القرآن"، سماه: "يتيمة اليتيمة"، كتاب "الطرفة في التحفة" بالفارسية، رسائل، وكتاب "أساس نامه" في المواعظ بالفارسية، كتاب "تعريف شواهد التصريف"، كتاب "أنموذار نامه"، يشتمل على أبيات غريبة من "كليلة ودمنة" شَرَحها بالفارسية، كتاب "كفتار نامه منطق"، كتاب "مرتع الوسائل ومربع الرسائل"...". وأهمية هذا النص تكمن فى أنه يُطْلِعنا على كُتُبٍ بالفارسية فى موضوعاتٍ أكثر العرب من التأليف فيها، وبذلك تكون أمامنا فرصة للإلمام بالمراجع الفارسية التى نحتاج العودة إليها عند رغبتنا فى الكتابة فى موضوع المقارنة بين هذين اللونين من الكتب.
ومعروف أن دور الترجمة فى التلاقح الثقافى بين الأمم المختلفة هو فى الذروة من الأهمية، ومن ثم كان الاهتمام الشديد من قِبَل الدارس المقارن فى مجال الأدب بهذه الوسيلة التى تصل ما بين الأمم ثقافيا. فى ضوء هذا ننظر فى النص التالى الذى خلّفه لنا سيد البيانيين العرب الجاحظ عمرو بن بحر فى كتابه: "الحيوان"، والذى لا يمكن أن نُتَّهَم بالمغالاة فى تقدير قيمته: "وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرْجِمَتْ حِكَم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم. وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرْن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها. فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر من البُنيان والشعر. ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرْجُمان لا يؤدِّي أبدا ما قال الحكيمُ على خصائِص معانيه وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفّيها حقوقها ويؤدِّيَ الأمانة فيها ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ. وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها وتأويلاتِ مخارجِها مثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه؟ فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق وابن ناعمة وابن قُرَّة وابن فِهريز وثيفيل وابن وهيلي وابن المقفَّع مثلَ أرِسطاطاليس؟ ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟ ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة في وَزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهما سواءً وغاية. ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنَّه قد أدخلَ الضَّيْمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها وتعترضُ عليها. وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة؟ فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات. وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجما يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء".
إن الجاحظ فى النص السابق إنما يَمَسّ قضية فى منتهى الخطورة فى ميداننا الذى نحن بصدده هنا، وهى قضية الترجمة التى عليها المعوَّل الأول فى التواصل والتلاقح الثقافى بين أمم الأرض. وهو يبرز الشروط التى لا بد من توفرها فيمن يريد التصدى لتلك المهمة إذا أراد أن يجىءَ عمله سليما ويُؤْتِىَ ثمارَه على أحسن وجه. وكلنا يحفظ المقولة الشائعة فى ذلك المجال، ألا وهى أن "المترجم خائن"، بمعنى أنه لا يمكن أن ينقل لنا على وجه الدقة والقطع والتطابق المطلق ما فى النص الذى ينقله إلى لغتنا مهما يكن من عبقريته وتفرده، وإنما كل ما يستطيعه أن يقلل إلى أدنى حدٍّ ممكنٍ الفجوةَ القائمةَ بين اللغتين والعقليتين والذوقين، أو باختصار: بين الثقافتين. ومع ذلك فسوف تظل ثمة نصوص تستعصى على الوصول بها إلى هذه الغاية، وهى نصوص الشعر وما إليها. وقد استطاع الجاحظ أن يضع يده على مكامن المشكلة فى طبيعة اللغات وطبيعة البشر على السواء رغم أنه قال ذلك منذ نحو اثنى عشر قرنا، لكنها العبقرية الجاحظية.
وفوق ذلك قد أمدنا، رحمه الله، بأسماء عدد من مترجمى العرب فى عز نهضتهم ومجدهم فى دولة بنى العباس. وقد أثنى على ما تركه لنا الجاحظ فى هذه النقطة كاتب اسمه فهد "Fahad" (فى موقع "alnadawi" على الــــرابط التـــالى: http://www.alnadawi.com/vb/showpost....54&postcount=1) قائلا: "وعلى الرغم من أنّ آراء الجاحظ عن الترجمة جاءت في القرن التاسع الميلادي، إلاّ أنها مازالت صالحة إلى يومنا الحاضر. فبعد مرور عشرة قرون عليها وضع المفكر الروسيّ بليخانوف(1856-1918م) شروطا للمترجم الجيد وللترجمة الجيدة تتطابق مع الشروط التي وضعها الجاحظ. كما أكد الدكتور سامي الدروبي (1921-1976م) في النصف الثاني من القرن العشرين على الشروط ذاتها".
وهناك موضوع آخر هام جدا، وهو يتعلق بعدم فهم المترجمين والشرّاح العرب لما قاله أرسطو فى كتابه: "الشعر" عن الملهاة والمأساة فى عالم الإبداع المسرحى، إذ جاء فى شرح ابن سينا لذلك الكتاب عن أنواع الشعر عند الإغريق ما يلى: "وكان لكل غرضٍ وزنٌ يختص به: فمنها نوع يسمى: "طراغوذيا" له وزن لذيذ يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانية ، ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك يُغَنَّى بين أيديهم بهذا الوزن، وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملك للنياحة والمرثية. ومنها نوع يسمى: "ديثرمبي"، وهو كــ"طراغوذيا" ما خلا أنه لا يخصّ به مدحة إنسان واحد أو أمة معينة بل الأخيار على الإطلاق. ومنها نوع يسمى:
"قوموذيا"، وهو نوع تُذْكَر فيه الشرور والرذائل والأهاجي، وربما زادوا فيه نغمات ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر الحيوان". أما ابن رشد فقد استخدم لهذين المفهومين (أى مفهومَىِ التراجيديا والكوميديا) مصطلحَىْ "مديح" و"هجاء"، مما لبَّس الأمر على القراء والمثقفين العرب طوال تلك العصور... إلى أن أعدنا النظر فى العصر الحديث إلى الإبداع المسرحى عند الإغريق وتنبهنا إلى الغلطة التى وقع فيها هؤلاء المفكرون العظام بسبب عدم وجود نص مسرحى مترجَم يمكن على نوره فهم الكلام النظرى الذى خلَّفه أرسطو فى ذلك الموضوع.
ولست أظننى فى حاجة للفت الأبصار إلى القيمة العظيمة لمثل هذا الكلام بالنسبة للدارس المقارِن فى مجال الآداب. وقيمتهما نابعة من أنهما يعكسان لنا رؤية العرب القدماء لطبيعة الشعر لدى اليونان، فهما بهذه المثابة جزء من الأدب المقارن ذاته، كما أنهما يصلحان فى ذات الوقت أن يُتَّخَذا مُتَّكَأً لدراسة الرؤية العربية لذلك الشعر، ومن ثم يكونان بهذه المثابة الأخرى موضوعا من موضوعات الأدب المقارن فى عصرنا الحالى وفيما بعده من عصور. وهما، على كل حال، يدلان على تهافت الرأى القائل بأن العرب لم يترجموا المسرح اليونانى نظرا لما فيه من وثنية تنزل بالآلهة إلى مرتبة البشر الفانين الضعفاء الشهوانيين، إذ إن العرب لم يطَّلعوا أصلا على ما أبدعه الإغريق فى هذا الميدان. والدليل على ما نقول هو أن كبار مفكرينا وفلاسفتنا فى القديم لم يستطيعوا أن يفهموا طبيعة الشعر الذى كان أرسطو يتحدث عنه فى كتابه، بل قاسوه على ما كانوا يعرفونه من شعر عربى.
والواقع أن لهم عذرا كبيرا فى ذلك، فإن فهم الشىء فرع من تصوره. وكيف كان بمستطاعهم ذلك التصور، وهم لم يقرأوا شيئا من مسرح اليونان: لا فى لغتهم ولا فى لغته، فضلا عن أن يكونوا قد شاهدوا بعض تلك المسرحيات؟ ولو كانوا عرفوا فعلاً هذا اللون من الشعر عند الإغريق واستنكروه لأعلنوا هذا الاستنكار ونصّوا على الأسباب التى نفّرتهم منه وجعلوه موضع انتقادهم وتهكمهم. أمّا، وأنهم لم يذكروا ولو مجرد ذكرٍ أسماءَ شعراء المسرح لدى الإغريق، فليس لهذا من معنى إلا أنهم لم يقرأوا لهم شيئا أصلا. وقد سبق أن تناولت هذا الموضوع فى الفصل الأول من كتابى: "دراسات فى المسرح" (مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 2000م/ 16- 20).
ومما يدل على أن التعلل بالوثنية فى المسرح اليونانى هو تعلل غير مقنع تلك النصوص التى أوردناها فيما مضى والتى تعرض لأشعار هوميروس (صاحب "الإلياذة" المملوءة بالخرافات الوثنية كما نعرف)، إذ لم يمنعهم من الإشادة به أنه صاحب تلك الخرافات، إلا إذا قيل إنهم حين أثنَوْا على شعره لم يكونوا يعرفون شيئا عما فى ذلك الشعر من وثنية، فعندئذ يكون هذا دليلا يعضد ما قلناه من أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا من باب الأَوْلَى عما فى مسرحيات الإغريق من وثنية أيضا.
ثم إن بعض الكتاب العرب قد تحدّث بصراحة تامة عن مثل تلك الاعتقادات لدى أمم أخرى فلم تحجزه هذه التحرجات المُفْتَرَضة على الإطلاق، كما هو الحال مثلا فيما كتبه ابن النديم فى "الفهرست" عن بعض العقائد والعبادات الوثنية لدى طائفة من الأمم وتصوّر أصحابها لآلهتهم، من مثل قوله فى الكلام عن بعض أعياد الحَرّانيّين (تحت عنوان "معرفة أعيادهم"): "أول سنتهم نسيان: أول يوم من نسيان والثاني والثالث يضرعون لآلهتهم بلثى، وهي الزهرة، يدخلون في هذا اليوم إلى بيت الآلهة جماعة جماعة متفرقين ويذبحون الذبائح ويحرقون الحيوان أحياء. ويوم السادس منه يذبحون ثورا لإلهتهم القمر ويأكلونه آخر النهار. ويوم الثامن منه يصومون ويفطرون على لحوم الخراف ويعملون في هذا اليوم عيدا للسبعة الآلهة والشياطين والجن والأرواح، ويحرقون سبعة خرفان للسبعة الآلهة، وخروفا لرب العميان، وخروفا للآلهة الشياطين. ويوم الخامس عشر منه يعملون سر الشمال وقربان تشميس وذبائح وإحراقات ويأكلون ويشربون. ويوم العشرين منه يخرجون إلى دير كادى، وهو دير على باب من أبواب حَرّان يسمى: "باب فندق الزيت"، ويذبحون ثلاثة زبرخ، والزبرخ فحل البقر: واحدا لقرنس الآلهة، وهو زحل، وواحدا لأريس، وهو المريخ، وهو الإله الأعمى، وواحدا للقمر، وهو سين الإله. ويذبحون تسعة خرفان: سبعة للسبعة الآلهة، وواحدا لإله الجن، وواحدا لرب الساعات، ويحرقون خرفانًا ودِيَكَةً كثيرةً. وفي يوم ثمانية وعشرين يخرجون إلى دير لهم في قرية تسمى: "سبتى" على باب من أبواب حَرّان يقال له: باب السراب، ويذبحون ثورا كبيرا لهرمس الإله، ويذبحون تسعة خرفان للسبعة الآلهة ولإله الجن ولرب الساعات، ويأكلون ويشربون، ولا يحرقون في هذا اليوم شيئا من الحيوان". وهذا النص وغيره من نصوص "الفهرست" فى الموضوعات المشابهة هو مما يندرج تحت البند الخاص بفهم بعض الأمم عقائد بعضها الآخر، وهو بدوره من موضوعات الأدب المقارن بالمكان الأصيل.
وبعد، فقد كان هذا حصاد جولة سريعة فى تراثنا النقدى، وهو (كما ترى) ليس بالحصاد القليل، ومن المؤكد أن هناك كثيرا جدا غيره، وهو ما يجيب بكل قوة على التأكيد الذى قرر فيه د. الطاهر أحمد مكى أن الجاحظ كان هو الاستثناء الوحيد من بين العلماء العرب القدماء فى هذا المجال (انظر كتابه: "فى الأدب المقارن"/ 11 وما بعدها). ليس ذلك فحسب، بل إن عز الدين المناصرة يقرر أن "الأدب المقارن" كان معروفا عند العرب، وكانوا يسمونه بــ"علم المقابلة"، وإن لم يعطنا معلومات أكثر من ذلك، ولو فعل وعرّفنا أين وجد ذلك وقدم لنا الوثائق المكتوبة على ما يقول لكان هذا كشفا عظيما ولعضّد أيما تعضيد هذه النصوص الكثيرة والمتنوعة التى اقتطفتها على عجل من أرجاء التراث العربى بفضل الله، ثم بفضل الذاكرة مستعينة بالمشباك، هذا الاختراع المبارك الذى يتفوق على جِنِّىّ المصباح السحرى. ولعل المناصرة قد فعل هذا فى كتاب أو مقال آخر له لم يقع لى (انظر مقاله: "الرائد التاريخى للأدب المقارن فى الوطن العربى" المنشورة فى كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: روحى الخالدى- إدوارد سعيد- عز الدين المناصرة- حسام الخطيب"/ فريال غزولى وآخرون/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "كتابات نقدية"- العدد 102/ 13). وقد حاولت أن أعثر على نصوص فى هذا السبيل من خلال المشباك مستعينا بالمصطلح الذى ذكره الكاتب فلم أوفَّق إلى شىء.
- د. إبراهيم عوض
(فصل من كتاب: "فى الأدب المقارن- مباحث واجتهادات")
www.facebook.com
ومن بين ما تحدث به الأستاذ الدكتور عن السرقات كلامه عما اتُّهِم به كل من المازنى ومحمد مندور بالأخذ عن الكتاب الأوربيين، واضعا تحت عين القارئ قصيدة الشاعر الإنجليزى توماس هود (ت 1845م) التى قيل إن المازنى قد سطا عليها فى قصيدته: "فَتًى فى سباق الموت"، ومؤكدا أن مندور قد سرق كل كتابه: "نماذج بشرية" (ما عدا فصلا واحدا هو الفصل الخاص بشخصية "إبراهيم الكاتب" فى رواية المازنى المعنونة بنفس العنوان) من كتاب جان كالفيه عن النماذج العالمية فى الأدبين الفرنسى والأوربى، وهو ما أثبتُّ صحة جانب كبير منه بالوثائق التى لا تكذب ولا تتجمل فى كتابى "د. محمد مندور بين أوهام الادعاءات العريضة وحقائق الواقع الصلبة". وعودةً إلى ما كنا بصدده أقول إننى لا أدرى لم سكت الأستاذان الفاضلان فى كتابيهما هذين فلم يحاولا أن ينبشا فى تراثنا النقدى عَلّهما يجدان شيئا يمكن القول بأنه يمثل بذورا أو أجنّة لذلك الحقل الجديد المسمى بــ"الأدب المقارن"، وقد كانا جديرين بأن يقوما بهذه المهمة خير قيام لو أنهما لم يجريا فى إثر الكتاب الأوربيين الذين كتبوا فى موضوع "الأدب المقارن"، إذ المسألة أبسط من ذلك كثيرا لو كانا عقدا النية ولم يضعا أعينهما على خطوات الدارسين الغربيين الذين لا يشغلهم أدبنا فى شىء ويصيخا بكل سمعهما وانتباههما إلى وقع تلك الخطوات وكأنها المثال الأعلى، وإن كان من الممكن فى نظر البعض التماس العذر لهما، فنحن قد دخلنا ميدان هذا العلم على أيدى الغربيين، ومن ثم كان الرواد منا فى هذا المجال يحسون بوطأة هذه اليد ولا يفكرون أن يقاوموها، فكانوا يرددون ما يقوله الغربيون ولا يريدون أن يخرجوا عنه، على أساس أنهم أصحاب الفضل، وأنه ليس من المعقول إنكار فضلهم، إذ نحن لا نزيد على أن نكون مجرد تلامذة تابعين، ولا يليق أن يخرج التلميذ عن طوع أستاذه، رغم أن مثل هذه المحاولة التى كنا ننتظرها منهم لا تدخل فى باب التمرد ولا جحد اليد، بل بالأحرى فى باب التكامل والتعاون والاستدراك المُغْنِى لا الإنكار المجحف.
وإذا كنا نتفهم موقف الدكتور محمد غنيمى هلال لأنه جاء مبكرا فكان عليه أن يركز على نقل كل ما عند الغربيين حتى نكون على بينة منه، فإن الأمر يختلف مع الدكتور مكى، الذى أتى بعد أن استتبت الأمور كثيرا وخَفَّتْ تلك اللهفة التى تصيب من يريد متابعة شىء جديد، وأصبح هناك مقدار كبير من الدراسات والبحوث، وعُقِد كثير من الندوات والمؤتمرات، وتخرجت أجيال بعد أجيال من الطلاب الذين درسوا الأدب المقارن، وتغلغلت جذور ذلك التخصص فى تربتنا الثقافية ولم يعد ثمة إمكانية للتراجع. لقد كتب الدكتور هلال كتابه فى أوائل الخمسينات من القرن الفائت، على حين كتب الدكتور مكى كتابه فى النصف الثانى من ثمانينات ذلك القرن، أى أن هناك فاصلا بين الكتابين يقدَّر بعشرات السنين، وهى مدة ليست بالهينة. أقول هذا رغم شمول التغطية فى كتاب الأستاذ الدكتور وتوسُّعه فى عدد من القضايا وجاذبية عرضه وحلاوة أسلوبه ودفء قلمه، وإن لم تُعْمِنا تلك الفضائل عن عدم مبالاته بذكر مراجعه أوّلاً بأوّل فى أسفل كل صفحة إلا على سبيل الاستثناء رغم اتكائه كثيرا على الكتب المشهورة فى ذلك الميدان كما هو بين من قائمة الكتب الطويلة التى أثبتها فى آخر الكتاب، وكذلك عن بعض الهَنَات النحوية. والسؤال الآن هو: هل فى كتاباتنا النقدية القديمة ما يمكن أن يمثل بذورا لذلك اللون من الدراسة الأدبية؟ لقد خصص الدكتور مكى بعد ذلك فى كتابه: "فى الأدب المقارن- دراسات نظرية وتطبيقية" (دار المعارف/ 1408هـ- 1988م) فصلا ممتعا (هو فى الأصل مقال كان قد نشره قبلا فى إحدى المجلات) عنوانه: "الجاحظ والأدب المقارن" (7- 29) أورد فيه بعض النصوص الجاحظية التى تدور حول المقارنة بين بعض جوانب الأدب العربى وما يقابلها فى أدب هذه الأمة أو تلك، وهى نصوص مهمة ولا شك، ويُحْمَد للأستاذ الدكتور صنيعه هذا كثيرا، لكنى كنت أحب أن يضم كتابه الضخم الشامل: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه" فصلا كبيرا فى هذا الموضوع يجول فيه جولة أوسع فى التراث العربى يبحث عن نصوص أخرى مشابهة بأقلام كتاب آخرين، لكنه للأسف لم يفعل، وهو ما دفعنى هنا إلى محاولة القيام بالأمر بنفسى لأرى أكان الجاحظ بِدْعًا فى ذلك كما يُفْهَم من كلام الدكتور (ص 11) أم إن المسألة أوسع من هذا.
لقد طفتُ بخاطرى طوفة سريعة فى تراثنا النقدى والبلاغى فاستطعت أن أتذكر كثيرا من النقاط الآتية، إلى جانب ما عثرت به من نصوص فى غاية الأهمية أثناء كتابتى للفصل الحالى، مما يُعَدّ مع ذلك قطعا متناثرة لا سلسلة متصلة من المؤلفين وكتاباتهم: فمثلا نقرأ النص التالى فى "البيان والتبيين" عند الجاحظ، وهو عن كيفية تأثير اللسان الأم على نطق اللغة الجديدة التى يكتسبها الإنسان فى كبره حتى لو كان ماهرا بها مهارة نظرية، بل حتى لو كان نحويا بارعا أو شاعرا متقدما فيها، إذ إتقان القواعد شىء، والقدرة على تطبيقها فى الكلام الملفوظ، وبخاصة فى مجال الصوتيات، شىء آخر. يقول الجاحظ العجيب عن زياد الأعجم، وكان شاعرا قويا من شعراء العصر الأموى: "كان زيادٌ النَّبَطيّ أخو حسَّان النبطيّ، شديدَ اللُّكْنة، وكان نحويّا، قال: وكان بخيلا، ودعا غلامَه ثلاثا فلما أجابه قال: فَمِنْ لَدُنْ دأَوْتُك إلى أنْ قلتَ: "لَبَّيْكَ" ما كنت تَصْنأ؟ يريد: مِن لدُن دعَوتُك إلى أنْ أجبتني ما كنت تصنع؟ قال: وكانت أمُّ نوحٍ وبلالٍ ابنَيْ جرير أعجميّة، فقالا لها: لا تَكَلَّمِي إذا كان عندنا رجال، فقالت يوما: يا نُوح، جُرْدانٌ دخَل في عِجَان أمّك؟ وكان الجُرَذ أكل من عجينها. قال أبو الحسن: أُهدِيَ إلى فيلٍ مولى زياد حمارُ وحش، فقال لزياد: أَهْدَوْا لنا هِمارَ وهْش، قال: أيَّ شيء تقول، ويلك؟ قال: أهدوا إلينا أَيْرًا (يريد: عَيْرًا). قال زياد: الثّاني شرٌّ من الأوَّل. وقال يحيى بن نوفل:
إن يكُ زيدٌ فصيحَ اللسانِ = خطيبا فإنَّ استهُ تَلحنُ"
صحيح أن المقارنة هنا فى اللغة، لكن اللغة (كما هو معروف) هى الواسطة التعبيرية التى ينتقل بها الأدب من المبدع إلى متلقيه. وعلى كل حال فالنص دليل ساطع على أن الذهن العربى كان متنبها وبقوة إلى مبدإ المقارنة فى مجال اللغة والأدب والفكر.
ومن الشواهد التى استطاع الكتّاب العرب القدماء رصد تسربها إلى الشعر أحيانا ما جاء فى "العِقْد الفريد" من قول ابن عبد ربه: "وكان صُهَيْب أبو يحيى رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صُهيب سابق الروم. وكان عبيد الله بن زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبَل زوج أُمه شِيرَوَيْه الأسواريّ. وكان زياد الأعجم، وهو رجل من بني عبد القيس، يَرْتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه:
فتى زاده السُّلتان في الحمد رغبةً * إذا غيَّر السُّلْتانُ كلَّ خَليل
يريد السلطان. وذلك أن بين التاء والطاء نسبا، لأن التاء من مخرج الطاء".
وقد ورد ما قاله ابن عبد ربه هنا عن زياد الأعجم عند المبرد أيضا فى كتابه: "الكامل فى اللغة والأدب"، وإنْ صحبته شواهد أخرى غير التى أوردها صاحب "العِقْد"، مع بعض التوضيح لما سجله من انحراف لغوى عن المستوى المعيارى المعروف فى لغة الضاد. قال: "وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الأسواري. ويقال: إن عليا عليه السلام عاد زيادا في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوما لرجل كلّمه فظنّ به رأْي الخوارج: أَهَرُورِيٌّ منذ اليومِ؟ يريد: "أَحَرُورِيٌّ". وهذه "الهاء" تشترك في قَلْبها من "الحاء" أصنافٌ من العجم. وكان زيادٌ الأعجم، وهو رجلٌ من عبد القيس، يرتضخ لكنةً أعجمية يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم. وأنشد المهلَّبَ بن أبي صفرة في مدحه إياه:
فتى زاده السُّلْتانُ في المدح رغبةً * إذا غير السُّلْتانُ كلَّ خليلِ"
وفى ترجمة أمية بن أبى الصلت من كتاب: "طبقات الشعراء" لابن سلام يقابلنا النص التالى: "وكان أمية بن أبى الصلت كثير العجائب، يذكر فى شعره خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شام أهل الكتاب". فابن سلام يتنبه إلى ما يسمى فى الأدب المقارن بقضية التأثير والتأثر بين ثقافات الأمم المختلفة، إذ يرى ناقدنا أن أمية بن أبى الصلت قد خرج على اهتمامات الشعراء الجاهليين فأخذ يتكلم عن خلق السماء والأرض وعن الملائكة وما إلى هذا، ولم يبال بالوقوف على الأطلال ووصف البادية وحيوانها، وأن السبب فى ذلك هو مخالطته لأهل الكتاب، بخلاف شعراء الجاهلية الذين كانوا وثنيين ولا يهتمون بالتعرف إلى ثقافة غيرهم، ولهذا جاء شعرهم جميعا ماء واحدا بخلاف شعر أمية على ما وصفه ابن سلام. وقد مضى كل من ابن قتيبة فى "الشعر والشعراء" والأصفهانى فى "أغانيه" خطوة أبعد فى الكلام عن تلك السمات المميزة لشعر ابن أبى الصلت. جاء فى "الأغانى" أن أمية " كان يستعمل في شعره كلمات غريبة. أخبرني إبراهيم بن أيّوب قال: حدّثنا عبد الله بن مسلم قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عز وجل الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب، فمنها قوله: "قمرٌ وساهورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ". وسمّاه في موضع آخر: "التغرور"، فقال: "وأيّده التغرور". وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة". وقد شرح ابن قتيبة فى كتابه" "الشعر والشعراء" بعض هذه الألفاظ قائلا: "وقد كان قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله جل وعز... وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرةٍ لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب... ومنها قوله: قَمَرٌ وساهُورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ. والساهور، فيما يذكر أهل الكتاب، غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف. وقوله في الشمس:
لَيْسَتْ بطالِعَةٍ لَهُمْ في رِسْلِها * إِلاَّ مُعَذَّبَةً وإِلاَّ تُجْلَدُ
يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع وقالت: لا أَطْلُع على قومٍ يعبدونني من دون الله، حتى تُدْفَع وتُجْلَد فتَطْلُع! ويُسَمِّى السماء في شعره: "صاقورة وحاقورة وبرقع". ويقول في الله عز وجل: "هو السَّلْطيطُ فَوْقَ الأَرْضِ مُقْتَدرُ".. وهذه أشياء منكَرةٌ، وعلماؤنا لا يرون شعره حجةً في اللغة".
وثمة شعراء آخرون غير أمية استطاع النقاد العرب التقاط ما كانوا يستخدمونه من ألفاظ أعجمية فى غير الشعر الدينى نَصُّوا عليها، كما هو الحال فيما كتبه ابن قتيبة فى "الشعر والشعراء"، إذ قال مثلا عن أوس بن حجر الشاعر الجاهلى: "قالوا: وجمع ثلاثة ألفاظٍ أعجميةٍ في بيت واحد، فقال:
وقارَفَتْ، وهي لم تَجْرَبْ، وباعَ لها * منَ الفَصافِصِ بالنُّمِّىِّ سِفْسِيرُ
الفصافص: الرطبة، وهي بالفارسية إسبست، والنمى: الفلوس بالرومية، والسفسير: السمسار". وفى "معجم الأدباء" لياقوت الحموى نطالع نصًّا آخر فى ذات الموضوع، إذ جاء فى أثناء كلامه عن الشاعر القاضى أبى مرشد سليمان بن علي الذى كان يعاصر تسلط الصليبيين على معرة النعمان حيث كان يشتغل قبلها قاضيا فيها: "ومن شعره...:
ولما سألتُ القلب صبرا عن الهوى * وطالبتُه بالصدق وهو يروغُ
تيقنت منه أنه غير صابر * وأنّ سُلُوًّا عنه ليس يسوغُ
فإن قال: لا أسلوه، قلت: صَدَقْتَني * وإن قال: أسلو عنه، قلت: دروغُ
هذه كلمة أعجمية معناها: كذب".
وفى نفس الموضوع كذلك نقرأ ما سطرته يد التنوخى صاحب "نشوار المحاضرة" أثناء حكايته القصة الطريفة التالية لَدُنْ كلامه عن الشاعرة عائدة الجُهَنِيّة: "أنشدتني عائدة بنت محمد الجهنية لنفسها، وهذه امرأة فاضلة كاتبة كانت زوجة عم الوزير ابن شيرزاد، وخليفته على كتابة بجكم وسبكتكين في الديوان الذي كان لأبي جعفر، وجاءه ابن زُرَيْق فحُجِب، ثم دخل بحيلةٍ على ما أخبرنا. قال: فأنشدته هذه الأبيات، فلما وَلِيَ الوزارة نفعه واستخدمه. فلما قبض على الحسن بن علي المنجم، وحبس ابنته في دار أبي رضي الله عنه وَكَّلَ هذه المرأة بها، وهي إذ ذاك عجوز، فكانت تناشدنا الأشعار، وتنشدنا لنفسها كل شيء جيد. فأخبرتني أنها قالت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي لما وَلِيَ الوزارة، وتعيبه بقصر قامته وهزاله:
شاورني الكرخي لما دنـا الـنيرو * ز والسـنّ له ضاحكة
فقال: ما نُهْدِي لسلطاننا * من خيرِ ما الكفّ له مالكة؟
قلت له: كل الهدايا سوى * مشورتي ضائعة هالكة
أَهْدِ له نفسك حتى إذا * أشعل نارا كنتَ دوباركه
أنشدتْني ذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة. الدوباركه: كلمة أعجمية، وهي اسم للُعَبٍ على قدر الصبيان يخلونها أهل بغداد في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها، ويخرجونها في زيٍّ حَسَنٍ من فاخر الثياب والحليّ، ويحلّونها كما يُفْعَل بالعرائس، وتخفق بين يديها الطُّبُول والزُّمُور، وتشعل النيران. فهَجَتْه هذه المرأة بما تحقق عندي أنها صادقة فيه لأنه يليق بكلام النساء. وقد كانت تنشدني لنفسها أفحل من هذا الكلام، وكتبتُ ذلك عنها، وهو ثابت في مواضع من كتبي، وما تعلق بحفظي لها غير هذه الأبيات". فهذه ملاحظة سديدة تحتل موضعها فى "الأدب المقارن" بكل استحقاق واقتدار، إذ تتعلق بتسرب الألفاظ الأجنبية فى نصوص الأدب القومى، وهو ما يتيح فرصة للدارس المقارن كى يتتبع المسار الذى اتخذته هذه الألفاظ إلى أن دخلت تلك النصوص، ويتعرف إلى العوامل التى كانت وراء ذلك، ويبين مدى تقبل الناس هذا الأمر أو إنكارهم إياه والدوافع التى كانت تسوقهم نحو هذا الموقف أو ذاك... إلى آخر ما يمكن أن يثيره مثل هذا الموضوع.
وفى "البيان والتبيين" يوضح الجاحظ السبب فى ذلك، إذ يرى أن اختلاط العرب بالأمم الأجنبية قد يترتب عليه أن يترك العربى الكلمة العربية الأصيلة ويلجأ، فى الاستعمال اليومى على الأقل، إلى اللفظة الأعجمية. قال: "ألا ترى أنّ أهلَ المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفُرْس في قديم الدّهر عَلِقُوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمُّون "البِطِّيخ": الخِرْبِز، ويسمُّون "السميط": الرَّزْدَق، ويسمُّون "المَصُوص": المَزُور، ويسمون "الشِّطرنج": الأشْترَنْج، في غير ذلك من الأسماء. وكذلك أهلُ الكوفة، فإنّهم يسمُّون "المِسْحَاة": بال، و"بَالْ" بالفارسيّة. ولو عَلِق ذلك لغةَ أهل البصرة إذْ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبَهَ، إذ كان أهلُ الكوفة قد نزلُوا بأدنى بلاد النَّبَط وأقصى بلاد العرب. ويسمي أهلُ الكوفة "الحَوْك": الباذَرُوج، و"الباذروج" بالفارسية، و"الحَوْك" كلمة عربيّة. وأهلُ البصرة إذ التقت أربعُ طرق يسمُّونَها: مُربَّعة، ويُسمّيها أهلُ الكوفة: الجهار سوك، و"الجهار سُوك" بالفارسيّة. ويسمّون "السُّوق والسُّوَيْقة": وازار، و"الوازار" بالفارسيّة، ويسمُّون "القِثَّاء": خِيَارًا، و"الخيار" بالفارسيّة، ويسمُّون "المجدوم": وَيذِي، بالفارسية، وقد يستخفُّ النَّاسُ ألفاظًا ويستعملونها، وغيرُها أحقُّ بذلك منها". ويقابلنا عند الجاحظ أيضا فى "البيان والتبيين" نص على درجة كبيرة من الأهمية يصف فيه ناقدنا وأديبنا القدير تعريفات البلاغة لدى الأمم المختلفة: "خبَّرني أبو الزُّبير كاتبُ محمَّدِ بن حَسَّان، وحدّثني محمد بن أبان، ولا أدري كاتِبَ مَن كان، قالا: قيل للفارسيّ: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفَصْل من الوصل، وقيل لليونانيّ: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكَلام، وقيل للروميّ: ما البلاغة؟ قال: حُسْن الاقتضاب عند البداهة، والغَزارة يَوْمَ الإطالة، وقيل للهنديّ: ما البلاغة؟ قال: وضُوح الدّلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة، وقال بعضُ أهل الهند: جِمَاع البلاغة البَصَر بالحُجّة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: ومن البصر بالحُجّة والمعرفِة بمواضع الفُرصة أن تدَعَ الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإفصاحُ أوعَرَ طريقةً، وربما كان الإضرابُ عنها صَفْحًا أبلَغَ في الدَّرَك وأحقَّ بالظَّفَر". ويلاحَظ أن كل تعريف من تلك التعاريف إنما ينظر إلى الأمر من زاوية خاصة بحيث نراها فى النهاية تتكامل ولا تتناقض، وهو ما يدل على أن البلاغة أكبر من أن تنحصر فى ذوق أمة واحدة من الأمم، بل كلٌّ يركز عليها من جانب واحد من جوانبها ليس إلا، وهو ما عبر العرب عنه بقولهم: "لكل مقام مقال". أى أن على السياق فى الكلام (وفى غير الكلام أيضا، وهو ما يعرف الآن بــ"نظرية السياق") مُعَوَّلا كبيرا. بيد أننا كنا نؤثر لو استطاع الجاحظ أن يورد لنا صاحب كل قول من هذه الأقوال وموقعه من ثقافة أمته وأدبها، لكنه للأسف لم يفعل! المهم أن النص الذى أمامنا الآن هو من نصوص الدراسة المقارنة المبكرة والهامة فى تراثنا النقدى.
وفى موضع آخر من "البيان والتبيين" أيضا يسوق الجاحظ هذا النص الذى يتناول تأئر البلاغة العربية بما نُقِل من بلاغة الهند بشىء من التفصيل أكبر، إذ يورد نص صحيفة هندية تتعرض لتعريف البلاغة فى مجال الخطابة: "قال معمَّر أبو الأشعث: قلتُ لبَهلْة الهنديّ أيَّامَ اجتلَب يحيى بنُ خالدٍ أطبّاءَ الهند مثل مَنكْة وبازَيْكر وقِلبِرَقْل وسِنْدباذ وفُلان وفُلان: ما البلاغةُ عندَ الهند؟ قال بَهْلة: عندنا في ذلك صحيفةٌ مكتوبة، ولكنْ لا أُحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثِقَ من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيصِ لطائِفِ معانيها، قال أبو الأشعث: فلقيتُ بتلك الصحيفة التَّراجمةَ فإذا فيها: أوّل البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيبُ رابطَ الجأْش، ساكن الجوارح، قليلَ اللّحْظ، متخيَّر اللَّفْظ، لا يكلِّم سَيِّدَ الأمَة بكلام الأمَة ولا الملوكَ بكلام السُّوقة، ويكونَ في قُواه فضْلُ التصرُّف في كلِّ طبقة، ولا يدقِّق المعاني كلَّ التدقيق، ولا يُنقّحَ الألفاظ كل التنقيح، ولا يُصَفّيَها كلَّ التّصفية، ولا يهذّبَها غاية التهذيب، ولا يفعلَ ذلك حتى يصادِفَ حكيما أو فيلسوفا عليما، ومَن قد تعوَّد حذف فُضول الكلام، وإسقاطَ مشتركاتِ الألفاظ، وقد نَظَر في صناعة المنطق على جهة الصِّناعة والمبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفُّح، وعلى وجه الاستطراف والتظَرُّف". ويدور الكلام فى هذه السطور على مراعاة مبدإ مقتضى الحال، وهو ما كان العرب يقصدونه بقولهم: "لكل مقامٍ مقال" حسبما مر قبل قليل، وعلى أن يترك الأديب متنفَّسا كافيا للطبع فلا يسرف فى مراعاة أصول الصنعة حتى لا يتخشَّب الإبداع تخشُّبًا.
وللجاحظ كذلك مقارنات بين العرب وبعض الأمم الأخرى فى فَنَّىِ الخطابة والرسائل هى من صميم الدراسات الأدبية المقارنة، إذ عرض فى "البيان والتبيين" ما قالته الشعوبية من أن "الخطابة شيءٌ في جميع الأمم، وبكلِّ الأجيال إليه أعظم الحاجة، حتَّى إنّ الزّنْج مع الغَثَارة، ومع فرط الغَباوة، ومع كلال الحَدّ وغِلَظ الحسّ وفساد المزاج، لَتُطيل الخُطَبَ، وتفوق في ذلك جميعَ العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظُها أخْطَلَ وأجهل. وقد علمْنا أنّ أخطبَ النَّاسِ الفُرْس، وأخطبَ الفرس أهل فارس، وأعذبَهم كلاما وأسهلهم مخرجا وأَحسنهم دَلاّ وأشدَّهم فيه تحكما أهلُ مرو، وأفصحَهم بالفارسية الدَّرِيَّةِ وباللغة الفَهْلَويّة أهلُ قصبة الأهواز. فأمّا نَغْمةُ الهَرابذة ولغةُ المَوَابذة فلصاحب تفسير الزَّمزمة. قالوا: ومَن أحبَّ أن يبلُغ في صناعة البلاغة ويعرفَ الغريب ويتبحَّرَ في اللغة فلْيقرأ كتاب كارْوَنْد، ومَن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعِبَر والمَثُلات والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة فلْينظُرْ في سِيَر الملوك. فهذه الفرسُ ورسائُلها وخطبها، وألفاظُها ومعانيها. وهذه يُونان ورسائلُها وخطبُها، وعِلَلُها وحِكَمُها، وهذه كتُبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماءُ بها تعرف السَّقَم من الصِّحّة، والخطأَ من الصَّواب. وهذه كتبُ الهندِ في حِكَمها وأسرارها، وسِيَرها وعللها. فمن قرأ هذه الكتبَ، وعرفَ غَوْرَ تلك العقول، وغرائبَ تلك الحِكَم، عرف أين البيانُ والبلاغة، وأين تكاملَتْ تلك الصِّناعة. فكيف سَقَط على جميع الأُمَم من المعروفين بتدقيق المعاني وتخيّر الألفاظ وتمييز الأمور أن يشيروا بالقَنا والعِصيّ، والقُضبان والقِسيّ؟ كلاّ، ولكنكم كنتم رعاةً بين الإبل والغنم، فحملتم القَنا في الحضَر بفضل عادتكم لحملها في السَّفَر، وحملتموها في المَدَر بفَضْل عادتكم لحملها في الوبَر، وحملتموها في السِّلم بفضْل عادتكم لحملها في الحرب. ولطُول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامُكم، وغلُظت مخارجُ أصواتكم، حتَّى كأنّكم إذا كلّمتم الجلساء إنّما تخاطِبون الصُّمَّان. وإنما كان جُلُّ قتالِكم بالعصيّ، ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال: لسنا نُقاتِل بالعصِيِّ ولا نُرامِي بالحجارة".
ثم كرّ الجاحظ على هذا الادعاء مفندا ما يحويه من شبهاتٍ شبهةً شبهةً: "وجملة القول أنَّا لا نعرف الخُطَبَ إلاّ للعرب والفُرْس، فأما الهندُ فإنما لهم معانٍ مدوَّنة، وكتُبٌ مخلّدة، لاتضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنّما هي كتبٌ متوارَثة، وآدابٌ على وجه الدَّهر سائرةٌ مذكورة.
ولليونانيِّين فلسفةٌ وصناعةُ منطق، وكان صاحبُ المنطقِ نفسُه بَكِيَّ اللسان، غيرَ موصوفٍ بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه. وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطَقَ الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة. وفي الفُرس خُطباء، إلاّ أنّ كلَّ كلامٍ للفُرس وكلَّ معنىً للعجم فإنّما هو عن طُولِ فكرة وعن اجتهاد رأي وطُول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طُول التفكُّر ودِراسة الكتُب، وحكايةِ الثاني علمَ الأول، وزيادةِ الثالث في علم الثاني، حتَّى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخِرِهم.
وكلُّ شيءٍ للعرب فإنّما هو بديهةٌ وارتجال، وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرفَ وَهْمَه إلى الكلام، وإلى رَجَزِ يومِ الخصام، أو حين يمتَح على رأس بئر، أو يحدُو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وَهْمَه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعِين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهرَ وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهَر، وكل واحدٍ في نفسه أنطَق، ومكانُه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أَوْجَد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، ويحتاجوا إلى تدارُس، وليس هم كمن حفِظ علمَ غيرِه، واحتذى على كلام مَن كان قَبله، فلم يحفظوا إلاّ ما عَلِق بقُلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب، وإنّ شيئاً هذا الذي في أيدينا جزءٌ منه لَبِالمقدار الذي لا يعلمه إلاّ مَن أحاط بقَطْر السَّحابِ وعدد التُّراب، وهو اللَّه الذي يحيط بما كان، والعالِمُ بما سيكون.
ونحن، أبقاك اللَّه، إذا ادّعينا للعرب أصنافَ البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعَنا العلم أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الدِّيباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبْك والنَّحت، الذي لا يستطيع أشعَرُ الناس اليومَ ولا أرفعهُم في البيان أن يقول مثلَ ذلك إلاّ في اليسير والنَّبْذ القليل. ونحن لا نستطيع أن نَعلم أنّ الرسائل التي بأيدي الناس للفُرْس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمةٌ غير مولَّدة، إذْ كان مثل ابن المقفَّع وسهل بن هارون وأبي عُبَيد اللَّه وعبد الحميد وغيلان يستطيعون أن يولِّدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر. وأخرى: أنّك متى أخذتَ بيد الشُّعوبيّ فأدخلتَه بلادَ الأعراب الخُلَّص، ومعدِنَ الفصاحة التامّة، ووقَفْتَه على شاعرٍ مُفْلِق، أو خطيبٍ مِصْقَع، علم أنَّ الذي قلتَ هو الحقُّ، وأبصَرَ الشاهد عِيانا، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم".
وفى "الحيوان" للجاحظ أيضا نقرأ هذا التعليق الذى رد به على من يُثْبِت طول الخطب للزنوج: "وأما ما ذَكَرَ بهِ الزّنجَ من طول الخُطب فكذلك همْ في بلادهم وعند نوائبهم، ولكنَّ معانيهم لا ترتفع عن أقدار الدوابِّ إلاّ بما لا يُذْكَر". فهذه النصوص هى من صميم الدراسات الأدبية المقارنة، لأنها فى المقارنة بين المواهب العقلية والفنية لدى العرب وبين مواهب الفرس والهند والإغريق وانعكاس ذلك فى فنين من الفنون الأدبية هما الخطابة وكتابة الرسائل الديوانية وما يرتبط بهما من تقاليد فنية واجتماعية، وكذلك العوامل التى ساعدت على ظهور هذه المواهب والتقاليد، وأدت إلى نشوء تلك الفروق التى رأى الجاحظ أنها تميز كل أمة عن الأخرى.
وإذا كانت النصوص الجاحظية السابقة فى المقارنة بين العرب وغيرهم فى ميدانَىِ الخطب والرسائل فإن النص التالى، وهو كذلك من كتابه: "البيان والتبيين"، هو فى المقارنة الشعرية: "وقد ذكرنا أنَّ الأمم التي فيها الأخلاقُ والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم، وقال حُكَيم بنُ عيَّاش الكلبيُّ:
ألم يكُ مُلْكُ أرضِ اللَّه طُرّاً * لأربعةٍ له متميِّزينا
لحِمْيَرَ والنَّجاشِي وابنِ كِسرى * وقَيصَر غيرَ قولِ المُمْتَرينا
فما أدري بأيّ سببٍ وضع الحبشةَ بهذا المكان. وأما ذكرهُ لِحِمْيَر فإنْ كانَ إنّما ذهب إلى تُبَّعٍ نفسِه في الملوك فهذا له وجه، وأما النَّجاشيّ فليس هو عند الملوك في هذا المكان. ولو كان النجاشيُّ في نفسه فوق تُبَّع وكِسرى وقيصر لما كان أهلُ مملكته من الحبَش في هذا الموضع، وهو لم يفضِّل النجاشيَّ لمكانِ إسلامه. يدلُّ على ذلك تفضيلُه لكسرى وقيصر. وكان وَضَع كلامه على ذكر الممالك، ثم ترك الممالك وأخذ في ذكر الملوك، والدَّليل على أن العرب أنطقُ، وأن لغتَها أوسع، وأن لفظَها أدلُّ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثالَ التي ضُرِبت فيها أَجْوَد وأَسْيَر، والدَّليل على أن البديهة مقصورٌ عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصٌّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمِّيه الرُّوم والفرس: "شعرا"، وكيف صار النَّسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يُصاب في العرب إلاّ القليلَ اليسير، وكيف صارت العرب تقطّع الألحانَ الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونا على موزون، والعجمُ تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسُط حتّى تدخل في وزن اللحن فتضعَ موزونا على غير موزون". وبالمناسبة فهذه الملاحظات المقارنة تحتاج بدورها إلى من يدرسها دراسة مقارنة للتثبت من مدى صحتها أو تهويلها أو نُدُودها عن الصواب جملة وتفصيلا والأسباب التى أدت بالجاحظ إلى هذا أو ذاك فى حالة ما لو ثبت أنها ملا حظات غير سديدة... إلخ.
وفى هذا السياق من المقارنة بين الأدب العربى فى بعض خصائصه وبعض الآداب الأجنبية نورد هذا النص المهم من "المثل السائر" لابن الأثير فى مسألة طول القصائد وقِصَرها بين الشعر العربى ونظيره الفارسى، إذ كان ابن الأثير يوازن بين فَنَّىِ النثر والشعر ويرصد الفروق بينهما، إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير فقال إنه مما لا يحسن فى الذوق العربى أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعانى ويستوفى الكلام فيها مما هو أليق بالنثر. وهنا ينطلق فى موازنة بين العرب والفرس فى تلك النقطة قائلا إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتى بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير
منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يَفْضُلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنَّفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر".
وقد نقل الدكتور السعيد محمد جمال الدين هذا النص ووازن بينه وبين ما قاله الدكتور طه حسين من أن الشعر الفارسى يقوم على تقليد رصيفه العربى فى جوانب منه، ورأى أن ابن الأثير كان أكثر إنصافا من طه حسين، الذى قال إنه أرجع كل شىء فى الأدب الفارسى بكل ما يتميز به من عبقرية إلى الأدب العربى (د. السعيد محمد جمال الدين/ نقوش فارسية على لوحة عربية/ الدار الثقافية للنشر/ القاهرة/ 1420هـ- 2000م/ 86- 88). والحق أن طه حسين لم يقل هذا بالضبط، بل كل ما قاله هو أن الشعر الفارسى (لا أدب الفرس أجمع) يدين للأدب العربى "بناحية من أنحائه"، يقصد الأوزان الشعرية. وأنا أفهم محبة الأستاذ الدكتور للأدب الفارسى، على الأقل لأنه تخصصه، فضلا عن أنه يستطيع تذوقه أفضل من غيره ممن لا يتصلون به إلا عن طريق الترجمات، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بقراءة الشعر. لكن هذا شىء، والظن بأن طه حسين يرجع كل شىء فى آداب الفرس إلى احتذاء الأدب العربى ليس غير هو شىء آخر مختلف.
كذلك أحب أن أهدى إلى الأستاذ الدكتور النص التالى الذى عثرت به أثناء تجوالى فى تراثنا الأدبى والنقدى للحصول على أكبر قدر من النصوص المقارنة فيه، وهو يتعلق بـ"الشاهنامه"، التى حاول أن يجد فى كتب نقدنا القديم كل ما يتعلق بها فلم يعثر فيما يبدو لى إلا على نص ابن الأثير السالف. والنص موجود فى كتاب صلاح الدين الصفدى: "نصرة الثائر على المثل السائر"، الذى ألفه للرد على بعض ما جاء فى كتاب ابن الأثير كما هو واضح من عنوانه، وهو يجرى على النحو التالى: "قال (أى ابن الأثير) في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة. وهو مُجِيد في ذلك كله. وهذا لا نزاع فيه، لأننا رأيناه وقلناه.
وعلى هذا فإني وجدت العجم يَفْضُلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنَّفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف شاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم. وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة اليها كقطرة من بحر".أقول: قد ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال مَعْمَر بن المثنَّى ولا سهل بن هارون ولا ابن غَرْسِيَه في رسالته مثل هذا. وقد وُجِد في أهل اللسان العربي مَنْ نظَم الكثير أيضا. وإنْ عَدّ هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة، منهم من نَظَم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب كليلة ودمنة في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضا. وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي (عُرِف بـ"ابن الدجاجية") نظَم كتاب "المهذَّب" قصيدة علي رَوِيّ الراء سماها: "البديعة في أحكام الشريعة"، انتهى. قلت: والمهذب في أربع مجلدات.
وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدةٍ عِدّتها ثمانية عشر ألف بيت. ولابن الهبارية كتاب "الصادح والباغم" في ألفي بيت، كل بيت منها قصرٌ مَشِيد، ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها "لو" ولا "ليت". وأما من نَظَم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما "الشاطبية" وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:
جلا الرّعينيّ علينا ضحى * عروسه البكر ويا ما جلا
لو رامها مبتكرٌ غيره * قالت قوافيها له الكل: لا
وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم "الوجيز" و"منظومة الحنفية" وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم فكثير جدا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضَّل اللغة العربية. برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي وبندار وأبا حاتم والزمخشري وغير هؤلاء لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها، هاموا بها وكَلِفوا بمحاسنها، وأَفْنَوُا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أَقْيِستها وغرائب فنونها. ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأَفْنَوْا مدة العمر، وهي ما لا يُخْلَف، في شيء هو دون غيره، والأَوْلَى بهم وبكل عاقلٍ الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم. ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها "أفعل التفضيل" ما عرَّجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم. ومن الكَلِم النوابغ للزمخشري: "فَرْقك بين الرُّطَب والعجم فَرْقك بين العرب والعجم". ومنها: "العرب نَبْعٌ صلب المعاجم، والغَرَب مثلٌ للأعاجم". فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رُطَبا والعجم عجما، والعجم بتحريك الجيم هو النوى، وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صُلْب تُتَّخَذ منه القِسِيّ، وجعل العجم مثل شجر الغَرَب، وهو خَوّار. قال المتنبي:
فلا تَنَلْك الليالي، إنّ أيديها * إذا ضربْن كَسَرْن النبع بالغَرَبِ
فإن قلتَ: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلتُ: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم إنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها؟ ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك الملكة، كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها لاشتباك العلوم بعضها ببعض واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها. ولا يضع اللغة إلا حكيم. ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك؟ وهذا أمر غير خاف. وأما قوله إن "كتاب شاه نامه ستون ألف بيت كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب"، فإن هذه الدعوى لا تُسْمَع مجردةً عن البرهان الذي يؤيدها. ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه؟ هذا ليس في قُوَى البشر في لغة من اللغات.
سلّمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب. كما تقول: القمر أشد نورا من النجوم، والشمس أشد نورا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلا.
وكلٌّ له فضله، والحُجُو = ل يوم التفاضل دون الغررْ
فهل جيّد العجم مِثْل جيّد العرب، كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر؟ أو كجيّد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نُوَاس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي:
ألم تر أنّ السيف ينقص قيمةً * إذا قلت إنّ السيف أمضى من العصا؟
وإنما قلّ الجيّد في الشعر لأن البلغاء وعلماء الأدب انْتَقَوُا الجيّد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يُحْذَى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم، فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر. ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه، إلى غير ذلك من أنواع البديع، وهو ما يقارب المائة نوع؟ هيهات ما بينهما صيغة أفعل. وذكر الحصري في "زهر الآداب" أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: "الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمّه رجل منا". انتهى. وقد أنصف ابن خلف في قوله: "وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان".
وأما دعواه أن الشاعر لا يُحْسِن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية، وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مُخَلًّى ونفسه: إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروّجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وكيف، ولم يزل للشعر ماءٌ * يرفّ عليه ريحان القلوب؟
وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على "المثل السائر"، وقد سامحته في كثير سِقْطُه فيه ظاهر".
ولا ريب فى أن هذا النص يشهد للصفدى (وهذه ميزة فى معظم علمائنا القدامى) بسعة الاطلاع وحضور الشواهد على مَدّ ذراعه رغم أنه كان يعيش فى عصر لا يعرف المشباك (الإنترنت) ولا الفهارس. وبالمثل لا بد من التنبيه عنده إلى روح الحب الغلاب للعرب وكل ما يتصل بهم من لغة وأدب وفكر. لكنى لا أستطيع أن أشاركه الزعم بأن الآداب الأخرى تخلو من التشابيه والاستعارات والكنايات، وإن كان كلامه فى البديع لا ينطبق عليه هذا، إذ يبدو لى أن لساننا، فى عصور معينة منه على الأقل، قد استعمل المحسنات البديعية أكثر جدا مما فعل أى أدب آخر مما نعرف. وعلى كل حال فإن هذا النص هو من النصوص الكاشفة فى ميدان المقارنات الأدبية فى نقدنا القديم.
ومع ابن قتيبة فى النص التالى يلقانا جانب آخر من جوانب الدراسة الأدبية المقارنة، ألا وهو المقارنة بين موضوعات الشعر العربى ونظامه العروضى وما يقابل ذلك فى الأشعار الأعجمية، بالإضافة إلى الأشكال العروضية التى أخذها الشعر الفارسى قبل الإسلام من لغة الضاد. يقول: "وللعرب شعر لا يَشْرَكها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافى والتشبيه ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفَلَوات وسُرَى الليل والنجوم. وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم فى مُطْلَق من الكلام، ثم سمع بَعْدُ قومٌ منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك فى الفارسية وشبّهوه بالعربية". فابن قتيبة فى هذه السطور يتناول موضوعا من موضوعات الأدب المقارن، وهو موضوع تأثير أدب أمة من الأمم على أدب أمة أخرى، والتأثير هنا فى موضوعات الشعر وموسيقاه، وإن لم يفصّل عالمنا القديم القضية بما يضع النقط على الحروف كما نقول اليوم.
وتحت عنوان "في التنبيه على خطإ المعاني وصوابها..." يكتب أبو هلال العسكرى فى "كتاب الصناعتين" قائلا: "إن الكلام ألفاظٌ تشتمل على معان تدلّ عليها ويعبّر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، لأنَّ المدار بَعْدُ على إصابة المعنى، ولأنّ المعاني تحلّ من الكلام محلَّ الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسْوة، ومَرْتبة إحداهما على الأخرى معروفة. ومن عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيّأ له فيها من صنعة الكلام مثل ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي فحوَّلها إلى اللسان العربي؟ فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ". ففى هذا النص إشارة كاشفة إلى أحد المصادر التى امتاح منها بعض الكتاب العرب ذوى الباع الأوفى فى الكتابة الديوانية، وهو ما ينبهنا إلى أحد المسارات التى سلكتها صنعة الأسلوب الأدبى فى ذلك المجال الكتابى من الفرس إلى العرب فى أواخر العصر الأموى.
وثمة مسألة ذات أهمية شديدة فى ميداننا هذا، وهى البحث فى تمايز الأذواق والفُهُوم الأدبية بين لغة ولغة. وقد عثرت على هذا النص المهم وأنا بصدد تأليف الفصل الحالى، وهو عبارة عن حوار بين عمرو بن عبيد المعتزلي وأبي عمرو بن العلاء التميمي حول مدى التطابق أو الاختلاف بين استعمال إحدى الكلمات فى لغة ما واستعمالها هى ذاتها فى لغة مغايرة تبعا لتباين الأذواق فى الأمتين: "جاء عمرو بن عُبَيْد المعتزلي إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي فقال: يا أبا عمرو، يُخْلِف الله وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أَوعده الله على عمل عقابا، أيُخْلِف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: مِن العُجْمة أُتِيتَ يا أبا عثمان. إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تَعُدّ عارا ولا خُلْفا أن تَعِد شرًّا ثم لا تفعله، بل ترى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخُلف أن تَعِد خيرا ثم لا تفعله. قال: فأَوْجِدْني هذا في كلام العرب. قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول :
وإنّيَ، إن أَوْعَدْتُه أو وَعَدْتُه * لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوْعِدي؟"
ليس ذلك فقط، بل هناك النص المهم التالى، وهو فى النعى على من يفتتنون بالمصطلحات والمفاهيم الفلسفية والنقدية الإغريقية التى كان ابن قتيبة وأمثاله من المخلصين للثقافة العربية والإسلامية لا يَرْحُبون بها صدرا. قال ابن قتيبة فى مقدمة كتابه: "أدب الكاتب": "فإنِّي رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيِّرين، ولأهله كارهين: أما النَّاشئ منهم فراغب عن التعليم، والشَّادي تارك للازدياد، والمتأدِّب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين. فالعلماء مغمورون، وبكرَّة الجهل مقموعون حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البرّ، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارا علَى صاحبه، والفضل نقصا، وأموال الملوك وقفا علَى شهوات النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخَلَق، وآضت المروءات في زخارف النَّجد وتشييد البُنيان، ولذَّات النفوس في اصطفاق المزاهر ومعاطاة الندمان، ونُبِذت الصنائع، وجُهِل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزُهِد في لسان الصدق وعقد الملكوت، فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشِّعر أبياتا في مدح قَيْنَة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحَدِّ المنطق، ثمَّ يعترض علَى كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب وهو لا يدري من نقله. قد رضي عوضا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف، وفلان دقيق النظر. يذهب إلى أن لُطْف النظر قد أخرجه عن جملة النَّاس وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم: الرَّعاع والغُثَاء والغُثْر، وهو لَعَمْرُ الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق، لأنه جهل وظنَّ أنْ قد علم، فهاتان جهالتان، ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المُعْجَب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياهُ الله بنور الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنَصَبَ لذلك وعاداهُ، وانحرف عنه إلى علم قد سلَّمه ولأمثاله المسلمون، وقلَّ فيه المتناظرون، له ترجمةٌ تروق بلا معنى، واسمٌ يَهُول بلا جسم. فإذا سمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قوله: الكون والفساد، وسَمِع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع، وظن أن تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يَحْلَ منها بطائل، إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعَرَضُ لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة. ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي الأمر والاستخبار والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، والآنُ حدُّ الزمانين، مع هذيان كثير، والخبر ينقسم إلى تسعة آلاف وكذا وكذا مائة من الوجوه. فإذا أراد المتكلم أن يستعمل بعض تلك الوجوه في كلامه كانت وَبالا على لفظه، وقيدا للسانه، وعِيًّا في المحافل، وعُقْلَةً عند المتناظرين.
ولقد بلغني أن قوما من أصحاب الكلام سألوا محمد بن الجَهْم البرمكيَّ أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق حسنة لطيفة، فقال لهم: ما معنى قول الحكيم: "أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة"؟ فسألوه التأويل، فقال لهم: مَثَلُ هذا رجلٌ قال: "إنِّي صانع لنفسي كِنًّا" فوقعت فكرته على السقف، ثمَّ انحدر فعلم أن السقف لا يكون إلا على حائط، وأن الحائط لا يقوم إلا على أُسّ، وأن الأُسَّ لا يقوم إلا على أصل، ثمَّ ابتدأ في العمل بالأصل، ثمَّ بالأسِّ، ثمَّ بالحائط، ثمَّ بالسقف؛ فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدء فكرته. فأية منفعةٍ في هذه المسألة؟ وهل يجهل أحد هذا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذه الألفاظ الهائلة. وهكذا جميع ما في هذا الكتاب. ولو أن مؤلف "حد المنطق" بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْمِ، أو يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمة وفَصْلَ الخطاب.
فالحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن، أيده الله، من هذه الرذيلة، وأبانه بالفضيلة، وحَبَاه بِخِيم السلف الصالح، وردَّاه رداء الإيمان، وغشَّاه بنوره، وجعله هُدًى من الضلالات، ومصباحا في الظلمات، وعرَّفه ما اختلف فيه المختلفون، على سَنَن الكتاب والسُنَّة، فقلوب الخيار له مُعْتَلِقةٌ، ونفوسهم إليه مائلة، وأيديهم إلى الله فيه مَظانَّ القبول ممتدَّةٌ، وألسنتهم بالدعاء له شافعة: يهجع ويستيقظون، ويغفُل ولا يغفُلون. وحُقَّ لمن قام لله مقامه، وصبر على الجهاد صَبْرَهُ، ونوَى فيه نِيَّته، أن يلبسه الله لباس الضمير، ويُرَدِّيه رداء العمل الصالح، ويَصُور إليه مختلفات القلوب، ويُسعده الصدق في الآخرين".
وهو نص يكشف لنا اختلاف الأذواق الأدبية والنقدية فى ذلك العصر الذى كانت تتجاذبه نزعتان: عربية إسلامية واضحة مستقيمة لا تعرف التكلف والتنطس، وأخرى أجنبية يغرم أصحابها بالمصطلحات الغريبة والطنطنات التى تروع بعض المثقفين والكتّاب وتستولى على عقولهم كما هو حادث الآن فى بيئة الكتاب والأدباء، إذ نجد من يردد المصطلحات الحديثة والأسماء الأوربية دون أن يكون على شىء من العلم بها، ويستعملها كثيرا فى كتاباته فى تخبط وتعتيم فيفسد غاية الإفساد، وهو يظن أنه قد أتى على نهاية العلم والمعرفة، على حين أنه لا يفقه مما يكتب كثيرا ولا قليلا.
كذلك هناك هذا النص الآخر فى المقارنة بين اللغة العربية وعلم المنطق اليونانى الذى كان كثير من العرب والمسلمين، فضلا عن النصارى بالذات، مفتونين به أشد الفتنة، ومدى استغناء لسان الضاد عنه أو احتياجه إليه. وفيه يورد كاتبه مناظرة طويلة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات عام 320 للهجرة النبوية بين أبى سعيد السيرافى اللغوى المعروف ومتى بن يونس المترجم الذى نقل عددا من كتب يونان فى العلوم الطبيعية والفلسفية على عهد العباسيين. والنص موجود فى ترجمة السيرافى من "معجم الأدباء" (ط2/ دار الفكر/ بيروت/ 1400هـ- 1980م/ 8/ 190- 227)، وسنكتفى منه بما يلى (ص 201- 206):
"قال أبو سعيد: ... أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تُدِلّ به، وتُبَاهِى بتفخيمه، وهو الواو، وما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟ فبُهِت متّى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإنْ مَرّ المنطقي باللفظ فبالعَرَض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعَرَض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى. قال أبو سعيد: أخطأتَ، لأن المنطق والنحو، واللفظ والإفصاح، والإعراب والبناء، والحديث والإخبار والاستخبار، والعَرْض والتمني، والحَضّ والدعاء، والنداء والطلب، كلها من وادٍ واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلا لو قال: نطق زيد بالحق ولكنْ ما تكلم بالحق، وتكلم بالفُحْش ولكنْ ما قال الفُحْش، وأعرب عن نفسه ولكنْ ما أفصح، وأبان المراد ولكنْ ما أوضح، أو فاهَ بحاجته ولكنْ ما لَفَظ، أو أخبر ولكنْ ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرّفا ومناقضا، وواضعا للكلام في غير حقه، ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره؟ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان، يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان، لأن مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تُزْهَى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتُعَار، ويُسَلَّم لك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة، واجتلاب الثقة، والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلَّغ بهذا القدر إلى أغراضٍ قد هذّبَتْها لي يونان". فالكلام فى النص، كما هو واضح لا يحتاج إلى فضل بيان، هو عن المقارنة بين الثقافة العربية الإسلامية متمثلةً فى قواعدها النحوية والصرفية، وبين الثقافة الإغريقية متمثلةً فى المنطق اليونانى. وهذا باب من أبواب الأدب المقارن، على الأقل إذا فتحناه على آخره.
أما فى كتاب "الروض المعطار فى خبر الأقطار" لابن عبد المنعم الحِمْيَرى فنقرأ (فى مادة "النوشجان") هذه السطور المهمة التى تتعلق بتحديد مكان فى بلاد فارس زاره المتنبى ووصفه فى نونيته التى قالها مَقْصِدَه عضد الدولة البويهى ليمدحه: "النوشجان: من بلاد فارس، وفيها شِعْب بَوّان، فيه شجر الجوز والزيتون والكروم وغير ذلك من الفواكه، وهو أحد المواضع المشهورة بالحسن، وفيه يقول المتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغاني * بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها * غريب الوجه واليد واللسانِ"
وهو ما يمكن دخوله، ولو بشىء من التوسع، فى باب صورة البلاد الأجنبية فى الأدب القومى وكيفية تشكُّل تلك الصورة ومدى مطابقتها للواقع أو نأيها عنه، وهذا من موضوعات الأدب المقارن كما هو معروف.
ومن هذه الموضوعات أيضا دراسة المادة الجغرافية والاجتماعية والإثنيّة والأنثروبولوجية التى تقدمها كتب الرحلات فى خلال حديثها عن الأمم الأجنبية والبلاد التى تقطنها، ومنه ما يجده القارئ فى كتاب "معجم البلدان" وأشباهه حين يعرض مؤلفوها لما قرأوه فى هذه الموضوعات لدى غيرهم من المصنفين. ففى مادة "إِرَم" مثلا عند ياقوت الحموى نقرأ الآتى: "... وروى آخرون أن إرم ذات العماد التي لم يُخْلَق مثلها في البلاد: باليمن بين حضرموت وصنعاء من بناء شداد بن عاد. ورَوَوْا أن شداد بن عاد كان جبارا، ولما سمع بالجنة وما أعد الله فيها لأوليائه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار والغُرَف التي من فوقها غُرَفٌ قال لكبرائه: إني متخذ في الأرض مدينة على صِفَة الجنة. فوكّلَ بذلك مائة رجل من وكلائه وقهارمته، تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان، وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيها تُربةً. ومكّنهم من الأموال ومثّل لهم كيف يعملون، وكتب إلى عماله الثلاثة: غانم بن عُفوان والضحاك بن عُلوان والوليد بن الريان يأمرهم أن يكتبوا إلى عُمّالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب والفضة والدُّرّ والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فيوجِّهوا به إليه. ثم وجَّه إلى جميع المعادن فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة. ثم وجَّه عماله الثلاثة إلى الغواصين إلى البحار فاستخرجوا الجواهر فجمعوا منها أمثال الجبال، وحُمِلَ جميع ذلك إلى شداد. ثم وجَّهوا الحفارين إلى معادن الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر فاستخرجوا منها أمرا عظيما. فأمر بالذهب فضُرِب أمثال اللَّبِن، ثم بنى بذلك تلك المدينة وأمر بالدر والياقوت والجَزْع والزَّبَرْجَد والعقيق ففَضَّض به حيطانها وجعل لها غُرَفا من فوقها غُرفٌ وعَمَّد جميع ذلك بأساطين الزبرجد والجَزْع والياقوت. ثم أجرى تحت المدينة واديا ساقه إليها من تحت الأرض أربعين فرسخا كهيئة القناة العظيمة. ثم أمر فأُجْرِىَ من ذلك الوادي سَوَاقٍ في تلك السكك والشوارع والأزقّة تجري بالماء الصافي، وأمر بحافَتَيْ ذلك النهر وجميع السواقي فطُلِيَت بالذهب الأحمر وجُعِلَ حصاه أنواع الجواهر الأحمر والأصفر والأخضر فنصب على حافتَيِ النهر والسواقي أشجارا من الذهب مُثمرة، وجعل ثمرها من تلك اليواقيت والجواهر، وجعل طول المدينة اثني عشر فرسخا وعرضها مثل ذلك، وصيَّر سورها عاليا مشرفا، وبنى فيها ثلاثمائة ألف قصر مفضَّضًا بواطنُها وظواهرها بأصناف الجواهر. ثم بنى لنفسه في وسط المدينة على شاطىء ذلك النهر قصرا منيفا عاليا يشرف على تلك القصور كلها، وجعل بابه يُشْرَع إلى الوادي بمكان رحيب واسع ونصب عليه مِصرَاعَيْن من ذهب مُفَضَّضَيْن بأنواع اليواقيت، وأمر باتخاذ بنادق من مسك وزعفران فأُلْقِيَت في تلك الشوارع والطرقات، وجعل ارتفاع تلك البيوت في جميع المدينة ثلاثمائة ذراعٍ في الهواء، وجعل السور مرتفعا ثلاثمائة ذراع مفضَّضا خارجه وداخله بأنواع اليواقيت وظرائف الجواهر، ثم بنى خارج سور المدينة كما يدور ثلاثمائة ألف منظرة بِلَبِن الذهب والفضة عالية مرتفعة في السماء مُحْدِقة بسور المدينة لينزلها جنودُه، ومكث في بنائها خمسمائة عام. وإن الله تعالى أحب أن يتخذ الحُجّة عليه وعلى جنوده بالرسالة والدُعاء إلى التوبة والإنابة فانتَجَب لرسالته إليه هودا عليه السلام، وكان من صميم قومه وأشرافهم. وهو في رواية بعض أهل الأثر: هود بن خالد بن الخُلُود بن العاص بن عمليق بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وقال أبو المنذر: هو هود بن الخلود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وقيل غير ذلك، ولسنا بصَدَدَه. ثم إن هودا عليه السلام أتاه فدَعَاه إلى الله تعالى وأمره بالإيمان والإقرار برُبُوبية الله عز وجل ووحدانيته، فَتَمادَى في الكفر والطُغيان، وذلك حين تم لمُلْكه سبعمائة سنة، فأنذره هود بالعذاب وحَذّرَه وخوّفه زوال ملكه، فلم يرتدع عما كان عليه ولم يجب هودا إلى ما دعاه إليه. ووافاه الموكَّلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها، فعزم على الخروج إليها في جنوده، فخرج في ثلاثمائة ألف من حَرَسَهِ وشاكريته ومواليه وسار نحوها، وخلّف على ملكه بحضرموت وسائر أرض العرب ابنه مرثَد بن شَداد، وكان مرثد، فيما يقال، مُؤمنا بهُود عليه السلام. فلما قرب شداد من المدينة وانتهى إلى مرحلة منها جاءت صَيْحَة من السماء فمات هو وأصحابه أجمعون حتى لم يبق منهم مخبر. ومات جميع من كان بالمدينة من الفَعَلَة والصناع والوكلاء والقهارمة، وبقيتْ خلاءً لا أنيسَ بها، وساخت المدينة في الأرض فلم يدخلها بعد ذلك أحد إلا رجل واحد في أيام معاوية يقال له: عبد الله بن قِلابة، فإنه ذكر في قصة طويلة تلخيصها أنه خرج من صنعاء في بِغَاء إبِلٍ له ضلّت فأفَضَى به السيرُ إلى مدينة صِفَتُها كما ذكرنا وأخذ منها شيئا من بنادق المسك والكافور وشيئا من الياقوت، وقصد إلى معاوية بالشام وأخبره بذلك وأراه الجواهر والبنادق، وكان قد اصفرّ وغيرته الأزمنة، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار وسأله عن ذلك، فقال: هذه إرَمُ ذات العماد التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، بناها شداد بن عاد، وقيل: شداد بن عمليق بن عُوَيج بن عامر بن إرم، وقيل في نسبه غير ذلك، ولا سبيل إلى دخولها، ولا يدخلها إلا رجل واحد صِفَتُه كذا، وَوَصَفَ صِفَةَ عبد الله بن قلابة. فقال معاوية: يا عبد الله، أما أنت فقد أحسنتَ في نُصحنا، ولكن ما لا سبيل إليه لا حِيلَةَ فيه. وأمر له بجائزة فانصرف. ويقال إنهم وقعوا على حفيرة شداد بحضرموت، فإذا بيت في الجبل منقور مائة ذراع في أربعين ذراعا، وفي صدره سريران عظيمان من ذهب على أحدهما رجل عظيم الجسم، وعند رأسه لوح مكتوب فيه:
اعتبر يا أيهـا المغـرور بالعمر المـديدِ
أنـا شــداد بــن عـــــــاد * صاحب الحضن المَشِيدِ
وأخو الـقـوة والـبـــــــأ * ســاء والملك الحـشـيــدِ
دَان أهـلُ الأرض طُرًّا * لِيَ من خـــَوف وعيـدي
فأتـــــى هودٌ وكـنــــــا * في ضـلالٍ قبـــــل هـودِ
فدعانا لـو أَجـبـنــــــــا * ه إلى الأمر الـرشـيــــدِ
فَعَـصـينَـاه ونــادَانـــــا: * ما لكم؟ هلَ من مَحِيـدِ؟
فأتتـنَـا صـيحة تـهـوي * من الأفق البعيــــــــــــــدِ
قلت: هذه القصة مما قدَّمْنا البراءَة من صحَتها وظننّا أنها من أخبار القُصّاص المنمَّقة وأوضاعها المزوَّقة". فها هنا نرى الحموى يسوق الحكاية أولا ثم لا يكتفى بذلك بل يدلى برأيه فيها ويراها من عمل القُصّاص وخيالاتهم الفسيحة التى يراد بها التسلية، وإن لوحظ أنه لم يبسط القول فى الحيثيات التى بنى عليها رأيه هذا.
ومثله ما أورده ياقوت أيضا فى مادة "الإسكندرية" فى معجمه المارّ ذكره مما رواه الحكاؤون عن تلك المدينة، إذ قال عما اشتهرت به من بياض مبانيها: "ولأهل مصر بَعْدُ إفراط في وصف الاسكندرية، وقد أثبتتها علماؤهم ودونوها في الكتب فيها وهم. ومنها ما ذكره الحسن بن إبراهيم المصري، قال: كانت الإسكندرية لشدة بياضها لا يكاد يبين دخول الليل فيها إلا بعد وقت. فكان الناس يمشون فيها وفي أيديهم خِرَق سُود خوفا على أبصارهم، وعليهم مثل لبس الرهبان السواد، وكان الخياط يُدْخِل الخيط في الإبرة بالليل. وأقامت الاسكندرية سبعين سنة ما يُسْرَجُ فيها ولا يُعْرَف مدينة على عَرْضها وطولها. وهي شطرنجيةٌ ثمانية شوارع في ثمانية. قلت: أما صفة بياضها فهو إلى الآن موجود، فإن ظاهر حيطانهم شاهدناها مبيَّضة جميعها إلا اليسير النادر لقوم من الصعاليك، وهي مع ذلك مُظْلِمة نحو جميع البلدان. وقد شاهدنا كثيرا من البلاد التي تنزل بها الثلوج في المنازل والصحارى ومساعدة النجوم بإشراقها عليها، إذا أظلم الليل أظلمت كما تُظْلِم جميع البلاد، لا فرق بينهما. فكيف يجوز لعاقل أن يصدّق هذا ويقول به؟". فكما ترى فإن ياقوتا لا تفارقه عينه النقدية ولا يورد شيئا لا يطمئن إليه قلبه وعقله إلا نبّه على ما فيه من أوهام ومبالغات.
وفى "زهر الأَكَم فى الأمثال والحِكَم" يعرض اليوسى لما قاله بعض النقاد العرب القدماء من أن الحِكَم التى اشتهر بها أبو الطيب المتنبى إنما أخذها عن أرسطو، وليس له فيها من فضل: "وقال (أى المتنبى):
وأَظْلَم أهل الظلم من بات حاسدا * لمن بات في نَعْمائه يتقلبُ
قال صاحب "الرسالة الحكيمة": وهو قول أرسطوطاليس: "أقبح الظلم حَسَدك لعبدك ومن تُنْعِم عليه". قلت: وهو غلط. إن كانت رواية هذه الحكمة هكذا فإنَ أبا الطيب إنّما أراد عكسها، وهو أنَّ أقبح الظلم أنْ يحسدك من تُنْعِم عليه وتُحْسِن إليه بدليل سياق كلامه. وقال:
وقد يترك النفس التي لا تهابه * و يحترم النفس التي تتهيب
وقال أيضا:
لا بد للإنسان من ضجعة * لا تقلب المُضْجَع عن جَنْبِهِ
ينسى بها ما مر من عُجْبه * وما أذاق الموت من رَكْبِهِ
نحن بنو الموتى، فما بالنا * نعاف ما لا بد من شُرْبِهِ؟
تبخل أيدينا بأرواحنا * على زمنٍ هي من كَسْبِهِ
فهذه الأرواح من جَوِّهِ * وهذه الأجسام من تُرْبِهِ
لو فكر العاشق في منتهى * حسن الذي يَسْبِيه لم يَسْبِهِ
وهو معنى قول أرسطوطاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهّد في حقائقها، والعشق عَمَى النفس عن دَرْك رؤية المعشوق. والذي قبله هو معنى قوله أيضا: اللطائف سماوية، والكثائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول. وقال:
يموت راعي الضأن في جهلهِ * موتة جالينوسَ في طبّهِ
... و قال:
وغاية المُفْرِط في سِلْمِهِ * كغاية المفرط في حَرْبِهِ
وهو قريب من قول أرسطوطاليس: آخر إفراط التوقّي أوّل موارد الحذر". وهذا، كما نرى، نوع من المقارنة بين بعض النصوص الأدبية فى لغة الضاد ونظائرها فى الأدب أو الفكر الإغريقى، مما لا يحتاج إلى أى مسوغ آخر لتبوئه مكانا مُسْتَحَقًّا فى الأدب المقارن.
ويجرى فى نفس المجرى ما كتبه النويرى عن ذات المسألة فى كتابه: "نهاية الأرب فى فنون الأدب"، إذ قال: "وقد جُمِع من شعر أبي الطيب في ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس في الحكمة، فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة. قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كِبَارًا * تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكَيّ والفَصْد اللذين يُفْسِدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبي إلى شعره فقال:
تموت مع المرء حاجاته * وتبقى له حاجةٌ ما بَقِي
وقال المتنبي:
ذِكْرُ الفتى عمرُه الثاني، وحاجته * ما قاتَه، وفضول العيش أشغالُ
وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها. نقله المتنبي إلى شعره فقال:
لعل عَتْبك محمودٌ عواقبه * فربما صَحَّت الأجسادُ بالعِلَلِ
وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما علة دينية خوف معاد، أو علة سياسية خوف سيف. قال المتنبي:
والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد * ذا عِفَّةٍ فلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ"
والواقع أن مرجع كل كلام فى هذه المسألة هو الكتاب الذى وضعه فى هذا الموضوع محمد بن الحسن الحاتمي بعنوان "الرسالة الحاتمية في سرقات المتنبي من أرسططاليس"، وما عقّبنا به على النص السابق هو نفسه ما نعقّب به هنا.
وقد كانت العرب تدرس هذه المسائل فى باب "السرقات" فى كتب البلاغة والنقد، إلا أن العبرة (كما هو معلوم) بالمضمون لا بالشكل والمصطلح. فالسرقة فى داخل الأدب القومى ليست كالسرقة إذا تمت بالسطو على أدب أمة أخرى، وهذا النوع الأخير يدخل فى باب "الأدب المقارن"، وهذا هو الاصطلاح الذى قبلناه، وأدخلنا معه ذلك التخصص فى مقررات جامعاتنا وتبنيناه فى دراساتنا وبحوثنا ورسائلنا العلمية. وقد يكون قريبًا من هذا الوادى، وإن خلا الكلام هنا من الاتهام، قول بهاء الدين العاملى فى كتابه: "الكشكول" إن جلال الدين الرومى صاحب "الَمْثَنِوى" (الذى يلقّبه بــ"العرّاف" لتصوفه) قد رد بقول بعض الصوفية على من سأله: "مالك إذا تكلمت بكى كل من يسمعك ولا يبكي من كلام واعظ البلد أحد؟" قائلاً إن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجَرة، وإن لم يُورِد للأسف كلام الرومى.
وفى مواضع متعددة من كتابه نراه يشير إلى الرجل إعجابا بشعره، ومن ذلك قوله فى أبيات جميلة له يذكر أنها من سوانح سفر الحجاز، وهى أبيات خمرية يطلب فيها من نديمه المبادرة بملء الأقداح وطرح لوم اللوام والتمسك بالرجاء فى عفو الله وغفرانه، ثم يضيف قائلا:
يا مُغَنِّي، إن عندي كلّ غَمّ ججج * قُمْ وأَلْقِ الناي فيها بالنغمْ
غنِّ لي دورًا، فقد دار القدحْ * والصَّبا قد فاح، والقُمْرِي صَدَحْ
واذكرنْ عندي أحاديث الحبيب ججج * إن عيشي من سواها لا يطيب
واحذرنْ ذكرى أحاديث الفراقْ جج * إن ذكر البعد مما لا يطاقْ
روِّحَنْ روحي بأشعار العربْ * كي يتم الحظ فينا والطرب
وافتتح منها بنظمٍ مستطابْ * قلته في بعض أيام الشبابْ:
قد صرفنا العمر في قيلٍ وقالْ * يا نديمي، قم فقد ضاق المجالْ
ثم أطربْني بأشعار العَجَمْ * واطردنْ همًّا على قلبي هجمْ
وابتدىء منها ببيت المثنوي * للحكيم المولويّ المعنوي
قم وخاطبني بكل الألسنة * عَلَّ قلبي ينتبهْ من ذي السِّنَة
إنه في غفلة عن حالهِ * خابطٌ في قيله معْ قالهِ
كل آن فهو في قيد جديد ج * قائلاً من جهله: هل من مزيد؟
وهو ما يعنى أن الرومى كان مقروءا بين العرب على هذا النطاق الواسع.
ومثل هذه الإشارة نجدها عنده أيضا إلى خسرو وشيرين، إذ بعد أن أورد فى "الكشكول" أبياتا رقيقة فى الغزل لعفيف الدين التلمسانى المعروف بــ"الشاب الظريف" عقّب قائلا إن البيت الأخير منها يحوم حول ما قاله النظامى فى "خسرو وشيرين". وهذا هو النص المقصود، وفيه أولا أبيات العفيف التلمسانى، ثم تعليق العاملى عليها:
تحرَّشَ الطَّرْفُ بين الجِدّ واللعبِ * أفنى المدامعَ بين الحزن والطربِ
كم ذا أردّد في أرض الحمى قدمي * تردُّدَ الشك بين الصدق والكذبِ
كأنني لم أعرِّسْ في مضاربها * ولم أَحُطَّ بها رحلي ولا قَتَبي
ولم أغازل فتاة الحي مائسةً * في روضـــها بين دُرّ الحَلْي والذهبِ
تبدي النِّفار دلالاً وهي آنسةٌ * يا حُسْن معنى الرضا في صورة الغضبِ
البيت الأخير من هذه الأبيات يحوم حول قول العارف السامي الشيخ نظامي في كتاب "خسرو وشيرين"...".
وإذا كان العاملى قد اكتفى بتلك الإشارة السريعة فإن القزوينى فى كتابه: "آثار البلاد وأخبار العباد" قد أمدنا بنبذة صالحة عن النظامى وأعماله والظروف التى أبدعها فيها. قال عند حديثه عن مدينة جنزة الفارسية: "يُنْسَب إليها أبو محمد النظامي. كان شاعرا مُفْلِقا عارفا حكيما. له ديوانٌ حَسَنٌ، وأكثر شعره إلهيات ومواعظ وحِكَم ورموز العارفين وكناياتهم. وله "داستان خسرو وشيرين"، وله "داستان ليلى ومجنون"، وله "مخزن الأسرار وهفت بيكر". ولما نظم فخري الجرجاني "داستان ويس ورامين" للسلطان طغرلبك السلجوقي (وإنه في غاية الحسن، شعره كالماء الجاري كأنه يتكلم بلا تعسف وتكلف) أراد النظامي "داستان خسرو وشيرين" على ذلك المنوال، وأكثر فيه من الإلهيات والحكم والمواعظ والأمثال والحكايات الطيبة، وجعله للسلطان طغرل بن أرسلان السلجوقي، وكان السلطان مائلاً إلى الشعر والشعراء، فوقع عنده موقعا عظيما، واشتهر بين الناس وكثرت نسخه. وأما "داستان ليلى ومجنون" فطلب منه صاحب شروان نظمه له، وكان في فنه عديم النظير. تُوُفِّيَ بقرب تسعين وخمسمائة".
أما حاجى خليفة فقد كتب فى "كشف الظنون" فى التعريف بهذا الأثر الأدبى وأشباهه فى الفارسية والتركية قائلا إن "خسرو وشيرين" واحدة "من المثنويات الفارسية والتركية التي نُظِمت في قصة عاشق ومعشوق: أما الفارسية فللشيخ نظامي الكنجي المتوفى سنة ست وتسعين وخمسمائة نظمها في بحر الهزج، وهو من خمسته المشهورة أوله: "خداواندا در توفيق بكشاي". وفي جوابه مثنويات منها نظم مير خسرو الدهلوي المتوفى سنة خمس وعشرين وسبعمائة أوله: "خداوند دلم را جشم بكشاي". أتمه في رجب سنة ست وتسعين وستمائة. ونظم مولانا الوحشي أوله: "إلهي سينه ده آتش أفروز". ونظم آصف خان أوله: "خداوندا دلي ده شاد أزاندوه". ونظم عبد الله الهاتفي أوله: "خداوندا بعشقم زندكي ده". وأما التركية فلمولانا شيخي الكرمياني ابتدأ فيه بأمر من السلطان مراد الغازي، ولم يكمله، وكمله أخوه الجمالي، وهو نظم سليس مقبول عند الشعراء. ومنها نظم مولانا آهي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة. ونظم جليلي أوله: "نه ديوان كه آكه الله أوله عنوان". ونظم خليفة، ونظم معيد زاده". وهذه كلها معلومات على قدر كبير من الأهمية لكل من الباحث المقارِن والناقد وكاتب السيرة ومؤرخ الأدب على السواء.
وفى "الفهرست" لابن النديم صفحات كثيرة خصصها للنَّقَلة الذين تَوَلَّوْا ترجمة الآثار الأجنبية فى ميدان الفكر أو الأدب مما لدى الهنود والإغريق والفرس، والجهود التى بذلوها فى هذا السبيل، وأسماء بعض الكتب التى نهضوا بعبء نقلها إلى اللسان العربى... وهكذا. ومما التقطته من كلامه فى هذه الموضوعات إشارة هامة إلى بعض شعراء اليونان القدماء كهوميروس مثلا، الذى جاء فى مقال للدكتور عبد البديع عبد الله على المشباك عنوانه: "الترجمات القديمة والحديثة لكِتَاب الشعر وأثرها على الفكر الأدبي العربي" أن العرب كانوا يعرفونه معرفة غامضة، إذ جاء فى "طبقات الأطبّاء" لابن أبى أُصَيْبِعَة ما نصه: "واعتلّ إسحاق بن الخصيّ علىّ فأتيته عائدا، فإني لفي منـزله إذ بَصُرْتُ بإنسان له شعرة قد جَلَّلَتْه، وقد ستر وجهه عني ببعضها، وهو يتردد وينشد شعرا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم، فشبهتُ نغمته بنغمة حُنَيْن، وكان العهد بُحَنْين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين. فقلت لإسحاق بن الخصي: هذا حُنَيْن؟ فأنكر ذلك إنكارا يشبه الإقرار فهتفت بُحَنْين، فاستجاب لي"، وهذا أيضا من النصوص المهمة فى مجال "الأدب المقارن".
على أن معرفة العرب بهوميروس هى فى الواقع أوسع من هذا، إذ كتب أبو حيان التوحيدى فى الليلة العاشرة من "الإمتاع والمؤانسة" عن أعمار الكلاب إن "ذكور الكلاب السَّلُوقيّة تعيش عشر سنين، وإناثها اثنتي عشرة سنة، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة، وإناثها كلها أطول أعمارا من الذكور. قال أوميروس الشاعر: إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة"، وكتب أيضا: "قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تُؤْثِر علم شيء إذا عُيِّرْتَ به غضبت، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك". وقال أسامة بن منقذ فى "لباب الآداب": "وكتب أرسطاطاليس إلى الاسكندر: إن الذي يتعجب منه الناس فيك الجزالة وكبر الهمة، والذي يحبونك عليه التواضع ولين الجانب. فاجمع الأمرين يجتمع لك محبة الناس لك وتعجبُّهم منك. وقال أوميروس: لِنْ تَنَلْ، واحْلُمْ تَنْبُلْ، ولا تكن معجَبًا فتُمْتَهَن".
وفى "مختصر تاريخ الدول" لابن العبرى: "وخَرِبَتْ مدينة إليون الخراب الذي هو من أعظم الرزايا عند قدماء اليونانيين، وقد رثاها أوميروس الشاعر في كتابين نقلهما من اليوناني إلى السرياني ثاوفيل المنجم الرهاوي، وهو كبير منجمي المهدي". كما يروي القفطى الحكاية التالية عنه فى كتابه: "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" فيقول: "وكان هذا الرجل من رجال يونان الذين عَانَوُا الصناعة الشعرية من أنواع المنطق وأجادها. وجاءه أنابو الماجن فقال: اهْجُنِي لأفتخر بهجائك إذ لم أكن أهلا لمديحك. فقال له: لستُ فاعلا ذلك أبدا. قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونانيين فأُشْعِرهم بنُكُولك. قال أوميروس مرتجلا: بلغنـا أن كلبا حاول قتل أسد فامتنع عليه أنفةً منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأُشْعِر السباع بضعفك. قال له الأسد : لأَنْ تعيِّرني السباع بالنُّكُول عن مبارزتك أحبّ إليّ من أن ألوّث شاربي بدمك".
وبحثا عن هوميروس نمضى متصفحين كتاب "الملل والنحل" للشهرستانى فنجد الآتى: "وهو من الكبار القدماء، الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب. ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه إتقان المعرفة، ومتانة الحكمة، وجودة الرأي، وجزالة اللفظ. فمن ذلك قوله: لا خير في كثرة الرؤساء. وهذه كلمة وجيزة تحتها معانٍ شريفة، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال، ويستدل بها أيضا في التوحيد لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تكرّ على حقيقة الإلهية بالإفساد. وفي الحكمة: لو كان أهل بلدٍ كلهم رؤساء لما كان رئيسٌ البتَّة، ولو كان أهل بلدٍ كلهم رعية لما كانت رعيةٌ البتَّة. ومن حكمه قال: إني لأعجب من الناس، إذ كان يمكنهم الاقتداء بالله تعالى فيدَعون ذلك إلى الاقتداء بالبهائم! قال له تلميذه: لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رَأَوْا أنهم يموتون كما تموت البهائم. فقال له: بهذا السبب يكثر تعجبي منهم، مِنْ قِبَل أنهم يحسّون بأنهم لابسون بدنا ميتا، ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفسا غير ميتة. وقال: من يعلم أن الحياة لنا مستعبِدة، والموت مُعْتِق مُطْلِق... آثر الموت على الحياة. وقال: العقل نحوان: طبيعي وتجريبي، وهما مثل الماء والأرض، وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلِّصه وتمكّن من العمل فيه، كذلك العقل يذيب الأمور ويخلِّصها ويفصلها ويُعِدّها للعمل. ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر. وقال: إن الإنسان الخيِّر أفضل من جميع ما على الأرض، والإنسان الشرير أخسّ وأوضع من جميع ما على الأرض. وقال: لِنْ تَنَلْ، واحْلُمْ تَعِزّ، ولا تكن معجَبا فتُمْتَهن، واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته. وقال: الدنيا دار تجارة، والويل لمن تزوّد عنها الخسارة".
أما فى "مقدمة ابن خلدون" فينص صاحبها على أن أرسطو قد ذكر هوميروس فى كتاب "المنطق": "اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية. وقد كان في الفرس شعراء، وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب "المنطق" أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حِمْيَر أيضا شعراء متقدمون"... وهلم جرا.
وفى المقالة الثامنة من "الفهرست" لابن النديم، وتحت عنوان "الفن الأول في أخبار المسامرين والمخرّفين وأسماء الكتب المصنَّفة في الأسمار"، تطالعنا هذه الوثيقة المهمة التى يتطلع لمثلها الدارس المقارن لما تقدّمه له من عون كبير فى موضوع تتبع المسارات التى اتخذتها الأشكال والأجناس الأدبية فى انتقالها من ثقافة أمة إلى ثقافة أمة أخرى: "أول من صنَّف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفُرْس الأُوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب الى اللغة العربية وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه. فأول كتاب عُمِل في هذا المعنى كتاب "هزار أفسان"، ومعناه: ألف خرافة.
وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها: شهرزاد. فلما حصلت معه ابتدأت تخرّفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل المَلِك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى ان أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها، إلى أن رُزِقت منه ولدا فأظهرتْه وأوقفتْه على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها. وكان للملك قهرمانة يقال لها: دنيازاد، فكانت موافقة لها على ذلك. وقد قيل إن هذا الكتاب أُلِّف لحمانى ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا... والصحيح إن شاء الله أن أول من سَمَر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يُضْحِكونه ويخرّفونه لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس. واستعمل لذلك بعده الملوكُ كتابَ "هزار أفسان"، ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سَمَر لأن السَّمَر ربما حُدِّث به في عدة ليال. وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غَثٌّ بارد الحديث...
(و)ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب "الوزراء" بتأليف كتابٍ اختار فيه ألف سَمَر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يَعْلَق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه. وكان فاضلا، فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سَمَرٌ تامٌّ يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر. ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر. ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي. وكان قبل ذلك يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعةٌ منهم عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون وعلي بن داود كاتب زُبَيْدة وغيرهم. وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنّفوه في مواضعه من الكتاب. فأما كتاب "كليلة ودمنة" فقد اختُلِف في أمره فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب. وقيل: عملته ملوك الإسكانية ونَحَلَتْه الهندَ. وقيل: عملته الفرس ونحلته الهند. وقال قوم إن الذي عمله بُزُرْجِمَهْر الحكيم أجزاءً، والله أعلم بذلك. كتاب "سندباد الحكيم"، وهو نسختان: كبيرة وصغيرة، والخُلْف فيه أيضا مثل الخُلْف في "كليلة ودمنة". والغالب والأقرب إلى الحق أن يكون الهند صنَّفته...
كتاب "كليلة ودمنة"، وهو سبعة عشر بابا، وقيل: ثمانية عشر بابا. فَسَّره عبد الله بن المقفع وغيره، وقد نُقِل هذا الكتاب إلى الشعر. نقله أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي، ونقله علي بن داود إلى الشعر، ونقله بشر بن المعتمد. والذي خرج بعضه، ورأيت أنا في نسخةٍ زيادة بابين. وقد عملت شعراء العجم هذا الكتاب شعرا ونُقِل إلى اللغة الفارسية فالعربية. ولهذا الكتاب جوامع وانتزاعات عملها جماعة منهم ابن المقفع وسهل بن هارون وسَلْم صاحب بيت الحكمة والمريد الأسود الذي استدعاه المتوكل في أيامه من فارس... إلخ".
وكتاب ابن النديم مملوء بمثل هذه الوثائق القيمة، بل الغنائم الباردة التى كانت وستظل مثارا لجهود الدارسين المحدثين فى مجال الدراسات الأدبية واجتهاداتهم، ولولا هى وأمثالها ما استطاعوا الوصول إلى شىء. وهى من الأدب المقارن فى الصلب والصميم كما نرى. ويلقى ابن أبى أصيبعة مزيدا من الضوء على أصل كتاب "كليلة ودمنة"، إذ يقول فى ترجمة الطبيب الهندى برزويه: "قيل إنه كان عالما بصناعة الطب موسوما بها، متميزا في زمانه، فاضلا في علوم الفرس والهند، وإنه هو الذي جلب كتاب كليلة ودمنة من الهند إلى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرس، وترجمه له من اللغة الهندية إلى الفارسية، ثم ترجمه في الإسلام عبد اللّه بن المقفع الخطيب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية".
ويُوسِع ابنُ المقفع فى مقدمة الكتاب الأَمْرَ إيضاحا فيقول: "ثم إن بَيْدَبَا جمع تلاميذه وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم، وقد جمعتكم لهذا الأمر. ثم وصف لهم ما سأل الملك من أمر الكتاب، والغرض الذي قصد فيه، فلم يقع لهم الفكر فيه. فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمرٌ إنما يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر. وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين لأنهم يعدلونها، وإنما تسلك اللُّجّة بمدبرها الذي تفرّد بإمْرتها. ومتى شُحِنت بالرُّكّاب الكثيرين وكثر ملاحوها لم يُؤْمَن عليها من الغرق. ولم يزل يفكر فيما يعمله في باب الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه مع رجلٍ من تلاميذه كان يثق به، فخلا به منفردا معه بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه الهند شيئا، ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك المدة، وجلسا في مقصورةٍ، وردا عليهما الباب ثم بدأ في نظم الكتاب وتصنيفه. ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب، ويرجع هو فيه حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه أربعة عشر بابا، كل بابٍ منها قائم بنفسه، وفي كل باب مسألةٌ والجواب عنها ليكون لمن نظر فيه حظٌ من الهداية. وضمّن تلك الأبواب كتابا واحدا وسماه كتاب "كليلة ودمنة". ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهوا للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة. وضمّنه أيضا ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته، وجميع ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، وآخرته وأولاه، ويحضّه على حسن طاعته للملوك، ويجنّبه ما تكون مجانبته خيرا له. ثم جعله باطنا وظاهرا كرسم سائر الكتب التي برسم الحكمة: فصار الحيوان لهوا، وما ينطق به حكمةً وأدبًا. فلما ابتدأ بَيْدَبَا بذلك جعل أول الكتاب وَصْف الصديق، وكيف يكون الصديقان، وكيف تُقْطَع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذي النميمة. وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بَيْدَبا مثل ما كان الملك شَرَطَه في أنْ جعله لهوًا وحكمةً. فذكر بَيْدَبا أن الحكمة متى دخلها كلام النَّقَلة أفسدها وجُهِلت حكمتها. فلم يزل هو وتلميذه يُعْمِلان الفكر فيما سأله الملك حتى فَتَق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين، فوقع لهما موضع اللهو والهزل بكلام البهائم، وكانت الحكمة ما نطقا به. فأصغت الحكماء إلى حِكَمه وتركوا البهائم واللهو، وعلموا أنها السبب في الذي وُضِع لهم، ومالت إليه الجهّال عجبًا من محاورة بهيمتين، ولم يشكّوا في ذلك، واتخذوه لهوا، وتركوا معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وُضِع له لأن الفيلسوف إنما كان غرضه في الباب الأول أن يخبر عن تواصل الإخوان كيف تتأكد المودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية، والتحرز ممن يوقع العداوة بين المتحابين، ليجرّ بذلك نفعا إلى نفسه. فلم يزل بَيْدَبا وتلميذه في المقصورة حتى استتمّا عمل الكتاب في مدة سنةٍ.
فلما تم الحَوْل أنفذ إليه الملك أنْ قد جاء الوعد، فماذا صنعت؟ فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدتُ الملك، فلْيأمرني بحمله بعد أن يجمع أهل المملكة لتكون قراءتي هذا الكتاب بحضرتهم. فلما رجع الرسول إلى الملك سُرَّ بذلك، ووعده يوما يجمع فيه أهل المملكة. ثم نادى في أقاصي بلاد الهند ليَحْضُروا قراءة الكتاب. فلما كان ذلك اليوم أمر الملك أن يُنْصَب لبيدبا سريرٌ مثل سريره، وكراسيّ لأبناء الملوك والعلماء، وأنفذ فأحضره. فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب التي كان يلبسها إذا دخل على الملوك وهي المُسُوح السُّود، وحمل الكتاب تلميذه. فلما دخل على الملك وثب الخلائق بأجمعهم، وقام الملك شاكرا. فلما قرب من الملك كفر له وسجد، ولم يرفع رأسه. فقال له الملك: يا بيدبا، ارفع رأسك، فإن هذا يوم هناءةٍ وفرحٍ وسرورٍ. وأمره أن يجلس. فحين جلس لقراءة الكتاب سأله عن معنى كل باب من أبوابه، وإلى أي شيءٍ قصد فيه. فأخبره بغرضه فيه وفي كل باب، فازداد الملك منه تعجبا وسرورا، فقال له: يا بيدبا، ما عَدَوْتَ الذي في نفسي، وهذا الذي كنت أطلب، فاطلب ما شئت وتَحَكَّمْ. فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجَدّ. وقال: أيها الملك، أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار على لباسي ذا شيئا. ولستُ أُخْلِي الملك من حاجةٍ. قال الملك: يا بيدبا، ما حاجتك؟ فكل حاجةٍ لك قِبَلَنا مقضيّةٌ. قال: يأمر الملك أن يدوَّن كتابي هذا كما دون آباؤه وأجداده كتبهم، ويأمر بالمحافظة عليه، فإنى أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به، فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان، وكان مستأثرا بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل وقع له خبر الكتاب، فلم يَقَرّ قرارُه حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس".
وما دمنا فى سياق الحديث عن "ألف ليلة وليلة" وأشباهها من القصص فلعل من المستحسن والمفيد أن نورد هنا ما قاله المسعودى عنها فى كتابه الشهير: "مروج الذهب"، وهذا نص كلامه: "وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خُرَافات مصنوعة، نظمها مَنْ تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب "هزار أفسانه"، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية: ألف خُرَافة، والخرافة بالفارسية يُقال لها: "أفسانه". والناس يسمون هذا الكتاب: "ألف ليلة وليلة"، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها، وهما شيرزاد ودنيازاد، ومثل كتاب "فرزة وسيماس" وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب "السندباد"، وغيرها من الكتب في هذا المعنى".
وإذا كنا قد نقلنا قبل قليلٍ شيئًا من النصوص المتعلقة بترجمة بعض الآثار الأدبية من اللغات الأخرى إلى لسان يَعْرُب، فها نحن الآن أمام نص من نوع آخر، نص يتعلق بكتبٍ ألفها كاتب أعجمى بعضها بالعربية، وبعضها الآخر بالفارسية. والنص مأخوذ من "معجم الأدباء" لياقوت الحموى من الترجمة الخاصة بإبراهيم بن محمد بن حيدر بن على أبى إسحاق المولود في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. قال ياقوت: "له من التصانيف: كتاب "ديوان الأنبياء"، كتاب "شرح كليلة بالفارسية"، كتاب "الوسائل إلى الرسائل" من نثره، كتاب ديوان شعره بالفارسية، كتاب "الخطب في دعوات ختم القرآن"، سماه: "يتيمة اليتيمة"، كتاب "الطرفة في التحفة" بالفارسية، رسائل، وكتاب "أساس نامه" في المواعظ بالفارسية، كتاب "تعريف شواهد التصريف"، كتاب "أنموذار نامه"، يشتمل على أبيات غريبة من "كليلة ودمنة" شَرَحها بالفارسية، كتاب "كفتار نامه منطق"، كتاب "مرتع الوسائل ومربع الرسائل"...". وأهمية هذا النص تكمن فى أنه يُطْلِعنا على كُتُبٍ بالفارسية فى موضوعاتٍ أكثر العرب من التأليف فيها، وبذلك تكون أمامنا فرصة للإلمام بالمراجع الفارسية التى نحتاج العودة إليها عند رغبتنا فى الكتابة فى موضوع المقارنة بين هذين اللونين من الكتب.
ومعروف أن دور الترجمة فى التلاقح الثقافى بين الأمم المختلفة هو فى الذروة من الأهمية، ومن ثم كان الاهتمام الشديد من قِبَل الدارس المقارن فى مجال الأدب بهذه الوسيلة التى تصل ما بين الأمم ثقافيا. فى ضوء هذا ننظر فى النص التالى الذى خلّفه لنا سيد البيانيين العرب الجاحظ عمرو بن بحر فى كتابه: "الحيوان"، والذى لا يمكن أن نُتَّهَم بالمغالاة فى تقدير قيمته: "وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرْجِمَتْ حِكَم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم. وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرْن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها. فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر من البُنيان والشعر. ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرْجُمان لا يؤدِّي أبدا ما قال الحكيمُ على خصائِص معانيه وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفّيها حقوقها ويؤدِّيَ الأمانة فيها ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ. وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها وتأويلاتِ مخارجِها مثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه؟ فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق وابن ناعمة وابن قُرَّة وابن فِهريز وثيفيل وابن وهيلي وابن المقفَّع مثلَ أرِسطاطاليس؟ ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟ ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة في وَزْن علمه في نفسِ المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهما سواءً وغاية. ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين علمنا أنَّه قد أدخلَ الضَّيْمَ عليهما، لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها وتعترضُ عليها. وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوَّةٌ واحدة؟ فَإنْ تكلّمَ بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما، وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات. وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجِم، وأجدرَ أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجما يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء".
إن الجاحظ فى النص السابق إنما يَمَسّ قضية فى منتهى الخطورة فى ميداننا الذى نحن بصدده هنا، وهى قضية الترجمة التى عليها المعوَّل الأول فى التواصل والتلاقح الثقافى بين أمم الأرض. وهو يبرز الشروط التى لا بد من توفرها فيمن يريد التصدى لتلك المهمة إذا أراد أن يجىءَ عمله سليما ويُؤْتِىَ ثمارَه على أحسن وجه. وكلنا يحفظ المقولة الشائعة فى ذلك المجال، ألا وهى أن "المترجم خائن"، بمعنى أنه لا يمكن أن ينقل لنا على وجه الدقة والقطع والتطابق المطلق ما فى النص الذى ينقله إلى لغتنا مهما يكن من عبقريته وتفرده، وإنما كل ما يستطيعه أن يقلل إلى أدنى حدٍّ ممكنٍ الفجوةَ القائمةَ بين اللغتين والعقليتين والذوقين، أو باختصار: بين الثقافتين. ومع ذلك فسوف تظل ثمة نصوص تستعصى على الوصول بها إلى هذه الغاية، وهى نصوص الشعر وما إليها. وقد استطاع الجاحظ أن يضع يده على مكامن المشكلة فى طبيعة اللغات وطبيعة البشر على السواء رغم أنه قال ذلك منذ نحو اثنى عشر قرنا، لكنها العبقرية الجاحظية.
وفوق ذلك قد أمدنا، رحمه الله، بأسماء عدد من مترجمى العرب فى عز نهضتهم ومجدهم فى دولة بنى العباس. وقد أثنى على ما تركه لنا الجاحظ فى هذه النقطة كاتب اسمه فهد "Fahad" (فى موقع "alnadawi" على الــــرابط التـــالى: http://www.alnadawi.com/vb/showpost....54&postcount=1) قائلا: "وعلى الرغم من أنّ آراء الجاحظ عن الترجمة جاءت في القرن التاسع الميلادي، إلاّ أنها مازالت صالحة إلى يومنا الحاضر. فبعد مرور عشرة قرون عليها وضع المفكر الروسيّ بليخانوف(1856-1918م) شروطا للمترجم الجيد وللترجمة الجيدة تتطابق مع الشروط التي وضعها الجاحظ. كما أكد الدكتور سامي الدروبي (1921-1976م) في النصف الثاني من القرن العشرين على الشروط ذاتها".
وهناك موضوع آخر هام جدا، وهو يتعلق بعدم فهم المترجمين والشرّاح العرب لما قاله أرسطو فى كتابه: "الشعر" عن الملهاة والمأساة فى عالم الإبداع المسرحى، إذ جاء فى شرح ابن سينا لذلك الكتاب عن أنواع الشعر عند الإغريق ما يلى: "وكان لكل غرضٍ وزنٌ يختص به: فمنها نوع يسمى: "طراغوذيا" له وزن لذيذ يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانية ، ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك يُغَنَّى بين أيديهم بهذا الوزن، وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملك للنياحة والمرثية. ومنها نوع يسمى: "ديثرمبي"، وهو كــ"طراغوذيا" ما خلا أنه لا يخصّ به مدحة إنسان واحد أو أمة معينة بل الأخيار على الإطلاق. ومنها نوع يسمى:
"قوموذيا"، وهو نوع تُذْكَر فيه الشرور والرذائل والأهاجي، وربما زادوا فيه نغمات ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر الحيوان". أما ابن رشد فقد استخدم لهذين المفهومين (أى مفهومَىِ التراجيديا والكوميديا) مصطلحَىْ "مديح" و"هجاء"، مما لبَّس الأمر على القراء والمثقفين العرب طوال تلك العصور... إلى أن أعدنا النظر فى العصر الحديث إلى الإبداع المسرحى عند الإغريق وتنبهنا إلى الغلطة التى وقع فيها هؤلاء المفكرون العظام بسبب عدم وجود نص مسرحى مترجَم يمكن على نوره فهم الكلام النظرى الذى خلَّفه أرسطو فى ذلك الموضوع.
ولست أظننى فى حاجة للفت الأبصار إلى القيمة العظيمة لمثل هذا الكلام بالنسبة للدارس المقارِن فى مجال الآداب. وقيمتهما نابعة من أنهما يعكسان لنا رؤية العرب القدماء لطبيعة الشعر لدى اليونان، فهما بهذه المثابة جزء من الأدب المقارن ذاته، كما أنهما يصلحان فى ذات الوقت أن يُتَّخَذا مُتَّكَأً لدراسة الرؤية العربية لذلك الشعر، ومن ثم يكونان بهذه المثابة الأخرى موضوعا من موضوعات الأدب المقارن فى عصرنا الحالى وفيما بعده من عصور. وهما، على كل حال، يدلان على تهافت الرأى القائل بأن العرب لم يترجموا المسرح اليونانى نظرا لما فيه من وثنية تنزل بالآلهة إلى مرتبة البشر الفانين الضعفاء الشهوانيين، إذ إن العرب لم يطَّلعوا أصلا على ما أبدعه الإغريق فى هذا الميدان. والدليل على ما نقول هو أن كبار مفكرينا وفلاسفتنا فى القديم لم يستطيعوا أن يفهموا طبيعة الشعر الذى كان أرسطو يتحدث عنه فى كتابه، بل قاسوه على ما كانوا يعرفونه من شعر عربى.
والواقع أن لهم عذرا كبيرا فى ذلك، فإن فهم الشىء فرع من تصوره. وكيف كان بمستطاعهم ذلك التصور، وهم لم يقرأوا شيئا من مسرح اليونان: لا فى لغتهم ولا فى لغته، فضلا عن أن يكونوا قد شاهدوا بعض تلك المسرحيات؟ ولو كانوا عرفوا فعلاً هذا اللون من الشعر عند الإغريق واستنكروه لأعلنوا هذا الاستنكار ونصّوا على الأسباب التى نفّرتهم منه وجعلوه موضع انتقادهم وتهكمهم. أمّا، وأنهم لم يذكروا ولو مجرد ذكرٍ أسماءَ شعراء المسرح لدى الإغريق، فليس لهذا من معنى إلا أنهم لم يقرأوا لهم شيئا أصلا. وقد سبق أن تناولت هذا الموضوع فى الفصل الأول من كتابى: "دراسات فى المسرح" (مكتبة زهراء الشرق/ 1420هـ- 2000م/ 16- 20).
ومما يدل على أن التعلل بالوثنية فى المسرح اليونانى هو تعلل غير مقنع تلك النصوص التى أوردناها فيما مضى والتى تعرض لأشعار هوميروس (صاحب "الإلياذة" المملوءة بالخرافات الوثنية كما نعرف)، إذ لم يمنعهم من الإشادة به أنه صاحب تلك الخرافات، إلا إذا قيل إنهم حين أثنَوْا على شعره لم يكونوا يعرفون شيئا عما فى ذلك الشعر من وثنية، فعندئذ يكون هذا دليلا يعضد ما قلناه من أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا من باب الأَوْلَى عما فى مسرحيات الإغريق من وثنية أيضا.
ثم إن بعض الكتاب العرب قد تحدّث بصراحة تامة عن مثل تلك الاعتقادات لدى أمم أخرى فلم تحجزه هذه التحرجات المُفْتَرَضة على الإطلاق، كما هو الحال مثلا فيما كتبه ابن النديم فى "الفهرست" عن بعض العقائد والعبادات الوثنية لدى طائفة من الأمم وتصوّر أصحابها لآلهتهم، من مثل قوله فى الكلام عن بعض أعياد الحَرّانيّين (تحت عنوان "معرفة أعيادهم"): "أول سنتهم نسيان: أول يوم من نسيان والثاني والثالث يضرعون لآلهتهم بلثى، وهي الزهرة، يدخلون في هذا اليوم إلى بيت الآلهة جماعة جماعة متفرقين ويذبحون الذبائح ويحرقون الحيوان أحياء. ويوم السادس منه يذبحون ثورا لإلهتهم القمر ويأكلونه آخر النهار. ويوم الثامن منه يصومون ويفطرون على لحوم الخراف ويعملون في هذا اليوم عيدا للسبعة الآلهة والشياطين والجن والأرواح، ويحرقون سبعة خرفان للسبعة الآلهة، وخروفا لرب العميان، وخروفا للآلهة الشياطين. ويوم الخامس عشر منه يعملون سر الشمال وقربان تشميس وذبائح وإحراقات ويأكلون ويشربون. ويوم العشرين منه يخرجون إلى دير كادى، وهو دير على باب من أبواب حَرّان يسمى: "باب فندق الزيت"، ويذبحون ثلاثة زبرخ، والزبرخ فحل البقر: واحدا لقرنس الآلهة، وهو زحل، وواحدا لأريس، وهو المريخ، وهو الإله الأعمى، وواحدا للقمر، وهو سين الإله. ويذبحون تسعة خرفان: سبعة للسبعة الآلهة، وواحدا لإله الجن، وواحدا لرب الساعات، ويحرقون خرفانًا ودِيَكَةً كثيرةً. وفي يوم ثمانية وعشرين يخرجون إلى دير لهم في قرية تسمى: "سبتى" على باب من أبواب حَرّان يقال له: باب السراب، ويذبحون ثورا كبيرا لهرمس الإله، ويذبحون تسعة خرفان للسبعة الآلهة ولإله الجن ولرب الساعات، ويأكلون ويشربون، ولا يحرقون في هذا اليوم شيئا من الحيوان". وهذا النص وغيره من نصوص "الفهرست" فى الموضوعات المشابهة هو مما يندرج تحت البند الخاص بفهم بعض الأمم عقائد بعضها الآخر، وهو بدوره من موضوعات الأدب المقارن بالمكان الأصيل.
وبعد، فقد كان هذا حصاد جولة سريعة فى تراثنا النقدى، وهو (كما ترى) ليس بالحصاد القليل، ومن المؤكد أن هناك كثيرا جدا غيره، وهو ما يجيب بكل قوة على التأكيد الذى قرر فيه د. الطاهر أحمد مكى أن الجاحظ كان هو الاستثناء الوحيد من بين العلماء العرب القدماء فى هذا المجال (انظر كتابه: "فى الأدب المقارن"/ 11 وما بعدها). ليس ذلك فحسب، بل إن عز الدين المناصرة يقرر أن "الأدب المقارن" كان معروفا عند العرب، وكانوا يسمونه بــ"علم المقابلة"، وإن لم يعطنا معلومات أكثر من ذلك، ولو فعل وعرّفنا أين وجد ذلك وقدم لنا الوثائق المكتوبة على ما يقول لكان هذا كشفا عظيما ولعضّد أيما تعضيد هذه النصوص الكثيرة والمتنوعة التى اقتطفتها على عجل من أرجاء التراث العربى بفضل الله، ثم بفضل الذاكرة مستعينة بالمشباك، هذا الاختراع المبارك الذى يتفوق على جِنِّىّ المصباح السحرى. ولعل المناصرة قد فعل هذا فى كتاب أو مقال آخر له لم يقع لى (انظر مقاله: "الرائد التاريخى للأدب المقارن فى الوطن العربى" المنشورة فى كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: روحى الخالدى- إدوارد سعيد- عز الدين المناصرة- حسام الخطيب"/ فريال غزولى وآخرون/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "كتابات نقدية"- العدد 102/ 13). وقد حاولت أن أعثر على نصوص فى هذا السبيل من خلال المشباك مستعينا بالمصطلح الذى ذكره الكاتب فلم أوفَّق إلى شىء.
- د. إبراهيم عوض
(فصل من كتاب: "فى الأدب المقارن- مباحث واجتهادات")
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.